الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

مبيت علي عليه السّلام ، وهجرة النبي صلّى الله عليه وآله :

ويقول المؤرخون : إن أولئك القوم الذين انتدبتهم قريش ، اجتمعوا على باب النبي «صلى الله عليه وآله» ، ـ وهو باب عبد المطلب على ما في بعض الروايات (١) ـ يرصدونه ، يريدون بياته.

وفيهم : الحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل وأبو الغيطلة وطعمة بن عدي ، وأبي بن خلف ، وخالد بن الوليد ، وعتبة ، وشيبة ، وحكيم بن حزام ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج (٢).

لقد اختارت قريش من قبائلها العشر ، أو الخمس عشرة ، عشرة أو خمسة عشر رجلا ، بل أكثر ، على اختلاف النقل ، ليقتلوا النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بضربة واحدة بسيوفهم ، بل قيل : إنهم كانوا مئة رجل (٣).

ونحن نستبعد هذا العدد الأخير ، وذلك لمخالفته لسائر الروايات الأخرى ، مع أن ما ذكرته الرواية من أن عدد القبائل كان مئة قبيلة ، لا نجد له ما يؤيده. واحتمال أن يكون قد خرج من كل قبيلة أكثر من واحد ينافيه التصريح بأن الخارجين كانوا واحدا من كل قبيلة.

ومهما يكن من أمر فإن المتآمرين تهيأوا واجتمعوا ، فأخبر الله تعالى نبيه

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٧٣ عن الخرائج والجرائح.

(٢) لقد وردت أسماء هؤلاء كلا أو بعضا في روايات مختلفة ، في السيرة الحلبية ج ٢ والبحار ج ١٩ ص ٧٢ و ٣١ ومجمع البيان.

(٣) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٨٠ ونور الأبصار ص ١٥.

١٨١

«صلى الله عليه وآله» بمكرهم.

فأمر «صلى الله عليه وآله» أمير المؤمنين عليا «عليه السلام» بالمبيت على فراشه ، بعد أن أخبره بمكر قريش ، فقال علي «عليه السلام» : أوتسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟

قال : نعم.

فتبسم علي «عليه السلام» ضاحكا وأهوى إلى الأرض ساجدا ، شكرا لله ، فنام على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ، واشتمل ببرده «صلى الله عليه وآله» الحضرمي.

ثم خرج النبي «صلى الله عليه وآله» في فحمة العشاء ، والرصد من قريش قد أطافوا بداره ينتظرون.

خرج «صلى الله عليه وآله» ، وهو يقرأ هذه الآية : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١).

وكان بيده «صلى الله عليه وآله» قبضة من تراب ، فرمى بها في رؤوسهم ، ومر من بينهم ، فما شعروا به ، وأخذ طريقه إلى غار ثور.

ولعل هذه القبضة من تراب قد أشغلتهم بأنفسهم ، وصرفت قلوبهم عن التدقيق في رصد موضوع خروج النبي «صلى الله عليه وآله» ، لا سيما مع وجود ظلمة قوية ، فإنهم كانوا في فحمة العشاء ، وتحتاج الرؤية فيها إلى المزيد من التنبّه إلى إحداد النظر في نقطة بعينها ..

وعلى كل حال ، فإن الرواة قد زعموا : أن أبا بكر جاء وأمير المؤمنين

__________________

(١) الآية ٩ من سورة يس.

١٨٢

علي «عليه السلام» نائم ، فقال : يا نبي الله ، وأبو بكر يحسبه أنه نبي الله قال : فقال له علي : إن نبي الله ، قد انطلق نحو بئر ميمونة ، فأدركه ، فانطلق أبو بكر ، فدخل معه الغار (١).

ولعل الصحيح هو الرواية التي تقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد لقي أبا بكر في الطريق ، وكان أبو بكر قد خرج ليتنسم الأخبار ، وربما يكون استصحبه معه ، لكي لا يسأله سائل إن كان قد رأى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فيقر لهم بأنه رآه ، ثم يدلهم على الطريق التي سلكها خوفا من أن يتعرض لأذاهم ، أو خطأ ، أو لأي داع آخر.

