الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

شد العقدة له «صلى الله عليه وآله» هو العباس بن نضلة الأنصاري (١) وليس العباس بن عبد المطلب.

ولذا يلاحظ مدى التشابه بين كلاميهما المنقول والمنسوب إليهما ، فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي بين العباسين ؛ لتشابه الاسمين ، أو لعل العباسيين أرادوا إثبات فضيلة جليلة لجدهم ، بهدف الحصول على مكاسب من نوع معين ، ولعل ، ولعل.

أبو بكر في العقبة :

وتذكر بعض الروايات الشاذة : أن أبا بكر قد حضر العقبة ، وقد جعله العباس على فم الشعب.

ونحن لا نطيل في بيان بطلان هذا ، بعد أن كانت سائر الروايات تنص على أنه لم يكن إلا حمزة ، وعلي ، والعباس.

مع الشك في هذا الأخير أيضا ، وأن حمزة وعليا قد خرجا إلى فم الشعب حينما علمت قريش بالأمر ، وهاجت بالسلاح وذلك في أواخر لحظات الاجتماع ، حسبما تقدم.

حمزة وعلي عليهما السّلام في العقبة :

إن كون الاجتماع في دار عبد المطلب ليقرب صحة ما ورد من أن حمزة وعليا قد حضرا بيعة العقبة ، خصوصا وأنه كان ثمة حاجة إليهما ، ليقفا ذلك الموقف البطولي الرائع في وجه قريش وخيلائها وجبروتها ؛ ليمنعاها

__________________

(١) الإصابة : ج ٢ ص ٢٧١ ، والبحار : ج ١٩ ، والسيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٧ ، والسيرة النبوية لدحلان : ج ١ ص ١٥٣.

١٤١

من دخول الشعب ، ويعطيا الفرصة للمجتمعين للتفرق (١).

حتى إذا دخلت قريش الشعب لم تجد أحدا ؛ فترفع الأمر إلى ابن أبي ؛ فينكر ذلك.

ولو لا موقفهما ذاك لكانت قد جرت الأمور على غير ذلك النهج ، ولوقع المسلمون في مأزق حرج وخطير جدا.

والغريب في الأمر : أننا نجد عددا من الروايات لا تذكر حضور أمير المؤمنين «عليه السلام» ، وأسد الله وأسد رسوله ، مع أنها هي نفسها تذكر قضية تجمهر وهياج قريش ، وغضبها من الاجتماع!!

وإن كانت تسكت عن هجومها على الشعب ، ودفع حمزة وعلي لها ، بل تكتفي بذكر لقائها مع ابن أبي ، ثم تتبعها للمسلمين ، وظفرها بابن عبادة إلى آخر ما تقدم ، وقد فات هؤلاء : أن قريشا التي عرفت بالاجتماع بعد انفضاضه فغضبت ، وهاجت ، ثم اتصلت بابن أبي ، فأنكر ذلك ، ثم بعد انصراف الحاج لحقت بالمسلمين ، وآذت سعد بن عبادة إلخ ، لا يمكن أن تسكت عن الهجوم على محل الاجتماع ، وأخذ الأنصار والنبي «صلى الله عليه وآله» بالجرم المشهود ، وتكون حينئذ معذورة أمام من تريد الاعتذار منهم ، فلماذا سكتت هنا ، وغضبت وتصرفت بعنف هناك؟

وعلى كل حال ، فقد عودنا هؤلاء أن نرى منهم كثيرا من أمثال هذه

__________________

(١) ويحتمل البعض : أن بعض سفهاء قريش ـ وليس كل قريش ـ قد حاولوا دخول الشعب فصدهم علي وحمزة ولكننا نقول لا مانع من تجمهر قريش .. ولكن عليا وحمزة أعاقا وصولها إلى مكان الاجتماع إلى حين تفرق المجتمعين.

١٤٢

الخيانات للحق وللدين ؛ لأهداف دنيوية رخيصة ، وصدق المثل الذي يقول : «لأمر ما جدع قصير أنفه».

