الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

٢ ـ استدلال عجيب :

إن استدلال الحلبي بتلك الرواية على تجويز الغناء عجيب وغريب ؛ فإن الرواية لا تتضمن إلا أنهم قد أنشدوا الشعر لمقدمه ، ولم يكن يصاحب ذلك شيء من المحرمات ، بل لم تذكر الرواية : أنه كان هناك ترجيع أم لا.

وإنشاد الشعر ليس بحرام ، ولهذا قال بعضهم : «وتعلق أرباب الغناء الفسقة به (أي برواية : طلع البدر) كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب ، وشرب العصير الذي لا يسكر ، ونحو هذا من القياسات ، التي تشبه قياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا» (١).

ولو سلم حرمة سماع صوت الأجنبية ، فلا دليل على أن ذلك كان قد شرع حينئذ ، فإن كثيرا من الأحكام كانت تشرع تدريجا ، كما قالوه في الخمر مثلا.

كما أنه لا دليل على وجود من يحرم سماع صوته في المنشدين.

ولو سلّم ، فلعل لم يكن بالإمكان منعهم في ظرف كهذا ، أو لا يمكن تبليغهم الحكم الشرعي حينئذ ؛ فسكوت النبي «صلى الله عليه وآله» عنهم لعله لمصلحة اقتضت السكوت ، ولا يدل ذلك على إمضائه لفعلهم ذاك.

٣ ـ ترقيص الأكمام :

وأما ترقيص أكمامه «صلى الله عليه وآله» ، فهو ينافي المروءة كما اعترف به فضل بن روزبهان (٢).

ويقول العلامة المظفر «رحمة الله» : «إن هذا العمل سفه ظاهر ، وخلاعة

__________________

(١) زاد المعاد لابن القيم ج ٣ ص ١٧ و ١٨.

(٢) راجع : دلائل الصدق ج ١ ص ٣٩٠ و ٣٩٣ على الترتيب.

٣٠١

بينة ، ومن أكبر النقص بالرئيس ، وأعظم منافيات الحياء والمروءة في تلك الأوقات وأشد المباينات للرسالة لإرشاد الخلق بتهذيبهم عن السفه والنقائص ، وتذكيرهم بمقربات الآخرة» (١).

هذا ، مع غض النظر عن نواهيه «صلى الله عليه وآله» القاطعة عن كل لهو وغناء ورقص ، وسنشير فيما يلي إلى بعض من ذلك إن شاء الله.

وبعد ما تقدم : فإننا نعرف ما في الاستدلال بالرواية الأخرى حول غناء نساء بني ساعدة ، وضربهم بالدفوف حين استقباله.

ولا بأس بعرض كل ما استدلوا به على حلية الغناء والرقص ، ثم مناقشته ، ثم طرح القول الحق في المسألة مع بعض أدلته ، فنقول :

أدلة حلية الغناء :

وقد استدل على حلية الغناء والرقص ، بالإضافة إلى ما تقدم ب :

١ ـ قول الحلبي : «عن أبي بشير : أن النبي «صلى الله عليه وآله» مر وأبا بكر بالحبشة ، وهم يلعبون ، ويرقصون ، ويقولون : يا أيها الضيف المعرج طارقا.

إلى أن قال : ولم ينكر عليهم ، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص ، حيث خلا عن التكسر ؛ فقد صحت الأخبار ، وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه «صلى الله عليه وآله» ، بالأصوات الطيبة ، مع الدف وبغيره ، وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ، ولو فيه جلاجل» (٢).

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٢.

٣٠٢

٢ ـ عن بريدة : خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» في بعض مغازيه ؛ فلما انصرف جاءت جارية سوداء ، فقالت : إني كنت نذرت : إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى ، فقال «صلى الله عليه وآله» :

«إن كنت نذرت فاضربي ، وإلا فلا» ، فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر ، وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر ، فألقت الدف تحت أستها ، ثم قعدت عليها ، فقال «صلى الله عليه وآله» : «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالسا وهي تضرب ، ثم دخل أبو بكر وهي تضرب الخ ..» (١).

٣ ـ عن جابر ، قال : دخل أبو بكر على رسول الله «صلى الله عليه وآله» وكان يضرب بالدف عنده ، فقعد ولم يزجر ، لما رأى من رسول الله ، فجاء عمر «رض» فلما سمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» صوته كف عن ذلك.

فلما خرجا قالت عائشة : يا رسول الله ، كان حلالا فلما دخل عمر صار حراما؟

فقال «صلى الله عليه وآله» : يا عائشة ، ليس كل الناس مرخى عليه (٢).

