الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

شراء أبي بكر للموالي!! ونفقاته!!

ويقولون : إنه لما خرج أبو بكر احتمل معه ماله كله ، وهو خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم ، فدخل أبو قحافة على أهل بيت ولده ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.

قالت أسماء : كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.

فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت ، الذي كان أبي يضع ماله فيه ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال.

قالت : فوضع يده عليه.

فقال : «لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم» ، ولا والله ما ترك لنا شيئا ، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك (١).

ويذكرون أيضا : أن عامر بن فهيرة كان يعذب في الله ، فاشتراه أبو بكر فأعتقه ، فكان يروح عليهما ـ وهما في الغار ـ بمنحة غنم من غنم أبي بكر ، فكان يرعاها ؛ فيمر عليهما في المساء ليحلب لهما ، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام (٢).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٣٣ وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٩ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٧٩ ، والأذكياء لابن الجوزي ص ٢١٩ ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ١٧٣ و ١٧٤ ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٥٩ عن الطبري ، وأحمد ورجاله رجال الصحيح ، غير ابن إسحاق ، وقد صرح بالسماع.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢ و ٤٠ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٧ وستأتي مصادر أخرى لذلك.

٢٤١

وعن عائشة : أنفق أبو بكر على النبي «صلى الله عليه وآله» أربعين ألف درهم.

وفي لفظ : دينار (١).

ويروون أنه «صلى الله عليه وآله» قال : ما من أحد أمنّ عليّ في صحبته ، وذات يده من أبي بكر ، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر ، فبكى أبو بكر ، وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ (٢).

أو قال : ليس أحد أمنّ عليّ في أهل ومال من أبي بكر.

وفي رواية أخرى : إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام ومودته ، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر (٣).

وعن عائشة في حديث الغار : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ـ يقول الواقدي : كان في السفرة شاة مطبوخة ـ فقطعت أسماء بنت أبي بكر نطاقها قطعتين ، فشدت فم الجراب بواحدة ، وفم قربة الماء في الأخرى ، فسميت : ذات النطاقين (٤).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢ و ٤٠ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٨٧ وستأتي مصادر أخرى لذلك إن شاء الله.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢ ، وراجع لسان الميزان ج ٢ ص ٢٣ وغيره.

(٣) راجع : صحيح البخاري كما في إرشاد الساري ج ٦ ص ٢١٤ و ٢١٥ مع اختلاف يسير والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٠٨ و ٦٠٩ والمصادر الآتية قبل الحديث عن عامر بن فهيرة.

(٤) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٣ و ٣٣٠ وستأتي مصادر أخرى إن شاء الله تعالى.

٢٤٢

وفي الترمذي : عنه «صلى الله عليه وآله» ، أنه قال : إن أبا بكر زوجه ابنته ، وحمله إلى دار الهجرة ، وصحبه في الغار.

وفي رواية : ما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر ، فإن له عندنا يدا ، الله يكافئه بها يوم القيامة (١).

ونحن نقول : إن كل ذلك محل شك وريب ، بل هو لا يصح إطلاقا ، وذلك لما يلي :

١ ـ عامر بن فهيرة :

أما كون عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر ، فقد تقدم كلام ابن إسحاق ، والواقدي ، والإسكافي وغيرهم فيه ، حيث قالوا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي اشتراه وأعتقه ، وليس أبا بكر.

٢ ـ أبو قحافة الأعمى :

وأما رواية : أن أسماء قد وضعت الأحجار في المكان الذي كان أبوها يضع فيه ماله ، ليتلمسها أبو قحافة الأعمى ليطمئن ويسكن فيكذبها :

__________________

(١) راجع : في كل ما تقدم من أول العنوان إلى هنا : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٣٠ ـ ٣٢٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢ و ٣٣ و ٤٠ و ٣٩ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٠٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ، وصحيح البخاري باب الهجرة ، وفتح الباري ج ٧ وصحيح مسلم ، وصحيح الترمذي ، والدر المنثور ، والفصول المهمة لابن الصباغ ، والسيرة النبوية لابن كثير ولسان الميزان ج ٢ ص ٢٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٤٢ عن الطبراني والغدير ، وغير ذلك كثير لا مجال لتتبعه.

٢٤٣

أ ـ قال الفاكهي بن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال عبد الله : لما خرج النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الغار ، ذهبت أستخرج وأنظر هل أحد يخبرني عنه ، فأتيت دار أبي بكر ، فوجدت أبا قحافة ، فخرج عليّ ومعه هراوة ، فلما رآني اشتد نحوي ، وهو يقول : هذا من الصباة الذين أفسدوا علي ابني (١).

فهذه الرواية توضح أن أبا قحافة لم يكن حينئذ قد عمي بعد ، وسندها معتبر عندهم.

