الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

كما أن ذلك يهيئ للنبي «صلى الله عليه وآله» الفرصة لعرض دعوته على القوافل التي تتجه من بلاد الشام والأردن وفلسطين وغيرها إلى مكة ، والتمهيد لإفشال كثير من الدعايات التي يمكن للمكيين أن يطلقوها ضد الإسلام وأهله.

وقد تقدم قول المشركين لعبد الله بن أبي ، حين بيعة العقبة : «ما من حي أبغض من أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم».

وتقدم أيضا : أنهم لما أخذوا سعد بن عبادة بعد بيعة العقبة وعذبوه ، جاء الحارث بن حرب وجبير بن مطعم وخلصاه ، لأنه كان يجير لهما تجارتهما.

وإذا كانت قريش قد لقيت من أبي ذر ما لقيت ، حين أخذ عليها طريق تجارتها ، فإن ما سوف تلقاه من أهل المدينة سيكون أشد ، وأعظم خطرا ، وأبعد أثرا ، ولا سيما إذا عقد الرسول «صلى الله عليه وآله» تحالفات مع سائر القبائل المقيمة في المنطقة ، كما حصل بالفعل ، وكانت المعاهدة بصورة تجعلهم مضطرين لقطع علاقاتهم بالمشركين (١).

٢ ـ لقد عرفنا مما تقدم : أن الهجرة إلى المدينة هي الحل المفروض ، الذي لا خيار معه ؛ وذلك لأن الهجرة إلى الطائف لم تكن بالتي تجدي نفعا ، بعد أن رأينا : أن أهلها رفضوا الاستجابة إلى النبي «صلى الله عليه وآله» حينما هاجر إليهم ، لأنهم يرون : أن مكة هي التي تستطيع أن تضايقهم اقتصاديا ،

__________________

(١) راجع : وثيقة المدينة الآتية في الجزء التالي من هذا الكتاب ؛ آخر فصل : أعمال تأسيسية في مطلع الهجرة. فقد جاء فيها ما يلي : «وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن». وراجع : نشأة الدولة الإسلامية : ص ٢٨٩ ـ ٢٩٥.

١٦١

وهم إليها أحوج منها إليهم.

ولأجل ذلك فإنهم لا يستطيعون في المستقبل المنظور على الأقل إلا أن يدوروا سياسيا في فلكها ، وأن يخضعوا لسيطرتها.

وأما سائر قبائل العرب ؛ فلا يجدون في أنفسهم القدرة على ذلك ، وقد جرب أن يعرف مدى استعدادهم لقبول دعوته ، والدفاع عنها ؛ فوجد ما لا ينقع غلة ، ولا يبل صدى ، إن لم نقل إنه وجد ما يزيد الطين بلة ، والأمر خطورة.

وأما اليمن ، وفارس ، والروم ، وبلاد الشام وغيرها ؛ فقد كانت خاضعة لسلطة الدولتين العظميين ، اللتين لن يكون نصيب الرسول والرسالة منهما سوى المتاعب والأخطار الجسيمة.

وقد تكلمنا عن شيء من ذلك عند الحديث عن عوامل انتصار الإسلام وانتشاره في أواخر الباب الأول من هذا الكتاب.

ولسوف نرى أن كسرى قد حاول أن يقوم بعملية خطيرة تجاه الرسول ورسالته حينما أرسل إليه «صلى الله عليه وآله» يدعوه إلى الإسلام.

وأما الحبشة فهي بحكم موقعها الجغرافي مفصولة عن مكة ، كما أنها بحكم واقعها الاجتماعي ، والسياسي ، والبشري ، والعنصري ، وبحكم كونها بلدا أفريقيا ، فإنها ليست بلدا قادرا على أن يقود عملية التغيير العالمية الشاملة ، لا اقتصاديا ، ولا سياسيا ، ولا عسكريا ، ولا حتى فكريا ، واجتماعيا.

أضف إلى ذلك : أن مهاجمة مكة بجيش من الحبشة لسوف يدفع العرب كافة إلى الوقوف إلى جانب قريش ضده ، بخلاف ما لو كانت عملية التغيير منطلقة من الداخل حينما يؤمن بدعوته الفقراء ، والمستضعفون ،

١٦٢

ويواجه هؤلاء الملأ والمستكبرين من قومهم بالذات.