__________________

(١) أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤ ، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي ص ٥٨ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٣ و ٣٥٤ باختلاف ودلائل الصدق ج ١ ص ٣٩٠ و ٢٩١ عن الترمذي ج ٢ ص ٢٩٣ وصححه هو والبغوي في مصابيحه وليراجع : الغدير ج ٨ ص ٦٤ و ٦٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٢ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٧٧ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ١٣١.

(٢) نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٧١ ونوادر الأصول للحكيم الترمذي ص ١٣٨ ، والغدير ج ٨ ص ٦٤ و ٦٥ عن مشكاة المصابيح ص ٥٥ وبعض من تقدم.

٣٠٣

٤ ـ روى البخاري ومسلم وغيرهما ، عن عائشة : دخل علي رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ـ وعند مسلم : تغنيان وتضربان ـ فاضطجع على الفراش ، وحول وجهه.

ودخل أبو بكر ، فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟

فأقبل عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال : دعهما.

وفي رواية لمسلم : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد (١).

وزاد في بعض النصوص ـ كما في البخاري ـ وليستا بمغنيتين.

٥ ـ في رواية : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» استدعى عائشة لترى حبشية ترقص ، فجاءت فوضعت لحيها على منكب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وجعلت تنظر ، فقال «صلى الله عليه وآله» لها : أما شبعت؟ أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول : لا ، لتنظر منزلتها عنده ؛ إذ طلع عمر ، فارفض الناس عنها ؛ فقال «صلى الله عليه وآله» : إني لأنظر شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١١١ ط الميمنية ، وصحيح مسلم ج ٣ ص ٢٢ ط مشكول ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦١ ـ ٦٢ وهامش إرشاد الساري ج ٤ ص ١٩٥ ـ ١٩٧ ودلائل الصدق ج ١ ص ٣٨٩ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٤ ، واللمع لأبي نصر ص ٢٧٤ ، والبداية والنهاية ج ١ ص ٢٧٦ والمدخل لابن الحاج ج ٣ ص ١٠٩ والمصنف ج ١١ ص ٤ وراجع تهذيب تاريخ دمشق ج ٢ ص ٤١٢.

(٢) دلائل الصدق ج ١ ص ٣٩٠ ، والتاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣١٤ ، والغدير ج ٨ ص ٦٥ عن صحيح الترمذي ج ٢ ص ٢٩٤ ، وصححه وعن مصابيح السنة ج ٢

٣٠٤

٦ ـ عن ابن عباس : إن أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» جلسوا سماطين ، وجارية معها مزهر تغنيهم وتقول :

هل علي ويحكم

إن لهوت من حرج

فتبسم «صلى الله عليه وآله» وقال : لا حرج إن شاء الله تعالى (١).

٧ ـ عن الربيع بنت معوذ : أنها لما زفت إليه «صلى الله عليه وآله» دخل عليها ، وجلس ، وجويريات يضربن بالدف ، يندبن من قتل من آبائها في بدر ، حتى قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد ، فقال «صلى الله عليه وآله» : لا تقولي هكذا ، وقولي ما كنت تقولين (٢).

٨ ـ في رواية : أنه «صلى الله عليه وآله» كان جالسا وعنده جوار يغنين ويلعبن ؛ فجاء عمر ، فاستأذن ؛ فأسكتهن رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى قضى حاجته وخرج ، فسألته عن هذا الذي كلما دخل قال «صلى الله عليه وآله» : اسكتن ، وكلما خرج قال «صلى الله عليه وآله» : عدن إلى الغناء ، فقال «صلى الله عليه وآله» : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل (٣).

٩ ـ في رواية : أن امرأة دخلت على عائشة ، فقال «صلى الله عليه وآله» :

__________________

ص ٢٧١ ، وعن مشكاة المصابيح ص ٥٥٠ وعن الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٨ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٦٠ و ٧٦١ عن منتخب كنز العمال ج ٤ ص ٣٩٣ عن ابن عساكر وابن عدي ، والمشكاة ص ٢٧٢. عن الشيخين.

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦١ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ١٣١ و ١٣٢ عن العقد الفريد وغيره. وتهذيب تاريخ دمشق ج ٤ ص ١٣٦.

(٢) البخاري بهامش فتح الباري ج ٧ ص ٢٤٤.

(٣) نهج الحق في ضمن دلائل الصدق ج ١ ص ٤٠٢ عن الغزالي.