ب : لم نفهم لماذا لم يترك أبو بكر لأهل بيته شيئا؟ وما هذا الجفاء منه لهم؟!

ومن أين علم أبو قحافة الضرير بأنه قد حمل ماله معه حتى قال لهم : إنه قد فجعهم بنفسه وماله؟!

ج : ولماذا هذا الدور لأسماء؟

ألم تكن زوجة للزبير حينئذ ، وألم تهاجر معه إلى المدينة قبل ذلك ، حيث لم يبق من أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» ، في مكة سوى علي وأبي بكر ، ومن يفتن ويعذب؟!

وأين كانت زوجات أبي بكر عن ذلك كله؟!

٣ ـ مع أدوار لأسماء أيضا وغيرها

وأما بالنسبة لما زعموه من أن أسماء كانت إذا أمست تذهب بالطعام

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٤٦٠ و ٤٦١ وهذه الرواية تدل على أن أبا قحافة يرى أن ابنه أبا بكر قد صار من الصباة وأنه قد أسلم بعد جماعة عبد الله منهم ، وهذا ينافي ما تقدم من أنه كان أول من أسلم.

٢٤٤

إليهما إلى الغار ، وأنها هي التي هيأت الزاد لهما حين سفرهما إلى المدينة ، وأنها هي التى أرسلت إليه الراحلتين ، وأن تسميتها بذات النطاقين قد كان في هذه المناسبة ..

فيرد عليه :

أولا : إنهم يقولون في مقابل ذلك : إنه بعد غياب النبي «صلى الله عليه وآله» وأبي بكر مضت ثلاث ليال ولا يدرون أين توجه الرسول «صلى الله عليه وآله» ، حتى علموا ذلك من هاتف الجن في أبيات أنشدها.

والقول : إن المراد : بعد ثلاثة أيام من خروجه من الغار ، إذ قد صرحوا بأنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار (١) هكذا ذكر الحلبي الشافعي والعهدة في ذلك عليه.

ويقول مغلطاي : «ولم يعلم بخروجه عليه الصلاة والسلام إلا علي وأبي (كذا) بكر رضي الله عنه ؛ فدخلا غارا بثور الخ ..» (٢).

ثانيا : لقد ورد : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الذي كان يأتي النبي «صلى الله عليه وآله» بالطعام والشراب إلى الغار (٣).

بل لقد ورد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل إلى علي ليرسل

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥١.

(٢) سيرة مغلطاي ص ٣٢.

(٣) تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي ج ١ ص ١٣٨ ، وإعلام الورى ص ١٩٠ ، والبحار ج ١٩ ص ٨٤ عنه وتيسير المطالب في أمالي الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص ٧٥.

٢٤٥

إليه بزاد وراحلة ففعل ، وأرسل ذلك إليه.

وأرسل أبو بكر لابنته ، فأرسلت إليه بزاد وراحلتين ، أي له ولعامر بن فهيرة كما في الرواية ، ولعلها هي التي اشتراها منه علي أيضا (١).

وقد احتج «عليه السلام» بذلك يوم الشورى ، فقال : نشدتكم بالله ، هل فيكم أحد كان يبعث إلى رسول الله الطعام وهو في الغار ، ويخبره الأخبار غيري؟

قالوا : لا (٢).

وبهذا يعلم أيضا عدم صحة ما قيل من أن عبد الله بن أبي بكر كان هو الذي يأتيهما بالأخبار من مكة إلى الغار (٣) ، وعدم صحة ما قيل عن وجود غنم لأبي بكر ، كان يأتي بها عامر بن فهيرة إلى الغار ؛ فيشرب النبي «صلى الله عليه وآله» وأبو بكر من لبنها.

ثالثا : وأما حديث النطاق والنطاقين ، فبالإضافة إلى تناقض رواياته (٤) نجد : أن المقدسي بعد أن ذكر القول الأول قال : «ويقال : لما نزلت آية الخمار

__________________

(١) إعلام الورى ص ٦٣ ، والبحار ج ١٩ ص ٧٠ و ٧٥ عنه وعن الخرائج وعن قصص الأنبياء.

(٢) الإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ٢٠٤.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٩ ، وسيرة ابن هشام ، وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢١٠ عن البغوي وابن كثير.

(٤) راجع لبعض موارد التناقض لا كلها : الإصابة ج ٤ ص ٢٣٠ ، والإستيعاب بهامشها ج ٤ ص ٢٣٣.

٢٤٦

ضربت يدها إلى نطاقها ، فشقته نصفين ، واختمرت بنصفه» (١).

ويقولون أيضا : إنها قالت للحجاج : «كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله «صلى الله عليه وآله» من النحل ، ونطاق لا بد للنساء منه» (٢).