وهكذا يتضح : أنه ليس ثمة إلا المدينة ، والمدينة فقط ، موقعا مناسبا للهجرة فكانت الهجرة إليها.

٣ ـ ومن الجهة الأخرى ، فإن المدينة كانت أغنى من مكة زراعيا ، أي أنها لو فرض عليها أن تتعرض لضغط تجاري من نوع ما ـ مع أنه ليس باستطاعة مكة أن تفعل شيئا من ذلك ـ فإنها تستطيع أن تقاوم هذا الضغط ، وتحتفظ لنفسها بنوع من الحياة ، ولو بصعوبة ما ، من دون أن تستسلم لإرادة الآخرين ، وتنساق وراء رغباتهم ، كما كان الحال بالنسبة لغيرها.

هذا عدا عن أن الدعوة التي تحتاج إلى نشاط واسع ، وجهد شامل ، لأنها تريد أن تقود عملية التغيير الشامل على مستوى عالمي ـ هذه الدعوة ـ تحتاج إلى استقرار اقتصادي داخلي ، يستطيع أن يوفر الفرصة لحملة هذه الرسالة للحركة في سبيل نشر دينهم ، وبث رسالتهم.

٤ ـ وإذا كان الحج من أهم تشريعات الإسلام ؛ فما دامت مكة في أيدي الوثنيين ؛ فإنه سوف يفقد أثره وفعاليته في مجال التربية السياسية ، والاجتماعية ، وفي غير ذلك من مجالات ، وأيضا ، فما دامت مكة في أيدي الوثنيين ، فلسوف يبقى لهم نفوذ واسع في القبائل العربية ، وقدسية من نوع ما في نفوسهم.

فلا بد إذا من إخراجها من أيديهم ؛ لينتهي ما لهم من رصيد معنوي في نفوس الناس ، ولتنفتح القلوب بكل ما لديها على الدين الجديد ، وليتمكن المسلم من أن يؤدي إحدى أعظم شعائره ـ الحج ـ بحرية تامة ، دونما رادع أو زاجر.

١٦٣

ويدل على ذلك ، ما يرويه الطبراني وغيره : أنه لما عرض النبي الإسلام على ذي الجوشن الضبابي ، أبى أن يدخل فيه إلا أن يرى النبي «صلى الله عليه وآله» قد غلب على الكعبة.

وفي رواية أخرى ، أنه قال له : «رأيت قومك قد كذبوك ، وأخرجوك ، وقاتلوك ، فانظر ماذا تصنع ؛ فإن ظهرت عليهم آمنت بك ، واتبعتك ، وإن ظهروا عليك لم أتبعك» (١).

وبعد هذا ، فإن أقرب المواقع إلى مكة هو المدينة ، وهي التي تملك إلى جانب قوتها الاقتصادية كثافة سكانية جيدة ، تستطيع أن تقوم بالمهمة التي توكل إليها تجاه مكة على أكمل وجه ، ولا توجد هذه الميزة في أي من المناطق القريبة إلى مكة.

ونلاحظ : أن إيجاب الهجرة على من يسلم ، قد جعل المدينة ـ بعد هجرة الرسول «صلى الله عليه وآله» إليها ـ في حالة نمو سكاني مستمر ، يؤهلها لتحمل مسؤولية بناء دولة ، وحماية منجزاتها على المدى المنظور.

٥ ـ إن أهل المدينة كانوا في الأصل من مهاجري اليمن ، التي كانت تمتلك شيئا من الحضارة البدائية في قديم الزمان ، فهم ليسوا أعرابا ؛ لتكون قلوبهم ممعنة في القسوة.

ولا كان ثمة زعامات ومصالح خطيرة لهم في المنطقة ، كما كان الحال بالنسبة لقريش ، ولا كانوا يعيشون في تلك الأجواء النفسية المعينة ، كما

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٦ ص ٦٨ ، وقال : «رواه عبد الله بن أحمد ، وأبوه ، ولم يسق المتن ، والطبراني ورجالهما رجال الصحيح ، وروى أبو داود بعضه» انتهى.

١٦٤

كانت تعيش قريش ؛ نتيجة لموقعها النسبي في العدنانية ، ولموقعها في زعامة مكة ، وحجابة البيت.