__________________

(١) راجع في الفقرات الأخيرة : مناقب الخوارزمي الحنفي ص ٧٣ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٣٣ وتلخيصه للذهبي بهامشه وصححاه ، ومسند أحمد ج ١ ص ٣٢١ ، وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص ٣٤ ، وشواهد التنزيل ج ١ ص ٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٠٠ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٢٠٧ ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٣٠ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ط النجف ص ٦٣ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٥ ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٠ عن أحمد ورجاله رجال الصحيح غير واحد وهو ثقة ، وعن الطبراني في الكبير والأوسط ، والبحار ج ١٩ ص ٧٨ و ٩٣ عن الطبري وأحمد ، والعياشي ، وكفاية الطالب ، وفضائل الخمسة ج ١ ص ٢٣١ ، وذخائر العقبى ص ٨٧ ، وكفاية الطالب ص ٢٤٢. وقال : إن ابن عساكر ذكره في الأربعين الطوال ، وترجمة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» ، من تاريخ ابن عساكر تحقيق المحمودي ج ١ ص ١٨٦ و ١٩٠ ، ونقله المحمودي في هامشه عن : الفضائل لأحمد بن حنبل ، حديث ٢٩١ وعن غاية المرام ص ٦٦ ، عن الطبراني ج ٣ في الورق ١٦٨ / ب وفي هامش كفاية الطالب عن : الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٣. وأما الفقرات الأخرى فهي موجودة في مختلف كتب الحديث والتاريخ.

١٨٣

نقول هذا : إذ لا موجب لترجيح تلك الرواية على هذه ، ولأننا لم نجد ، ما يدل على علم علي «عليه السلام» بالمكان والجهة التي توجه إليها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وليس ثمة ما يؤيد احتمال أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد أخبره بشيء من ذلك.

على أن السؤال الأهم هو : كيف دخل أبو بكر إلى علي «عليه السلام»؟!

ومن أين؟!

وكيف لم يره خمسة عشر رجلا يرصدون البيت وقد طافوا بالدار؟!

وإذا كانوا يرصدون ، وينظرون من خلل الباب إلى النائم ، ورأوه كيف يتضور وهم يرمونه ببعض الحصى ، فكيف لم يروا أبا بكر حين دخل إليه؟!

وإذا كانوا قد رأوه ، فهل سمعوا كلامه؟!

وإذا كانوا قد سمعوه ، وهم قريبون منه إلى حد أنهم يرمونه بالحصى ، فلماذا لم يلحقوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» كما لحق به أبو بكر؟!

وحين دخل أبو بكر هل كشف له عليّ «عليه السلام» رأسه ، أم بقي مغطى ، وإذا كان قد كشفه فهل رآه المشركون أم لا؟

ولماذا لم يروه؟! وإذا كانوا قد رأوه ، فلماذا انتظروا إلى الصباح؟!

وإذا كانوا قد سمعوا صوت عليّ ورأوه فكيف لم يعرفوه ، ولم يميزوا بين الرجلين ولا بين الصوتين؟!

وكيف رأوا تضوره ولم يروا شخصه .. وبعد الاجتماع بين أبي بكر وعليّ «عليه السلام» من أين خرج أبو بكر ، وهل رأوه حين خرج أم لم يروه؟!

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لن تجد الجواب المقنع والمقبول.

١٨٤

وعلى كل حال ، فقد روى الشيخ الطوسي : «أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر أبا بكر ، وهند بن أبي هالة : أن ينتظرا في طريقه إلى الغار بمكان عينه لهما» (١).

وذكر الراوندي : «أنه مشى وهم لا يرونه ، فرأى أبا بكر قد خرج في الليل يتجسس من خبره ، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم ، فأخرجه معه إلى الغار» (٢).

وإذا صح هذا ؛ فيرد سؤال : كيف لم يخبر أبو بكر النبي بأمرهم؟! إلا أن يقال : إنه إنما جاء ليخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بذلك.

ولكن الأهم من ذلك : كيف أطلعت قريش أبا بكر على تدبيرها مع حرصها الشديد على التكتم فيه ، عن كل من له بالنبي أدنى صلة كما تقدم تصريح الديار بكري وغيره بذلك؟

قالوا : وجعل المشركون يرمون عليا «عليه السلام» بالحجارة ، كما كانوا يرمون رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وهو يتضور (أي يتلوى ويتقلب) ، وقد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح ، فهجموا عليه ، فلما بصر بهم عليّ «عليه السلام» قد انتضوا السيوف ، وأقبلوا عليه ، يقدمهم خالد بن الوليد ، وثب له عليّ «عليه السلام» ، فختله ، وهمز يده ، فجعل خالد يقمص قماص البكر ، ويرغو رغاء الجمل ، وأخذ من يده السيف ، وشد عليهم بسيف خالد ، فأجفلوا أمامه إجفال النعم إلى خارج الدار ، وتبصروه ، فإذا علي.