٤ ـ حديث سد الأبواب ، وخلة أبي بكر :

وأما حديث باب وخلة أبي بكر ، وهو قوله «صلى الله عليه وآله» : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، فلا نريد التوسع في الكلام عليه بل نكتفي بما ذكره المعتزلي هنا ، فإنه قال : «إن البكرية قد وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : لو كنت متخذا خليلا ، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو سد الأبواب ، فإنه لعليّ «عليه السلام» ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر الخ ..» (٣).

ومع ذلك فيعارض هذا الحديث ما رووه من أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد اتخذ أبا بكر خليلا بالفعل (٤).

فأيهما نصدق يا ترى؟!.

هذا ، وسوف نتكلم عن حديث سد الأبواب في هذا الكتاب في فصل قضايا وأحداث في المجال العام ، وعن حديث الخلة حين الكلام على

__________________

(١) البدء والتاريخ ج ٥ ص ٧٨.

(٢) الإصابة ج ٤ ص ٢٣٠ ، والإستيعاب هامش الإصابة ج ٤ ص ٢٣٣.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ١١ ص ٤٩ ، وراجع الغدير ج ٥ ص ٣١١.

(٤) الرياض النضرة ج ١ ص ١٢٦ ، وإرشاد الساري ج ٦ ص ٨٦ عن الحافظ السكري والغدير ج ٨ ص ٣٤ عنهما وعن كنز العمال ج ٦ ص ١٣٨ و ١٤٠ عن الطبراني وأبي نعيم.

٢٤٧

حديث المؤاخاة الآتي إن شاء الله تعالى فإلى هناك.

٥ ـ ثروة أبي بكر :

وأما عن ثروة أبي بكر ، وأنه قد أنفق أربعين ألف درهم ، أو دينار على النبي «صلى الله عليه وآله» وغير ذلك مما يذكرونه ، فنقول :

إننا بالإضافة إلى ما قدمناه من عدم صحة ما جرى بين أسماء وأبي قحافة حين الهجرة وغير ذلك من أمور أشرنا إليها آنفا نسجل هنا ما يلي :

أولا : إن حديث : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، وأنه لم يكافئه على اليد التي له عليه ، والله هو الذي يكافئه عليها ، لا يصح ، وذلك بملاحظة ما يلي :

أ ـ بماذا كافأ النبي «صلى الله عليه وآله» أبا طالب وخديجة على تضحياتهما ، ونفقاتهما ، وما قدماه في سبيل الدين والإسلام ، وعلى مواساتهما بالنفس والمال والولد؟!

ألم يكن ما أنفقاه وقدماه للإسلام أعظم مما قدمه وأنفقه أي إنسان آخر في سبيل الإسلام؟ ..

ثم كانت خدمات علي «عليه السلام» الجلى لهذا الدين ، والتي لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد معاند.

ب ـ وحديث المنة على الرسول عجيب ، فإنه لم يكن في مكة بحاجة إلى أحد ؛ إذ قد كانت عنده أموال خديجة ، وحتى أموال أبي طالب (١) وكان ينفق

__________________

(١) قد تقدم في أول البحث : أن أبا طالب كان ينفق في الشعب على الهاشميين من أمواله.

وأما أموال خديجة ، فأمرها أشهر وأعرف. وقد تقدم كلام ابن أبي رافع حولها.

٢٤٨

منها على المسلمين إلى حين الهجرة ، وكان ينفق على علي «عليه السلام» في بدء أمره ، تخفيفا على أبي طالب كما يدعون.

وقد عير عمر أسماء بنت عميس : بأن له هجرة ولا هجرة لها ، فقالت له : «كنتم مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يطعم جائعكم ، ويعظ جاهلكم» ، ثم اشتكته إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فأخبرها : «أن للمهاجرين إلى الحبشة هجرتين ولأولئك هجرة واحدة» (١).

ج ـ ويكفي أن نذكر هنا أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقبل منه البعير أو البعيرين حين هجرته إلا بالثمن ، الذي نقده إياه فورا وهو «صلى الله عليه وآله» في أحرج الأوقات.

وإذا صح حديث رد رسول الله «صلى الله عليه وآله» هبة أبي بكر هذه وهو مما استفاض نقله ، فإنه يأتي على كل ما يروونه في إنفاق المال من قبل أبي بكر على النبي «صلى الله عليه وآله».

د ـ هذا كله عدا عن أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يجهز في مكة جيشا ، ولا أسعر حربا ؛ ليحتاج إلى النفقة الواسعة في تجهيز الجيوش ، وإعداد الكراع (٢) والسلاح.

__________________

(١) راجع : الأوائل ج ١ ص ٣١٤ ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٥ عن البخاري ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٣٥ ط سنة ١٣٠٩ ه‍. وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٧٢ ، وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٦ ، عن أبي نعيم والطيالسي ، وليراجع فتح الباري ج ٧ ص ٣٧٢ ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٩٥ و ٤١٢. وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٦١.