ثم هناك التنافس الظاهر بين العدنانية والقحطانية ، حيث لا يسع القحطانيين ، حتى ولو لم تكن ثمة دوافع دينية وعقيدية : أن يسلّموا النبي «صلى الله عليه وآله» إلى أعدائه.

ويشهد لهذا : أننا نجد بقايا هذا التنافي حتى إلى ما بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فنجد أن عمر بن الخطاب قد فضل العدنانية على القحطانية في العطاء ، الأمر الذي مهد السبيل أمام الأمويين لاستغلال هذه الروح وإشعال الفتن بين اليمانية والقيسية ، إبان حكمهم البغيض.

بينما نجد أمير المؤمنين «عليه السلام» لم يكن يرى لبني إسماعيل على بني إسحاق فضلا. (ولهذا البحث مجال آخر).

٦ ـ ثم إن أهل المدينة قد ذاقوا مرارة الانحراف كأشد ما يكون ، وقد أنهكتهم الحروب وأكلتهم ، ويعيشون في رعب دائم وخوف مستمر ، حتى إنهم ما كانوا يضعون السلاح لا في الليل ولا بالنهار (١).

وتقدم : أن الخزرج ذهبوا إلى مكة يطلبون الحلف من القرشيين فلم تلب قريش طلبهم.

وكانوا يتمنون من كل قلوبهم : أن يجدوا مخرجا من المأزق الذي يرون أنفسهم فيه ، حتى إن أسعد بن زرارة لا يخفي لهفته على هذا الأمر ؛ حيث قال للنبي «صلى الله عليه وآله» حينما دعاه إلى الإسلام : «إنا من أهل يثرب

__________________

(١) البحار : ج ١٩ ص ٨ و ٩ و ١٠ ، وأعلام الورى : ص ٥٥.

١٦٥

من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أحد أعز منك الخ ..» (١).

ثم وبعد أن دخل الإسلام إلى المدينة ، فقد كان لا بد أيضا من الحفاظ على المسلمين فيها ، وشد أزرهم ، حتى يمكن لهم الاستمرار في نصرة هذا الدين ، وإعلاء كلمة الله.

٧ ـ لقد كانت بشائر اليهود بقرب ظهور نبي في المنطقة قد جعلت الكل مستعدين لقبول هذا الدين.

ولكنهم يحتاجون إلى مناسبات دافعة ، إلى ظروف مشجعة ؛ فلماذا يهملهم الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ولا يهيئ لهم الفرصة لذلك؟!.

٨ ـ هذا كله ، عدا عن أن أهل المدينة أنفسهم قد طلبوا ذلك من النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» وبايعوه بيعة العقبة ، ووعدوه النصر ، والنبي «صلى الله عليه وآله» إنما يتصرف وفق الإرادة الإلهية التي لا تغيب عنها تلك المصالح وسواها.

فالله هو الذي يرعاه ويسدده ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، هذا ما رأينا الإشارة إليه في هذا الصدد.

المؤاخاة بين المهاجرين :

وكتمهيد لعملية الهجرة ، حيث يفترض أن يواجه المسلمون الكثير من المصاعب ، التي تحتاج إلى التعاون والتعاضد بأعلى مراتبه ، كانت عملية المؤاخاة التي أريد بها السمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي ،

__________________

(١) البحار : ج ١٩ ، وإعلام الورى : ص ٥٧.

١٦٦

وجعلها علاقة إلهية تصل إلى درجة الأخوة ؛ ليكون أثرها في التعامل بين المسلمين أكثر طبيعية ، وانسجاما ، وبعيدا عن النوازع النفسية التي ربما توحي للمعين والمعان بأمور من شأنها أن تعقد العلاقات بينهما نفسيا على الأقل.

وقد رأينا : أن البعض يتوهم ترتب التوارث على هذه المؤاخاة دون الرحم ، وذلك يدل على عمق تأثير هذا الحدث في المسلمين ؛ في روحياتهم وفي علاقاتهم على حد سواء.