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨١ والبحار ج ١٩ ص ٦١.

(٢) راجع : البحار ج ١٩ ص ٧٣ عن الخرائج والجرائح.

١٨٥

قالوا : وإنك لعلي؟

قال : أنا علي.

قالوا : فإنا لم نردك ؛ فما فعل صاحبك؟

قال : لا علم لي به (١).

فكان من الطبيعي أن يتراجعوا عنه ، وأن يسرعوا إلى قومهم لإخبارهم بما جرى ليتدبروا الأمر قبل فوات الأوان.

وهكذا كان فقد هبت قريش لتدارك الموقف.

قريش في طلب النبي صلّى الله عليه وآله :

فأذكت قريش العيون ، وركبوا في طلب النبي «صلى الله عليه وآله» الصعب والذلول ، واقتفوا أثره ، حتى وصل القائف (٢) إلى نقطة لحوق أبي بكر به ، فأخبرهم أن من يطلبونه صار معه هنا رجل آخر.

واستمروا يقتفون الأثر حتى وصلوا إلى باب الغار ، الذي كان مغطى بأغصان الشجرة .. فصرفهم الله عنه ؛ حيث كانت العنكبوت قد نسجت على باب الغار ، وباضت في مدخله حمامة وحشية ، كما يذكرون ، وغير ذلك فاستدلوا من ذلك على أن الغار مهجور ، لم يدخله أحد ، وإلا لتخّرق النسج ، وتكسّر البيض ، ولم تستقر الحمامة الوحشية على بابه (٣).

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨٢ و ٨٣.

(٢) القائف : الذي يتتبع الآثار.

(٣) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٧ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٨١ و ١٨٢.

١٨٦

الراحلتان بالثمن :

وأمهل أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى الليلة القادمة ؛ فانطلق تحت جنح الظلام ، هو وهند بن أبي هالة ، حتى دخلا الغار على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فأمر الرسول هندا أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين.

فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين تر تحلهما إلى يثرب.

فقال : إني لا آخذهما ، ولا أحدهما إلا بالثمن.

قال : فهي لك بذلك.

فأمر عليا «عليه السلام» فأقبضه الثمن (١).

أداء الأمانات :

ثم أوصاه بحفظ ذمته ، وأداء أماناته ، وكانت قريش ومن يقدم مكة من العرب في الموسم يستودعون النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويستحفظونه أموالهم وأمتعتهم ، وأمره أن ينادي صارخا بالأبطح غدوة وعشيا : «من كان له قبل محمد أمانة ، فليأت ، فلنؤد إليه أمانته».

وقال «صلى الله عليه وآله» لعلي حينئذ ، أي بعد أن ذهب الطلب عن النبي «صلى الله عليه وآله» : إنهم لن يصلوا من الآن إليك يا علي بأمر تكرهه ، حتى تقدم علي ؛ فأد أمانتي على أعين الناس ظاهرا ، ثم إني مستخلفك على فاطمة

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ٦٢ وأمالي الطوسي ج ٢ ص ٨٣ وعدم قبوله «صلى الله عليه وآله» الراحلتين من أبي بكر إلا بالثمن لا يكاد يخلو منه كتاب يؤرخ للسيرة النبوية الشريفة وراجع وفاء الوفاء ج ١ ص ٢٣٧.

١٨٧

ابنتي ، ومستخلف ربي عليكما ، ومستحفظه فيكما.

نفقات الهجرة :

فأمر «صلى الله عليه وآله» عليا «عليه السلام» أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع الهجرة معه من بني هاشم.

قال أبو عبيدة : فقلت لعبيد الله (يعني ابن أبي رافع) : أو كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يجد ما ينفقه هكذا؟.

فقال : إني سألت أبي عما سألتني عنه ـ وكان يحدث لي هذا الحديث ـ فقال : وأين يذهب بك عن مال خديجة «عليها السلام»؟.

قال : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال خديجة.

وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يفك من مالها الغارم والعاني ، ويحمل الكل ، ويعطي في النائبة ، ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكة ، ويحمل من أراد منهم الهجرة (١).

وبعد أن أقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الغار ثلاثا ، إنطلق يؤم المدينة (٢).