(٢) الكراع : اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.

٢٤٩

كما أنه لم يكن يتفكه ويتنعم بإنفاق الأموال.

وأما بعد الهجرة إلى المدينة ، فإن أبا بكر قد ضن بماله ، الذي كان خمسة أو ستة آلاف درهم ـ كما يقولون ـ عن كل أحد ، حتى عن ابنته أسماء التي كانت في أقسى حالات الفقر والجهد ، حينما قدمت المدينة ، حتى لقد كانت تخدم البيت ، وتسوس الفرس وتدق النوى لناضحه ، وتعلفه ، وتستقي الماء ، وتنقل النوى على رأسها من بعد ثلثي فرسخ ، حتى أرسل إليها أبوها خادما كفتها سياسة الفرس ، كما ادّعت (١).

كما أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد مر في سنوات ضيق شديدة وصعبة ، ولا سيما قبل خيبر ، حتى لقد كان ربما يبقى اليومين أو الثلاثة بلا طعام ، حتى يشد على بطنه الحجر (٢) وكان الأنصار يتعاهدونه بجفان الطعام ، فأين كانت عنه أموال أبي بكر وآلاف دراهمه ، التي بقيت إلى تبوك ، حيث يدّعون : أنه جاء بجميع ماله ، وهو أربعة آلاف درهم حينئذ؟! (٣).

هذا كله : لو كان مرادهم المنة على رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالإنفاق عليه.

ثانيا : إن كان المراد المن على الرسول «صلى الله عليه وآله» بالإنفاق في سبيل

__________________

(١) راجع : حديث الإفك ص ١٥٢ وراجع : عنوان «لا مال لأبي بكر لينفق على أحد» في الجزء الثالث عشر وفي الجزء الثاني عشر الطبعة الرابعة.

(٢) وقد وصفت عائشة حالته هو وأهل بيته بما يقرح القلوب ، فراجع : طبقات ابن سعد ج ١ قسم ٢ ص ١٢٠ وليراجع من ص ١١٢ حتى ص ١٢٠.

(٣) حياة الصحابة ج ١ ص ٤٢٩ عن ابن عساكر ج ١ ص ١١٠.

٢٥٠

الله سبحانه ، فهو أيضا لا يصح ، إذ لم نجد في التاريخ ما يدل على ذلك.

بل لقد وجدنا ما يدل على خلافه ، فإن أبا بكر قد ضن بماله إلى حد أنه لم يتصدق ولو بدر همين في قصة النجوى ، ولم يفعل ذلك سوى أمير المؤمنين «عليه السلام» ، حتى أنزل الله تعالى قرآنا يؤنب فيه الصحابة ويلومهم على ذلك ثم تاب عليهم ، قال تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ ..) الآية» (١).

ولو أن أبا بكر تصدق بدرهمين لم يكن ممن توجه إليهم هذا العتاب منه تعالى.

ثالثا : والأهم من ذلك : أنه لا معنى لأن يكون الإنفاق لوجه الله ، ثم يمن المنفق على الرسول «صلى الله عليه وآله» ، كما أخبر «صلى الله عليه وآله» عنه كما تزعم الرواية ، بل المنة لله ولرسوله عليه في ذلك.

وقد نهى الله عن المن ، فقال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ..)(٢) ، وقال : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(٣).

ولذلك فإننا لا يمكننا أن نقبل : أن النبي «صلى الله عليه وآله» يمدح هذا المنّان عليه (أي على المن) ويقرضه لأجله ولا سيما وهو أمنّ الناس عليه في صحبته وماله.

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة المجادلة ، وراجع دلائل الصدق ج ٢ ص ١٢٠ ، والأوائل ج ١ ص ٢٩٧ ، وهامش تلخيص الشافي ج ٣ ص ٢٣٥ و ٣٧ ، عن العديد من المصادر.

(٢) الآية ٢٦٤ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٦ من سورة المدثر.

٢٥١

إشارة عامة :

ولذلك فإن بالإمكان الاستنتاج من ذلك : أن الظاهر : هو أن النبي «صلى الله عليه وآله» بعد أن لم يستطع إقناع أبي بكر بالكف عن المن عليه بأنه قد ترك أمواله وداره في مكة ، وأنه رافقه إلى الغار ، وتحمل الأخطار ، وحزن وجزع خوفا من الأعداء ، بعد أن لم يستطع إقناعه بذلك اضطر «صلى الله عليه وآله» إلى أن يخبر الناس بحالة أبي بكر هذه ، علّه يكف عن بعض ما كان يفعل ، وذلك كأسلوب اضطراري أخير من أساليب التربية والتوجيه ، لا سيما وأن ما يمن به عليه لم يكن أبو بكر متفردا به ؛ فإن الكل كان قد هاجر وترك ماله ، وأرضه ووطنه ، والكل قد تحمل الأخطار والمتاعب ، وكثير منهم تعرض إلى أقسى أنواع التعذيب والتنكيل.

