الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

فيقول : يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك؟

وفي لفظ أحمد : من هذا الغلام بين يديك ، فيقول : يهديني السبيل ، فيحسب الحاسب أنه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير.

وفي التمهيد : أن الرسول «صلى الله عليه وآله» كان رديف أبي بكر ، فكان إذا قيل لأبي بكر : من هذا وراءك؟ الخ.

وصرح القسطلاني : بأن ذلك كان حين الانتقال من بني عمرو بن عوف ، أي من قباء إلى المدينة.

وفي نص آخر : أنه لما قدم «صلى الله عليه وآله» المدينة تلقاه المسلمون ؛ فقام أبو بكر للناس ، وجلس النبي «صلى الله عليه وآله» وأبو بكر شيخ ، والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب ، فكان من لم ير النبي يجيء أبا بكر زاعما أنه هو ، فيعرفه النبي «صلى الله عليه وآله» حتى أصابت الشمس رسول الله ، فجاء أبو بكر فظلل عليه بردائه ، فعرفه الناس حينئذ (١).

ولكن ذلك لا يمكن أن يصح وذلك للتالي :

أولا : إن كون أبي بكر يعرف ، والنبي لا يعرف ، لا يمكن قبوله ، فإن

__________________

(١) راجع في ذلك كلا أو بعضا : إرشاد الساري ج ٦ ص ٢١٤ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٤١ ، وصحيح البخاري ط مشكول باب الهجرة ج ٦ ص ٥٣ وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٣٧ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٨٧ ، والمواهب اللدنية ج ١ ص ٨٦ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٠٢ ، والمعارف له ص ٧٥ والندير ج ٧ ص ٢٥٨ عن كثير ممن تقدم وعن الرياض النضرة ج ١ ص ٧٨ و ٧٩ و ٨٠ ، وعن طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٢٢.

٢٨١

النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعرض دعوته على مختلف القبائل التي كانت تقدم مكة ، طيلة سنوات عديدة وقد سار ذكره في الآفاق ، وبايعه من أهل المدينة أكثر من ثمانين ورآه حوالي خمسمئة من أهل المدينة قدموا مكة ، قبل ثلاثة أشهر فقط كما تقدم.

فكيف يكون أبو بكر يعرف ، والنبي «صلى الله عليه وآله» لا يعرف؟! (١).

ومن جهة أخرى : فلم يكن أحد يهتم بسفر أبي بكر أو يحس به ولا يجد أي من الناس دافعا للتعرف عليه.

هذا كله ، عدا عن أن أبا بكر قد فارق الرسول «صلى الله عليه وآله» حينما وصلا إلى قباء ، ولم يبق معه إلى حين دخول المدينة.

وأما ما ذكر أخيرا : من أن من لم ير النبي «صلى الله عليه وآله» كان يجيء أبا بكر زاعما أنه هو فهو ينافي قولهم : إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان شابا لا يعرف وأبو بكر شيخ يعرف.

ثانيا : لقد كان الناس من أهل المدينة ينتظرون قدومه «صلى الله عليه وآله» بفارغ الصبر ، وقد استقبله منهم حين قدومه حوالي خمسمئة راكب (٢) بظهر الحرة وكان النساء والصبيان والشبان وغيرهم يهزجون ـ كما قيل ـ :

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

__________________

(١) راجع : الندير ج ٧ ص ٢٥٨.

(٢) الثقات لابن حبان ج ١ ص ١٣١ ، ودلائل النبوة ج ٢ ص ٢٣٣ ، ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٥٥ ، عن التاريخ الصغير للبخاري ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٢ ، والسيرة النبوية لدحلان هامش الحلبية ج ١ ص ٣٢٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٦.

٢٨٢

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

وكان قد مكث في قباء أياما يستقبل الناس ؛ فهل يمكن أن يكون متنكرا حين قدومه من قباء إلى المدينة ، كما يقول القسطلاني؟! (١).

أو هل يمكن أن يكون قد دخل المدينة ولم يكن معه أحد من أهل قباء ، ولا من أهل المدينة وأين كان عنه علي حينئذ؟!

وألم يكن أهل المدينة قد أتوا زرافات ووحدانا إلى قباء ليتشرفوا برؤيته؟! ولماذا لم يدل العارفون به أولئك الذين يشتبهون في أمره عليه؟!

