الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-175-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٢

بقلوبهم ، ويصلح بك ذات بينهم ، ويؤلف بين قلوبهم» (١).

٣ ـ تعاليم الشريعة السمحاء :

إن تعاليم الإسلام لهي التعاليم الموافقة للفطرة السليمة ، وبلا تعقيد أو إبهام فيها ، فهي بسيطة وسهلة ، لا يحتاج إدراك حقانيتها إلى تفكير عميق ، أو إجهاد في فهم مراميها ، والتكهن بنتائجها.

ولذلك نجد أهل المدينة يدركون بسرعة قدرة هذه الدعوة على حل مشاكلهم ، فيسارعون إلى قبولها ، بمجرد سماعهم لأهدافها ، ومبادئها.

ومن الواضح : أن أهل المدينة كانوا لا يعانون من ظروف أهل مكة ، الذين يحاربون الإسلام لأنهم رأوا فيه خطرا على مصالحهم الشخصية ، وامتيازاتهم الظالمة التي فرضوها لأنفسهم ، وأهوائهم وانحرافاتهم ، كما أوضحناه في غير موضع.

إن أهل المدينة بالإضافة إلى إخبارات اليهود لهم ، قد رأوا منذ اللحظات الأولى في الإسلام وتعاليمه المنقذ لهم ، والمخرج من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، ورأوا فيه الموافقة للفطرة والعقل السليم ، سواء على صعيد العقائد أو التشريع ، أو على صعيد اتخاذ القرار الاجتماعي والسياسي ، فقد سألوا النبي «صلى الله عليه وآله» عما يدعو إليه ، فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأدعوكم إلى : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ،

__________________

(١) الثقات لابن حبان ج ١ ص ٩٠ و ٩١.

١٢١

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١).

ولأجل ذلك اعتقدوا بهذه الدعوة ، وحاربوا قريشا والعرب من أجلها وفي سبيلها.

٤ ـ المدنيون والمكيون :

إن الوثنية التي كان أهل المدينة يدينون بها لم تستطع أن تحل مشاكلهم الداخلية ، على اختلافها ، ولا حتى أن تخفف من حدتها.

كما أنها لم تكن تجلب لهم امتيازات اجتماعية ، ولا اقتصادية ولا غيرها ، ولذلك فقد ضعفت ووهنت ، وزاد في ضعفها ووهنها مخالفتها للفطرة السليمة ، والعقل القويم.

ثم جاءت إخبارات اليهود لهم بقرب ظهور نبي يخبر عن الله لتزيد من ذلك الضعف والوهن إلى حد بعيد.

وهذا تماما على عكس الحال في مشركي مكة ؛ فإنهم كانوا يستفيدون من وثنيتهم اجتماعيا واقتصاديا.

وجعلوا من أنفسهم محورا تلتقي عليه سائر الفئات والقبائل في المنطقة ، وكرسوا لأنفسهم الكثير من الامتيازات الظالمة ، ولم يكونوا على استعداد للتخلي عن هذه الامتيازات من أجل خدمة الحق والإنسان ، بل كانوا يضحون بالإنسان والحق في سبيل امتيازاتهم ، وانحرافاتهم ، ومصالحهم تلك.

__________________

(١) الآيتان ٥٢ و ٥٣ من سورة الأنعام.

١٢٢

هذا ، ولا بد من ملاحظة ما قدمناه حين الكلام على العوامل التي ساعدت على انتصار الإسلام وانتشاره ، لنجد :

أن شخصية الرسول العظيمة ، وأخلاقه الكريمة ، وكونه من أرفع بيت في قريش والعرب ـ ويضيف البعض : رابطة القربى ، التي كانت تربطه ببني النجار الخزرجيين ، عن طريق آمنة بنت وهب ـ (١).

كل ذلك وسواه مما تقدم قد أسهم في إقبال أهل المدينة على الإسلام ، وتقبل دعوته ، والتضحية في سبيله.

__________________

(١) ولكنه تعليل لا شاهد له ، ما دام أن مجرد وجود رابطة كذلك لا توجب ما ذكر.

١٢٣
١٢٤

الفصل الثالث :

بيعة العقبة

١٢٥
١٢٦

بيعة العقبة الأولى :

يقول المؤرخون :

إنه حينما عاد أولئك النفر المدنيون الذين أسلموا إلى المدينة ذكروا لأهلها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله «صلى الله عليه وآله».