وعن مقامه معه في الغار ، فإن الخطر على أمير المؤمنين كان أعظم من الخطر على أبي بكر ؛ فلماذا إذن هذا المن منه ، حتى عده النبي «صلى الله عليه وآله» أمنّ الناس عليه؟!.

رابعا : وإذا كان أبو بكر ـ كما يقول الطوسي والمفيد ـ في أول أمره معلما للأولاد ، ثم صار خياطا ، ولم يكن قسمه إلا كواحد من المسلمين ، ولذا احتاج إلى مواساة الأنصار له.

وكان أبوه صيادا ، ثم صار ينش الذباب ، وينادي على مائدة ابن جدعان بشبع بطنه ، وستر عورته (١).

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٣ ص ٢٣٨ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ١٣٠ ، والإفصاح ص ١٣٥ وراجع الغدير ج ٨ ص ٥١. ويشك المحقق السيد مهدي الروحاني في

٢٥٢

فإن من الطبيعي أن لا تكون لأبي بكر ثروة من هذا القبيل لا خمسة آلاف ، ولا ستة آلاف ، فضلا عن أربعين ألف درهم أو دينار ؛ لأن مثل هذه الثروات إنما تجتمع لدى الإنسان من التجارة ، أو الزراعة ، لا من قبيل صناعات أبي بكر ؛ فكيف يقولون إذا : إنه كان سيدا من سادات قريش ، ومن ذوي المال والثروة والجاه فيها؟!

ولماذا يترك أباه عند ابن جدعان ، وهو بهذه الحالة فضلا عن ابنته أسماء؟!.

وإذا كانت ثروة أبي بكر في تلك الفترة في أربعة آلاف بل أكثر ، كما تقدم حين الكلام حول عتق بلال ؛ فإنه لا بد أن يكون أثرى رجل في مكة في تلك الفترة ، إذ قد ورد أنه بعد أن انتشر الإسلام ، وفتحت البلاد جاء أنس بن مالك بمال إلى عمر بعد موت أبي بكر ، فبايع عمر ، ثم أخبره بأنه قد جاء بأربعة آلاف وأعطاه إياها ، قال أنس : «فكنت أكثر أهل المدينة مالا» (١).

خامسا : إن أمير المؤمنين «عليه السلام» حينما تصدق بمال قليل جدا ـ كما في إطعامه المسكين ، واليتيم ، والأسير ـ قد نزلت فيه آية قرآنية وهي قوله

__________________

كون أبي بكر كان معلما ، على اعتبار أن جمع الأطفال في المكتب وتعليمهم أمر مستحدث ، ولم يكن معهودا في مكة في الجاهلية ويتساءل عن تلامذة أبي بكر من هم ، ولماذا لم يوجد في مكة سوى عدد ضئيل ممن كان يعرف القراءة والكتابة كما مر في أول الكتاب. بل لقد ذكر جرجي زيدان في كتابه تاريخ التمدن : أنه لم يكن في مكة حين بعث النبي «صلى الله عليه وآله» سوى سبعة أشخاص يعرفون الكتابة.

(١) كنز العمال ج ٥ ص ٤٠٥ عن ابن سعد ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٢٣٥.

٢٥٣

تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ..) الآية (١).

وحينما تصدق بخاتمه نزل فيه قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٢).

__________________

(١) الآية ٨ من سورة الإنسان ، والحديث موجود في المصادر التالية : المناقب للخوارزمي ص ١٨٩ ـ ١٩٥ ، والرياض النضرة ج ٣ ص ٢٠٨ و ٢٠٩ والتفسير الكبير ج ٣٠ ص ٢٣٤ و ٢٤٤ عن الواحدي ، والزمخشري ، وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٢٩ ص ١١٢ و ١١٣ والكشاف ج ٤ ص ٦٧٠ ونوادر الأصول ص ٦٤ و ٦٥ والجامع لأحكام القرآن ج ١٩ ص ١٣١ عن النقاش ، والثعلبي ، والقشيري ، وغير واحد من المفسرين ، واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٤ ومدارك التنزيل للنسفي (مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج ٤ ص ٣٣٩ وكشف الغمة ج ١ ص ١٦٩ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٤٦٩ ـ ٤٧٧ عن أمالي الصدوق ، والقمي ، والطبرسي ، وابن شهر آشوب وتأويل الآيات الظاهرة ج ٢ ص ٧٤٩ ـ ٧٥٢ وتفسير فرات ص ٥٢١ ـ ٥٢٨ وذخائر العقبى ص ٨٩ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ والبرهان (تفسير) ج ٤ ص ٤١٢ ووسائل الشيعة ج ١٦ ص ١٩٠ ، وفرائد السمطين ج ٢ ص ٥٤ ـ ٥٦ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٤٠٤ و ٤٠٥ والمناقب لابن المغازلي ص ٢٧٣ والإصابة ج ٤ ص ٣٧٨ وينابيع المودة ص ٩٣ و ٩٤ وروضة الواعظين ص ١٦٠ ـ ١٦٣ ونزهة المجالس ج ١ ص ٢١٣ وربيع الأبرار ج ٢ ص ١٤٧ و ٢٤٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢١ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٣٠ و ٥٣١ والبحار ج ٣٥ ص ٢٣٧ حتى ٢٥٤ وإحقاق الحق ج ٩ ص ١١٠ ـ ١٢٣ وج ٣ ص ١٥٧ ـ ١٧٠ عن مصادر كثيرة.