وعلى كل حال ، فلقد آخى الرسول «صلى الله عليه وآله» قبل الهجرة فيما بين المهاجرين ، على الحق والمواساة ؛ فآخى بين أبي بكر وعمر ، وبين حمزة وزيد بن حارثة ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير وابن مسعود وبين عبادة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين سعيد بن زيد وطلحة ، وبين علي «عليه السلام» ونفسه «صلى الله عليه وآله» ، وقال : أما ترضى أن أكون أخاك؟.

قال : بلى يا رسول الله رضيت.

قال : فأنت أخي في الدنيا والآخرة (١).

وسيأتي إن شاء الله في الجزء الرابع من هذا الكتاب : أن النبي «صلى الله

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٥ عن الإستيعاب.

وراجع ايضا : تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٥٣ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٤ وتلخيصه للذهبي.

١٦٧

عليه وآله» قد آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة.

ولسوف نذكر طائفة من مصادر حديث المؤاخاة هناك إن شاء الله ونذكر إنكار ابن تيمية وغيره لحديث مؤاخاة مهاجري لمهاجري ، وجوابه ، ثم نعلق على حديث المؤاخاة بما نراه مناسبا ؛ فإلى هناك.

إبتداء هجرة المسلمين إلى المدينة :

ويقول المؤرخون : إن بيعة العقبة الثانية قد كانت قبل هجرة الرسول «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة بثلاثة أشهر.

ويقولون أيضا : إنه بعد أن عقد النبي «صلى الله عليه وآله» بيعة العقبة الأولى ـ على الظاهر ـ مع أهل المدينة ولم يقدر أصحابه أن يقيموا بمكة بسبب إيذاء المشركين ، ولم يصبروا على جفوتهم ، رخص لهم «صلى الله عليه وآله» بالهجرة إلى المدينة.

وبقي «صلى الله عليه وآله» بمكة ينتظر أن يؤذن له.

فخرجوا أرسالا ، حتى أذن الله سبحانه لنبيه الأكرم «صلى الله عليه وآله» بالهجرة ، كما سيأتي.

المثل الأعلى :

وجدير بالتسجيل هنا : أن نرى المسلم الحقيقي يضحي بوطنه الذي نشأ وعاش فيه ، وبكل ما يملك من متاع الحياة الدنيا ، وبعلاقاته الاجتماعية ، وروابطه النسبية ويقدم على معاداة الناس كلهم ، حتى آبائه ، وإخوانه وأبنائه.

ويخرج من بلده ومسقط رأسه ليواجه مستقبلا يعرف أنه مليء

١٦٨

بالأحداث والأخطار ، كل ذلك في سبيل هدفه ودينه وعقيدته.

وهو أروع مثل نستفيده من عملية الهجرة ، سواء في ذلك الهجرة إلى المدينة ، أو الهجرة إلى الحبشة.

هجرة عمر بن الخطاب :

ومما يلفت النظر هنا ما يقال عن كيفية هجرة عمر بن الخطاب ، حيث يروون عن علي «عليه السلام» أنه قال : ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا ، إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه ، وتنكب قوسه ، وانتضى في يديه أسهما ، واختصر عنزته ، ومضى قبل الكعبة ، والملأ من قريش بفنائها ، فطاف بالبيت سبعا ، ثم أتى المقام فصلى ركعتين ، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة ؛ فقال : شاهت الوجوه ، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس ، فمن أراد أن تثكله أمه ، أو يؤتم ولده ، أو ترمل زوجته ، فليلقني وراء هذا الوادي.

قال علي رضي الله عنه : فما تبعه أحد ، ثم مضى لوجهه (١).

ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام ، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة ، وذلك :

أولا : لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره ، من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفا ، حتى جاءه العاص بن وائل ، فأجاره ، فخرج حينئذ.

__________________

(١) منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٤ ص ٣٨٧ عن ابن عساكر ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١ و ٢٢ ، وأشار إلى ذلك في نور الأبصار ص ١٥. وكنز العمال ج ١٤ ص ٢٢١ و ٢٢٢ عن ابن عساكر.

١٦٩

وفي بدر تكلم وأساء الكلام ، حيث كان يجبّن النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين.

ثانيا : إن مواقفه الحربية كانت عموما غير مشجعة لنا على تصديق مثل هذا الكلام فلقد فر في أحد ، وفر في حنين ، رغم أنه يرى الخطر يتهدد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» فلا يلتفت إليه ، ولا يفكر إلا في الحفاظ على نفسه.

