الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

تجلي الله لأبي بكر :

عن أنس : لما خرج «صلى الله عليه وآله» من الغار أخذ أبو بكر بغرزه (١) ؛ فنظر «صلى الله عليه وآله» إلى وجهه ، فقال : يا أبا بكر ألا أبشرك؟

قال : بلى فداك أبي وأمي.

قال : إن الله يتجلى يوم القيامة للخلائق عامة ، ويتجلى لك خاصة (٢).

ومع أننا لم ندر ما معنى هذا التجلي ، إلا أن يكون على مذهب المجسمة الضالة ، فإننا نجد : أن الفيروزآبادي قد عد هذا الحديث من أشهر الموضوعات في باب فضائل أبي بكر ، ومن المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل ، وحكم الخطيب بوضعه عند ذوي المعرفة بالنقل ، وحكم أيضا بوضعه وبطلانه كل من : الذهبي ، والعجلوني ، وابن عدي ، والسيوطي ، والعسقلاني ، والقاري وغيرهم (٣).

كلام هام حول الفضائل :

يقول المدائني : «كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي شهادة ، وكتب إليهم :

أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ، ومحبيه ، وأهل ولايته ، الذين

__________________

(١) الغرز : ركاب الرحل.

(٢) الغدير ج ٥ ص ٣٠١ و ٣٠٢ والمصادر الآتية في الهامش التالي والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٤١.

(٣) راجع : تاريخ بغداد للخطيب ج ٢ ص ٢٨٨ وج ١٢ ص ١٩ ، وكشف الخفاء ج ٢ ص ٤١٩ ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ١٤٨ ، ولسان الميزان ج ٢ ص ٦٤ وميزان الإعتدال ج ٢ ص ٢١ و ٢٣٢ و ٢٦٩ وج ٣ ص ٣٣٦ والغدير ج ٥ ص ٣٠٢ عمن تقدم ، وعن أسنى المطالب ص ٦٣.

٢٦١

يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقربوهم ، وأكرموهم ، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه ، وعشيرته ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات ، والكساء ، والحباء ، والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي.

فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجد امرؤ من الناس عاملا من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه ، وقربه ، وشفعه ، فلبثوا بذلك حينا.

ثم كتب إلى عماله : إن الحديث في عثمان قد جهر وفشا في كل مصر ، وكل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا ، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة ، والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إلي ، وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت كتبه على الناس ، ورويت أحاديث كثيرة في مناقب الصحابة ، مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر وألقي إلى معلمي الكتاب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ، ونساءهم ، وخدمهم ، وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة : أنه يحب عليا ، وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكلوا

٢٦٢

به ، واهدموا داره ، فلم يكن البلاء أشد وأكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى إن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ، فيلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة : ليكتمن عليه.

فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة ، والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤون ، والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث حتى يحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا في مجالسهم ، ويكسبوا به الأموال والضياع ، والمنازل حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها فرووها وهم يظنون أنها حق ولو علموا : أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها ، فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي «عليه السلام» ، فازداد البلاء والفتنة الخ» .. (١).

ما أنت إلا إصبع دميت :

وفي رواية : إن أبا بكر صار يسد كل حجر وجده في الغار ، فأصاب يده ما أدماها ، فصار يمسح الدم عن إصبعه ويقول :

ما أنت إلا اصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت (٢)

__________________

(١) النصائح الكافية ص ٧٢ و ٧٣ عن المدائني ، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١١ ص ٤٤.

(٢) حلية الأولياء ج ١ ص ٢٢ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٨٠ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٥ و ٣٦.

٢٦٣

وهذا لا يصح ؛ لأن هذا البيت هو لعبد الله بن رواحة ، قاله في جملة أبيات له في غزوة مؤتة ، وقد صدمت إصبعه فدميت (١).

وفي الصحيحين : عن جندب بن سفيان : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك في بعض المشاهد ، أو في الغار ، حينما دميت إصبعه (٢).