ثالثا : لقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يكبر أبا بكر بسنتين وعدة أشهر ؛ لأنه «صلى الله عليه وآله» ولد عام الفيل ، وأبو بكر استكمل بخلافته سن رسول لله «صلى الله عليه وآله» ، حيث توفي ـ كما يدعون ـ بسن النبي «صلى الله عليه وآله» عن ثلاث وستين سنة (٢).

إذا فكيف يصح قولهم : إنه شيخ والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب؟

__________________

(١) إرشاد الساري ج ٦ ص ٢١٤.

(٢) المعارف لابن قتيبة ص ٧٥ ، مدعيا الاتفاق على ذلك ، وأسد الغابة ج ٣ ص ٢٢٣ ، ومرآة الجنان ج ١ ص ٦٥ و ٦٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٦٠ والإصابة ج ٢ ص ٣٤١ ـ ٣٤٤ ، والغدير ج ٧ ص ٢٧١ عمن تقدم وعن المصادر الآتية : الكامل لابن الأثير ج ١ ص ١٨٥ وج ٢ ص ١٧٦ ، وعيون الأثر ج ١ ص ٤٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩٦ والطبري ج ٢ ص ١٢٥ وج ٤ ص ٤٧ والإستيعاب ج ١ ص ٣٣٥ ، وقال : لا يختلفون أن سنه انتهى حين وفاته ثلاثا وستين سنة ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٠٥.

٢٨٣

ومما ذكرناه نعرف : عدم صحة ما روي عن يزيد بن الأصم ـ المتوفى بعد المئة عن ٧٣ سنة ـ من أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لأبي بكر : أنا أكبر أو أنت؟

قال : لا ، بل أنت أكبر مني وأكرم ، وخير مني ، وأنا أسن منك (١).

وأما الاعتذار عن ذلك : بأن الشيب كان في وجه أبي بكر ولحيته كثيرا بخلافه «صلى الله عليه وآله» (٢) ـ أو أن أبا بكر كان تاجرا ، يعرفه الناس في المدينة عند اختلافه إلى الشام ـ فلا يصح ؛ لأن الشيب وعدمه لا يخفي الشيخوخة والشباب ، حتى لقد ورد التعبير في بعض تلك المرويات ب «ما هذا الغلام بين يديك»؟

فما معنى التعبير بالغلام عن رجل يزيد عمره على خمسين سنة؟

إلا أن يقال : الغلام يطلق على الشيخ والشاب فهو من الأضداد.

وأيضا : فقد روي عن ابن عباس بسند صحيح : أن أبا بكر قال للنبي «صلى الله عليه وآله» : يا رسول الله قد شبت؟ قال : شيبتني هود والواقعة والخ ..

وروى الحفاظ مثله عن ابن مسعود ، وعن أبي جحيفة ، قالوا : يا رسول الله ، نراك قد شبت ، قال : شيبتني هود وأخواتها (٣).

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٧٠ عن الإستيعاب ج ٢ ص ٢٢٦ ، والرياض النضرة ج ١ ص ١٢٧ وتاريخ الخلفاء ص ٧٢ عن خليفة بن خياط ، وأحمد بن حنبل وابن عساكر.

(٢) فتح الباري ج ٧ ص ١٩٥ ، وراجع الغدير ج ٧ ص ٢٦٠ و ٢٦١.

(٣) مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٣٤٣ وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة واللمع لأبي نصر ص ٢٨٠ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٣٥ ، والغدير ج ٧ ص ٢٦١ عنهم وعن تفسير القرطبي ج ٧ ص ١ وتفسير الخازن ج ٢ ص ٣٣٥ وعن جامع الحافظ الترمذي ، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي ، وأبي يعلى ، والطبراني ، وابن أبى شيبة.

٢٨٤

وإذا كانت السور المذكورة مكية كما هو معلوم ، فيستفاد من ذلك : أن الشيب قد بان فيه «صلى الله عليه وآله» في مكة على خلاف الطبيعة ، وأسرع فيه ، حتى صار الناس يسألونه عنه ، وعما أثره (١) ولم يكن مجرد شعرات قليلة لا تلفت النظر ، ولا يلتفت إليها.

