الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

قال : من حدثك بهذا؟

قال : ربي.

قال : نعم الرب ربك الخ .. (١).

ونقول : إن هذه الرواية لا يمكن أن تصح ، لأن ائتمارهم به «صلى الله عليه وآله» قد كان بعد بيعة العقبة الثانية ، وقبل الهجرة بقليل ، أي في السنة الثالثة عشرة بعد البعثة ، وأبو طالب قد توفي في السنة العاشرة من البعثة ، أي بعد خروج المسلمين من الشعب.

إلا أن يقال : إن من الممكن أن يكونوا قد ائتمروا أن يفعلوا به ذلك أكثر من مرة ، فأخبر الله تعالى نبيه بذلك ، ثم عزموا على تنفيذ مؤامرتهم في وقت متأخر ، ولعل الرواية المذكورة آنفا تؤيد ذلك.

مع آية الغار :

قال تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٢).

ربما يقال : إن هذه الآية تدل على فضل أبي بكر ، لأمور :

منها : أنه عبر عن أبي بكر بأنه ثاني اثنين ، بدعوى أنه أحد اثنين في الفضل ، ولا فضل أعظم من كون أبي بكر قرينا للنبي «صلى الله عليه وآله».

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٩ عن سنيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ.

(٢) الآية ٤٠ من سورة التوبة.

٢٠١

ومنها : أنه جعل صاحبا للنبي «صلى الله عليه وآله» ، والصحبة في هذا المقام العظيم منزلة عظمى.

ومنها : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال له : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي أنه معهما بلحاظ نصرته ورعايته ، ومن كان شريكا للنبي «صلى الله عليه وآله» في نصرة الله له ، كان من أعظم الناس.

ومنها : قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) فإن السكينة قد أنزلت على أبي بكر ؛ لأنه هو المحتاج إليها ، لما تداخله من الحزن ، دون النبي «صلى الله عليه وآله» : لأنه عالم بأنه محروس من الله سبحانه وتعالى (١).

ولكن ذلك كله لا يصح ، وذلك لما يلي :

١ ـ إن عائشة تقول : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، غير أن الله أنزل عذري (٢) وحتى عذرها هذا قد ثبت أنه لا يمكن أن يكون قد نزل فيها ، كما أثبتناه في كتابنا حديث الإفك.

٢ ـ أما كونه ثاني اثنين ، فليس فيه إلا الإخبار عن العدد ، وهو لا يدل على الفضل ، إذ قد يكون الثاني صبيا ، أو جاهلا ، أو مؤمنا ، أو فاسقا الخ ..

والفضيلة في القرآن منحصرة بالتقوى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٣) ، لا بالثانوية.

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ٢ ص ٤٠٤ و ٤٠٥.

(٢) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ج ٣ ص ١٢١ ، وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١٥٩ ، وفتح القدير ج ٤ ص ٢١ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٤١ وراجع الغدير ج ٨ ص ٢٤٧.

(٣) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

٢٠٢

ويزيد العلامة المظفر : أنه لو كان المراد الإثنينية في الفضل والشرف ، لكان أبو بكر أفضل لأنه هو الأول ، والنبي هو الثاني بمقتضى الآية!! (١).

٣ ـ من الواضح : أن الهدف في الآية هو الإشارة إلى أن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» كان في موقف حرج ، ولا من يرد عنه أو يدفع ، أما رفيقه فليس فقط لا يرد عنه ، وإنما هو يمثل عبئا ثقيلا عليه ، بحزنه وخوفه ورعبه ، فبدل أن يخفف عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويشد من أزره ، يحتاج هو إلى أن يخفف نفس النبي «صلى الله عليه وآله» عنه ، ويسليه!! أو على الأقل لم يكن له أي أثر في الدفاع عن الرسول ، والتخفيف من المشقات التي يتحملها ، إلا أنه قد زاد العدد ، وصار العدد بوجوده اثنين.

٤ ـ أما جعله صاحبا للنبي «صلى الله عليه وآله» ، فهو أيضا لا فضيلة فيه ؛ لأن الصحبة لا تدل على أكثر من المرافقة والاجتماع في مكان واحد ، وهو قد يكون بين العالم وغيره ، والكبير والصغير ، وبين المؤمن وغيره ، قال تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(٢) ، وقال : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ)(٣).

فالصحبة من حيث هي لا فضل فيها.