وذكر آخرون : أنه «صلى الله عليه وآله» قال ذلك حينما لحقه أبو بكر ، لظنه «صلى الله عليه وآله» أنه بعض المشركين ، فأسرع ؛ فأصابه حجر ، ففلق إبهامه (٣).

ولعله «صلى الله عليه وآله» قد قرأ «دميت ولقيت» بفتح ياءيهما ، وسكون تاءيهما حتى لا يكون شعرا ، لأنه لا يقول الشعر ولا ينبغي له ، كما ذكرته الآية الكريمة : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ)(٤).

إلا أن يكون المراد بها : أنه «صلى الله عليه وآله» ليس بشاعر ، لا أنه لا يتلفظ بالشعر ، ولا يتمثل به.

وفي بعض المصادر : أن قائله هو الوليد بن الوليد بن المغيرة ، حين فر من المشركين حين هجرته ، أو حينما ذهب ليخلص هشام بن العاص وعباس

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٩ و ٣٦.

(٢) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٨١ و ١٨٢ ، وصحيح البخاري ج ٢ ص ٨٩ الميمنية ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٥١٨.

(٣) راجع البحار ج ١٩ ص ٩٣ عن مسند أحمد ، وعن تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٠٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٦ عن ابن الجوزي.

(٤) الآية ٦٩ من سورة يس.

٢٦٤

بن ربيعة (١).

وقيل : إن أبا دجانة قال ذلك في غزوة أحد (٢).

ولعل الجميع قد قالوا هذا البيت ، لكن على سبيل التمثل به ، والتمثل بالشعر شائع عند العرب ، وهكذا يتضح أن هذا الشعر إن كان قد قيل في الغار ، فإن قائله هو النبي «صلى الله عليه وآله» كما في الصحيحين.

وقد نسب ذلك إلى أبي بكر تصنعا وتزلفا ليس إلا ، وذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.

عمدة فضائل أبي بكر :

ومما يلفت النظر ، ويقضي بالعجب : أن تكون صحبة أبي بكر لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكونه معه في الغار ، وكبر سنه ، هما عمدة ما استدلوا به يوم السقيفة لأحقية أبي بكر بالخلافة دون غيره ، فقد قال عمر يوم السقيفة : «من له مثل هذه الثلاث : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا.)

وقال : إن أولى الناس بأمر نبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار ، وأبو بكر السباق المسن.

وقال يوم البيعة العامة : «إن أبا بكر رحمه الله صاحب رسول الله وثاني

__________________

(١) نسب قريش لمصعب الزبيري ص ٣٢٤ ، والمصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٤٤٧ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٢٠.

(٢) البدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٠٢.

٢٦٥

اثنين ، أولى الناس بأموركم ، فقوموا فبايعوه» (١).

وعن سلمان : «أصبتم ذا السن فيكم ، ولكنكم أخطاتم أهل بيت نبيكم».

وحينما طلب اليهود من أبي بكر أن يصف لهم صاحبه قال : «معشر اليهود ، لقد كنت معه في الغار كإصبعي هاتين الخ ..».

وعن عثمان : «إن أبا بكر الصديق (يبدو أن كلمة الصديق زيادة من الرواة لما تقدم) أحق الناس بها ؛ إنه لصديق ، وثاني اثنين ، وصاحب رسول الله» هكذا عن أبي عبيدة.

وعن علي ، والزبير : «الغار ، وشرفه ، وكبره ، وصلاته بالناس» (٢).

__________________

(١) راجع هذه النصوص في : مجمع الزوائد ج ٥ ص ١٨٢ عن الطبراني ورجاله ثقات وبعضه عن ابن ماجة ، وسيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣١١ ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٤٨ عن البخاري ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٨ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٤٣٨ ، والغدير ج ٧ ص ٩٢ عن بعض من تقدم وعن الرياض النضرة ج ١ ص ١٦٢ ـ ١٦٦.