(٢) الآية ٥٥ من سورة المائدة ، والحديث موجود في المصادر التالية : الكشاف ج ١ ص ٦٤٩ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ٩٣ عن الطبراني ، وابن جرير ، وأسباب النزول ص ١١٣ وتفسير المنار ج ٦ ص ٤٤٢ ، وقال : رووا من عدة

٢٥٤

__________________

طرق وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٣٣ ـ ٣٣٧ عن الكافي ، والإحتجاج ، والخصال ، والقمي ، وأمالي الصدوق ، وجامع البيان ج ٦ ص ١٨٦ ، وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٦ ص ١٦٧ والتفسير الكبير ج ١٢ ص ٢٦ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٧١ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٣ و ٢٩٤ عن أبي الشيخ وابن مردويه ، والطبراني ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، وابن جرير ، وأبي نعيم ، وغيرهم ، وفتح القدير ج ٢ ص ٥٣ عن الخطيب في المتفق والمفترق ، وراجع ما عن : عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وغيرهم ممن تقدم ذكره. ولباب التأويل للخازن ج ١ ص ٤٧٥ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٢٢١ والكافي ج ١ ص ٢٢٨ وشواهد التنزيل ج ١ ص ١٧٣ ـ ١٨٤ والخصال ج ٢ ص ٥٨٠ وكفاية الطالب ص ٢٢٩ وكنز العمال ج ١٥ ص ١٤٦ والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٠٨ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ١٧ ومعرفة علوم الحديث ص ١٠٢ وتذكرة الخواص ص ١٥ والمناقب للخوارزمي ص ١٨٦ و ١٨٧ ونظم درر السمطين ص ٨٦ و ٨٧ والرياض النضرة ج ٣ ص ٢٠٨ وذخائر العقبى ص ١٠٢ عن الواقدي ، وأبي الفرج ابن الجوزي ، والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٥٨ ونور الأبصار ص ٧٧ وفرائد السمطين ج ١ ص ١٨٨ وتأويل الآيات الظاهرة ج ١ ص ١٥١ ـ ١٥٤ والبحار ج ٣٥ ص ١٨٣ ـ ٢٠٣ عن مصادر كثيرة وربيع الأبرار ج ٢ ص ١٤٨ والمناقب لابن المغازلي ص ٣١٢ و ٣١٣ وروضة الواعظين ص ٩٢ والعمدة لابن بطريق ص ١١٩ ـ ١٢٥ وإثبات الهداة ج ٢ ص ٤٧ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ٢ ـ ١٠ وكشف الغمة ج ١ ص ١٦٦ و ١٦٧ والأمالي للصدوق ص ١٠٩ و ١١٠ ، ووسائل الشيعة ج ٦ ص ٣٣٤ و ٣٣٥ وسعد السعود ص ٩٦ والبرهان (تفسير) ج ١ ص ٤٨٠ ـ ٤٨٥ ومجمع البيان ج ٣ ص ٣١٠ ـ ٣١٢ وإحقاق الحق ج ٢٠ ص ٣ ـ ٢٢ وراجع ج ٣ ص ٥٠٢ ـ ٥١١ وج ٢ ص ٣٩٩ ـ ٤٠٨ عن مصادر كثيرة.

٢٥٥

وحينما تصدق بدرهم سرا وآخر جهرا ، وثالث ليلا ، ورابع نهارا ، نزل فيه قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

كما أنه لم يعمل بآية النجوى سوى علي «عليه السلام» (٢).