وأما فراره في خيبر فهو أعجب وأعجب حيث إنه كان معه من يدافع ويحامي عنه.

أما في واقعة الخندق ففر فيها أيضا كما أنه لم يجرؤ على الخروج إلى عمرو بن عبد ود.

وحينما أخذ النبي «صلى الله عليه وآله» سيفا في أحد ، وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه؟! فطلبه أبو بكر وعمر ، فلم يعطهما إياه. وأعطاه أبا دجانة. إلى غير ذلك مما لا مجال له هنا ، ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى حين الكلام عن الغزوات المشار إليها.

والغريب في الأمر : أننا لم نر ولم نسمع : أن عمر ، وأبا بكر ، وعثمان قد قتل واحد منهم أحدا ، أو بارز إنسانا ، وما ذكر من ذلك قد ثبت عدم صحته.

كما أنه لم يجرح أي من هؤلاء ولا دميت له يد ولا رجل في سبيل الله ، مع أن أعاظم صحابته «صلى الله عليه وآله» قد أصيبوا في الله وضحوا في سبيله ، الأمر الذي يشير إلى أن هؤلاء كانوا شجعانا في الرخاء ، غير شجعان عند اللقاء.

١٧٠

ثالثا : لقد أشرنا فيما سبق إلى أنه لم يجرؤ على أن يأخذ رسالة النبي «صلى الله عليه وآله» للمكيين في عام الحديبية ، بحجة : أن بني عدي لا ينصرونه إن أوذي!!

فمن كانت هذه فعاله في تلك المواقع الصعبة هل يحتاج إلى بني عدي ، أو إلى غيرهم؟!.

رابعا : قال أبو سفيان في فتح مكة للعباس ، حينما كانا يستعرضان الألوية ، فمر عمر وله زجل : «يا أبا الفضل ، من هذا المتكلم؟! قال : عمر بن الخطاب.

قال : لقد أمر أمر بني عدي بعد ـ والله ـ قلة وذلة.

فقال العباس : يا أبا سفيان إن الله يرفع من يشاء بما يشاء ، وإن عمر ممن رفعه الإسلام (١).

خامسا : إنهم متفقون على أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» كان أشجع البشر دون استثناء ، بل سيأتي أن بعضهم يحاول ادعاء أشجعية أبي بكر على سائر الصحابة ـ وإن كان سيأتي أن العكس هو الصحيح ـ ونحن نرى في حديث الهجرة أن النبي «صلى الله عليه وآله» يختفي في الغار ، حذرا من المشركين ، كما أن أبا بكر يخاف ويبكي ، رغم كونه مع النبي الأعظم ، الذي يتولى الله رعايته وحمايته ، وظهرت له آنئذ الكثير من المعجزات الدالة على ذلك.

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ٢ ص ٨٢١ وعن كنز العمال ج ٥ ص ٢٩٥ عن ابن عساكر من طريق الواقدي.

١٧١

وقد ذكر الله خوف وحزن أبي بكر في القرآن ، فكيف يخاف أبو بكر ويحزن مع أنه إلى جانب رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي يتولى الله حمايته ورعايته ، مع ادعاء محبي أبي بكر أنه أشجع الصحابة بعد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ـ نعم كيف يخاف أبو بكر ولا يخاف عمر؟!

ولماذا يعمل الرسول بالحزم ، ويراعي جانب الحذر من قريش ، ولا يفعل ذلك عمر بن الخطاب؟!

ولماذا لم يحم عمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، حتى يخرجه من مكة إلى المدينة؟!.

ولماذا يرضى عمر للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يتحمل كل هذه الصعاب والمشاق ، حتى يتمكن من التخلص من الورطة التي هو فيها؟!

بل إذا كان لعمر هذه الشجاعة والشدة ؛ فلماذا يضطر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الهجرة؟ فليحمه هذا البطل الشجاع ، وليرد عنه بعض ما كانت قريش تؤذيه به؟

مع أنه تقدم : أنه حينما أسلم لم يستطع أن يحمي نفسه حتى أجاره خاله ، من مواصلة إلحاق الأذى به.