وأما أن أبا بكر كان تاجرا يختلف إلى الشام ، فقد تقدم : أنه كان في الجاهلية معلما للأولاد ، وبعد ذلك صار خياطا ، وكما كان أبو بكر يختلف إلى الشام ، فقد كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضا يختلف إلى الشام ، وكان التعرف عليه أدعى وأولى ، بملاحظة ما كان له من الشرف والسؤدد في قريش والعرب ، وكان له في أهل المدينة قرابة أيضا.

هذا ، عدا عما أسلفناه من أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يعرض دعوته على القبائل التي تقدم مكة لعدة سنوات.

وأيضا : فإن صفات النبي «صلى الله عليه وآله» كانت تدل عليه ، وقد وصفته أم معبد لزوجها فعرفه.

أما أبو بكر ، فقد تقدمت صفته عن عائشة وغيرها في بعض الفصول.

وأخيرا : فإن ركوب النبي «صلى الله عليه وآله» وأبي بكر على ناقة واحدة لم نجد له ما يبرره ، بعد أن كان لدى كل منهما ناقة تخصه كما تقدم.

رأي العلامة الأميني :

ويرى الأميني «قدس سره» : أن قضية : أنت أكبر مني وأنا أسن منك تنقل عن النبي «صلى الله عليه وآله» مع سعيد بن يربوع المخزومي ، الذي

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٦١.

٢٨٥

توفي سنة أربع وخمسين عن مئة وعشرين سنة.

ويرى أيضا : أن حجة أبي بكر يوم السقيفة على مخالفيه قد كانت كبر سنه ، فحاول محبوه تأييد هذه الدعوى بما ذكرنا من كونه أسن من النبي «صلى الله عليه وآله» والنبي أكبر منه ، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» كان شابا ، بل غلاما ، لا يعرف!! وأبو بكر كان شيخا يعرف!! (١).

النفاق في مكة :

وقبل أن نبدأ الحديث عما بعد الهجرة نرى أن من المناسب الإشارة إلى أمر يرتبط بالحياة المكية ، والحكم على بعض الظواهر فيها ، مع ارتباط له وثيق أيضا بالحياة في المدينة بعد الهجرة ، وهو موضوع :

هل كان يوجد فيمن أسلم قبل الهجرة من المكيين منافقون يبطنون خلاف ما يظهرون أم لم يكن؟!

وهل كانت أجواء مكة صالحة لظهور أشخاص من هذا القبيل يعتنقون الإسلام ويبطنون الكفر ، أم لا؟!.

يقول العلامة الطباطبائي «رحمه الله» ما مفاده :

إنه ربما يقول البعض : لا ، لم يكن في مكة منافقون ، إذ لم يكن للنبي «صلى الله عليه وآله» ولا للمسلمين قوة ولا نفوذ ، يجعل الناس يهابونهم ، ويتقونهم ، أو يرجون منهم نفعا ماديا ، أو معنويا من نوع ما ، فلماذا إذا يتقربون لهم ويتزلفون؟ ولماذا يظهرون لهم الإسلام ، مع انطوائهم على خلافه؟.

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٧١.

٢٨٦

بل كان المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين ، معذبين ؛ فالمناسب أن يتقي المتقي ـ رغبا أو رهبا ـ من صناديد قريش وعظمائها ، لا منهم.

وأما في المدينة فقد قوي أمر النبي «صلى الله عليه وآله» وظهر أمر المسلمين ، وأصبحوا قوة يمكنها الدفع والمنع ، وكان له «صلى الله عليه وآله» في كل بيت أتباع وأنصار يطيعون أوامره ، ويفدونه بكل غال ونفيس ، والقلة القليلة الباقية لم يكن يسعهم الإعلان بالخلاف ؛ فداروا أمرهم بإظهار الإسلام ، وإبطان الكفر ـ على أن يكيدوا ويمكروا بالمسلمين ، كلما سنحت لهم الفرصة لذلك.

هكذا استدل البعض لإثبات عدم وجود منافقين بين المسلمين الأولين.

ولكنه كما ترى كلام لا يصح.