__________________

(١) الآية ٢٧٤ من سورة البقرة ، والحديث موجود في المصادر التالية : الكشاف ج ١ ص ٣١٩ وتفسير المنار ج ٣ ص ٩٢ عن عبد الرزاق ، وابن جرير ، وغيرهما والتفسير الكبير ج ٧ ص ٨٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٣٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٣٢٦ عن ابن جرير ، وابن مردويه وابن أبي حاتم وفتح القدير ج ١ ص ٢٩٤ عن عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن عساكر وغيرهم والدر المنثور ج ١ ص ٣٦٣ ولباب النقول ص ٥٠ ط دار إحياء العلوم ، وأسباب النزول ص ٥٠ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٣٤١ عن العياشي والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٠٧ ونظم درر السمطين ص ٩٠ وذخائر العقبى ص ٨٨ والبرهان (تفسير) ج ٤ ص ٤١٢ والمناقب لابن المغازلي ص ٢٨٠ وينابيع المودة ص ٩٢ ، وروضة الواعظين ص ٣٨٣ و ١٠٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢١.

(٢) راجع المصادر التالية : المناقب للخوارزمي ص ١٩٦ والرياض النضرة ج ٣ ص ١٨٠ والصواعق المحرقة ص ١٢٩ عن الواقدي ، ونظم درر السمطين ص ٩٠ و ٩١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٣٢٧ و ٣٢٦ وجامع البيان ج ٢٨ ص ١٤ و ١٥ وغرائب القرآن مطبوع بهامش جامع البيان ج ٢٨ ص ٢٤ و ٢٥ وكفاية الطالب ص ١٣٦ و ١٣٧ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٤٢٨ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٤٨٢ وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع بهامش المستدرك) ج ٢ ص ٤٨٢ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٢٦٤ و ٢٦٥ وتأويل الآيات الظاهرة ج ٢ ص ٦٧٣ ـ ٦٧٥ ولباب التأويل ج ٤ ص ٢٢٤ ومدارك التنزيل (مطبوع بهامش لباب التأويل) ج ٤ ص ٢٢٤ وأسباب النزول ص ٢٣٥ وشواهد التنزيل ج ٢ ص ٢٣١ ـ ٢٤٠ والدر المنثور ج ٦ ص ١٨٥

٢٥٦

وأبو بكر ينفق ماله كله ، أربعين ألف درهم أو دينار وتكون له يد عند النبي «صلى الله عليه وآله» ، الله يكافئه عليها ، وما نفع النبي «صلى الله عليه وآله» مال كما نفعه مال أبي بكر ، ثم لا يذكر الله من ذلك شيئا ، ولا يحدثنا التاريخ ولا الحديث عن مورد واحد من ذلك بالتحديد ؛ بحيث يمكن إثباته؟

أم أن المحدثين والمؤرخين وهم في الأكثر شيعة لأبي بكر ، قد تجاهلوا عمدا فضائل أبي بكر ، التي تصب في هذا الاتجاه؟

ولماذا إذن لم يتجاهلوا ما لعلي «عليه السلام» في ذلك أيضا؟!.

أم أن أبا بكر قد ظلم وتجنى عليه الحكام والملوك ، وأتباعهم ، والمزيفون من العلماء ، كما تجنوا على أمير المؤمنين علي «عليه السلام»؟! فمنعوا الناس من ذكر فضائله وروايتها.

وغاية ما ذكروه لأبي بكر هنا عتقه الرقاب من الضعفاء والمعذبين في مكة ، ولكن قد تقدم أن إثبات ذلك غير ممكن ، وقد أنكره الإسكافي المعتزلي عليه ، وقال : إن ثمنها في ذلك العصر لا يبلغ مئة درهم ، لو فرض صحة الرواية.

__________________

عن ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وعبد الرزاق ، والحاكم وصححه ، وسعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وفتح القدير ج ٥ ص ١٩١ والتفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٧١ والجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ٣٠٢ والكشاف ج ٤ ص ٤٩٤ وكشف الغمة ج ١ ص ١٦٨ وإحقاق الحق (قسم الملحقات) ج ٣ ص ١٢٩ و ١٤٠ وج ١٤ ص ٢٠٠ و ٢١٧ وج ٢٠ ص ١٨١ و ١٩٢ عن بعض من تقدم ، وعن مصادر كثيرة أخرى ، وإعلام الورى ص ١٨٨.

٢٥٧

أم أن عدالة الله تعالى قد اقتضت ذكر نفقات أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ـ على قلتها ـ في القرآن ، وعلى لسان النبي «صلى الله عليه وآله» ، وإهمال نفقات أبي بكر ، التي تبلغ الآلاف الكثيرة؟!

وهل هذا عدل؟! تعالى الله الملك الحق العدل المبين ، الذي لا تظلم عنده نفس بمثقال ذرة فما فوقها.