٣٠٥

يا عائشة أتعرفين هذه؟

قالت : لا يا نبي الله.

قال : هذه قينة بني فلان ، تحبين أن تغنيك؟

قالت : نعم. فأعطاها طبقا فغنتها.

فقال «صلى الله عليه وآله» : قد نفخ الشيطان في منخريها (١).

وعن ابن أبي أوفى : استأذن أبو بكر «رض» على النبي «صلى الله عليه وآله» وجارية تضرب بالدف فدخل ، ثم استأذن عمر «رض» فدخل ، ثم استأذن عثمان «رض» فأمسكت.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إن عثمان رجل حيي (٢).

ويقول شاعر النيل ـ محمد حافظ إبراهيم ـ كما هو موجود في ديوانه ، في مقام عده لفضائل الخليفة الثاني :

أخاف حتى الذراري في ملاعبها

وراع حتى الغواني في ملاهيها

أرأيت تلك التي لله قد نذرت

أنشودة لرسول الله تهديها

قالت : نذرت لئن عاد النبي لنا

من غزوة لعلى دفي أغنيها

ويممت حضرة الهادي وقد ملأت

أنوار طلعته أرجاء واديها

واستأذنت ومشت بالدف واندفعت

تشجي بألحانها ما شاء مشجيها

والمصطفى وأبو بكر بجانبه

لا ينكران عليها ما أغانيها

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ ص ٤٤٩.

(٢) مسند أحمد ج ٤ ص ٣٥٣ و ٣٥٤.

٣٠٦

حتى إذا لاح عن بعد لها عمر

خارت قواها وكاد الخوف يرديها

وخبأت دفها في ثوبها فرقا

منه وودت كونّ الأرض تطويها

قد كان علم رسول الله يؤنسها

فجاء بطش أبي حفص يخشيها

فقال مهبط وحي الله مبتسما

وفي ابتسامته معنى يواسيها

قد فر شيطانها لما رأى عمرا

إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

كان ذلك هو عمدة ما استدل به القوم لحلية الغناء ، ونحن نرى أنه كله لا يسمن ولا يغني من جوع ولتوضيح ذلك نقول :

نقض أدلة حلية الغناء :

وما دمنا بصدد الحديث عما في تلك الروايات من الوهن والضعف فإننا نرى لزاما علينا أن نغض النظر عن التكلم في أسانيدها ؛ فإن ذلك حديث يطول ولربما يتخيل البعض : أنه ليس لأحد الحق في الخدشة فيما في الصحاح ، ولا سيما صحيحي البخاري ومسلم ، وبعض ما تقدم موجود فيهما.

ونحن وإن كنا نعتقد أن هذا خيال باطل ، وقد تكلم فيه العلماء وفندوه بما لا مزيد عليه (١).

إلا أننا ـ مع ذلك ـ نغض الطرف هنا عن البحث في الأسانيد ، استجابة لرغبة هؤلاء ، وتجاوبا مع عاطفتهم ، ونعطف النظر إلى البحث في المضمون ..

فنقول :

أولا : إن نصوص بعض تلك الروايات متناقضة كثيرا ، ولا سيما الرواية

__________________

(١) راجع أضواء على السنة المحمدية ، والعتب الجميل ، والغدير ، وغير ذلك.

٣٠٧

المتقدمة تحت رقم [٢] والرواية التي تحت رقم [٤] التي عن الصحيحين وغيرهما.

ثانيا : إن الكثير من هذه الروايات تدل على حرمة الغناء ، لا على حليته ؛ فمثلا :

أ ـ قوله في الرواية رقم [٢] : «إن الشيطان ليخاف ـ أو ليفرق ـ منك يا عمر» يدل على الحرمة ، إذ لو كان مباحا ـ ولا سيما إذا كان وفاء للنذر ـ لم يصح منه «صلى الله عليه وآله» تهجين عملها ، واعتباره من الشيطان.

ب ـ والرواية رقم [٣] تدل على ذلك بملاحظة اعتراض عائشة وجوابه «صلى الله عليه وآله» لها.

ج ـ في الرواية الرابعة اعتبر ذلك من مزامير الشيطان ، ومعنى ذلك : أنه حرام ومرجوح ، فيرد سؤال : لماذا يرتكب النبي «صلى الله عليه وآله» أمرا هذه صفته؟!.

أجاب ابن روزبهان : إنه فعله لضرورة التشريع.

ولكنه كلام لا يصح : إذ قد كان من الممكن الاكتفاء بالتشريع بالقول ، فإنه أخف وأيسر.