وذلك لأن النفاق في مكة كانت له أسبابه ، ومبرراته ، ومناخاته ، ونذكر هنا ما يلي :

أولا : إن أسباب النفاق لا تنحصر فيما ذكر ، من الرغبة والرهبة لذي الشوكة ومنه ، إذ أننا كثيرا ما نجد في المجتمعات فئات من الناس مستعدة لقبول أية دعوة ، إذا كانت ذات شعارات طيبة ، تنسجم مع أحلامهم وآمالهم ، وتعدهم بتحقيق رغائبهم ، وما تصبو إليه نفوسهم ، فيناصرونها ، رغم أنهم في ظل أعتى القوى وأشدها طغيانا ، وهم في غاية الضعف والوهن يعرضون أنفسهم لكثير من الأخطار ، ويحملون المشاق والمصاعب من أجلها وفي سبيلها.

كل ذلك رجاء أن يوفقوا يوما ما لتحقيق أهدافهم ، والوصول إلى مآربهم ، التي يحلمون بها ، كالعلو في الأرض ، والحصول على الثروات ،

٢٨٧

والجاه العريض ، وغير ذلك.

إنهم يقدمون على كل هذا ، مع أنهم ربما كانوا لا يؤمنون بتلك الدعوة إلا بمقدار إيمانهم بضرورة الحصول على تلك المآرب والأهداف الآنفة الذكر.

ومن الواضح : أن المنافق الطامع الذي من هذا القبيل يكون ـ فيما لو نجحت الدعوة ـ أشد خطرا على تلك الدعوة من أعتى أعدائها ؛ لأنه إذا وجد أن الدعوة لا تستطيع أن تمنحه كل ما يريد ـ ولو لاقتضاء المصلحة لذلك ـ فإنه سوف يمكر ويغدر (١) ، كما أنه يكون هو الأقدر على الانحراف بهذه الدعوة ، وإخراجها عن نهجها القويم ، وصراطها المستقيم إلى المتاهات التي يستطيع في ظلماتها وبهمها أن يحصل على ما يريد دون رادع أو وازع ، وهو الذي يملك كل المبررات لذلك مهما كانت سقيمة وتافهة.

وأما إذا فشلت الدعوة : وكان قد أحكم أمره ؛ فإنه يستطيع أن يقول لمن هم على شاكلته : إنا كنا معكم ؛ إنما نحن مستهزئون.

فإنه إذا كان النفاق في المدينة قد كان في أكثره لدوافع أمنية ، أو للحفاظ على المصالح والعلاقات المعينة ، فإن النفاق المكي لسوف يكون أعظم خطرا ، وأشد محنة وبلاء على الإسلام والمسلمين ، حسبما أوضحنا آنفا.

وعلى هذا ، فإن من القريب جدا .. أن يكون بعض من اتبع النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة لم يكن مخلصا للدعوة ، وإنما كان مخلصا لنفسه فقط ، لا سيما إذا لاحظنا : أن دعوة الرسول قد كانت مقترنة من أول يوم بدئها

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ١٩ ص ٢٨٩.

٢٨٨

بالوعود القاطعة بأن حامليها لسوف يكونون ملوك الأرض ، ولسوف يملكون كنوز كسرى وقيصر (١) ، فقد سأل عفيف الكندي العباس بن عبد المطلب عما يراه من صلاة النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي وخديجة «عليهما السلام» ، فقال له العباس :

هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، زعم أن الله أرسله ، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح على يديه ، فكان عفيف يتحسر على أن لم يكن أسلم يومئذ ، ليكون ثانيا لعلي «عليه السلام» في الإسلام (٢).

وحينما سأله عمه أبو طالب عن سبب شكوى قومه منه ، قال «صلى الله عليه وآله» : إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية (٣).

وينقل عنه «صلى الله عليه وآله» أنه قال لبكر بن وائل ، حينما كان يعرض دينه على القبائل : فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم ، وتستنكحوا نساءهم ، وتستعبدوا أبناءهم الخ ..

وقال قريبا من هذا لشيبان بن ثعلبة ، ومثل ذلك قال أيضا حينما أنذر

__________________

(١) أشار إلى هذا أيضا العلامة الطباطبائي في الميزان ج ١٩ ص ٢٨٩.