٥ ـ أما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَنا ؛) فقد جاء على سبيل الإخبار لأبي بكر ؛ والتذكير له بأن الله تعالى سوف يحفظهم عن أعين المشركين ، وليس في

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ ص ٤٠٤.

(٢) الآية ٢٢ من سورة التكوير.

(٣) الآية ٣٧ من سورة الكهف.

٢٠٣

ذلك فضيلة له ، بل فيه إخبار بأن الله ينجيهم من أيدي أعدائهم ، ولسوف ينجي الله أبا بكر مقدمة لنجاة نبيه ، ما دام أن هذا متوقف على ذاك.

وهذا نظير ما أشارت إليه الآية الكريمة التي تقول : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(١) إذن ، فنجاة المشركين من العذاب لأجل النبي ، أو لأجل وجود مؤمن مقيم فيما بينهم لا يوجب فضلا للمشركين.

٦ ـ إن هذا الحزن قد صدر منه ـ كما يقول المؤرخون ـ بعد ما رأى من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة ، التي توجب اليقين بأن الله يرد عن نبيه ، ويحفظه من أعدائه.

فهو قد عرف بخروجه من بين القوم ، وهم لا يرونه ، ورأى نسج العنكبوت على باب الغار ، ورأى الحمامة تبيض ، وتقف على باب الغار ، وغير ذلك ، كما أنه «صلى الله عليه وآله» كان يخبر المسلمين بأنه ستفتح على يديه كنوز كسرى وقيصر ، وأن الله سيظهر دينه ، وينصر نبيه ، فحزن أبي بكر في مقام كهذا لا يمكن أن يكون على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لأنه قد عرف بعد رؤيته لتلك الآيات أن الله سبحانه حافظ لنبيه ، فإن كان بعد كل هذا غير مصدق بحفظ الله لنبيه غير واثق بنصرته له مع رؤيته لكل هذه الآيات فسيكون أمره مريبا ، وفي غاية الغرابة ، ويكون حزنه معصية يجب أن يردع عنها ويمنع منها ، والنهي عنها مولوي ، وهو يكشف عن عدم رسوخ قدم له في معرفة جلال وعظمة الله ، ولا نقول أكثر من ذلك.

وإن كان أبو بكر على يقين من نصرة الله لنبيه ، لكنه حزن على نفسه ،

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة الأنفال.

٢٠٤

خوفا من أن يلحق به أذى من قبل قريش فإنه يحتاج في هذه الحال إلى التطمين ، الذي أكد له أن الله تعالى عارف بحاله وبمطالبه الشخصية ، وهو مع الرسول «صلى الله عليه وآله» في مكان واحد ، ويحتاج حفظ الرسول إلى حفظ من يكون معه ، لأن التدخل الإلهي فيما يرتبط بإبعاد المشركين عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بإيجاد الشجرة ، ونسج العنكبوت إنما يسير من ناحية المشركين ، وفقا للسنن الطبيعية ، ولا يمكن وفقا لهذه السنن أن يفسح المجال للمشركين لرؤية أبي بكر إلا إذا رأوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى جانبه.

وفي هذا تفريط بالرسول وإفساد للخطة الإلهية ، فظهر أن حفظ الرسول يستلزم حفظ من اجتمع معه في المكان أيضا.

لأن إفساح المجال للمشركين لرؤية أبي بكر سوف يمكنهم من رؤية الرسول «صلى الله عليه وآله» إلا إذا طمس على أعينهم بتدخل إلهي مباشر وفي هذا ظلم لهم لما فيه من سلب لاختيارهم.

وأخيرا .. فإننا نذكر القارئ بالفرق بين من يحزن خوفا على نفسه ، وبين من يضحي بنفسه من أجل نجاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولا يسأل عما سوف يصيبه إذا كتب الله لنبيه النجاة .. حتى استحق أن يباهي الله به ملائكته وأن ينزل فيه آية قرآنية تبين كيف باع نفسه لله ، وهو قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١).

وقد قيل : إن أبا بكر قال : يا رسول الله ، إن حزني على أخيك علي بن أبي

__________________

(١) الآية ٢٠٧ من سورة البقرة.

٢٠٥

طالب ما كان منه ، فقال له النبي «صلى الله عليه وآله» : (إِنَّ اللهَ مَعَنا)(١).