ولعلك تقول : كيف يمكن لرجلين : أن يقفا في وجه قريش ويرداها على أعقابها؟! وهي في إبان غضبها ، وأعلى درجات تحمسها.

والجواب : أن الرجل الواحد أيضا كان يكفي لرد كيد قريش ، وذلك لأن هذا الرجل أو هذين الرجلين يقف أو يقفان على فم الشعب ، حيث لا يمكن أن يعبر إلا أفراد أو جماعات صغيرة يمكن ردها على أعقابها برد الفئة الأولى منها.

وقد كان يقال : إن عمرو بن عبد ود ـ الذي قتله أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ يعد بألف فارس ، وذلك لأنه وقف على فم الوادي ، ومنع ألف فارس من ورودها ، ولم يمكن دخول الألف إلا متفرقين بسبب ضيق المكان.

سرية الاجتماع ، والتقية.

إن المحافظة على سرية الاجتماع ، التي بلغت الحد الذي لم يستطع حتى من كانوا ينامون مع المسلمين : أن يشعروا بشيء ، ولا عرفوا بغيبة رفقائهم ، وكذلك الحال في موعد الاجتماع ومكانه ، والطريقة التي تم بها ، رغم ضخامته ، واتساع نطاقه ـ إن كل ذلك ـ ليعتبر مثلا رائعا ، ودليلا قويا على مدى وعي أولئك المسلمين ويقظتهم ، وحسن تدبيرهم.

كما أنه برهان آخر على أن اللجوء إلى عنصر السرية لا يعتبر تخاذلا ، إذا كان المسلمون لا يملكون مقومات الدفاع عن أنفسهم في مقابل قوى الظلم والطغيان.

١٤٣

وهو دليل آخر على أن التقية التي يقول بها الشيعة وأهل البيت ، ونزل بها القرآن وتحكم بها الفطرة والعقل السليم هي الأسلوب الصحيح في التعامل مع الواقع بمرونة ، ووعي ، حينما يكون الباطل هو القوي ماديا ولا يملك أهل الحق ما يدفع عنهم أو يمنع.

وقد تحدثنا عن موضوع التقية فيما سبق فلا نعيد.

شروط البيعة :

ونجد هنا : أن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» قد أخبرهم بما سوف يعترض طريقهم من مشاكل وصعوبات في سبيل نشر الدعوة ، والدفاع عنها ، ليكونوا على علم مسبق بذلك ، وعلى بصيرة من أمرهم ، ومن دون أي إبهام أو غموض ، حتى لا يترك لهم في المستقبل مجالا للاعتذار بأنهم ما كانوا يعرفون : أن الأمر سوف ينتهي بهم إلى ما انتهى إليه من مصاعب ومتاعب.

بل هو لا يريد أن يشعروا في أنفسهم بالغبن ، أو حتى أن يمر ذلك في وهمهم وخيالهم على الإطلاق.

وهو بذلك يدلل لكل أحد على أنه لا يريد أن يخدع أحدا بالوعود الخلابة ، ولا أن يجعلهم يعيشون الآمال والأحلام الفارغة لأن الوسيلة عنده جزء من الهدف ، رغم أنه في أمس الحاجة إلى نصرتهم ، بل هو لم يجد طيلة فترة دعوته غيرهم.

لماذا النقباء؟!

وإن من طبيعة العربي الالتزام بالعهد ، والوفاء بالذمار وتعتبر كل

١٤٤

قبيلة : أنها مسؤولة عن الوفاء بما يلتزم به أحد أفرادها ، أو حلفائها عليها.

وعند ما بايع الأنصار النبي على الإيمان والنصرة ـ حسبما تقدم ـ أراد أن يلزمهم ذلك بشكل محدد ، بحيث يستطيع أن يجد في المستقبل من يطالبه بالوفاء بالالتزامات والعهود ، وكان أولئك النقباءهم الذين يتحملون مسؤولية الوفاء بتلك الالتزامات.