(٢) ذخائر العقبي ص ٥٩ ، ودلائل النبوة ج ١ ص ٤١٦ ، ولسان الميزان ج ١ ص ٣٩٥ وعن أبي يعلى ، وخصائص النسائي ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٥٧ ط صادر ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٧ وراجع حياة الصحابة ج ١ ص ٣٣.

(٣) سنن البيهقي ج ٩ ص ٨٨ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٤٣٢ ، وصححه هو والذهبي في تلخيصه ، وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٨ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٣ عن الترمذي ، وتفسير الطبري ، وأحمد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم.

٢٨٩

عشيرته الأقربين (١).

بل إن مما يوضح ذلك بشكل قاطع ، ما قاله أحد بني عامر بن صعصعة لما جاء رسول الله «صلى الله عليه وآله» يعرض عليهم قبول دعوته : «والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب» ، وقد تقدم بعض المصادر لذلك.

ثم إنه إذا كان هذا النفاق يهدف إلى استخدام الدعوة لأهداف شخصية ، فهو بالتالي مضطر إلى الحفاظ على هذه الدعوة بمقدار اضطراره إلى الحفاظ على مصالحه وأهدافه تلك ، ما دام يرى أو يأمل منها أن تتمكن من تحقيق ما يتمناه ، وتوصله إلى أهدافه التي يرجوها.

وهكذا يتضح : أنه ليس من الضروري أن يكون المنافق مهتما بالكيد للدعوة التي لا يؤمن بها ، والعمل على تحطيمها وإفسادها ، بل ربما يكون حريصا عليها كل الحرص ، يفديها بالمال والجاه ـ لا بالنفس ـ إذا كان يأمل أن يحصل على ما هو أعلى وأغلى فيما بعد ، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة في بعض مسلمي مكة ، الذين كانوا يواكبون الدعوة ويعاونونها ما دام لم تصل النوبة إلى التضحية بالنفس والموت ، فإذا كان ذلك فإنهم يفرون ، وينهزمون ، ويتركون النبي وشأنه ، وقد رأينا ذلك في كثير من المواقف.

نعم ، ربما يتمكن الدين تدريجيا من نفوس بعضهم ، وتحصل لهم قناعة

__________________

(١) راجع : الثقات ج ١ ص ٨٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٤٠ وراجع ص ١٤٢ و ١٤٥ عن دلائل النبوة لأبي نعيم والحاكم والبيهقي وحياة الصحابة ج ١ ص ٧٢ و ٨٠ عن البداية والنهاية وعن كنز العمال ج ١ ص ٢٧٧.

٢٩٠

تدريجية به ، ولسوف نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولربما حين الكلام على غزوة أحد.

وخلاصة الأمر : أن الميزان لدى البعض هو أهدافه هو ؛ فما دامت الدعوة في خدمتها فهو معها ، وأما إذا وجد أنها سوف تكون عقبة في طريقها ، وتشكل خطرا عليها فإنه لا يألو جهدا ولا يدع وسيلة في الكيد لها ، والعمل على هدمها وتحطيمها.

ثانيا : ما أشار إليه العلامة الطباطبائي «رحمه الله» أيضا : أنه لا مانع من أن يسلم أحدهم في أول البعثة ، ثم يعرض له ما يزلزل إيمانه ، ويرتاب ، ويرتد عن دينه ، ولكنه يكتم ذلك ، حفاظا على بعض المصالح الهامة بنظره كالخوف من شماتة أعدائه ، أو حفاظا على بعض علاقاته القبلية ، أو التجارية ، أو للعصبية والحمية ، وغيرها مما يربطه بالمسلمين أو ببعضهم ، أو للحفاظ على جاه من نوع معين ، أو أي شيء آخر بالنسبة إليه (١).

ولربما يشهد لذلك : أننا قد رأينا البعض يعترف أنه كان كثيرا ما يشك في هذا الأمر ، حتى اعترف في الحديبية أنه ارتاب ارتيابا لم يرتبه منذ أسلم (٢) وفي غزوة أحد ، حينما سمعوا أنه «صلى الله عليه وآله» قد قتل فروا من المعركة ، وقال بعضهم : «نلقي إليهم بأيدينا ، فإنهم قومنا وبنو عمنا» (٣).

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٢٨٩.