حتى إذا كان العام المقبل أي في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وافى الموسم اثنا عشر رجلا اثنان منهم أوسيان ، والباقون من الخزرج ، فالتقوا مع الرسول «صلى الله عليه وآله» في العقبة ، وبايعوه على بيعة النساء ، أي البيعة التي لا تشتمل على حرب ، أي :

«على أن لا يشركوا بالله شيئا ، ولا يسرقون ، ولا يزنون ، ولا يقتلون أولادهم ، ولا يأتون ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم ، ولا يعصونه في معروف ، فإن وفوا فلهم الجنة وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله عز وجل ، إن شاء عذب ، وإن شاء غفر».

ولما رجعوا إلى المدينة أرسل النبي «صلى الله عليه وآله» معهم مصعب بن عمير ليقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، فكان

١٢٧

يسمى المقري ، وألحقه بابن أم مكتوم (١) كما قيل.

وأقام مصعب أول صلاة جمعة في المدينة!!. وقد نجح مصعب ، ومن معه ممن أسلم في الدعوة إلى الله تعالى ، وأسلم سعد بن معاذ ، الذي كان السبب في إسلام قومه بني عمير بن عبد الأشهل ، حيث إنه حين أسلم على يد مصعب رجع إلى قومه ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعرفون أمري فيكم؟

قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا ، وأيمننا نفسا وأمرا.

قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

قال : فو الله ، ما أمسى في دار قبيلة بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ، أو مسلمة (٢) ، فأسلموا كلهم في يوم واحد ، (إلا عمرو بن ثابت ، فإنه تأخر إسلامه إلى أحد ، فأسلم ، ثم استشهد قبل أن يسجد لله سجدة واحدة ، كما قيل).

وأقام مصعب بن عمير يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى أسلم الرجال والنساء من الأنصار باستثناء جماعة من الأوس ، اتبعوا في ذلك أحد

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥١ و ١٥٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٩ وفيه أن الواقدي ذكر أن ابن أم مكتوم إنما قدم المدينة بعد بدر بقليل ، وفي كلام ابن قتيبة أنه قدم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين. ثم جمع الحلبي بين الأقوال باحتمال : أن يكون قد علّم أهل المدينة ثم عاد إلى مكة ، ثم عاد فهاجر بعد بدر .. وهو احتمال وجيه لا بأس به.

(٢) راجع ما تقدم : في سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٧٩ ـ ٨٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٩٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٨٤.

١٢٨

زعمائهم ، الذي تأخر إسلامه إلى ما بعد هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» (١).

ولنا هنا وقفات ، فلنقف أولا مع :

دعوة سعد بن معاذ قومه :

إن الدعوة إلى الله ليست مختصة بالأنبياء والأوصياء بل هي شاملة لكل مكلف بحسب ما يملك من طاقات وقدرات.

وهي من الأمور التي يلزم بها العقل الفطري السليم ، ويوجبها على كل إنسان ، ولا تحتاج إلى جعل شرعي ؛ فإن العقل يدرك أن في ارتكاب المنكرات ، وترك الواجبات ، والانحراف في الفكر والعقيدة والسلوك ضررا جسيما على المجتمعات وعلى الأجيال ولذلك فهو يحكم بلزوم الدعوة إلى الالتزام بالخط الفكري الصحيح ، وترك المنكر ، وفعل المعروف.

وهذا هو ـ بالذات ـ ما يفسر لنا اندفاع سعد بن معاذ في الدعوة إلى الله تعالى ، حتى إنه على استعداد لقطع كل علاقة مع قومه إذا كانوا ضالين منحرفين.

وإن عظمة هذا الموقف لتتضح أكثر إذا عرفنا مدى ارتباط سعادة ومصير الإنسان العربي في تلك الفترة بقبيلته ومدى ارتباطه بها فهو حين يضحي بعلاقاته القبلية ، فإنه يكون قد ضحى بأمر عظيم وأساسي في حياته وفي مصيره ، ومستقبله ، في سبيل دينه.

وقد جاء القرآن مؤيدا لحكم العقل والفطرة هذا ؛ ففرض على كل من

__________________

(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٨٤ وراجع تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٩٠ والسيرة لابن هشام ج ٢ ص ٧٩ ـ ٨٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤.

١٢٩

كان له بصيرة في أمر الدين أن يدعو إلى الله ، قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(١).

كما أننا لا بد أن نشير أيضا : إلى أن من عرف الحق ، وذاق حلاوة الإيمان ، فإنه لا يملك نفسه من الاندفاع في محاولة لجلب الآخرين نحو هذا الحق ، وجعلهم يؤمنون به ، ويستفيدون منه ، ويلتذون به ويشعرون بحلاوته.