٧ ـ أما قولهم إن النصر كان من الله لهما معا ، فهو شريك للنبي في نصرة الله لهما ، وهذا فضل عظيم.

فهو أيضا باطل ، ويدفعه صريح الآية ، فإنها قد خصت نصر الله تعالى ـ ولعله بمعنى أنه تعالى نجى نبيه من الكفار ـ بالرسول ، قال تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) (الضمير يرجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله») (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ..). فالنصر إذن ثابت لخصوص النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأبو بكر تابع محض ، والتبعية في النصرة إنما هي لأجل اجتماعهما في مكان واحد ، وذلك لا يدل على فضل لأبي بكر (٢).

أو فقل : إن حفظه لأبي بكر إنما هو مقدمة لحفظ شخص النبي «صلى الله عليه وآله» كما قلنا.

٨ ـ وأما قضية السكينة ، فلا يصح قولهم : إنها نزلت على أبي بكر ، بل هي نازلة على خصوص النبي «صلى الله عليه وآله» ، لأن الضمائر المتأخرة والمتقدمة في الآية كلها ترجع إليه «صلى الله عليه وآله» بلا خلاف ، وذلك في الكلمات التالية : تنصروه ، نصره ، يقول ، أخرجه ، لصاحبه ، أيده ، فرجوع ضمير في وسطها إلى غير النبي «صلى الله عليه وآله» يكون خلاف الظاهر ، ويحتاج إلى قرينة قاطعة.

ويلاحظ هنا : أن ثمة تجاهلا ظاهرا لأبي بكر في هذه الآيات المباركة ،

__________________

(١) راجع ما تقدم في كنز الفوائد للكراجكي ص ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٢) دلائل الصدق ج ٢ ص ٤٠٥.

٢٠٦

يوحي بما ربما لا يروق للكثيرين أن يفكروا به.

كلام الجاحظ ، وما فيه :

وناقش الجاحظ (١) وغيره فقالوا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى السكينة لتنزل عليه ، وكأنه يريد أن يجعل من ذلك قرينة لصرف اللفظ عن ظاهره.

ولكنه كلام باطل.

أولا : قال تعالى في سورة التوبة في الآية ٢٦ عن قضية حنين : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وقال في سورة الفتح في الآية ٢٦ : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

فهاتان الآيتان : تدلان على نزول السكينة عليه «صلى الله عليه وآله» ، فلا يصح ما ذكره الجاحظ.

ومن جهة ثانية نرى : أنه تعالى قد ذكر نزول السكينة على المؤمنين فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً ..)(٢).

وقال : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)(٣).

وهنا قد يتساءل البعض عن سر إخراج أبي بكر من السكينة ، ولم حرم منها هنا ، مع أن الله قد أنزلها على النبي «صلى الله عليه وآله» هنا وعليه وعلى المؤمنين في غير هذا الموضع؟!!

__________________

(١) العثمانية ص ١٠٧.

(٢) الآية ٤ من سورة الفتح.

(٣) الآية ١٨ من سورة الفتح.

٢٠٧

وأقول : لربما يمكن الجواب : بأن إنزالها على الرسول هنا يكفي ؛ لأن في نجاته نجاة لصاحبه ، وفي خلاصه خلاصه.

ولكنه جواب متهالك ، لأن السكينة إنما توجب اطمينان القلب ، وذهاب القلق ، وهو أمر آخر غير النجاة والخلاص.

فيبقى السؤال الآنف بانتظار الجواب.

ثانيا : إن السكينة هي : نعمة من الله تعالى : ولا يجب في نزول النعمة الاتصاف بما يضادها ، ولذلك تنزل الرحمة بعد الرحمة ، وقد يكون نزول السكينة يهدف إلى زيادة الإيمان قال تعالى مشيرا إلى ذلك : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً ..).

ثالثا : من أين علموا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن بحاجة إلى السكينة مع عدم وجود ما يدل عليه في الآية ، فلتكن كآية حنين بمعنى أن هذه السكينة بمثابة الإعلام بأن مرحلة الخطر القصوى قد انتهت؟!

ولماذا لا يظن النبي «صلى الله عليه وآله» : أن حزن أبي بكر ، ورعبه وخوفه ، وبكاءه ، قد كان لمشاكل أخرى وهو «صلى الله عليه وآله» وإن كان يعلم : أنه سوف ينجو منها في النهاية ، إلا أنها تشكل على الأقل عراقيل وموانع ، تؤخر وصوله إلى هدفه الأقصى والبعيد.