(٢) راجع في ما تقدم كلا أو بعضا : شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٨ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٦٦ ، وسنن البيهقي ج ٨ ص ١٥٣ ، وذكر ذلك في الغدير ج ٥ ص ٣٦٩ وج ٧ ص ٩٢ وج ١٠ ص ٧ كلا أو بعضا عن المصادر التالية : مسند أحمد ج ١ ص ٣٥ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٢٨ ، ونهاية ابن الأثير ج ٣ ص ٢٤٧ ، وصفة الصفوة ج ١ ص ٩٧ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨٦ ، والصواعق المحرقة ص ٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٣١ وج ٢ ص ١٧ ، والرياض النضرة ج ٢ ص ١٩٥ ، وكنز العمال ج ٣ ص ١٤٠ عن الأطرابلسي في فضائل الصحابة ونقل أيضا عن الكنز ج ٣ ص ١٣٩ و ١٣٦ و ١٤٠ عن ابن أبي شيبة وابن عساكر ، وابن شاهين ، وابن جرير ، وابن سعد ، وأحمد ، ورجاله رجال الصحيح.

٢٦٦

وأخيرا : فقد قال العسقلاني عن قضية الغار : «هي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة بعد النبي «صلى الله عليه وآله» ، ولذلك قال عمر بن الخطاب : إن أبا بكر صاحب رسول الله ، ثاني اثنين ، فإنه أولى المسلمين بأموركم».

وإذا كانت أعظم فضائله التي استحق بها الخلافة ، وإذا كانوا لم يتمكنوا من ذكر فضيلة أخرى له ، مع أنهم في أحرج الأوقات ، وفي أمس الحاجة إلى التشبث بكل حشيش في مقابل الأنصار ؛ فماذا عساهم أن يصنعوا في مقابل علي وفضائله العظمى التي هي كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار؟

وهل يمكنهم أن يحتجوا بشيء ذي بال في مقابله؟!.

وهل يبقى أمامهم من مخرج سوى اللجوء إلى أساليب العنف والإرهاب؟! وهكذا كان!!.

وإذا أفقده البحث المنطقي والعلمي هذه الفضيلة ، وبقي صفر اليدين ، حتى لقد كان بلال يفضل عليه ، حتى اضطر بلال ـ ولعله لدوافع لم يستطع التاريخ أن يفصح عنها ـ لأن يستنكر ذلك ويقول : كيف تفضلوني عليه ، وأنا حسنة من حسناته؟ (١).

نعم ، إذا أفقده النقد الموضوعي هذه الفضيلة ، كما قد رأينا ذلك فيما تقدم ، فما الذي يبقى أمام أبي بكر للحفاظ على ماء وجهه ومنصبه؟!.

إننا نترك الجواب على ذلك للقارئ الفطن والمنصف.

__________________

(١) الغدير ج ١٠ ص ١٣ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٣ ص ٣١٧.

٢٦٧

عثمان حين قضية الغار :

وأخرج ابن مندة بسند واه ، عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : كنت أحمل الطعام إلى أبي ، وهو مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالغار ، فاستأذنه عثمان في الهجرة ، فأذن له في الهجرة إلى الحبشة (١).

ولكن من الواضح : أن عثمان قد هاجر إلى الحبشة قبل قضية الغار بثمان سنين ؛ لأن هجرة الحبشة إنما كانت في السنة الخامسة من البعثة.

أضف إلى ذلك : أن كون أسماء هي التي كانت تحمل الطعام إلى الغار ، لا يصح ؛ فقد تقدم أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقبل أن يأخذ الناقة من أبي بكر إلا بالثمن حتى لا يكون لأحد منة عليه «صلى الله عليه وآله».

هذا كله عدا عما تقدم من عدم صحة قولهم : إن أسماء كانت تأتيهم بالطعام إلى الغار .. فإن عليا «عليه السلام» كان هو الذي يحمل الطعام إلى الغار ؛ وليس أسماء بنت أبي بكر.

وكون المراد غارا آخر ، يحتاج إلى شاهد ودليل ، ولم نجد في التاريخ ما يدل على أنه «صلى الله عليه وآله» قد دخل غارا آخر ، ولبث فيه مع أبي بكر مدة.