__________________

(١) ولكن نفس هذا النص يرويه أصحاب الأهواء والتعصبات ، ويبدلون فيه كلمة (خديجة) بكلمة (أبي بكر) ليثبتوا له فضيلة لا تؤيدها أي من النصوص والوقائع بل هي على خلافها أدل كما أثبتناه.

(٢) أمالي الطوسي ج ٢ ص ٨١ و ٨٢ والبحار ج ١٩ ص ٦١ و ٦٢.

١٨٨

شعر علي عليه السّلام بمناسبة المبيت :

وقال أمير المؤمنين «عليه السلام» يذكر مبيته على الفراش ، ومقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» :

وقيت بنفسي خير من وطا الحصا

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

محمد لما خاف أن يمكروا به

فوقاه ربي ذو الجلال من المكر

وبت أراعيهم متى ينشرونني

وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا

هناك وفي حفظ الإله وفي ستر

أقام ثلاثا ، ثم زمت قلائص

قلائص يفرين الحصا أيما يفري

كل ما تقدم يذكره المؤرخون وأهل الحديث في كتبهم ومؤلفاتهم فليراجعها من أراد.

ولسوف يأتي إن شاء الله بعض الكلام حول سفره ، ووروده قباء ، وغير ذلك بعد الكلام على بعض الأمور التي ترتبط بما تقدم ؛ فنحن نسجل هنا الأمور التالية :

المثل الأعلى للتضحية :

يقول بعضهم : «وهنا تبدأ قصة من أروع ما عرفه تاريخ الفداء والتضحية ، فالشجعان والأبطال يثبتون في المعارك في وجه أعدائهم ، يدافعون بما لديهم من سلاح وعتاد مع أنصارهم وأعوانهم ، وقد تضطرهم المعارك إلى أن يثبتوا في مقابل العدو ، لا منفردين.

أما أن يخرج الإنسان إلى الموت طائعا مطمئنا بدون سلاح ولا عتاد ،

١٨٩

وكأنه يخرج ليعانق غادة حسناء ، فينام على فراش تحف به المخاطر والأهوال ، أعزل من كل شيء إلا من إيمانه ، وثقته بربه ، وحرصه على سلامة القائد ، كما حدث لعلي «عليه السلام» ، حينما عرض عليه ابن عمه محمد «صلى الله عليه وآله» أمر المبيت على فراشه ؛ ليتمكن هو من الفرار ، والتخلص من مؤامرة قريش ؛ فهذا ما لم يحدث في تاريخ البطولات ، وما لم يعرف من أحد في تاريخ المغامرات ، في سبيل المبدأ والعقيدة».

ويقول : «ولم يكن مبيت عليّ ليلة الهجرة هي المرة الأولى ؛ فلقد كان أبو طالب في أيام الحصار في الشعب ينيم عليا على فراش النبي ، حتى إذا حصلت حادثة اغتيال ، كان في عليّ دون النبي ، ولم يكن ليمانع في ذلك أبدا بل كان يقدم عليه برضا نفس ، وطيبة خاطر» (١).

ونقول : إننا لا نوافق على هذا التعبير الجاف الذي يقول : «ليتمكن هو من الفرار ..» فإنه «صلى الله عليه وآله» لا يفر ، ولكنه يهاجر لجمع القوى ، ويعود ظافرا فاتحا بعد ثمان سنوات ..

المبيت ، والخلافة :

والغريب هنا : أن نجد أحد من عرف بنصبه ، وبالعداء لشيعة عليّ «عليه السلام» أو محبيه ، يضطر لأن يعترف بأن قضية مبيته «عليه السلام» على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة ، من الإشارات الواضحة إلى خلافته ، فيقول :

«هذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة ، إذا نظر إليه في مجرى الأحداث

__________________

(١) راجع : سيرة المصطفى ص ٢٥٠ و ٢٥٢.

١٩٠

التي عرضت للإمام عليّ في حياته بعد تلك الليلة ؛ فإنه يرفع لعيني الناظر إمارات واضحة ، وإشارات دالة على أن هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن عارضا بالإضافة إلى عليّ ، بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها ، فلنا أن نسأل :

أكان لإلباس الرسول «صلى الله عليه وآله» شخصيته لعلي تلك الليلة ما يوحي بأن هناك جامعة تجمع بين الرسول وبين علي أكثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما؟.