ثم إننا لا ندري لماذا لم يحدثنا التاريخ عن موقف مماثل لحمزة بن عبد المطلب ، أسد الله وأسد رسوله ، الذي شج رأس أبي جهل شجة منكرة ، وعز المسلمون بإسلامه؟!.

ولماذا يترك النبي والهاشميين محصورين في الشعب ، يكادون يهلكون جوعا ، ولا يجرؤ أحد على أن يوصل لهم شيئا من طعام؟!.

لأن عمر عند هؤلاء قد أسلم قبل الحصر في الشعب ، وإن كنا أثبتنا في

١٧٢

ما تقدم بشكل قاطع : أنه قد أسلم قبل الهجرة بقليل. إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لن تجد لها عند هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.

ما هي الحقيقة إذا؟!

ولكن الحقيقة هي : أن هذا التهديد والوعيد إنما كان من أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ، حينما هاجر ، ولحقه سبعة من المشركين في ضجنان وسيأتي تفصيل القضية حين الكلام على هجرة أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بعد هجرة النبي «صلى الله عليه وآله».

ولكن أعداء علي «عليه السلام» لم يستطيعوا أن يتحملوا أن يروا هذه الكرامة له ، ولا سيما بعد ما أثبت صحتها بمبيته على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة.

وكما كان يبيت على فراش رسول الله «صلى الله عليه وآله» مدة ثلاث سنين ، يقيه بنفسه حينما كانوا محاصرين في شعب أبي طالب «رحمه الله».

فلما لم يكن إلى إنكارهم مبيته على الفراش سبيل أغاروا على فضيلته الأخرى ـ كعادتهم ـ فاستولوا عليها ، ونسبوها إلى غيره ـ وعظموا من شأن أبي بكر في الغار ـ كما سيأتي حين الكلام على الهجرة إن شاء الله تعالى.

بل إنهم لم يرضوا إلا أن تكون فضيلة عمر على لسان عليّ نفسه ، كما عودونا في مناسبات كهذه ، فإن ذلك أوقع في النفس ، وأبعد عن الشبهة ، وأدعى إلى القبول. ولكن الله تعالى يقول : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(١) ، وهكذا كان.

__________________

(١) الآية ١٨ من سورة الأنبياء.

١٧٣

ماذا عن الهجرة إلى المدينة؟

لقد أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، تمهيدا لخروجه هو «صلى الله عليه وآله» إليها أيضا ، وقال لهم : إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها ، فهاجر إليها المسلمون ، بعضهم سرا ، وبعضهم علانية ، مضحين بوطنهم ، وبعلاقاتهم ، وكثير منهم بثرواتهم ، ومكانتهم الاجتماعية وكل شيء ؛ في سبيل دينهم ، وعقيدتهم.

وهذا معناه : أن الدين والعقيدة فوق وأغلى من كل شيء ؛ فالوطن ، والمال ، والجاه ، وكل شيء لا قيمة له ، إذا كان الدين مهددا بالخطر ؛ لأن الحفاظ على الدين الصحيح ، معناه الحفاظ على الوطن والمال وكل شيء ، وبدونه يكون كل شيء في معرض الزوال ، إن لم يكن عبئا ، أو فقل : خطرا يتهدد هذا الإنسان في كثير من الظروف والأحوال.

قريش والهجرة :

وقد قدمنا بعض الكلام حول الهجرة ، وموقف قريش منها حين الكلام على هجرة الحبشة فلا نعيد ، وإذا كانت قريش قد قاومت الهجرة إلى الحبشة بذلك الشكل القوي ، حتى لقد حاولت استرجاع المسلمين من أرض الحبشة ، فماذا عساها يكون موقفها من الهجرة إلى المدينة ، والتي ترى فيها أعظم الخطر على مصالحها ، وعلى وجودها ومستقبلها؟!.

لقد حاولت أن تمنع المسلمين من الهجرة بمختلف الوسائل ، فكانت تحبس من تظفر به منهم ، وتفتنه عن دينه ، وتمارس ضده مختلف أساليب القهر والقسوة ، فلم تنجح ولم تفلح وهي من الجهة الأخرى ترى نفسها عاجزة عن التصفية الجسدية لأكثر المسلمين ؛ لأن المهاجرين كانوا ـ عموما ـ من القبائل

١٧٤

المكية ، وليس قتل أي منهم إلا سببا في إثارة حرب أهلية بين المشركين أنفسهم ، وهذا ولا شك ليس في مصلحة قريش في أي حال.