وأيضا لو صح ذلك لاقتضى أن يفعل ذلك أمام عامة الناس ، لا أن يجلس في بيته وحده ويستمع.

ثم كيف يتصور حلية ما يعتبره العقلاء من مزامير الشيطان؟!.

د ـ وفي الرواية الخامسة : قال «صلى الله عليه وآله» : إني لأنظر شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر ، فإذا كان ذلك مجمعا للشياطين ، فلا بد أن

٣٠٨

يكون حراما لا حلالا.

ح ـ في الرواية الثامنة قال «صلى الله عليه وآله» : «هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل» ، فما هو حلال أو مكروه لا يوصف بالباطل.

ط ـ في الرواية الأخيرة قال «صلى الله عليه وآله» عن المغنية : «قد نفخ الشيطان في منخريها» ، وهو يدل على الحرمة أيضا ، حيث جعل الغناء من نفخ الشيطان ، ولا ينفخ الشيطان ما هو حلال.

ثالثا : لا بد أن نسأل : ما هذا الشيطان الذي يخاف أو يفرق من عمر ، ولا يخاف من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟

وكيف ينعقد النذر لشيء يكون فيه شيطان يفرق من عمر؟ مع أنه يشترط في النذر كون متعلقه طاعة وراجحا ، أو على الأقل أن لا يكون مرجوحا ، كما لا يخفى على من راجع أبواب النذر في كتب الحديث ، كالبيهقي ، والترمذي ، وغير ذلك.

وكيف يؤثر النبي «صلى الله عليه وآله» سماع الباطل ، ولا يؤثره عمر؟! وكيف أصبح عمر هنا أشد التزاما من الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»؟!.

وكيف تكون تلك القينة قد نفخ الشيطان في منخريها ، ثم يعرض «صلى الله عليه وآله» على عائشة أن تسمع غناءها؟ وهل تصدر مثل هذه المتناقضات عن عاقل؟ فضلا عن نبي معصوم؟!.

وكيف يتستر هذا النبي «صلى الله عليه وآله» في بعض أعماله عن البعض ، ويعتبر أن اطلاعه عليه هتك للستر المرخى ، وموجب للحط من كرامته وشأنه ، ولا يتستر بها عن البعض الآخر؟!

٣٠٩

ألا يدلنا ذلك : على أنها من الأعمال القبيحة ، أو على الأقل غير اللائقة!!. وأبو بكر نراه يزجر عن الغناء في رواية ، ولكنه لا يزجر عنه في رواية أخرى ، بل عمر هو الذي يزجر!!.

رابعا : كيف يدعو «صلى الله عليه وآله» عائشة لتنظر إلى لعب السودان بالدرق والحراب وخده على خدها ، وهو يشجعهم بقوله : دونكم يا بني أرفدة؟! (١). أفلا ينافي ذلك ما هو معروف عنه «صلى الله عليه وآله» من الحياء؟ حتى لقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها كما ورد ، وهل هذا يناسب من يعتبر الحياء من الإيمان ، ومن كان ضحكه التبسم؟!.

وهل ينسجم مع منعه لزوجتيه من النظر إلى الأعمى ، وقال لهما : أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟! (٢).

خامسا : ما هي المناسبة بين الضرب بالدف ، وبين رثاء قتلى بدر؟ وهل إن سكوت النبي «صلى الله عليه وآله» عن هذا الأمر كما في الرواية الأولى ـ لو صحت ـ يدل على رضاه به؟! ولا سيما إذا كان الأمر مما يحتاج إلى التدرج في المنع.

ومن قال : إن هؤلاء الذين كانوا يفعلون ذلك كانوا يحترمون أوامره «صلى الله عليه وآله»؟ بل لم يثبت كونهم من المسلمين.

سادسا : وأخيرا ، إن لدينا روايات كثيرة جدا صريحة في حرمة الغناء ، وهي متواترة بلا ريب ، ونحن نكتفي منها بذكر ما يلي :

__________________

(١) البخاري (ط الميمنية) ج ١ ص ١١١.

(٢) راجع : مسند أحمد ج ٦ ص ٢٩٦ ، وطبقات ابن سعد ومصابيح البغوي (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٤٠٨ والجامع الصحيح ج ٥ ص ١٠٢ وسنن أبي داود ج ٤ ص ٦٣ و ٦٤.

٣١٠

أ ـ عنه «صلى الله عليه وآله» : ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخمر ، والحرير ، والمعازف (١).