يوم الغار ، ويوم الغدير :

قال ابن العماد وغيره : «تمادت الشيعة في هذه الأعصر في غيهم بعمل عاشوراء ، وباللطم والعويل ، وينصب القباب ، والزينة ، وشعار الأعياد يوم الغدير ؛ فعمدت غالية السنة وأحدثوا في مقابلة يوم الغدير ، الغار ، وجعلوه

__________________

(١) كنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٨ عن ابن عساكر ، والإصابة ج ٤ ص ٣٠٤.

٢٦٨

بعد ثمانية أيام من يوم الغدير ، وهو السادس والعشرون من ذي الحجة ، وزعموا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» وأبا بكر اختفيا حينئذ في الغار.

وهذا جهل وغلط ؛ فإن أيام الغار إنما كانت بيقين في صفر ، وفي أول شهر ربيع الأول الخ ..» (١).

وقد كان عليه أن يقول : «وهذا نصب وجهل ، قد أعمى أبصارهم وبصائرهم» ، وهل ليوم الغار الذي أظهر فيه أبو بكر ضعفه ، وشكه ، وعرف كل أحد أنه «صلى الله عليه وآله» لم يأخذ منه البعير إلا بالثمن ، أن يكون كيوم الغدير ، الذي جعل فيه أهل البيت أحد الثقلين اللذين لن يضل من تمسك بهما ، وجعل علي «عليه السلام» فيه مولى للمؤمنين وإماما لهم بعد الرسول «صلى الله عليه وآله» ، إلى غير ذلك مما نقله جهابذة العلماء ، وأعاظم الحفاظ؟!.

ولا بأس بمراجعة كتابنا : «صراع الحرية في عصر المفيد» ، ففيه تفصيلات حول هذا الموضوع.

وأخيرا فما أحرانا : أن نتمثل هنا بقول الشاعر :

__________________

(١) شذرات الذهب ج ٣ ص ١٣٠ ، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٩٤ وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٤٥ والمنتظم لابن الجوزي ج ٧ ص ٢٠٦ والبداية والنهاية ج ١١ ص ٣٢٥ والخطط المقريزية ج ١ ص ٣٨٩ والكامل في التاريخ ج ٩ ص ١٥٥ ونهاية الأرب للنويري ج ١ ص ١٨٥ وذيل تجارب الأمم لأبي شجاع ج ٣ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ وتاريخ الإسلام للذهبي (حوادث سنة ٣٨١ ـ ٤٠٠) ص ٢٥.

٢٦٩

من كان يخلق ما يقو

ل فحيلتي فيه قليلة

الكلمة الأخيرة في حديث الغار :

وحسبنا ما ذكرناه هنا حول الأكاذيب التي جادت بها قرائحهم ، حول قضية الغار.

وقد يلاحظ القارئ : أننا لم نكثر المصادر للنصوص التي ذكرناها هنا ، وعذرنا في ذلك هو أننا لم نر حاجة إلى ذلك ، لأننا رأينا أنها متوفرة جدا في مختلف الكتب الحديثية والتاريخية ، ولن يجد القارئ كبير عناء في البحث عنها ، واستخراجها.

ولعل القارئ يجد في هذا الذي ذكرناه مقنعا وكفاية ، وهو يكشف له زيف الكثير مما لم نذكره لوضوح كذبه وفساده ، وقد آن الأوان للعودة إلى الحديث عن سائر أحداث السيرة العطرة للرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله».

فإلى ما يلي من فصول ..

٢٧٠

الفصل الثالث :

إلى قباء

٢٧١
٢٧٢

في الطريق إلى المدينة :

عن أبي عبد الله «عليه السلام» : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما خرج من الغار متوجها إلى المدينة ، وقد كانت قريش جعلت لمن أخذه مئة من الإبل ، خرج سراقة بن جشعم فيمن يطلب ، فلحق رسول الله ، فقال «صلى الله عليه وآله» : اللهم اكفني سراقة بما شئت ، فساخت قوائم فرسه ، فثنى رجله ثم اشتد ، فقال : يا محمد إني علمت أن الذي أصاب قوائم فرسي إنما هو من قبلك ، فادع الله أن يطلق الي فرسي ، فلعمري ، إن لم يصبكم خير مني لم يصبكم مني شر.