(٢) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٦٠٧.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٧ ، وبقية الكلام على هذا مع مصادره يأتي إن شاء الله تعالى في غزوة أحد.

٢٩١

ثالثا : وقد أشار العلامة الطباطبائي أيضا إلى بعض الآيات الدالة على وجود النفاق في مكة ، وذلك كقوله تعالى : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)(١) حيث قد وردت هذه الآية في سورة المدثر وهي مكية ، وكذا قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ)(٢). فإن سورة العنكبوت مكية أيضا ، والآية مشتملة على حديث الإيذاء والفتنة في الله ، وذلك إنما كان في مكة لا في المدينة ، وقوله تعالى : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) لا يدل على نزول الآية في المدينة لأن النصر له مصاديق ومراتب كثيرة.

وأضيف هنا : أن الله تعالى إنما يحكي حالة المنافقين المستقبلية بشكل عام.

ثم قال العلامة الطباطبائي : احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقع بمكة بعد الهجرة ، غير ضائر ؛ فإن هؤلاء المفتونين بمكة بعد الهجرة إنما كانوا من الذين آمنوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» قبل الهجرة ، وإن أوذوا بعدها (٣).

ملاحظة هامة على ما تقدم :

هذا ، ويلاحظ العلامة الطباطبائي أخيرا : أننا لم نزل نسمع ذكرا

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة المدثر.

(٢) الآية ١٠ من سورة العنكبوت.

(٣) راجع : تفسير الميزان ج ٢٠ ص ٩٠ و ٩١.

٢٩٢

للمنافقين إلى حين وفاة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» وقد تخلف عنه «صلى الله عليه وآله» في تبوك أكثر من ثمانين منهم ، وانخذل ابن أبي في أحد في ثلاثمائة ، ثم انقطعت أخبارهم عنا مباشرة ، ولم نعد نسمع عن دسائسهم ، ومكرهم ، ومكائدهم للإسلام وللمسلمين شيئا ، فهل انقلبوا بأجمعهم ـ بمجرد وفاته «صلى الله عليه وآله» ـ عدولا أتقياء وأبرارا أوفياء؟!

وإذا كان كذلك ، فهل كان وجود النبي «صلى الله عليه وآله» فيما بينهم مانعا لهم من الإيمان ، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟! نعوذ بالله من التفوه بالعظائم ، وبما يسخط الرب ، أم أنهم ماتوا بأجمعهم ، وهم يعدون بالمئات بمجرد موته «صلى الله عليه وآله»؟ وكيف لم ينقل لنا التاريخ ذلك؟!

أم أنهم وجدوا في الحكم الجديد ما يوافق هوى نفوسهم ، ويتلاءم مع أهوائهم ، ومصالحهم؟! أم ماذا؟! ما هي الحقيقة؟!

لست أدري! ولعل الذكي يدري.

٢٩٣
٢٩٤

الفصل الرابع :

حتى المدينة

٢٩٥
٢٩٦

بداية :

وفي المدينة بدأت عملية بناء المجتمع الإسلامي ، وإرساء قواعد الدولة ، والتخطيط لنشر الإسلام في مختلف أرجاء العالم ، وانتقلت الدعوة من مرحلة بناء الفرد إلى مرحلة بناء المجتمع ، وتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ، ومحو كل آثار الجاهلية في العالم أجمع.

وإذا أردنا أن نلم بكل الخطوات التي خطاها القائد الأعظم «صلى الله عليه وآله» في سبيل ذلك ، فإننا لن نتمكن الآن من استقصاء ذلك ولسوف يصرفنا عن متابعة الأحداث الرئيسة في السيرة العطرة ، ولذا فنحن نترك هذا المجال للآخرين ، مكتفين بالتعرض إلى ما يهم الباحث التعرض له ابتداء ، من دون تركيز على الجزئيات والتفاصيل إلا بالمقدار الذي نراه لازما ومقبولا ، فنقول :

غناء أهل المدينة ، والنبي صلّى الله عليه وآله يرقص بأكمامه :

ويذكرون : أن أهل المدينة ما فرحوا بشيء فرحهم برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وعن عائشة :

لما وصل «صلى الله عليه وآله» المدينة صارت النساء والولائد يقلن :

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

٢٩٧

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

فعدل ذات اليمين ، حتى نزل بقباء (١).