ب ـ عن أنس مرفوعا : صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما ، صوت مزمار ، ورنة شيطان عند نغمة مرح ، ورنة عند مصيبة.

وفي لفظ عبد الرحمن بن عوف : أنه «صلى الله عليه وآله» قال : إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ، ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة الخ ..

ومثل ذلك عن الحسن (٢).

ج ـ عن عمر بن الخطاب : ثمن القينة سحت ، وغناؤها حرام ، والنظر إليها حرام ، وثمنها من ثمن الكلب ، وثمن الكلب سحت (٣).

د ـ الدف حرام ، والمعازف حرام ، والكوبة حرام ، والمزمار حرام (٤).

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢١ عن البخاري في الصحيح ، والغدير ج ١٨ ص ٧٠ وعنه عن تفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٧٦ ، وقال : أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، وأبو نعيم ، وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها ، وصححه جماعة آخرون.

(٢) راجع فيما تقدم : المصنف ج ١١ ص ٦ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٨ ، وتفسير الشوكاني ج ٤ ص ٢٣٦ والدر المنثور ج ٥ ص ١٦٠ والغدير ج ٨ ص ٦٩ عنهم ما عدا الأول وعن : كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٣ ، ونقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٨ ، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥٣٠.

(٣) نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٤ ، وإرشاد الساري ج ٩ ص ١٦٣ عن الطبراني والغدير ج ٨ ص ٦٩ و ٧٠ عنهما.

(٤) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٢.

٣١١

ه ـ عن ابن عباس ، وأنس ، وأبي أمامة ، مرفوعا : ليكونن في هذه الأمة خسف ، وقذف ، ومسخ ، وذلك إذا شربوا الخمور ، واتخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف (١).

و ـ عن أنس ، وأبي أمامة مرفوعا : بعثني الله رحمة للعالمين ، وبعثني بمحق المعازف والمزامير ، وأمر الجاهلية (٢).

ز ـ عن أبي هريرة مرفوعا : يمسخ قوم في آخر الزمان قردة وخنازير ، فسألوه «صلى الله عليه وآله» عن سر ذلك ، فقال : اتخذوا المعازف ، والدفوف ، والقينات ، الخ .. وروى نحوه من طريق : عبد الرحمن بن سابط ، والغازي بن ربيعة وصالح بن خالد ، وأنس بن أبي أمامة ، وعمران بن حصين (٣).

ح ـ أخرج الترمذي من حديث علي مرفوعا : إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء (فذكر منها) : إذا اتخذت القينات والمعازف ، ومثله عن أبي هريرة (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٣٢٤ والغدير ج ٨ ص ٧٠ عنه وعن تفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٧٦ ورواه الطبراني ، وأحمد وابن أبي الدنيا.

(٢) جامع بيان العلم ج ١ ص ١٥٣ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٢ والدر المنثور ج ٢ ص ٣٢٤ والغدير ج ٨ ص ٧٠ و ٧١ عنهم.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٣٢٤ ، واخرجه ابن أبي الدنيا ، وابن أبي شيبة ، وابن عدي ، والحاكم ، والبيهقي ، وأبو داود ، وابن ماجة والمدخل ج ٣ ص ١٠٥ والغدير ج ٨ ص ٧١.

(٤) نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٣ والمدخل ج ٣ ص ١٠٥ والغدير ج ٨ ص ٧١ عنه وعن : نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٢٤٩ ، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥٣.

٣١٢

ط ـ عن صفوان بن أمية : كنا عند النبي «صلى الله عليه وآله» إذ جاء عمر بن قرة ، فقال : يا رسول الله ، إن الله كتب علي شقوة ، فلا أنال الرزق إلا من دفي بكفي ؛ فأذن لي في الغناء من غير فاحشة ، فقال النبي «صلى الله عليه وآله» : لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة ، كذبت أي عدو الله ، لقد رزقك الله طيبا ؛ فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ، أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة لضربتك ضربا وجيعا (١).

وعلق الحلبي على هذه الرواية بقوله : «إلا أن يقال : إن هذا النهي ـ إن صح ـ محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة ، وهو مكروه تنزيها ، وقوله : اخترت ما حرم الله عليك للمبالغة في التنفير عن ذلك» (٢).

ولكن قد فات الحلبي : أنه إذا كان اتخاذه حرفة مكروها تنزيها ؛ فلماذا يتهدده بالضرب الوجيع؟!. ولماذا يعتبره عدوا لله تعالى؟!.