وهل لنا أن نستشف من ذلك أنه إذا غاب شخص الرسول كان عليا (كذا) هو الشخصية المهيأة لأن تخلف ، وتمثل شخصه ، وتقوم مقامه؟. وأحسب أن أحدا قبلنا لم ينظر إلى هذا الحدث نظرتنا هذه إليه ، ولم يقف عنده وقفتنا تلك حتى شيعة علي» (١).

قريش وعلي عليه السّلام :

١ ـ ونشير هنا : إلى أن الملاحظ : أن قريشا لم تصر على أمير المؤمنين في استنطاقها له عن مكان ابن عمه.

وما ذلك إلا لأنهم قد علموا : أنهم إنما يحاولون عبثا ، ويطلبون مستحيلا ، فإن من كان يحمل مثل هذا الإخلاص ، ومثل هذه التضحية النادرة في التاريخ لن يفشي لهم سرا قد ضحى بنفسه في سبيل كتمانه ، لذلك نراهم قد أطلقوه وانصرفوا عنه يائسين (٢).

__________________

(١) علي بن أبي طالب ، لعبد الكريم الخطيب ١٠٥ و ١٠٦.

(٢) راجع حياة أمير المومنين ص ١٠٥ و ١٠٦.

١٩١

٢ ـ لقد كان علي في موقفه تجاه النبي «صلى الله عليه وآله» مثلا أعلى للإنسانية الكاملة ، فقد عرف الناس معنى الإخلاص ، وماهية التضحية ، وحقيقة الإيمان.

حيث إنه يرى نفسه مقتولا على كل حال ، إما لظن المشركين أنه رسول الله ، فيخبطوه بأسيافهم ضربة رجل واحد ، وإما انتقاما منه ، حيث كان سببا لخلاص من سفه أحلامهم ، وعاب آلهتهم ، وفرق جماعتهم ، وهم يعرفون أيضا حب النبي «صلى الله عليه وآله» له ومنزلته منه ، فإذا قتلوه فإنما يقتلون أخاه وابن عمه ، والرجل المخلص الذي يفديه بنفسه (١).

وأما انصرافهم عنه ، بعد ظهور الأمر ، فهو إما خوفا منه ، بعد أن رأوا ما فعله بخالد ، وإما من أجل توفير الفرصة للبحث عن غريمهم الأصلي والأهم بالنسبة إليهم.

بقي هنا سؤال :

وهو أنه إذا كان علي «عليه السلام» يعلم بأن حديث الدار يدل على أنه «عليه السلام» لن يقتل في هذه الحادثة ، بل هو سوف يعيش إلى ما بعد الرسول «صلى الله عليه وآله» ليكون وصيه وخليفته من بعده ، فلا تبقى له فضيلة في مبيته على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة.

والجواب :

أولا : إن ذلك لا يمنع من حصول البداء في هذا الأمر حسبما أشرنا إليه في أوائل هذا الكتاب.

__________________

(١) المصدر السابق ص ١٠٧ و ١٠٨.

١٩٢

ثانيا : إن ذلك لا يمنع من تعرضه «عليه السلام» للجراح وقطع الأعضاء والأسر والتعذيب البالغ.

وهو أمر يتجنبه ويخشاه الناس وسيأتي بعد صفحات ما يؤيد الجواب الأول وأنه «عليه السلام» قد كان موطنا نفسه على القتل والأسر ومعنى ذلك هو أنه كان لا يقطع بالبقاء إلى ما بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» ، لأجل إمكانية حصول البداء في هذا الأمر لما قلنا.

قريش والمبيت :

ويقول البعض أيضا : «إن هذا الذي كان من علي ليلة الهجرة في تحديه لقريش هذا التحدي السافر ، وفي استخفافه بها ، وقيامه بينها ثلاثة أيام يغدو ويروح إن ذلك لا تنساه قريش لعلي أبدا.

ولو لا أنها وجدت في قتله يومئذ إثارة فتنة تمزق وحدتها ، وتشتت شملها ، دون أن يكون في ذلك ما يبلغ بها غايتها في محمد «صلى الله عليه وآله» ـ لو لا ذلك ـ لقتلته ، وشفت ما بصدرها منه ، ولكنها تركته ، وانتظرت الأيام لتسوي حسابها معه» (١).

ولقد كان حسابا عسيرا حقا ، ولا سيما بعد أن أضاف إلى ذلك : أنه قتل رجالها ، وجندل صناديدها ، وبقي اليد الطولى لابن عمه يضرب بها هنا وهناك كل متكبر جبار ، أين وأنى شاء.