ولذلك نجد الإمام علي بن الحسين «عليه السلام» ، الذي كان يخشى على شيعته ، الذين هم الصفوة في الأمة الإسلامية ، والذين كانوا يتعرضون لمختلف أنواع الاضطهاد ، والبلايا في الدولة الأموية ، وبعدها في الدولة العباسية كان يظهر تذمره من عدم مراعاة الشيعة للظروف والمناسبات ، وهو يرى حدة اندفاعهم نحو إظهار أمرهم ، بسبب شعورهم بحلاوة الإيمان ، وضرورة إبلاغ كلمة الحق ، قال الإمام السجاد «عليه السلام» : «وددت أني افتديت خصلتين في الشيعة ببعض لحم ساعديّ : النزق وقلة الكتمان» (٢).

أضف إلى ذلك : أن التراحم فيما بين المؤمنين ، والشدة على الكافرين يصبح أمرا طبيعيا ، كما قال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٣).

__________________

(١) الآية ١٠٨ من سورة يوسف.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٧٣٣ والبحار ج ٧٥ ص ٦٩ و ٧٢ عن الخصال ج ١ ص ٢٤ والكافي ج ٢ ص ٢٢١.

(٣) الآية ٢٩ من سورة الحج.

١٣٠

البيعة :

ونجد : أن نص البيعة قد تضمن الخطوط العريضة ، وأهم المبادئ التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي ، وهي تتضمن جانبا عقائديا ، وآخر عمليا ، وقد حملهم «صلى الله عليه وآله» مسؤوليات معينة في علاقاتهم مع بعضهم بعضا.

وجعل التزامهم هذا قائما على إعطاء تعهد من قبلهم ، يرون مخالفته تتنافى مع شرف الكلمة وقدسيتها ؛ وذلك تحت عنوان : «البيعة» التي تعني إعطاء كلمة الشرف بالالتزام بتلك المبادئ.

ولكنه لم يقرر عقابا عنيفا لمن ينقض هذا العهد ، ويتجاوز ويغش فيه ؛ فإن الوقت حينئذ لم يكن مناسبا لقرار كهذا.

بل أوكل ذلك إلى الوجدان والضمير الشخصي لكل منهم ، مع ربطه بالمبدأ العقيدي ، ومع إعطاء الفرصة له للعودة لإصلاح الخطأ إن كان ؛ حيث أبقى الأمل حيا لدى ذلك الذي يمكن أن يغش ، وأوكل أمره إلى الله ، إن شاء عذب ، وإن شاء غفر.

صلاة الجمعة :

وقد تقدم في الحديث : أن مصعب بن عمير قد جمع بالمسلمين في المدينة قبل الهجرة. (١)

وربما يشكل على ذلك : بأن سورة الجمعة قد نزلت بعد هجرته «صلى

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٩ والتعليق المغني (مطبوع بهامش سنن الدار قطني) ج ٢ ص ٥ عن الطبراني في الكبير والأوسط.

١٣١

الله عليه وآله» إلى المدينة ؛ فكيف صلى مصعب الجمعة قبل تشريعها؟

والجواب : أننا لو سلمنا أن المراد بجمع ، صلى الجمعة.

إذ من المحتمل : أن يكون المراد صلى جماعة ـ لو سلمنا ذلك ـ فإن قوله تعالى في سورة الجمعة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ليس المقصود به تشريع إقامة الجمعة ، وإنما هو يوجب السعي إلى الجمعة التي تقام ، فلعل وجوب إقامتها كان قبل ذلك قد جاء على لسانه «صلى الله عليه وآله» في مكة ، ولكن لم يكن يمكن إقامتها ، أو كان يقيمها سرا ولم يصل ذلك إلينا.

ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ)(١) ؛ فإن ذلك يشير إلى أن الجمعة كانت قد شرعت قبل ذلك ، وأن هذا كان سلوكهم معه «صلى الله عليه وآله».

ويؤيد ذلك : ما أخرجه الدارقطني ، عن ابن عباس ، قال : أذن النبي «صلى الله عليه وآله» الجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع أن يجمع بمكة ؛ فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة ، فتقربوا إلى الله بركعتين.

قال : فهو أول من جمع ، حتى قدم النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة ،

__________________

(١) الآية ١١ من سورة الجمعة.

١٣٢

فجمع بعد الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك (١).