أم يصح أن يقال : إن نفقات أبي بكر لم تكن خالصة لوجه الله تعالى ، وإنما جرت على وفق سجيته وطبعه في الكرم والجود؟! وكان ذلك هو سر إهمال الله لها؟ فلماذا لا يمدح الله هذه السجية؟

وإذا كان لا فضل فيها ؛ فلماذا يقول الرسول : إن الله سوف يكافئه عليها؟! ولماذا؟ ولماذا؟! إلى آخر ما هنالك من الأسئلة التي لن تجد لها جوابا مقنعا ومفيدا ومقبولا.

وبعد ما تقدم : فإن الحديث عن ثروة أبي بكر منقول ـ كما يقول الشيخ المفيد ـ عن خصوص ابنة أبي بكر عائشة ، وفي طريقه من هم من أمثال الشعبي المعروفين بالعصبية ، والتقرب إلى بني أمية بالكذب ، والتخرص ، والبهتان (١).

اللصوص المهرة :

وبعد ، فإن مما يضحك الثكلى ما ذكره البعض ، من أن اللصوص أخذوا لأبي بكر أربع مئة بعير ، وأربعين عبدا ، فدخل عليه النبي «صلى الله عليه وآله» فرآه حزينا ، فسأله ، فأخبره ، فقال : ظننت أنه فاتتك تكبيرة

__________________

(١) الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص ١٣١ ـ ١٣٣.

٢٥٨

الإحرام الخ .. (١).

ولست أدري كيف استطاع اللصوص إخفاء هذه الكمية الهائلة من العبيد والجمال؟! وأين ذهبوا بها؟ وكيف لم يهرب واحد من العبيد ليخبر أبا بكر بالأمر.

وكيف لم يستيقظ أحد من أهل مكة والمدينة على أصوات حركة أكبر قافلة عرفها تاريخ ذلك الزمان؟!

ولا أدري أيضا .. من أين حصل أبو بكر على هذه الثروة الهائلة؟ وكيف لم يشتهر في جميع الأقطار والآفاق على أنه أكبر متمول في الجزيرة العربية؟ ولا ندري أخيرا هل استطاع أبو بكر استرداد ما سرق منه أم لا؟!.

كلمة أخيرة حول ما يقال عن ثروة أبي بكر :

ونعتقد : أن ما يقال عن ثروة لأبي بكر ، أنه أنفقها على النبي «صلى الله عليه وآله» قد كان نتيجة ردة الفعل العنيفة من قبل أنصار الخليفة الأول ، حينما رأوا أنه «صلى الله عليه وآله» يأبى أخذ الراحلة منه إلا بالثمن (٢) ويرون في مقابل ذلك الآيات النازلة في علي «عليه السلام» ، ونفقاته وتضحياته ليلة المبيت وغيرها.

__________________

(١) نزهة المجالس ج ١ ص ١١٦.

(٢) صحيح البخاري ط مشكول ج ٥ ص ٧٥ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٠٤ ، وسيرة ابن هشام ج ٢ ص ١٣١ وطبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ١٥٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٨٤ ـ ١٨٨ ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٤٥ ، والكامل لابن الأثير ، وغير ذلك كثير ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢.

٢٥٩

فكان لا بد أن يتحركوا لإثبات فضائل لأبي بكر ، وتضحيات له جسام.

ثم يوجهون قضية الراحلة بأنه «صلى الله عليه وآله» أراد أن تكون هجرته لله تعالى : بنفسه وماله (١).

ولكنهم يعودون فينسون هذا التوجيه حينما يذكرون الأمور التي تقدمت الإشارة إليها مثل جراب الزاد والشاة المطبوخة ، ومنحة الغنم حين الهجرة وغير ذلك ، ويغفلون عن التناقض الظاهر بين كونه أراد الهجرة بنفسه وماله وبين إنفاقاته الكبيرة من مال أبي بكر وزاده ومنحته و.. و.. الخ ..

ولا بأس بالتناقض في أقوال النبي «صلى الله عليه وآله» وأفعاله ، ما دام أنه لم تنقض فضيلة لأبي بكر ، ولم يحرم منها!!.

التزوير ، والتحوير :

ولكن الصحيح هو : أن ما قاله «صلى الله عليه وآله» إنما كان بالنسبة لأموال خديجة : «ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال خديجة» ـ كما تقدم ـ وقد حور لصالح أبي بكر ، وصيغ بصيغ مختلفة.

والعبارات التي تصب في مجرى واحد ، وتشير إلى هدف فارد ، وهو إثبات فضيلة لأبي بكر وأبي بكر فقط كثيرة شأنها شأن كثير من الأحاديث التي أشار إليها المعتزلي في شرحه للنهج ، وذكر أنها من وضع البكرية في مقابل فضائل أمير المؤمنين «عليه السلام» ، وكما يظهر لكل أحد بالتتبع والمقارنة.

__________________

(١) فتح الباري ج ٧ باب الهجرة ، ص ١٨٣ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٢.

٢٦٠