وقد بدأ هذا الحساب العسير فور استشهاده «صلى الله عليه وآله» ، وحتى قبل أن يغسل ويكفن ويدفن.

__________________

(١) علي بن أبي طالب لعبد الكريم الخطيب ص ١٠٦.

١٩٣

مقايسة :

قلنا : إن مبيت أمير المؤمنين «عليه السلام» هذا قد ضيع الفرصة على قريش ، وأفشل ما كانت دبرته في النبي «صلى الله عليه وآله» ، وكان أيضا سببا لتمكين الدين ، وإعلاء كلمة الحق.

وأما أن يقاس ذلك بقضية ذبح إسماعيل ، فلا يصح ذلك ، لان إسماعيل قد استسلم لوالد شفيق رحيم ، يجد في عطفه وحنانه ما يسليه عما ينزل به ، ولا يجد منه أيا من أنحاء التنكيل ، والقسوة والخشونة.

أما علي «عليه السلام» ، فإنما استسلم لعدوه الذي لا يرحمه ، ومن لا يشفي غليله إلا سفك دمه ، وصب أقسى أنواع العذاب والتنكيل عليه ، مع شماتة قاتلة ، وحقد هائل.

وقد تكلم الإسكافي في نقضه لعثمانية الجاحظ حول هذه القضية فراجعه (١) ، ولو أردنا استقصاء الكلام حول هذه النقطة لطال بنا المقام.

إرادة الله :

لقد كان من الممكن أن ينصر الله رسوله من دون أن يضطر إلى اللجوء إلى الغار ، وإلى مبيت علي «عليه السلام» على فراشه ، وذلك عن طريق آيات باهرة ، وعنايات ومعجزات قاهرة.

وقد ظهر أنه قادر على ذلك من خلال ما صنعه لرسوله «صلى الله عليه وآله» من نسج العنكبوت ، ومن إنبات الشجر على باب الغار ، ثم تردد الحمامة الوحشية على مكان قريب تنفر منه بحسب العادة.

__________________

(١) راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٣ والعثمانية للجاحظ في أواخرها.

١٩٤

ولكن لا ، فقد شاءت العناية الإلهية أن تسير الأمور على سجيتها ، وعلى وفق أسبابها الطبيعية ، مع تسديدات وعنايات تشمل الأمور الخارجة عن حدود الطاقة ، وليكون ذلك مثلا لنا جميعا ودرسا مؤثرا في الجد والعمل في سبيل الدين والعقيدة ، فليس لنا أن ننتظر المعجزة من السماء ، فالله لم يخطط لنبيه على أساس المعجزة والكرامة وحسب ، ولا تكرم عليه بها إلا بعد أن رأى منه الاستعداد والتضحية والمبادرة إليها ، فاستحق اللطف الإلهي ، وتحقق مصداق قوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(١) و (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ)(٢).

وأما السبب في أنه تعالى لم يخطط لنبيه على أساس التدخل المباشر ، والإعجاز : هو أنه حين يرتبط الأمر بحرية اختيار الناس لأعمالهم فلا بد من الحذر من أن يفهم الأمر بطريقة خاطئة ، وهو أنهم مسلوبو الاختيار ، وأن لا قدرة لهم على التصرف ؛ ولأجل ذلك فإن التدخل الإلهي يقتصر على ما يكون من خارج دائرة اختيارهم ، فهم قد فعلوا كل ما خطر في بالهم ، فلم يمنع أعينهم من النظر والرؤية ، ولا أصم آذانهم عن السمع ، ولا منع لسانهم من الحركة ، والتفاهم ، ولا شل حركة أيديهم عن حمل السلاح ، ولا أقعدهم عن المشي في أي اتجاه أحبوا.

بل تصرف خارج دائرة اختيارهم ، فخلق الشجرة التي تحتاج في الحالات الطبيعية إلى سنوات ، ونسجت العنكبوت ـ التي يستغرق نسجها

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة الحج.

(٢) الآية ٧ من سورة محمد.

١٩٥

إلى شهور ـ في وقت يسير .. تماما كما تدخل في قضية حرق النبي إبراهيم «عليه السلام» في خارج دائرة الاختيار ، فقال للنار : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) بعد أن فعل الناس كل ما راق لهم فجمعوا الحطب وجاؤوا بالمنجنيق ، وأضرموا النار و.. الخ ..

لماذا التدخل الإلهي؟!