كما أن مقابلة ما حرم الله بالطيب دليل على أن المراد بما حرم الله هو الخبيث وهو المحرم بنص القرآن : قال تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ»)(٣).

ي ـ عن أبي أمامة : لا تبيعوا القينات ولا تشروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ..).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٣ عن ابن أبي شيبة.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٢.

(٣) الآية ١٥٧ من سورة الأعراف.

٣١٣

وفي لفظ آخر : لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثمانهن حرام ، وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية الخ .. (١).

ك ـ وعن عائشة مرفوعا : إن الله تعالى حرم القينة ، وبيعها ، وثمنها ، وتعليمها ، والاستماع إليها ، ثم قرأ : (وَ)(٢)

(مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ)(٢).

ل ـ وسئل ابن مسعود عن قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ،) فقال : هو والله الغناء.

وفي لفظ : هو والله الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات.

وعن جابر في الآية : هو الغناء والاستماع له.

وفسر الآية بالغناء كل من : ابن عباس ، وابن عمر ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومكحول ، وعمرو بن شعيب ، وميمون بن مهران ،

__________________

(١) نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٣ ، وتفسير الشوكاني ج ٤ ص ٢٣٤ ، والدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٤٢ ، وإرشاد الساري ج ٩ ص ١٦٣ والمدخل لابن الحاج ج ٣ ص ١٠٤ وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٣٩ والغدير ج ٨ ص ٦٧ عنهم وعن : تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥١ ونقد العلم والعلماء ص ٢٤٧ ، وتفسير الخازن ج ٣ ص ٣٦ وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨ والترمذي كتاب ١٢ باب ٥١ ، ونقلوا أن الحفاظ التالية أسماؤهم قد أخرجوه : سعيد بن منصور ، وأحمد ، وابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة ، وابن مردويه ، والطبراني ، وابن أبي الدنيا.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ٢٢٨ والغدير ج ٨ ص ٦٧ عنه وعن تفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨.

٣١٤

وقتادة ، والنخعي ، وعطاء ، وعلي بن بذيمة ، والحسن (١).

م ـ وفي قوله تعالى لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ)(٢) ، قال ابن عباس ، ومجاهد : إنه الغناء ، والمزامير واللهو (٣).

ن ـ وقد عد الحسن البصري سيئات يزيد فقال : إنه سكير خمير ، يلبس الحرير ، ويضرب بالطنابير (٤).

وكان من جملة ما نقمه أهل المدينة على يزيد : أنه يشرب الخمر ، ويعزف

__________________

(١) راجع سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٢٢ و ٢٢٣ و ٢٢٥ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٤١١ وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٣٩ و ٤٠ والمدخل لابن الحاج ج ٣ ص ١٠٤ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٤١ وإرشاد الساري ج ٩ ص ١٦٣ والدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ و ١٦٠ وفتح القدير ج ٤ ص ٣٤ ، ونيل الأوطار ج ٨ ص ١٦٣ والغدير ج ٨ ص ٦٨ عمن تقدم وعن تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥١ ـ ٥٣ ونقد العلم والعلماء ص ٢٤٦ ، وتفسير الخازن ج ٣ ص ٤٦ وبهامشه وتفسير النسفي ج ٣ ص ٤٦٠ وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٧. وأخرجه ابن أبي الدنيا ، وابن أبي شيبة وابن المنذر ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والفريابي ، وابن عساكر.

(٢) الآية ٦٤ من سورة الإسراء.

(٣) راجع : جامع البيان ج ١٥ ص ٨١ و (ط دار الفكر) ص ١٤٧ وزاد المسير ج ٥ ص ٤٨ وتفسير القرطبي ج ١٠ ص ٢٨٨ وج ١٤ ص ٥١ والغدير ج ٨ ص ٦٩ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٩ و (ط دار المعرفة) ص ٥٣ أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٢٦٦ وتفسير السمعاني ج ٣ ص ٢٥٨ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٤٨٤ وتفسير الأندلسي ج ٣ ص ٤٧٠.

(٤) الغدير ج ١٠ ص ٢٢٥ عن تاريخ ابن عساكر ج ٥ ص ٤١٢ وتاريخ الطبري ج ٦ ص ١٥٧ وتاريخ ابن الأثير ج ٤ ص ٢٠٩ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٣٠ ومحاضرات الراغب ج ٢ ص ٢١٤ والنجوم الزاهرة ج ١ ص ١٤١.

٣١٥

بالطنابير ، ويضرب عنده القيان (١).