رابعا : يرى العلامة الطباطبائي : أن الآية مسوقة لبيان نصر الله تعالى لنبيه ، حيث لم يكن معه أحد يتمكن من نصرته ، ومن هذا النصر إنزال السكينة عليه ، وتقويته بالجنود ، ويدل على ذلك تكرار كلمة «إذ» ثلاث مرات ، كل منها بيان لما قبله بوجه ، فتارة لبيان وقت النصر ، وأخرى لبيان حالته «صلى الله عليه وآله» ، وثالثة لبيان وقت هذه الحالة ؛ فالتأييد بالجنود

٢٠٨

كان لمن نزلت السكينة عليه (١).

ويقول بعض الأعلام (٢) : «إن أبا بكر لما لم يستجب لطلب النبي «صلى الله عليه وآله» في أن لا يحزن ولا يخاف ، فإن السكينة نزلت على النبي «صلى الله عليه وآله» ، وبقي أبو بكر على عدم سكينته ، الأمر الذي يدل على أن أبا بكر لم يكن مؤهلا لهذا التفضل والتكرم من الله تعالى».

ماذا يقول المفيد هنا ، وبماذا يجيبون؟!

ويقول المفيد ، وغيره : إن حزن أبي بكر إن كان طاعة لله ؛ فالنبي «صلى الله عليه وآله» لا ينهى عن الطاعة ؛ فلم يبق إلا أنه معصية (٣).

وأجاب الحلبي وغيره : بأن الله خاطب نبيه بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فنهي الله لنبيه لم يكن إلا تأنيسا وتبشيرا له ، وكذلك نهي النبي لأبي بكر (٤).

ونحن نرى أن جواب الحلبي هذا في غير محله ، وذلك :

لأن حزن أبي بكر ، وشكه في نصر الله ، الذي يشير إليه قوله «صلى الله عليه وآله» له : (إِنَّ اللهَ مَعَنا) كان مما لا يجمل ولا يحسن ؛ إذ كان عليه أن يثق بنصر الله سبحانه وتعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله» ، بعد ما رأى المعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة ، الدالة على أن الله تعالى سوف ينجي

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ٩ ص ٢٨٠ ط بيروت.

(٢) هو العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني «رحمه الله».

(٣) الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص ١١٩ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٢٠٣.

(٤) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٨.

٢٠٩

نبيه من كيد المشركين.

وعليه فلا يمكن أن تكون الآية واردة في مقام مدحه وتقريظه ، ولا بد من حمل النهي على ما هو ظاهر فيه ، ولا يصرف عن ظاهره إلا بقرينة ، بل ما ذكرناه يكون قرينة على تعين هذا الظاهر.

ولا يقاس حزن أبي بكر بحزن النبي «صلى الله عليه وآله» ، والمشار إليه بقوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وغيرها ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما كان يحزن من أجل ما يراه من العوائق أمام دعوته ، والموانع التي تعترض طريق انتشار وانتصار دينه ، لما يراه من استكبار قومه ، ومقامهم على الكفر والطغيان.

فالنهي له «صلى الله عليه وآله» في الآية المتقدمة ، ولموسى «عليه السلام» في آية أخرى ، ليس نهي تحريم ، وإنما هو تأنيس وتبشير بالنصر السريع لدينه ، وللتنبيه على عدم الاعتناء بقولهم ، وعدم استحقاقهم للحزن والأسف.

فحزن النبي «صلى الله عليه وآله» هنا يدل على عمق إيمانه ، وفنائه في ذات الله تعالى ، وهو لا يقاس بحزن من يحزن من أجل نفسه ، ومن أجل نفسه فقط.

والآيات صريحة فيما نقول : فنجد آية تقول : إنه «صلى الله عليه وآله» كان يحزن لمسارعة قومه في الكفر : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ..)(١) و (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ)(٢) وأخرى تقول إنه يحزن لما بدا له من تكذيبهم

__________________

(١) الآية ١٧٦ من سورة آل عمران ، والآية ٤١ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٢٣ من سورة لقمان.

٢١٠

إياه : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ..)(١).

وثالثة تقول : إنه كان يحزن لاتخاذهم آلهة من دون الله (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٢). وهكذا سائر الآيات ، كما لا يخفى على من لاحظها.