ويشهد لما ذكرناه ما حصل لأبي سلمة حينما خرج بزوجته وولده ، فقام إليه رجال من بني المغيرة فأخذوا زوجته منه ؛ لأنها منهم ، فثار بنو عبد الأسد ، قبيلة الزوج ؛ فانتزعوا سلمة من أمه (١).

وأدركت قريش : أن هذه الهجرة الواسعة سوف تعقبها هجرة الرسول الأعظم نفسه ؛ ليمارس بحرية تامة عملية الريادة ، والقيادة ، والهداية بشكل أوسع وأعمق.

ولسوف يحميه المدنيون بكل ما لديهم ، فلم يكن لديها همّ إلا المنع من تحقق ذلك بأي وسيلة تقدر عليها ، أو حيلة تهتدي إليها.

__________________

(١) البداية ج ٣ ص ١٦٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢١٥ و ٢١٦.

١٧٥
١٧٦

الفصل الثاني :

هجرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله

١٧٧
١٧٨

المؤامرة :

واجتمع أشراف قريش في دار الندوة ، ولم يتخلف منهم أحد : من بني عبد شمس ، ونوفل ، وعبد الدار ، وجمح ، وسهم ، وأسد ، ومخزوم وغيرهم ، وشرطوا : أن لا يدخل معهم تهامي ، لأن هواهم كان مع محمد «صلى الله عليه وآله» (١).

كما أنهم قد حرصوا : على أن لا يكون عليهم من الهاشميين ، أو من يتصل بهم عين أو رقيب (٢).

وتذكر الروايات : أن إبليس قد دخل معهم بصفة شيخ نجدي (٣) ، وتشاوروا فيما بينهم ما يصنعون بمحمد؟ فذكروا الحبس في الحديد ، فرأوا أن من الممكن أن يتصل بأنصاره ، ويطلقوا سراحه ، وذكروا النفي إلى بعض البلاد فرأوا أن ذلك يمكن الرسول من نشر دينه ، فاستقر رأيهم أخيرا على اقتراح أبي جهل ، أو إبليس بأن يأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا قويا ، حسيبا

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٥ ، وراجع نور الأبصار ص ١٥.

(٢) راجع المصادر السابقة.

(٣) تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٦٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٧٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٢١ و ٣٢٢.

١٧٩

في قومه ، نسيبا ، وسطا ، ويعطى كل منهم سيفا صارما ، ويدخلوا على النبي «صلى الله عليه وآله» بأسيافهم ؛ فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيقتلونه ويتفرق دمه في القبائل ، لأن بني عبد مناف لا يقدرون على حرب قومهم جميعا ، فيضطرون إلى القبول بالدية ، فيعطونهم إياها ، وينتهي الأمر.

ومن الواضح : أنه حين يكون القاتل واحدا ومن قبيلة بعينها ، فإنه حتى لو أرادت بعض القبائل أن تتحالف مع قبيلة القاتل ضد الهاشميين ، فسوف يجد بنو هاشم أيضا من القبائل الأخرى من يتحالف معهم ، كما كان الحال بالنسبة لحلف المطيبين ، مقابل حلف لعقة الدم.

لا سيما أن المواصفات المتقدمة التي اعتبروها في الرجال العشرة ، إنما هي من أجل أن لا تفكر أية قبيلة في تسليم صاحبها ، لأنها لو سلمته فسوف يصبح الهاشميون أكثر قدرة على ضرب قريش ، مهما كانت الضربة محدودة.

كما أن هذه المواصفات التي ذكرت للقتلة ، تجعل الذين يقدمون على اقتراف تلك الجريمة أكثر ثقة وإقداما على هذا الأمر الخطير ، الذي لا يجوز التردد ولا الضعف والوهن فيه.

وعلى كل حال ، فقد أخبر الله تعالى نبيه بهذه المؤامرة عن طريق الوحي ، ونزل قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)(١).

والمكر الإلهي هنا : هو التدبير السري لإفشال عمل يعزم عليه الغير.

__________________

(١) الآية ٣٠ من سورة الأنفال.

١٨٠