وهم الذين يمكن مطالبتهم بذلك ، لأنهم هم الكفلاء لقومهم ، برضى منهم ومن قومهم على حد سواء.

أما إذا ترك الأمور في مجاريها العامة ، فلربما يمكن لكل فرد أن يتملص ويتخلص من التزاماته ، ويلقي التبعة على غيره ، ويعتبر أن ذلك غير مطلوب منه ، ولا يمكن بحسب تصوره أن يكون هو كفرد مسؤولا عنه ، وأما بعد أن التزم ذلك أفراد معينون ، كل واحد منهم من قبيلة.

فإن المسؤولية قد أصبحت محدودة ، ويمكن مطالبتهم بالوفاء بالتزاماتهم ، كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، لا سيما في مواقف الحرب والدفاع.

وبذلك تبتعد القضية عن الأهواء الشخصية ، والأهم من ذلك عن الفوضى في المواقف العامة ، وتدخل مراحل التنظيم والبناء الاجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.

المشركون في مواجهة الأمر :

يلاحظ : أن المشركين قد اهتموا لأمر هذه البيعة جدا ، حتى إنهم تهددوا أهل المدينة بالحرب ، مستغلين بذلك ضعف المجتمع المدني ، وتفككه بسبب الحروب الداخلية بين الأوس والخزرج.

١٤٥

نعم ، إنهم يهددونهم بالحرب ، رغم أن حربا كهذه لسوف تجر عليهم أخطارا جسيمة من وجهة نظر اقتصادية ، لأن قوافلهم إلى الشام ، محل تجارتهم المفضل ، كان طريقها على المدينة.

مما يعني : أن المشركين كانوا يرون في هذه البيعة خطورة قصوى ، تجعلهم يضطرون إلى التضحية بعلاقاتهم الحسنة مع كل من يتقبل هذه الدعوة ويناصرها ، حتى ولو كانوا أهل المدينة ، الذين كانوا يكرهون جدا أن تنشب الحرب فيما بينهم وبينهم ، كما تقدم قولهم ذلك لابن أبي.

كما أن ذلك يدلنا على مدى ما كان يتعرض له المسلمون في مكة من ظلم واضطهاد.

منازعة الأمر أهله :

قد تقدم أن من جملة ما اشترطه الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» على أهل المدينة في ضمن نص البيعة ، هو أن لا ينازعوا الأمر أهله.

وإن اشتراط ذلك في نص بيعة حساسة جدا في تاريخ الإسلام ، ويتقرر مصير الإسلام على نجاحها وعدمه ، وتعريض هذه البيعة لخطر الرفض والانفصام ، فيما لو رفضوا الالتزام بذلك ـ كما كان الحال بالنسبة لبني عامر ، حسبما تقدم ـ إن ذلك لمما يدل على أن هذا الأمر كان له أهمية قصوى بالنسبة للرسول «صلى الله عليه وآله» الذي كان رأيه يمثل رأي الإسلام الواقعي.

ويوضح أنه لن يتنازل عنه ولو تعرض لأعظم الأخطار ، مما يعني : أن هذا الأمر ليس له ، وإنما هو لله يضعه حيث يشاء ، وأن هذا هو الأمر الذي إذا لم يبلّغه فما بلغ رسالة ربه سبحانه وتعالى.

١٤٦

ويمكن أن نفهم من ذلك أيضا : أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» كان من أول الأمر يمهد السبيل لجهة معينة وإلا ، فكيف ينهى الناس عن منازعة الأمر أولئك الأهل المخصوصين والمؤهلين للملك والخلافة ، ثم ينسى أن يعيّن شخص ذلك الخليفة منهم وليعطف ذلك على ما تقدم من تعيينه ذلك الشخص حين إنذار عشيرته الأقربين؟!.

ثم على ما يأتي بعد من مواقف وتصريحات وكنايات له «صلى الله عليه وآله» ، ولا سيما في قضية الغدير.