فدعا رسول الله «صلى الله عليه وآله» : فأطلق الله عز وجل فرسه ، فعاد في طلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما أطلقت قوائم فرسه في الثالثة ، قال : يا محمد ، هذه إبلي بين يديك فيها غلامي ، فإن احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه ، وهذا سهم من كنانتي علامة ، وأنا أرجع فأرد عنك الطلب.

فقال : لا حاجة لي فيما عندك.

ولعل رفض النبي «صلى الله عليه وآله» ما عرضه عليه سراقة قد كان من منطلق : أنه لا يريد أن يكون لمشرك يد عنده.

٢٧٣

وقد تقدمت بعض النصوص الدالة على ذلك في فصل أبو طالب مؤمن قريش ، وسيأتي في هذا الكتاب بعض من ذلك أيضا.

وسار «صلى الله عليه وآله» حتى بلغ خيمة أم معبد ، فنزل بها ، وطلبوا عندها قرى ، فقالت : ما يحضرني شيء ، فنظر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى شاة في ناحية قد تخلفت من الغنم لضرها ، فقال : أتأذنين في حلبها؟

قالت : نعم ، ولا خير فيها.

فمسح يده على ظهرها ، فصارت من أسمن ما يكون من الغنم ، ثم مسح يده على ضرعها ، فأرخت ضرعا عجيبا ، ودرت لبنا كثيرا ، فطلب «صلى الله عليه وآله» العس ، وحلب لهم فشربوا جميعا حتى رووا.

ثم عرضت عليه أم معبد ولدها الذي كان كقطعة لحم ، لا يتكلم ، ولا يقوم ، فأخذ تمرة فمضغها ، وجعلها في فيه ، فنهض في الحال ، ومشى ، وتكلم ، وجعل نواها في الأرض فصار نخلة في الحال ، وقد تهدل الرطب منها ، وأشار إلى جوانبها فصار مراعي.

ورحل «صلى الله عليه وآله» فلما توفي «صلى الله عليه وآله» لم ترطب تلك النخلة ، فلما قتل علي «عليه السلام» لم تخضر ، فلما قتل الحسين «عليه السلام» سال منها الدم (١).

فلما عاد أبو معبد ، ورأى ذلك سأل زوجته عن سببه قالت : مر بي رجل من قريش ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة (أو نخلة) ولم تزر به صحلة (أو صقلة) وسيم في عينيه دعج ، وفي أشفاره

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٥ عن ربيع الأبرار.

٢٧٤

عطف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع ، وفي لحيته كثاثة ، أزج أقرن ، إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء ، أكمل الناس وأبهاهم من بعيد ، وأحسنه وأعلاه من قريب ، حلو المنطق فصل ، لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن ، ربعة لا تشنؤه من طول ، ولا تقتحمه العين من قصر غصن بين غصنين وهو أنضر الثلاثة منظرا ، وأحسنهم قدرا.

إلى أن قالت : محفود محشود لا عابس ولا مفند. (ووصف أم معبد له «صلى الله عليه وآله» معروف ومشهور).

فعرف أبو معبد أنه النبي «صلى الله عليه وآله» ، ثم قصد بعد ذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة ، فآمن هو وأهله (١).

الكرامات الباهرة بعد الظروف القاهرة :

وليس ذلك كله بكثير على النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» وكراماته الظاهرة ، ومعجزاته الباهرة ، فهو أشرف الخلق وأكرمهم على الله من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

ومن الجهة الثانية : فإن حصول هذه الكرامات بعد مصاعب الهجرة مباشرة إنما يؤكد ما أشرنا إليه سابقا :

من أنه قد كان من الممكن أن تتم الهجرة بتدخل من العناية الإلهية ،

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٤ والبحار ج ١٩ ص ٤١ و ٤٢ ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٢٧٩ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٤٩ و ٥٠ وغير ذلك من المصادر. وحديث أم معبد مشهور بين المؤرخين ، والنص المذكور من أول العنوان إلى هنا هو للبحار ج ١٩ ص ٧٥ و ٧٦ عن الخرائج والجرائح.