فالآيات على حد قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)(٣) فهو حزن حسن منه «صلى الله عليه وآله» ، وهو يدل على كمال صفاته ، وسجاحة (٤) أخلاقه ، صلوات الله عليه وآله الطاهرين.

أضف إلى كل ما تقدم : أننا لو لم نعرف واقع حزن أبي بكر ، فإننا لا يمكن أن نقيسه على حزن النبي المعصوم ، بل علينا أن نأخذ بظاهر النهي ، وهو التحريم ، ولا يعدل عن ظاهره إلا بدليل.

سؤال يحتاج إلى جواب :

وإذا كان أبو بكر يحزن مع ما يرى من الآيات والمعجزات ، ولا يصبر لينال أجر الصابرين الموقنين ، فكيف تكون حالته لو أراد أن ينام في مكان أمير المؤمنين علي «عليه السلام» في تلك الليلة المهولة؟! وهل من الممكن أن لا يضعف وينهار أمام كيد قريش ، ويستسلم لجبروتها في اللحظات العسيرة ، ولتنقلب من ثم مجريات الأمور رأسا على عقب؟.

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ٧٦ من سورة يس.

(٣) الآية ٨ من سورة فاطر.

(٤) السجاحة : السهولة واللين والإعتدال.

٢١١

هذا السؤال يطرح نفسه ، وربما لا ، ولن يجد الجواب الكافي والشافي في المستقبل القريب على الأقل.

سؤال آخر : وهو أنه هل يمكن أن نصدق بعد هذا ما يدعى من أشجعية أبي بكر بالنسبة لسائر الصحابة؟!

وسيأتي إن شاء الله تعالى حين الكلام على غزوة بدر ، بعض ما يرتبط بهذا السؤال الثاني ، فإلى هناك.

تحير أبي بكر في حراسته للنبي صلّى الله عليه وآله :

ويقولون : إن أبا بكر كان في الطريق إلى الغار ، تارة يمشي أمام النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأخرى خلفه ، وثالثة عن يمينه ، ورابعة عن يساره ؛ فسأله رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون خلفك ، ومرة عن يمينك ، ومرة عن يسارك ، لا آمن عليك (١).

وهذا كلام لا يصح.

أولا : لأن حزنه في الغار ، وخوفه وهو يرى الآيات والمعجزات التي يذكرها نفس هؤلاء الراوين لهذه الرواية قد زاد في كدر النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، حتى لقد احتاج النبي «صلى الله عليه وآله» إلى أن ينزل الله سكينته عليه.

ثانيا : عدا عن ذلك فإنه لا معنى لتخوف الرصد ، فقد كانت قريش مطمئنة إلى أنها تحاصر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وتحيط به ، وأنه لن تكون

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٦ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٤.

٢١٢

له نجاة من مكرها وكيدها ، ثم هل كان لديه سلاح يدفع به عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، أو عن نفسه؟!.

ثالثا : أضف إلى ذلك كله : فراره في أحد ، وحنين ، وخيبر ، كما سنرى إن شاء الله تعالى ، ولم يؤثر عنه فيما سوى ذلك أي موقف شجاع يذكر ، وقد يكون للقصة أصل إذا كان يفعل ذلك من جهة خوفه على نفسه ، فكان يبحث عن موقع يشعر فيه بالأمن فلا يجده!! ثم حرفت وحورت حتى صارت كما ترى ، فتبارك الله أحسن الخالقين!!

التأكيد على موقف أبي بكر.

وإننا نكاد نطمئن إلى أن الهدف من هذا وسواه هو تعويض أبي بكر عما فقده ، في مقابل مبيت علي «عليه السلام» على فراش النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، حيث باهى الله به ملائكته ، وهو مقام ناله علي «عليه السلام» بجهاده وصبره ، وإخلاصه.

من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله؟!

قد ورد : أن الله تعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل : إني آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة.

فأوحى الله إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمد «صلى الله عليه وآله» ؛ فبات على فراشه يفديه بنفسه ، ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض ، فاحفظاه من عدوه.

فنزلا ، فكان جبرائيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرائيل

٢١٣

ينادي : بخ بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله به الملائكة؟

فأنزل الله عز وجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(١).

__________________

(١) الآية ٢٠٧ من سورة البقرة.