والذي نلاحظه : أن الله تعالى قد تدخل لحفظ نبيه «صلى الله عليه وآله» بطريقة تحفظ للناس اختيارهم وإطلاق إرادتهم ، غير أن السؤال عن السبب في هذا التدخل الذي يأتي على درجة من الندرة في حياة الأنبياء ، فقد رأينا بني إسرائيل يقتلون الأنبياء ، ولا يتدخل الله لمنعهم من ذلك.

ونقول في الجواب : إن تكرر هذا التدخل من شأنه أن يعطي الانطباع بأن لا قيمة لجهد وجهاد أهل الإيمان لحفظ الدعوة ، والدفاع عن رمزها ..

وهذا ما يؤدي إلى الخمول والتخاذل وإهمال الواجب ، وطمع أهل الباطل بأهل الحق ، وإعطائهم الفرصة للعبث وإثارة المتاعب أمامهم ..

مع ملاحظة : أن هذا التدخل قد انحصر في حالة واحدة هي حين يكون الخطر يتهدد الرمز الأعظم الذي يكون إسقاطه إسقاطا للمشروع الإلهي كله .. مثل إبراهيم «عليه السلام» ونبينا الأعظم محمد «صلى الله عليه وآله» .. دون غيرهما من الأنبياء «عليهم السلام».

فكان لا بد من التدخل الإلهي ؛ لأن القضية لا تختص بقوم دون قوم ، بل الخسارة تكون للبشرية جمعاء ..

ولا يمكن التفريط في أمر كهذا لمنافاته اللطف الإلهي الذي يفرض إقامة الحجة على جميع البشر ، والرحمة لهم ، بحفظ باب الهداية مفتوحا

١٩٦

أمامهم ، وإقامة الحجة ، وتوفير البيانات والحجج لهم.

وهذا حق محفوظ لهم ، ولا يمكن حرمانهم من ذلك.

ولعلك تقول : ألا تعد غيبة الإمام «عليه السلام» حرمانا للبشر من حق لهم ، بسبب تفريط جماعة صغيرة من الناس حين استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليه ..

فالجواب : أن غيبة الإمام وإن كانت في البداية بسبب فعل مجموعة من الناس في وقت بعينه لكن استمرار موجبات هذه الغيبة إنما هو بفعل نفس الناس الموجودين في كل عصر ، لأن بإمكانهم إزالة هذه الموجبات ، وفسح المجال أمام إشراقة شمس ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف.

بين النظرة المصلحية والواقع :

ولقد وقع المشركون في تناقض عجيب ، فهم في نفس الوقت الذي يصرون فيه على تكذيب النبي «صلى الله عليه وآله» ، والافتراء عليه ، حتى إنهم كانوا يقولون عنه : إنه مجنون ، ساحر ، شاعر ، كاهن ، الخ .. نراهم يأتمنونه على أموالهم وودائعهم إلى الحد الذي يحتاج معه إلى أن يترك ابن عمه ينادي في الناس ثلاثة أيام ؛ ليأتوا إليه ويأخذوا ودائعهم ، وهل يؤمّن المجنون ، والكذاب ، والكاهن ، والعدو؟!.

فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن عدم إيمان المشركين بما يدعوهم إليه ليس إلا استكبارا وعنادا ، لا عن قناعة بعدم صحة ما جاءهم به ، وقد قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١).

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

١٩٧

أي أنهم كانوا يجحدون بما جاءهم به ، إما زعما منهم أن في ذلك حفاظا على مصالحهم الشخصية ومستقبلهم ، وإما تقليدا أعمى للضالين من آبائهم وأجدادهم ، وإما حفاظا على امتيازاتهم ، أو حسدا ، أو غير ذلك.

وإن إبقاء علي «عليه السلام» في مكة ليؤدي للناس أماناتهم وودائعهم ، في ظروف حساسة وخطيرة جدا كهذه الظروف ، لهو من أروع الأمثلة للإنسان الكامل ، الذي يلتزم بمبادئه ، ويحترم قناعاته ، ولا يحيد عما رسمه الله له قيد شعرة ، ولا يبحث عن المعذرات والفرص ، وإنما هو يعيش من أجل مبادئه العليا ، وتحقيق أهدافها ، ولا يعتبر المبدأ وسيلة لتحقيق مآربه وأهدافه.

نعم ، لقد كان «صلى الله عليه وآله» أمينا عندهم ، وسموه ب «الأمين». وكان ذلك من أبرز صفاته الشخصية حتى قبل نبوته ، وها هو يؤدي إليهم أماناتهم ، مع أنهم يريدون نفسه ودمه ، ومحو كل آثاره من الوجود ، وتشويه كل ما يرتبط به.