س ـ وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ :) سامدون : هو الغناء بلغة حمير (٢).

ع ـ عن جابر ، عنه «صلى الله عليه وآله» : «كان إبليس أول من ناح ، وأول من غنى» (٣).

ف ـ عن علي «عليه السلام» ، عنه «صلى الله عليه وآله» : «كسب المغني والمغنية حرام ، وكسب الزانية سحت ، وحق على الله أن لا يدخل الجنة لحما نبت من سحت» (٤).

ص ـ عن علي «عليه السلام» : إن النبي «صلى الله عليه وآله» نهى عن ضرب الدف ، ولعب الطبل ، وصوت المزمار (٥).

وحسبنا ما ذكرناه هنا ، ومن أراد المزيد ، فليراجع المصادر المشار إليها في الهوامش (٦).

__________________

(١) الغدير ج ١٠ ص ٢٥٥ عن تاريخ الطبري ج ٧ ص ٤ والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٤٥ والبداية والنهاية ج ٨ ص ١٢٦ وفتح الباري ج ١٣ ص ٥٩.

(٢) المدخل لابن الحاج ج ٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٧.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر السابق.

(٦) راجع : المدخل لابن الحاج ج ٣ من ص ٩٦ ـ ١١٥ ، وتفسير الطبري ج ٢٨ ص ٤٨ والزهد والرقائق ، قسم ما رواه نعيم بن حماد ص ١٢ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٤ و ٢٦٣ ، وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٢ ، وفتح القدير ج ٤ ص ٢٢٨

٣١٦

أقوال العلماء في الغناء :

وقد ذكر في الغدير : أن إمام الحنفية قد حرم الغناء ، وهو مذهب مشايخ أهل الكوفة : سفيان ، وحماد ، وإبراهيم ، والشعبي وعكرمة.

ونهى مالك عن الغناء ، واعتبره من العيوب التي ترد بها الجارية ، وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحده.

ونقل التحريم عن جماعة من الحنابلة ، وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل : أنه سأل أباه عن الغناء ، فقال : ينبت النفاق في القلب ، لا يعجبني ، ثم ذكر قول مالك : إنما يفعله عندنا الفساق.

__________________

وج ٥ ص ١١٥ ، وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٩٦ وج ٤ ص ٢٦٠ ، والفائق للزمخشري ج ١ ص ٣٠٥ ، والدر المنثور ج ٢ ص ٣١٧ و ٣٢٤ ، وج ٥ ص ١٥٩ ، والغدير ج ٨ ص ٦٤ فما بعدها عنهم وعن : القرطبي ج ٧ ص ١٢٢ وج ١٤ ص ٥٣ و ٥٤ ، والكشاف ج ٢ ص ٢١١ ، وتفسير الآلوسي ج ٧ ص ٧٢ وج ٢١ ص ٦٨ ، وإرشاد الساري ج ٩ ص ١٦٤ ، وبهجة النفوس لابن أبي حجرة ج ٢ ص ٧٤ ، وتاريخ البخاري ج ٤ قسم ١ ص ٢٣٤ ، ونقد العلم والعلماء ص ٢٤٦ و ٢٤٨ ، ونهاية ابن الأثير ج ٢ ص ٩٥ وتفسير الخازن ج ٣ ص ٤٦٠ وج ٤ ص ٢١٢ والنسفي بهامشه ، ج ٣ ص ٤٦٠. وأخرجها سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وأبو عبيد ، وابن أبي الدنيا ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي .. وأما قول ابن الزبير : ما أعلم رجلا من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم ، أو نحو ذلك المصنف ج ١ ص ٥ و ٦ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٥ ، فإنما المقصود هو الترنم والتغني بإنشاد الشعر ، وليس الغناء ، كما ذكره ابن الحاج ج ٣ ص ٩٨ و ١٠٩.

٣١٧

وعن أصحاب الشافعي العارفين بمذهبه القول بتحريمه كالمزني وغيره ، وأنكروا على من نسب إليه حلّه ، كالقاضي أبي الطيب ، وله في ذم الغناء والمنع عنه كتاب مصنف ولأبي بكر الطرطوشي كتاب في الغناء ، وأيضا حرمه الطبري ، والشيخ أبو إسحاق في التنبيه ، ونص على حرمته المحاسبي ، والنحاس ، والقفال ونهى عنه القاسم بن محمد ، والضحاك ، والوليد بن يزيد ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم.

ونقل ابن الصلاح إجماع أهل الحل والعقد من المسلمين على تحريمه.