وثمة روايات تفيد : أن أول من جمع بهم هو أسعد بن زرارة (٢) وسيأتي بعض الكلام أيضا حول صلاة الجمعة في آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى.

بيعة العقبة الثانية :

وعاد مصعب بن عمير من المدينة إلى مكة ، فعرض على النبي «صلى الله عليه وآله» نتائج عمله ؛ فسر بذلك نبي الإسلام سرورا عظيما (٣).

وفي موسم حج السنة الثالثة عشرة من البعثة أتى من أهل المدينة جماعة كبيرة بقصد الحج ، ربما تقدر عدتهم بخمس مئة (٤) ، فيهم المشركون ، وفيهم المسلمون المستخفون من حجاج المشركين من قومهم ، تقية منهم.

والتقى بعض مسلميهم بالرسول «صلى الله عليه وآله» ووعدهم اللقاء في العقبة في أواسط أيام التشريق ليلا ، إذا هدأت الرجل ، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ، ولا ينتظروا غايبا.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢١٨ عن الدارقطني. والسيرة الحلبية : ج ٢ ص ١٢.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٢١٨ عن أبي داود ، وابن ماجة وابن حبان ، والبيهقي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٢٦ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٩ وص ٩ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٥ و ٦ وفي التعليق المغني على الدار قطني (مطبوع بهامش السنن) ص ٥ قال : الحديث أخرجه أبو داود ، وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم والبيهقي في سننه.

(٣) وفي البحار ج ١٩ ص ١٢ : أن مصعبا قد كتب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بذلك وكذا في إعلام الورى ص ٥٩.

(٤) طبقات ابن سعد ج ١ قسم ١ ص ١٤٩.

١٣٣

ويلاحظ هنا : ما لهذا التوقيت من أهمية ، فلو انكشف أمرهم ، فسيكون ذلك بعد تمام حجهم ، ومفارقتهم للبلد ، ولا يبقى من ثم مجال للضغط عليهم بشكل فعال.

ويلاحظ كذلك : أمره «صلى الله عليه وآله» لهم بأن لا ينبهوا نائما ، ولا ينتظروا غائبا ، وذلك كي لا ينكشف أمرهم إذا لاحظ غيرهم عدم طبيعية تصرفاتهم.

وفي تلك الليلة بالذات ناموا مع قومهم في رحالهم ، حتى إذا مضى ثلث الليل بدؤوا يتسللون إلى مكان الموعد ، واحدا بعد الآخر ، ولا يشعر بهم أحد حتى اجتمعوا في الشعب عند العقبة ، وهم سبعون أو ثلاثة وسبعون رجلا ، وامرأتان.

والتقوا بالرسول «صلى الله عليه وآله» هناك في الدار التي كان «صلى الله عليه وآله» نازلا فيها ، وهي دار عبد المطلب ، وكان معه حمزة وعلي ، والعباس (١).

وبايعوه على أن يمنعوه وأهله مما يمنعون منه أنفسهم ، وأهليهم وأولادهم ، وأن يؤووهم ، وينصروهم ، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر وأن يقولوا في الله ، ولا يخافوا لومة لائم ، وتدين لهم العجم ،

__________________

(١) إعلام الورى ص ٥٩ ، وتفسير القمي ج ١ ص ٢٧٣ ، والبحار ج ١٩ ص ١٢ ـ ١٣ و ٤٧ عنهما ، وعن قصص الأنبياء ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٦ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٥٢.

١٣٤

ويكونون ملوكا ، وعند آخرين ـ والنص لمالك ـ عن عبادة بن الصامت : «بايعنا رسول الله «صلى الله عليه وآله» على السمع والطاعة ، في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول (أو نقوم) بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم» (١).

قال السيوطي : «يريد الملك والإمارة» (٢).

وقد أدرك العباس بن نضلة خطورة الموقف ، ولا سيما من قوله «صلى الله عليه وآله» : «وتدين لكم العجم ، وتكونون ملوكا» ، وأنهم مقدمون على مواجهة ومقاومة ، ليس فقط مشركي مكة أو الجزيرة العربية ، وإنما العالم بأسره ، فأحب أن يستوثق من الأمر ، ويفتح عيون المبايعين ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، حتى لا يقولوا في يوم ما : لو كنا نعلم أن الأمر ينتهي إلى هذا لم نقدم.

فقال لهم : يا معشر الأوس والخزرج ، تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض ، وعلى حرب ملوك الدنيا ؛ فإن علمتم أنه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه ، فلا تغروه فإن رسول الله ، وإن كان قومه خالفوه ، فهو في عز ومنعة.