النبي صلّى الله عليه وآله لم يؤمر بالحرب بعد :

كما أننا نجده «صلى الله عليه وآله» لا يأذن للمجتمعين في العقبة بأن يميلوا على قريش بأسيافهم ؛ لأن معنى ذلك هو القضاء على هذا الدين ، وعلى حماته الأبرار ، ولا سيما مع قلتهم ، وكونهم في الموسم ، الذي تجتمع فيه الناس من كل حدب وصوب ، وكلهم على نهج وطريقة ومذاق قريش ، ويدورون في فلكها دينيا وعقائديا وفكريا ، وحتى مصلحيا أيضا.

ولن تكون هناك أية فرصة لانتصار الأنصار على عدوهم في بلاده ، وقريش التي ترى في المدينة أهمية خاصة لأنها على طريق قوافلها إلى الشام ـ ولأجل ذلك أطلقت سعد بن عبادة ـ ، لن تسكت على موقف الأنصار هذا.

ويكون لها كل الحق أمام أهل الموسم ، وحتى أمام المدنيين المشركين في أن تضربهم الضربة القاصمة والقاضية ، لأنهم في موقف المعتدي ، وعلى قريش أن ترد هذا الاعتداء بالكيفية وبالحجم الذي تراه مناسبا.

١٤٧
١٤٨

الباب الرابع

من مكة إلى المدينة

الفصل الأول : إبتداء الهجرة إلي المدينة

الفصل الثاني : هجرة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله

الفصل الثالث : إلي قباء الفصل الرابع : حتى المدينة

١٤٩
١٥٠

الفصل الأول :

ابتداء الهجرة إلى المدينة

١٥١
١٥٢

حب الوطن من الإيمان :

لقد ورد عنهم «عليهم السلام» أن «حب الوطن من الإيمان» (١) وإننا بغض النظر عن سند هذا الحديث.

لربما يصعب علينا ـ لأول وهلة ـ تصور معنى سليم ومقبول لهذه الكلمة ؛ إذ لماذا يكون حب الوطن من الإيمان؟!

وهل يمكن أن يكون لهذا التراب بما هو تراب ، ولد الإنسان عليه ، وعاش في أجوائه ، مهما كان وضعه الجغرافي سيئا ، قيمة واحترام إلى حد أن يعتبر حبه من الإيمان؟ وبسوى هذا الحب ، فإن الإيمان يكون ناقصا ، وليس فيه تلك الفاعلية المتوخاة؟.

وإننا في مقام الإجابة على هذا السؤال ، نقول : إن هذا الحب الذي يهتم به الإسلام لا يمكن أن يكون حبا عشوائيا ، لا هدف له ، ولا فائدة منه ، ولا في خط مخالف للإسلام.

وإنما هو حب منسجم مع أهداف الإسلام العليا ، ومن منطلق إيماني واقعي إلهي ، فإنه «من الإيمان».

__________________

(١) سفينة البحار ج ٢ ص ٦٦٨.

١٥٣

كما أن الوطن الذي يعتبر الإسلام حبه من الإيمان ، ليس هو محل ولادة الإنسان ، وإنما هو الوطن الإسلامي الكبير ، الذي يعتبر الحفاظ عليه حفاظا على الدين والإنسانية ، لأن به يعز الدين ، وتعلو كلمة الله ، وهو قوة للإسلام ، لأنه محل استقرار وهدوء ، وموضع بناء القوة فكريا وروحيا وماديا ، ثم الحركة على صعيد التنفيذ للانتقال إلى الوضع الأفضل والأمثل.

أما حيث الغربة وعدم الاستقرار ، فهناك الضياع ، وهدر الطاقات ، وحيث لا يجد الإنسان الفرصة للتأمل والتفكير في واقعه ، ولا في مستقبله ، ولو أنه استطاع ذلك ، فلسوف لا يستطيع تنفيذ قراراته ، لعدم المركزية التي تمنحه الحركة المنظمة ، والثابتة ، ثم التركيز والاستمرار.