٢٧٥

ولكن الله تعالى أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها وليكون هذا الرسول «صلى الله عليه وآله» هو الاسوة الحسنة ، والقدوة لكل أحد ، في مواجهة مشاكل الحياة ، وتحمل أعباء الدعوة إلى الله بكل ما فيها من متاعب ، ومصاعب وأزمات ، فإن للأزمات التي يمر بها الإنسان دورا رئيسا في صنع خصائصه ، وبلورتها ، وتعريفه بنقاط الضعف التي يعاني منها وهي تبعث فيه حيوية ونشاطا ، وتجعله جديا في مواقفه ، فإنه إذا كان هدف الله سبحانه هو إعمار هذا الكون بالإنسان ، فإن الإنسان الخامل الذي يعتمد على الخوارق والمعجزات لا يمكنه أن يقوم بمهمة الإعمار هذه.

والخلاصة :

إن ذلك لمما يساعد على تربية الإنسان وتكامله في عملية إعداده ليكون عنصرا فاعلا وبانيا ومؤثرا ، لا منفعلا ومتاثرا وحسب ، إلى غير ذلك مما يمكن استفادته من الأحداث الآنفة الذكر.

هجرة أمير المؤمنين عليه السّلام :

واستمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» في هجرته المباركة حتى قرب من المدينة ، فنزل بادئ ذي بدء في قباء في بيت عمرو بن عوف ، فأراده أبو بكر على دخول المدينة ، وألاصه فأبى ، وقال : ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن أمي وأخي ، وابنتي ، يعني عليا وفاطمة «عليهما السلام» (١).

__________________

(١) راجع : الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٣٥ من دون ذكر للاسم ، وأمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨٣ ، وإعلام الورى ص ٦٦ ، والبحار ج ١٩ ص ٦٤ و ١٠٦ و ١١٥ و ١١٦ و ٧٥ و ٧٦ وج ٢٢ ص ٣٦٦ عن الخرائج والجرايح.

٢٧٦

فلما أمسى فارقه أبو بكر ، ودخل المدينة ، ونزل على بعض الأنصار ، وبقي رسول الله بقباء ، نازلا على كلثوم بن الهدم (١).

ثم كتب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أخيه علي «عليه السلام» كتابا يأمره بالمسير إليه وقلة التلوم ، وأرسل الكتاب مع أبي واقد الليثي.

فلما أتاه كتاب النبي «صلى الله عليه وآله» تهيأ للخروج والهجرة ، فأعلم من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، وأمرهم أن يتسللوا ، ويتخفوا تحت جنح الليل إلى ذي طوى ، وخرج «عليه السلام» بفاطمة بنت الرسول ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأبو واقد ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم ، فأمره «عليه السلام» بالرفق فاعتذر بخوفه من الطلب.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام» : إربع عليك ، فإن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لي : (أي حين سفره من الغار كما تقدم) يا علي أما إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه.

وأدركه الطلب قرب ضجنان ، وهم سبع فوارس متلثمون ، وثامنهم مولى للحارث بن أمية ، يدعى جناحا.

فأنزل علي «عليه السلام» النسوة ، وأقبل على القوم منتضيا السيف ، فأمروه بالرجوع ، فقال : فإن لم أفعل؟

قالوا : لترجعن راغما ، أو لنرجعن بأكثرك شعرا ، وأهون بك من هالك.

ودنا الفوارس من المطايا ليثوروها ، فحال علي «عليه السلام» بينهم

__________________

(١) إعلام الورى ص ٦٦ ، والبحار ج ١٩ ص ١٠٦ عنه.

٢٧٧

وبينها فاهوى جناح بسيفه ، فراغ علي «عليه السلام» عن ضربته ، وتختله علي «عليه السلام» فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضيا فيه ، حتى مس كاثبة فرسه ، وشد عليهم بسيفه ، وهو يقول :

خلوا سبيل الجاهد المجاهد

آليت لا أعبد غير الواحد

فتصدع القوم عنه وقالوا : أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب.