وذكر الطبري إجماع أهل الأمصار على كراهته ، والمنع عنه سوى إبراهيم بن سعد ، وعبد الله العنبري (١).

الغناء عند أهل الكتاب :

وإذا كان الغناء أمرا غريبا عن الإسلام ، فلا بد أن نتساءل من أين تسرب هذا الأمر إلى بعض المسلمين ، حتى أصروا على حليته ، وممارسته وحتى أصبح من شعار الصوفية ، كما هو معلوم؟!

والجواب : أن ذلك قد تسرب إليهم من أهل الكتاب.

فقد قال ابن كثير : وهو يتحدث عن مريم أخت عمران التي كانت في زمان موسى : «وضربها بالدف في مثل هذا اليوم ، الذي هو أعظم الأعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد» (٢) ثم

__________________

(١) ذلك كله في كتاب : الغدير ج ٨ ص ٧٢ ـ ٧٤ والمدخل لابن الحاج ـ ج ٣ ص ٩٦ ـ ١١٠ ، وفي هذا الأخير زيادات هامة لم نذكرها روما للاختصار.

(٢) البداية والنهاية ج ١ ص ٢٧٦.

٣١٨

يحكم ابن كثير بالجواز في الأعياد وعند قدوم الغياب ، تماما على وفق ما استنبطه من رواية مريم!!.

سر الوضع والاختلاق :

ولربما يكون سر الإصرار على نسبة ذلك إلى نبي الأمة «صلى الله عليه وآله» وإلى الإسلام هو :

١ ـ أننا نجد : أن عائشة وعمر بن الخطاب كانا يحبان الغناء واللهو ويستمعان إليه.

أما بالنسبة لعائشة : «فقد روى البخاري وغيره : أنها كانت تشجع على ذلك ، وتقول : «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو» (١).

كما وأنها قد أذنت لمغن (رجل!!) يغني لبعض الجواري اللواتي خفضن ، وإن كانت قد عادت فأمرت بإخراجه (٢).

وبالنسبة للخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، فقد قال ابن منظور : «قد رخص عمر في غناء الأعراب» (٣).

واستأذنه خوات بن جبير بأن يغني ، فأذن له ؛ فغنى ، فقال عمر : أحسن

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ج ١٠ ص ٤٦٥ ، وصحيح البخاري ط مشكول ج ٩ ص ٢٢٣ و ٢٧٠ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٧٦١ عن المشكاة ص ٢٧٢ عن الشيخين ، ودلائل الصدق ج ١ ص ٣٩٣.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٤.

(٣) لسان العرب ج ١٥ ص ١٣٧ مادة : غنا.

٣١٩

خوات ، أحسن خوات (١).

وسمع رباح بن المغترف يغني ، فسأل عن ذلك ، فأخبروه ، فقال : فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب ، وقريب من ذلك جرى له مع خوات أيضا (٢).

وعن العلاء بن زياد : أن عمر كان في مسيره ؛ فتغنى ، فقال : هلا زجرتموني إذ لغوت؟! (٣).

وقد عده الشوكاني والعيني : أنه ممن أباح الغناء هو وعثمان (٤).

وقد استعاد غناء زيد بن سلم ، وعاصم بن عمر ، وأبدى رأيه فيه ، كما ذكره ابن قتيبة فراجع (٥).

فلعل جعل الإنكار على الجواري اللواتي كن يغنين في بيت الرسول «صلى الله عليه وآله» من قبل عمر بالذات في أكثر المرويات السابقة ـ لعله ـ يهدف إلى التشكيك في هذا الذي شاع عنه ، أو للتخفيف من قبح نسبته إليه ،

__________________

(١) الغدير ج ٨ ص ٧٩ عن كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٥.

(٢) نسب قريش لمصعب ص ٤٤٨ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٤ والإصابة ج ٢ ص ٢٠٩ والغدير ج ٨ ص ٧٩ عن البيهقي ، وعن الإستيعاب ج ١ ص ٨٦ ، و ١٧٠ وعن الإصابة ج ١ ص ٥٠٢ و ٤٥٧ وج ٨ ص ٢٠٩ وعن كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٥ ، وتاريخ ابن عساكر ج ٧ ص ٣٥.

(٣) الغدير ج ٨ ص ٨٠ عن كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٥.

(٤) نيل الأوطار ج ٨ ص ٢٦٦ ، والغدير ج ٧ ص ٧٨ عنه وعن عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ج ٥ ص ١٦٠.

(٥) عيون الأخبار ج ١ ص ٣٢٢.

٣٢٠