نعم ، إن الوطن ليس إلا وسيلة للدفاع عن الدين والحق ، وللوصول إلى الأهداف الخيّرة والنبيلة ، فالدين والإنسان هو الأصل ، والوطن وغيره لا بد أن يكون في خدمة هذا الدين ، ومن أجل ذلك الإنسان.

فمن يحافظ على وطنه ، ويحبه بدافع الحفاظ على الإسلام وحبه ، فإن حفاظه وحبه هذا يكون من الإيمان.

وأما إذا كان الوطن وطن الشرك والكفر والانحراف ، والانحطاط بإنسانية الإنسان :

فإن الحفاظ على وطن كهذا وحبه يكون حفاظا على الشرك وتقوية له ، كما أن حبه هذا يكون من الكفر والشرك ، لا من الإيمان والإسلام.

ومن أجل ذلك فقد حكم الإسلام والقرآن على من كان في بلاد الشرك ، وكان بقاؤه فيها موجبا لضعف دينه وإيمانه : أن يهاجر منها إلى بلاد الإيمان والإسلام ، إلى حيث يستطيع أن يحتفظ بدينه قويا فاعلا ، وبإنسانية

١٥٤

خلاقة نبيلة ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)(١).

بل إن محل ولادة الإنسان إذا كان يحارب الدين الحق ، ويسعى في إطفاء نور الله ، فإنه يجب تدميره على كل أحد حتى على نفس هذا الذي ولد وعاش فيه (٢).

ومن هنا نعرف : أن هجرة النبي «صلى الله عليه وآله» وأصحابه من مكة إلى المدينة كانت هجرة طبيعية ومنسجمة مع مقتضيات الفطرة والعقل السليم والفكر الصحيح ، الذي يلاحظ سمو الهدف ونبل الغاية ، ويقيم كل شيء انطلاقا من ذلك الهدف ، وعلى طريق الوصول والحصول على تلك الغاية.

وليكن هذا تمهيدا للحديث عن ظروف الهجرة وعواملها وأحداثها ، في حدود ما يتناسب مع هذا الكتاب ، فنقول :

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة النساء.

(٢) ويرى العلامة المحقق الشيخ علي الأحمدي : أن معنى حب الوطن من الإيمان : أن من يحب وطنه فإنه يسعى إلى تنقيته من الانحرافات ، وحل مشاكله ، وهداية مجتمعه إلى طريق الحق والإيمان والإسلام ، لأن الإيمان هو الذي يدفعه إلى ذلك ، كما هو معلوم.

١٥٥

دوافع الهجرة من مكة إلى المدينة :

إننا بالنسبة لدوافع الهجرة من مكة إلى المدينة يمكننا الإشارة إلى ما يلي :

أولا : إن مكة لم تعد أرضا صالحة للدعوة ، فقد حصل النبي «صلى الله عليه وآله» منها على أقصى ما يمكن الحصول عليه ، ولم يبق بعد أي أمل في دخول فئات جديدة في الدين الجديد ، في المستقبل القريب على الأقل.

وقد كان ثمة مبرر لتحمل الأذى والمصاعب ، حينما كان يؤمل أن تدخل في الإسلام جماعات تقويه ، وتشد من أزره.

أما بعد أن أعطت مكة كل ما لديها فأخرجت جماعات من شبان المؤمنين ، ومن المستضعفين ، ولم يبق فيها إلا ما يوجب الصد عن سبيل الله ، ويضع الحواجز والعراقيل الكثيرة أمام تقدم هذا الدين ، ويمنع من انتشاره واتساعه ؛ فإن البقاء في مكة ليس فقط لا مبرر له ، بل هو خيانة للدعوة الإسلامية ، ومساعدة على حربها ، والقضاء عليها ، ولا سيما بعد أن جندت قريش كل طاقاتها للصد عن سبيل الله ، وإطفاء نوره ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.

نعم ، لقد كان لا بد من الانتقال إلى مركز آخر ، تضمن الدعوة فيه لنفسها حرية الحركة ، في القول والعمل ، بهدوء بال ، واطمئنان خاطر ، بعيدا عن ضغوط المشركين ، وفي منأى عن مناطق سيطرتهم ونفوذهم.