__________________

(١) الموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج ٢ ص ٤ وراجع سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٧ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣١٤ و ٣١٦ وسنن النسائي ج ٧ ص ١٣٨ و ١٣٩ وصحيح البخاري ج ٤ ص ١٥٦ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٦٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٩٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٤٥٢ ط دار الكتب العلمية والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢٠٤ وصحيح مسلم ج ٦ ص ١٦ و ١٧.

(٢) تنوير الحوالك : ج ٢ ص ٤.

١٣٥

فقال عبد الله بن حزام ، والد جابر ، وأسعد بن زرارة ، وأبو الهيثم بن التيهان : مالك وللكلام؟!

يا رسول الله ، بل دمنا بدمك ، وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لنفسك ، ولربك ما شئت (١).

ويذكر أيضا : أن أسعد بن زرارة قد قال في بيعة العقبة : يا رسول الله ، إن لكل دعوة سبيلا ، إن لين ، وإن شدة ، وقد دعوت اليوم إلى دعوة متجهمة للناس ، متوعرة عليهم : دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك على دينك ، وتلك رتبة صعبة ، فأجبناك إلى ذلك.

ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام ، القريب والبعيد ، وتلك رتبة صعبة ؛ فأجبناك إلى ذلك.

ودعوتنا ، ونحن جماعة في دار عز ومنعة ، لا يطمع فيها أحد : أن يرأس علينا رجل من غيرنا ، أفرده قومه ، وأسلمه أعمامه ، وتلك رتبة صعبة ، فأجبناك إلى ذلك الخ .. (٢).

ويذكر المؤرخون هنا أيضا : أن العباس بن عبد المطلب قد حضر بيعة العقبة وأنه أراد أن يستوثق لابن أخيه فبدأ هو الكلام ، فقال : يا معشر

__________________

(١) راجع ما تقدم في البحار ج ١٩ ص ١٢ و ١٣ عن إعلام الورى ، وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٤٥٠ ط دار الكتب العلمية وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣١٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٨٨ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٦٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢٠١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٧.

(٢) حياة الصحابة : ج ١ ص ٨٨ ودلائل النبوة لأبي نعيم : ص ١٠٥.

١٣٦

الخزرج ، إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا ، فهو في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وقد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.

وفي رواية ، أنه قال لهم : قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ، فإن كنتم أهل قوة وجلد ، وبصر في الحرب ، واستقلال بعداوة العرب قاطبة ، ترميكم عن قوس واحدة فروا رأيكم ، وائتمروا بينكم إلخ ..

وبعد أن استمع إلى إجابتهم ، طلب «صلى الله عليه وآله» منهم : أن يخرجوا له اثني عشر نقبيا ، أي كفيلا يكفل قومه ، فأخرجوا له تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس ؛ فكانوا نقباء وكفلاء قومهم ، وعرفت قريش بالاجتماع ؛ فهاجت ، وأقبلوا بالسلاح ، وسمع الرسول «صلى الله عليه وآله» النداء ؛ فأمر الأنصار بالتفرق ، فقالوا : يا رسول الله ، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا ، فعلنا.

فقال : لم أؤمر بذلك ، ولم يأذن الله لي في محاربتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، فتخرج معنا؟

قال : أنتظر أمر الله ..

فجاءت قريش على بكرة أبيها ، قد حملوا السلاح ، وخرج حمزة ، ومعه السيف ، هو وعلي بن أبي طالب «عليه السلام».

فلما نظروا إلى حمزة قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم له؟.

فعمل حمزة بالتقية من أجل الحفاظ على النبي «صلى الله عليه وآله»

١٣٧

والمسلمين والإسلام ، فقال : ما اجتمعنا ، وما ههنا أحد ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلا ضربته بسيفي ، فرجعوا ، وغدوا إلى عبد الله بن أبي ، فقالوا له : قد بلغنا أن قومك بايعوا محمدا على حربنا ، والله ، ما من حي أبغض من أن ينشب الحرب بيننا وبينه منكم.

فحلف لهم عبد الله : أنهم لم يفعلوا ، ولا علم له بذلك ، وأنهم لم يطلعوه على أمرهم ؛ وتفرقت الأنصار ، ورجع رسول الله إلى مكة.

ولكن قريشا قد تأكدت بعد ذلك من صحة الخبر ؛ فخرجت في طلب الأنصار ؛ فأدركوا سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمير ، فأما المنذر فأعجزهم.