والرواية في : أسد الغابة ج ٤ ص ٢٥ ، والمستجاد للتنوخي ص ١٠ ، وثمرات الأوراق ص ٣٠٣ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٢٠٧ ، وإحياء العلوم ج ٣ ص ٢٥٨ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٩ ، وكفاية الطالب ص ٢٣٩ ، وشواهد التنزيل ج ١ ص ٩٧ ، ونور الأبصار ص ٨٦ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٣١ ، وتذكرة الخواص ص ٣٥ عن الثعلبي ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٥ و ٣٢٦ ، والبحار ج ١٩ ص ٣٩ و ٦٤ و ٨٠ عن الثعلبي في كنز الفوائد وعن الفضائل لأحمد ص ١٢٤ و ١٢٥ ، وعن الروضة ص ١١٩.

وهي أيضا في : المناقب للخوارزمي ص ٧٤ وينابيع المودة ص ٩٢ عن ابن عقبة في ملحمته وقال في حبيب السير ج ٢ ص ١١ : إن ذلك مذكور في كثير من كتب السير والتاريخ.

والرواية في تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٥ و ٤٥٨ والتفسير الكبير ج ٥ ص ٢٠٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦٨ ، وراجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٩ وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٣٠ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامش نفس الصفحة ، ومسند أحمد ج ١ ص ٣٣١ وترجمة الإمام علي «عليه السلام» ، من تاريخ دمشق تحقيق المحمودي ج ١ ص ١٣٧ و ١٣٨ ، والمناقب للخوارزمي ص ٧٤ ودلائل الصدق ج ٢ ص ٨١ و ٨٢ والأمالي للطوسي ج ٢ ص ٨٤ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٣١٠ وراجع ص ١٧٨ و ٨٢. وراجع الإرشاد للمفيد ص ٣١ وروضة الواعظين ص ١٠٧ وخصائص الوحي المبين ص ٩٤ و ٩٣ وراجع ص ٩١

٢١٤

__________________

والعمدة لابن البطريق ص ٢٤٠ وراجع ص ٢٣٨ ورواه في : غرائب القرآن للنيسابوري بهامش جامع البيان ج ٢ ص ٢٩١ وراجع : المواهب اللدنية ج ١ ص ٦٠ ونقله المحمودي في هوامش شواهد التنزيل ج ١ ص ٩٧ عن غاية المرام ص ٣٤٦ باب ٤٥ وعن تفسير أبي الفتوح الرازي ج ٢ ص ١٥٢ ونقله المرعشي في ملحقات إحقاق الحق والتعليقات عليه ج ٣ ص ٢٤ ـ ٣٤ وج ٨ ص ٣٣٩ وج ٦ ص ٤٧٩ و ٤٨١ وج ٢٠ ص ١٠٩ ـ ١١٤ وج ١٤ ص ١١٦ عن عدد ممن قدمنا.

وعن المصادر التالية : اللوامع ج ٢ ص ٣٧٦ و ٣٧٥ و ٣٧٧ عن المجمع والمباني ، وعن أبي نعيم والثعلبي وغيرهم وعن البحر المحيط ج ٢ ص ١١٨ وعن معارج النبوة ج ١ ص ٤ وعن مدارج النبوة ص ٧٩ وعن مناقب المرتضوي ص ٣٣ ، وعن روح المعاني ج ٢ ص ٧٣ عن الإمامية وبعض من غيرهم وعن مرآة المؤمنين ص ٤٥ وعن تلخيص المتشابه في الرسم ، للخطيب البغدادي ج ١ ص ٤١٤ وعن إمتاع الأسماع ص ٣٨ ، وعن مقاصد الطالب ص ٧ وعن وسيلة النجاة ص ٧٨ وعن المنتقى للكازروني ص ٧٩ مخطوط. وعن روض الأزهر ص ٣٧١ وعن أرجح المطالب ص ٧٠ و ٥٠٧ و ٤٠٧ وعن إتحاف السادة المتقين ج ٨ ص ٢٠٢ وعن مفتاح النجا في مناقب آل العبا : ص ٢٣ مخطوط وعن روض الأحباب للهروي ص ١٨٥ وعن تفسير الثعلبي وعن السيرة المحمدية للكازروني مخطوط وعن مكاشفة القلوب ص ٤٢ وعن توضيح الدلائل ص ١٥٤ مخطوط وعن الكوكب المضي ص ٤٥ مخطوط وعن غاية المرام في رجال البخاري سيد الأنام ص ٧١ مخطوط وعن الكشف والبيان وعن المختار في مناقب الأخيار ص ٤ مخطوط وعن مناهج الفاضلين للحمويني مخطوط.