وقد رأينا : أنهم كانوا يلاحقون تحركات النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويرصدونها بدقة ، ويتهددون ، بل ويعذّبون كل من يدخل في هذا الدين الجديد ، ويخيفون كل من يحتمل دخولهم فيه.

ثانيا : إن الإسلام وممثله وداعيته الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله»

١٥٦

لا يمكن له أن يقتنع بهذا النصيب المحدود من التقدم ، لأن دينه دين البشرية جمعاء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(١).

وما حصل عليه حتى الآن لا يمكّنه من تطبيق تشريعات الإسلام كافة ، وتحقيق كامل أهدافه ، ولا سيما بالنسبة إلى ذلك الجانب ، الذي يعالج مشاكل الناس الاجتماعية وغيرها ، مما يحتاج إلى القوة والمنعة في مجال فرض القانون والنظام.

ومن الناحية الأخرى : إنه إذا كان بنو عبد المطلب والهاشميون قد استطاعوا أن يؤمنوا الحماية لشخص الرسول من اعتداءات الآخرين على شخصه الكريم ، فإنهم لم ولن يستطيعوا أن يؤمنوا له القدرة على حماية أصحابه ، الذين دخلوا في هذا الدين ، وقبلوا رسالة السماء.

فضلا عن أن يتمكنوا من تأمين الحد الأدنى من الحماية له ، فيما لو أراد أن يتوسع في نشر رسالة الإسلام ، وفرض هيمنة هذا الدين وسلطانه ، إذا احتاج الأمر إلى ذلك.

وأما بعد وفاة أبي طالب «رحمه الله» فإن الأمور قد تطورت بشكل مخيف ، حتى بالنسبة إلى شخص النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، كما رأينا وسنرى.

ثالثا : ولقد صمد أولئك الذين أسلموا سنوات طويلة في مواجهة التعذيب والظلم والاضطهاد ، حتى لقد فر قسم منهم بدينه إلى بلاد الغربة ، وبقي الباقون يواجهون محاولات فتنتهم عن دينهم ، بمختلف وسائل القهر

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة سبأ.

١٥٧

تارة ، وبأساليب متنوعة من الإغراء أخرى.

وإذا استثنينا أشخاصا معدودين ، كحمزة أسد الله وأسد رسوله ، وبعض من كانت لهم عشائر تمنعهم (١) ، فإن بقية المسلمين كانوا غالبا من ضعفاء الناس ، الذين لا يستطيعون حيلة ، ولا يجدون سبيلا إلا الصبر ، وتحمل الأذى.

وإذا فرض عليهم أن يستمروا في مواجهة هذه الآلام والمشاق ، دونما أمل أو رجاء ؛ فمهما كانت قناعتهم بهذا الدين قوية وراسخة ؛ فإن من الطبيعي ـ والحالة هذه ـ أن يتطرق اليأس إلى نفوسهم ، ثم الهروب والملل من حياة كهذه.

وقد تستميلهم بعض الإغراءات العاجلة ، فيهلكون ويهلكون ؛ فإنه ليس بمقدورهم أن يقضوا حياتهم بالآلام والمتاعب.

بل إن بعضهم ـ كما سيأتي ـ يهم بالعودة إلى الشرك ، ويتطلب السبل لمصالحة مشركي مكة ، حينما أشيع في غزوة أحد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» وسلم قد قتل. وقد نزل في ذلك قرآن يتلى إلى يوم القيامة : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٢).

__________________

(١) وحتى هؤلاء فإنهم لم يسلموا من الاضطهاد النفسي والمقت الاجتماعي المر ، ولربما يكون ذلك بالنسبة لبعضهم أشد من التعذيب الجسدي ، تبعا لنسبة الوعي والشعور المرهف الذي كان يمتاز به بعضهم على غيره.

(٢) الآية ١٤٤ من سورة آل عمران.