وفي رواية : فجعل رسول الله يرقص بأكمامه (٢).

وبعد أن مكث في قباء أياما ، وتوجه إلى داخل المدينة ، خرجت نساء من بني النجار بالدفوف يقلن :

نحن نساء من بني النجار

يا حبذا محمد من جار

فقال لهن رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أتحببنني ، في رواية (أتحبوني)؟

قلن : نعم ، يا رسول الله.

فقال : والله وأنا أحبكن ، قالها ثلاثا (٣).

قال الحلبي : «وهذا دليل واضح لسماع الغناء على الدف لغير العرس» (٤).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٤١ و ٣٤٢ عن الرياض النضرة ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٢٣٣ ، ووفاء الوفاء للسمهودي ج ١ ص ٢٤٤ وج ٤ ص ١١٧٢ و ١٢٦٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٢٠٤.

(٢) نهج الحق الموجود في دلائل الصدق ج ١ ص ٣٨٩ ، ولم يعترض عليه فضل بن روزبهان ، بل حاول توجيهه وتأويله.

(٣) وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٣ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٢٠٤ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٤١ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦١ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٠٠.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦١.

٢٩٨

واستدل ابن كثير برواية الصحيحين الآتية على جواز الغناء في الأعراس ولقدوم الغياب (١).

المناقشة :

ولكن ذلك لا يصح لما يلي :

١ ـ ثنية الوداع من جهة الشام :

إن ثنيات الوداع ليست من جهة مكة بل من جهة الشام ، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام (٢).

وذكر السمهودي : أنه يوجد مسجد على يسار الداخل إلى المدينة المنورة من طريق الشام (٣).

بل هو يقول : «ولم أر لثنية الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة» (٤).

والظاهر : أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة ، وأن ذلك عند القدوم من الهجرة (٥).

ويدل على كون ثنية الوداع من جهة الشام ، ما ورد في قدوم النبي

__________________

(١) البداية ونهاية ج ١ ص ٢٧٦.

(٢) زاد المعاد ج ٣ ص ١٠ وراجع : وفاء الوفاء للسمهودي ج ٤ ص ١١٧٠ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ١٣٠.

(٣) وفاء الوفاء ج ٣ ص ٨٤٥.

(٤) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧٢.

(٥) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧٢.

٢٩٩

«صلى الله عليه وآله» وخروجه من وإلى تبوك وحين قدم من خيبر ، ومن الشام وإلى مؤتة ، وغزوة العالية ، والغابة ، وكذا ما ورد عنه في حديث السباق في أمد الخيل المضمرة (١).

وحاول السمهودي تصحيح ما تقدم : بأنهم قد ذكروا أنه «صلى الله عليه وآله» قد مر بدور الأنصار ، حين قدم المدينة من قباء ، حتى مر بدور بني ساعدة وإنما هي في شامي المدينة ، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية (٢).

وهو كلام عجيب ، فإن مروره في دور بني ساعدة لا يقتضي دخول المدينة من ناحيتهم ، إذ يمكن أن يدخلها من جهة قباء ، ثم تجول به ناقته في دور الأنصار ، كما هو صريح ما ذكره ، حتى تصل إلى دور بني ساعدة.

كما أن احتماله هذا يدفعه تصريحهم في رواية : طلع البدر علينا ، بأنهم لا قوه بهذا الشعر ، ثم عدل بهم ذات اليمين إلى قباء ، كما تقدم ، فإن هذا إنما يتناسب مع قدومه من مكة إلى المدينة ، لا من قباء إلى المدينة ، كما يقول السمهودي.

فالصحيح : هو أنهم قد لا قوه بهذا الشعر حينما قدم من تبوك لا من مكة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٦٨ و ١١٦٩ و ١١٧٢ وج ٣ ص ٨٥٧ و ٨٥٨ عن البخاري ، وابن أبي شيبة ، والطبراني في الأوسط ، وأبي يعلى ، وابن حبان ، وابن إسحاق ، وابن سعد والبيهقي الخ. وراجع حياة الصحابة ج ١ ص ٦٠٣ و ٢٠٧ والسنن الكبرى ج ٩ ص ١٧٥ و ٨٥.

(٢) راجع وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧٠.

٣٠٠