قال : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب ، فمن سره أن أفري لحمه ، وأهريق دمه ، فليتبعني ، أو فليدن مني ، ثم أقبل على صاحبيه ، فقال لهما : أطلقا مطاياكما.

ثم سار ظاهرا حتى نزل بضجنان ، فتلوم بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أم أيمن مولاة الرسول «صلى الله عليه وآله» فعبدوا الله تلك الليلة قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر ، فصلى بهم علي «عليه السلام» صلاة الفجر ثم سار بهم ، فجعلوا يصنعون ذلك في كل منزل ، حتى قدم المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ..)

إلى قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ..)(١).

ولما بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» قدومه «عليه السلام» ، قال : ادعوا

__________________

(١) الآيات ١٩١ ـ ١٩٥ من سورة آل عمران.

٢٧٨

لي عليا.

قيل : يا رسول الله ، لا يقدر أن يمشي.

فأتاه «صلى الله عليه وآله» بنفسه ، فلما رآه اعتنقه ، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وكانتا تقطران دما.

وقال «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» : يا علي ، أنت أول هذه الأمة إيمانا بالله ورسوله ، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهدا برسوله ، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن قلبه للإيمان ولا يبغضك إلا منافق أو كافر (١).

إذن ، فالهجرة العلنية ، والتهديد بالقتل لمن يعترض سبيل المهاجر قد كانا من علي «عليه السلام» ، وليس من عمر بن الخطاب ، وقد تقدم في فصل ابتداء الهجرة إلى المدينة بعض ما يدل على عدم صحة نسبة ذلك إلى عمر ، وإنما نسبوا ما كان من أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى غيره ، شأن الكثير من فضائله ومواقفه «عليه السلام».

السياسة الحكيمة :

وبعد .. فإن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا : أننا نجد أمير المؤمنين عليا وكذلك أبناءه من بعده «عليهم السلام» يحاولون تفويت الفرصة على

__________________

(١) راجع فيما ذكرناه : أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨٣ ـ ٨٦ ، والبحار ج ١٩ ص ٦٤ ـ ٦٧ و ٨٥ وتفسير البرهان ج ١ ص ٣٣٢ و ٣٣٣ عن الشيباني في نهج البيان ، وعن الاختصاص للشيخ المفيد ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨٣ و ١٨٤ ، وإعلام الورى ص ١٩٠ وراجع : امتاع الاسماع للمقريزي ج ١ ص ٤٨.

٢٧٩

مزوري التاريخ من أعداء الدين والحق والإيمان ، فقد روى عبد الواحد بن أبي عون :

أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» حينما توفي أمر علي «عليه السلام» صائحا يصيح : «من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتني».

فكان يبعث كل عام عند العقبة يوم النحر من يصيح بذلك ، حتى توفي علي ، ثم كان الحسن بن علي يفعل ذلك حتى توفي ، ثم كان الحسين يفعل ذلك ، وانقطع ذلك بعده ، رضوان الله تعالى عليهم وسلامه.

قال ابن عون : فلا يأتي أحد من خلق الله إلى علي بحق ولا باطل إلا أعطاه (١).

كتاب تبع الأول :

ويذكر البعض : أن تبعا الأول قد آمن بالنبي «صلى الله عليه وآله» قبل ولادته «صلى الله عليه وآله» بمئات السنين في قصة طويلة ، نرغب عن ذكرها ، لأننا لم نتأكد من صحتها ، فمن أراد التحقيق حولها ، فليراجعها في مصادرها (٢).

أبو بكر شيخ يعرف :

قد جاء في بعض المرويات : أن النبي «صلى الله عليه وآله» أقبل إلى المدينة وكان أبو بكر رديف النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأبو بكر شيخ يعرف ، والنبي «صلى الله عليه وآله» شاب لا يعرف ، فيلقى الرجل أبا بكر ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ٨٩.

(٢) ثمرات الأوراق ص ٢٩٠ و ٢٩١ عن القرطبي.

٢٨٠