١٥٨

رابعا : لقد رأت قريش أخيرا : أنها قد اهتدت للطريقة التي تستطيع بواسطتها أن تقتل النبي «صلى الله عليه وآله» ، دون أن تكون مسؤولة أمام الهاشميين بشكل محدد ، أو بالأحرى دون أن يستطيع الهاشميون أن يطالبوا بدم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وذلك بأن يقتله عشرة ، كل واحد منهم من قبيلة ، فيضيع دمه في القبائل ، ولا يستطيع الهاشميون مقاومتها جميعا ؛ لأنهم إما أن يقاتلوا القبائل كلها ، وتكون الدائرة عليهم ، وإما أن يقبلوا بالدية ، وهو الأرجح.

وإذا قتل النبي «صلى الله عليه وآله» ، فإن القضاء على غيره من أتباعه يكون أسهل وأيسر ، ولا يشكّل لقريش مشكلة ذات شأن.

بل وحتى لو تركوهم على ما هم عليه ، فإن أمرهم لسوف يصير إلى التلاشي والاضمحلال.

هكذا كانت تفكر قريش وتخطط ، وهو تفكير محكوم بالعصبية القبلية ، ولكنه ذكي جدا.

وبالإمكان تحقيق الأهداف الشريرة تجاه الرسول والرسالة من خلاله.

ولكن عناية الله سبحانه وإن كانت تشمل النبي «صلى الله عليه وآله» وترعاه ، إلا أن من الواضح : أن إقدام قريش على تنفيذ مخططاتها ـ فشلت أو نجحت ـ لسوف يعرض علاقاتها مع الهاشميين لنكسة خطيرة ، ولسوف تزيد مضاعفاتها بشكل مخيف ببقاء النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة.

كما أن سنة الله قد جرت على أن لا يحول بين أحد وبين تنفيذ إرادته ، بشكل قهري وقسري ، إلا بنحو من العنايات والألطاف التي تشمل ذلك النبي الذي يكون حفظه ضروريا لحفظ الدين والإنسان.

١٥٩

فإرادة الإنسان حرة طليقة ، ولكن الله يسدد ويلهم ويؤيد من تستهدفه تلك الإرادة بالشر والأذى.

وبعد كل ما تقدم يتضح : أنه كان لا بد للنبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، ولمن معه من المسلمين من الخروج من مكة إلى مكان أمن وسلام لا يشعرون فيه بأي ضغط ، يملكون فيه حرية الحركة ، وحرية الكلمة ، وحرية التخطيط لبناء مجتمع إسلامي يكون فيه النبي «صلى الله عليه وآله» قادرا على القيام بنشر دعوته ، وإبلاغ رسالته ، على النحو الأفضل والأكمل.

سر اختيار المدينة :

وأما عن سر اختيار النبي «صلى الله عليه وآله» ـ الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ـ للمدينة بالذات دارا لهجرته ، ومنطلقا لدعوته ، دون غيرها كالحبشة مثلا ؛ فذلك يرجع إلى عدة عوامل ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ إن مكة كانت ـ كما قدمنا ـ تتمتع بمكانة خاصة في نفوس الناس ، وبدون السيطرة عليها ، والقضاء على نفوذها الوثني ، واستبداله بالنفوذ الإسلامي ؛ فإن الدعوة تعتبر فاشلة ، وكل الجهود تبقى بدون جدوى ؛ فإن الدعوة كانت بحاجة إلى مكة ، بنفس القدر الذي كانت مكة بحاجة فيه إلى الدعوة.

فلا بد من اختيار مكان قريب منها ، يمكن أن يمارس منه عليها رقابة ، ونوعا من الضغط السياسي والاقتصادي ، وحتى العسكري إن لزم الأمر في الوقت المناسب ، حينما لا بد له من أن يفرض سلطته عليها.

والمدينة ، هي ذلك الموقع الذي تتوفر فيه مقومات هذا الضغط ، فهي تستطيع مضايقة مكة اقتصاديا ؛ لوقوعها على طريق القوافل التجارية المكية ، وقريش تعيش على التجارة بالدرجة الأولى.

١٦٠