وقال ابن شهر آشوب : إن هذا الحديث قد رواه الثعلبي ، وابن عاقب في ملحمته وأبو السعادات في فضائل العشرة ، والغزالي في الإحياء ، وفي كيمياء السعادة عن عمار ، وابن بابويه ، وابن شاذان والكليني ، والطوسي ، وابن عقدة ، والبرقي ، وابن

٢١٥

قال الإسكافي : «وقد روى المفسرون كلهم : أن قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ..) نزلت في علي «عليه السلام» ليلة المبيت على الفراش» (١).

كذبة مفضوحة :

وبما ذكرناه من المصادر لنزول آية الشراء في علي «عليه السلام» ، وبما ذكره الإسكافي أيضا يظهر كذب ما ذكره فضل بن روزبهان ، من أن أكثر المفسرين يقولون : إن الآية قد نزلت في الزبير والمقداد ، حيث أرسلهما النبي «صلى الله عليه وآله» إلى مكة لينز لا خبيب بن عدي عن الخشبة التي صلب عليها ، وكان حول خشبته أربعون من المشركين ، فخاطرا بنفسيهما حتى أنزلاه ، فأنزل الله الآية (٢).

ويذكر المظفر : أن المفسرين لم يذكروا ذلك ، حتى السيوطي ، والرازي ، والكشاف ، مع أن الرازي قد جمع في تفسيره كل أقوالهم ، والسيوطي جمع

__________________

فياض ، والعبدلي ، والصفواني والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس ، وأبي رافع وهند بن أبي هالة. والغدير ج ٢ ص ٤٨ عن بعض من تقدم ، وعن : نزهة المجالس ج ٢ ص ٢٠٩ عن السلفي ، ونقله المحمودي في هوامش شواهد التنزيل عن بعض من تقدم وعن أبي الفتوح الرازي ج ٢ ص ١٥٢ وغاية المرام باب ٤٥ ص ٣٤٦.

وأشار إليه مغلطاي في سيرته ٣١ ، والمستطرف ، وكنوز الحقائق ص ٣١. وراجع دلائل الصدق ج ٢ ص ٨١ و ٨٢.

(١) راجع : شرح النهج ج ١٣ ص ٢٦٢.

(٢) سيأتي ذلك مع مصادره ومع ما فيه من وجوه ضعف في هذا الكتاب في فصل : جثة خبيب.

٢١٦

عامة رواياتهم.

وذكر في الإستيعاب في ترجمة خبيب : أن الذي أرسله النبي «صلى الله عليه وآله» لإنزاله هو عمرو بن أمية الضمري (١).

وسيأتي : عدم صحة ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب.

وابن تيمية ماذا يقول؟!

وقد أنكر «ابن تيمية» على عادته في إنكار فضائل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» وقال : «كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير.

وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له : لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ، فلم يكن فيه فداء بالنفس ، ولا إيثار بالحياة ، والآية المذكورة في سورة البقرة ، وهي مدنية باتفاق.

وقد قيل : إنها نزلت في صهيب «رضي الله عنه» لما هاجر» (٢).

ونقول :

١ ـ إن كانت الآية مدنية بالنسبة إلى علي «عليه السلام» ، فهي أيضا مدنية بالنسبة إلى صهيب ، فما يقال هناك يقال هنا.

٢ ـ لقد أجاب الإسكافي المعتزلي على دعوى الجاحظ : أنه «صلى الله عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام» : لن يصل إليك شيء تكرهه! فقال :

«هذا هو الكذب الصراح ، والإدخال في الرواية ما ليس منها ، والمعروف

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ٢ ص ٨٢.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٧.

٢١٧

المنقول أنه «صلى الله عليه وآله» قال له : «فاضطجع في مضجعي ، وتغش ببردي الحضرمي ، فإن القوم سيفقدونني ، ولا يشهدون مضجعي ، فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك ، حتى يصبحوا ، فإذا أصبحت فاغد في أمانتي».

ولم ينقل ما ذكره الجاحظ ، وإنما ولده أبو بكر الأصم ، وأخذه الجاحظ ، ولا أصل له.

ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه ، وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ، ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو ، حتى تضور ، وأنهم قالوا له : رأينا تضورك الخ ..» (١).

هذا وقد تقدم في أوائل هذا الفصل : أن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما قال لعلي «عليه السلام» : إنه لا يصل إليه شيء يكرهه ، بعد مبيته على الفراش ، وذلك حينما التقى معه في الغار ، وأمره برد ودائعه ، وأن ينادي في مكة بذلك ، وطمأنه إلى أن نداءه هذا لن يتسبب له بمتاعب وصعوبات وليس المقصود : أنه لن يناله مكروه من أي مشرك في جميع الأحوال والأزمان.

٣ ـ ويدل على أنه كان موطنا نفسه على القتل ما يلي :

أ ـ إنه لو صح ما ذكره ابن تيمية لم يكن معنى للافتخار بموقفه ذاك ؛ فقد روي أن عائشة فخرت بأبيها ، ومكانه في الغار مع الرسول «صلى الله عليه وآله» ، فقال عبد الله بن شداد بن الهاد : وأين أنت من علي بن أبي طالب ، حيث نام في مكانه ، وهو يرى أنه يقتل؟ فسكتت ، ولم تحر جوابا (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٦٣.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٦٢ ، والبحار ج ١٩ ص ٥٦ عنه.

٢١٨

ب ـ وعن أنس : أنه «عليه السلام» كان موطنا نفسه على القتل (١).

ج ـ إن عليا «عليه السلام» نفسه قد أكد على هذا ، ودفع كل شبهة فيه ، حينما قال شعره المتقدم :

وقيت نفسي خير من وطأ الثرى

 .....

إلى أن قال :

وبت أراعيهم متى يثبتونني

وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا

هناك وفي حفظ الإله وفي ستر (٢)

د ـ وعنه «عليه السلام» : «وأمرني أن أضطجع في مضجعه ، وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له ، مسرورا لنفسي بأن أقتل دونه ، فمضى «صلى الله عليه وآله» لوجهه ، واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي «صلى الله عليه وآله» ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي ؛ فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس.

__________________

(١) المصدران السابقان.

(٢) نور الأبصار ص ٨٦ ، وشواهد التنزيل ج ١ ص ١٠٢ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤ وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة ، وأمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨٣ ، وتذكرة الخواص ص ٣٥ ، وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٣٠ ، ومناقب الخوارزمي ص ٧٤ و ٧٥ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٣١ ، والبحار ج ١٩ ص ٦٣ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٥. والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) والمصادر لهذا الشعر كثيرة جدا لا مجال لتتبعها.

٢١٩

ثم أقبل على أصحابه ، فقال : أليس كذلك ، قالوا : بلى يا أمير المؤمنين» (١).

وقيل إنهم ضربوا عليا ، وحبسوه ساعة ، ثم تركوه (٢).

ملاحظة :

يمكن أن يفهم مما تقدم : أن الحديث الذي يقول : إنه «عليه السلام» قد حاربهم بسيف خالد موضع شك وريب ، لأنه إنما حاربهم بسيفه هو لا بسيف خالد.

إلا أن يقال : أن نسبته إليه لا تدل على ملكيته له.

وقد يكون حاربهم بسيفه أولا ، ثم سيف خالد ثانيا بعد أن أخذه منه وإن كان هذا الاحتمال ضعيفا.

٤ ـ وبعد ، فإن قيمته «عليه السلام» إنما هي قائمة في عمق ذاته ، من حيث صفاء جوهره ، وكامنة في عمق ذاته ، تماما كما هي قيمة الذهب والجوهر ، والألماس بالقياس إلى الحديد والنحاس ، فإنك تستخدم الحديد ، وتستفيد منه ليل نهار ، أما الجوهر والألماس ، فإنه يحتفظ بقيمته العالية رغم أنه في أعماق الخزائن ، وقد يستفاد منه في شيء من الأعمال إلا ما شذ وندر ، وهو في معرض المدح والثناء ، ولا يلتفت إليه.

ولأجل ذلك نقول : إن نزول الآية لتعظيم أمير المؤمنين «عليه السلام» يكون أمرا عاديا وصحيحا ، حتى لو لم يكن علي حاضرا في واقعة ليلة الهجرة ، لأن عليا يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله دون كل أحد سواه.

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٤٥ عن : الخصال ج ٢ ص ١٤ و ١٥.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٥.

٢٢٠