ولكن ذلك لا يحول بينه وبين أن يهتم بأمانات الناس ، برهم وفاجرهم ، وقد كان له كل العذر لو أنه لم يردها عليهم.

وبالمناسبة فإننا نعطي بعض المحققين الحق في أن يتعجب أو يستغرب ، كيف لا يرى أحاديث عامة أهل السنة تهتم بهذه الصفة العظيمة ، صفة الأمانة التي هي أساس إنسانية الإنسان؟

ولكن لا عجب من ذلك ولا غرابة فيه ؛ فإن أحاديث «الحكمة» قد محيت أيضا وذهبت منذ استشهد «صلى الله عليه وآله» بعناية وتعمد تام من قبل الخلفاء الحكام ، وإلا فأين هذا الأمر الذي يخبر الله في أكثر من سبع آيات : أنه كان من جملة مهمات ووظائف النبي «صلى الله عليه وآله» في أيام

١٩٨

رسالته : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(١).

فقد عرفنا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد علم الناس الكتاب ، وقد بقي هذا الكتاب بحفظ من الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢).

ولكن أين هي تلك الحكمة التي علمها النبي «صلى الله عليه وآله» لأمته ، ونحن نرى : أنه لم يبق منها عند علماء الإسلام ومن يهتم بالأحاديث سوى نحو من خمس مئة حديث في أصول الأحكام ومثلها في أصول السنن (٣) وهل كان من بينها شيء في الحكمة يا ترى؟.

نعم ، نحن نجد في أحاديث الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام الكثير من الحكمة ، ومن بينها الكثير من الأحاديث في الأمانة والصدق الذي هو شعبة منها ، وقد جعلوها محورا للأخلاق العملية ، واهتموا بها بصورة عجيبة وظاهرة.

الأرض والمبدأ :

لقد رأينا : أن الأرض ليست هدفا في نظر الإسلام ، وإنما الهدف هو الإسلام نفسه ، فإن المقام في الأرض والاحتفاظ بها ، إذا كان معناه الذل والقهر ، والحرمان ، وعدم تحقيق الأهداف الدينية السامية الكبرى ، التي تكون بها سعادة الإنسان ، فيجب ترك هذه الأرض والتخلي عنها إلى غيرها ، من أجل الصلاح والإصلاح ، وبناء المستقبل ، والحصول على السعادة والكرامة الحقيقية.

__________________

(١) الآية ١٦٤ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٩ من سورة الحجر.

(٣) مناقب الشافعي ج ١ ص ٤١٩ وعن الوحي المحمدي ص ٢٤٣.

١٩٩

فالإنسان أولا ، وكل ما عداه فإنما هو من أجله ، وفي خدمته.

ومن معطيات الهجرة أيضا :

وبعد هذا ، فإن قضية الهجرة تعطينا : وجوب نصر المسلمين بعضهم بعضا حيث رأينا أن المهاجرين قد استعانوا بإخوانهم الأنصار فأعانوهم ونصروهم على أعدائهم.

كما أنها تعطينا وجوب أن يكون المسلمون يدا واحدة على من سواهم ، من دون أن يكون للروابط القبلية أي تأثير في ذلك ، ووجوب أن يكون المنطلق لهم في تعاونهم وتوادهم ، وتراحمهم ، والتأسي في المعاش فيما بينهم ، هو الدين والعقيدة ، لا الروابط القبلية ، أو المصلحية ، أو غير ذلك.

ثم هي تعطينا حسن التدبير ، ودقة التخطيط الذي اتبعه «صلى الله عليه وآله» في تلك الظروف الحرجة والعصيبة ، فإن مبيت أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الذي جعل قريشا تطمئن إلى وجوده «صلى الله عليه وآله» على فراشه ، حينما جاء من أخبر المحيطين بالبيت بأنه «صلى الله عليه وآله» قد خرج وانطلق لحاجته (١).

أبو طالب عليه السّلام في حديث الغار :

وقد جاء في بعض الروايات : أن أبا طالب «عليه السلام» قال للنبي «صلى الله عليه وآله» حينما ائتمروا به : هل تدري ما ائتمروا بك؟

قال : يريدون أن يسجنوني ، أو يقتلوني ، أو يخرجوني.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ١٠٠.

٢٠٠