وأما سعد فأخذوه ، وعذبوه.

فبلغ خبره جبير بن مطعم ، والحارث بن حرب بن أمية ، فأتياه وخلصاه ؛ لأنه كان يجير لهما تجارتهما ، ويمنع الناس من التعدي عليها (١).

ولنا قبل المضي في الحديث ههنا وقفات.

فنشير أولا : إلى دور العباس في بيعة العقبة :

تذكر بعض الروايات : أن العباس كان في بيعة العقبة مع النبي ، ولم

__________________

(١) راجع فيما تقدم أي كتاب تاريخي أو حديثي شئت مثل : البحار ج ١٩ ص ١٢ و ١٣ وإعلام الورى ص ٥٧ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٧٢ و ٢٧٣ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣١٨ و ٣١٩ ودلائل النبوة للبيهقي (ط دار الكتب العلمية) ج ٢ ص ٤٥٠ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٥٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٩٣ و ٢١٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٧ وما قبلها وما بعدها والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٨٨ وقبلها وبعدها ، وغير ذلك كثير.

١٣٨

يكن أحد غيره معه ، ويقولون : إنه وإن كان حينئذ مشركا ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له. وقد قدمنا ما ينسب إليه من قول في هذه المناسبة.

ولكننا نشك في صحة ذلك.

أولا : إن في الكلام المنسوب إلى العباس تخذيلا واضحا عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، وليس توثيقا لأمره كما يقولون ، ولا سيما قوله : «واستقلال بعداوة العرب قاطبة ، ترميكم عن قوس واحدة إلخ» إلا أن يقال : إن هذا الكلام من العباس ، إنما هو لبيان الحقيقة ، ليكون الأنصار على بصيرة من أمرهم ، حتى لا يكون منهم أي تعلل في المستقبل.

ثانيا : إن في كلامه ما يخالف الحقيقة ، ولا سيما قوله : «قد أبى محمد الناس كلهم غيركم» ؛ فإن معناه : أن الناس كلهم غير الأنصار قد وافقوا النبي «صلى الله عليه وآله» ، وقبلوا مناصرته ، ولكنه هو رفضهم.

مع أن الأمر على عكس ذلك تماما ، باستثناء قبيلة شيبان بن ثعلبة التي رضيت بحمايته مما يلي مياه العرب ، دون ما يلي مياه كسرى (١) وقبيلة شيبان ليست هي «الناس كلهم».

واحتمال إرادة خصوص عشيرته لا يتلاءم مع التعبير ب «الناس كلهم».

واحتمال أن تكون العبارة : «أبى محمدا الناس» ليس له ما يؤيده ، لأن النص الموجود بين أيدينا خلافه.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٥ و ١٦ وراجع السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٦٨.

١٣٩

ثالثا : إن موضوع الهجرة إلى المدينة لم يكن قد طرح بعد ، ولم يكن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أري دار هجرتهم ولا أخبرهم برؤياه تلك ، فمن أين علم العباس أن النبي «صلى الله عليه وآله» سوف يهاجر إلى المدينة؟

فهل نزل عليه الوحي في ذلك؟!

لست أدري!! ولكننا نقرأ في كلامه قوله : «وقد أبى إلا الانحياز لكم ، واللحوق بكم.

إلى أن قال : وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه إلخ ..». إلا أن يكونوا قد طلبوا منه «صلى الله عليه وآله» أن يخرج إليهم ، فظهر منه «صلى الله عليه وآله» الميل إلى إجابة طلبهم ، وإن كان قد جاء ذلك بصيغة : لم أؤمر بذلك ، أي بالهجرة ، ولكنه احتمال بعيد ولا شاهد له.

رابعا : إن ما ينسب إلى العباس لا يصدر إلا عن مسلم مؤمن تام الإيمان.

ولم يكن العباس قد أسلم بعد بل بقي على شركه إلى وقعة بدر ، وخرج لحرب النبي «صلى الله عليه وآله» فيها مكرها ، وأسلم كما سيأتي ، بل سوف يأتي أنه لم يسلم إلى فتح مكة.

إلا أن يكون قد قال ذلك محاماة عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بدافع الحمية والعصبية ، ولكننا لم نر لهذه الحمية كبير أثر في مواقف العباس قبل وبعد ذلك ، وهذا أمر يثير العجب حقا.

والذي نرجحه : هو أن الذي كان حاضرا وتكلم بكلام يهدف منه إلى

١٤٠