السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧٥
النبي «صلى الله عليه وآله» المدينة (١).
وكان أبو ذر يتأله في الجاهلية ، ويقول : «لا إله إلا الله» ، ولا يعبد الأصنام ، ويقال : إنه صلى قبل مبعث النبي «صلى الله عليه وآله» عدة سنوات (٢).
ما يستفاد من حديث إسلام أبي ذر :
أولا : إن عدم عبادة أبي ذر للأصنام ، ليس إلا من أجل منافرتها لحكم العقل ، وللفطرة السليمة ، حين لا تطغى على الإنسان أي من العوامل الخارجية التي تجعل على قلبه وبصره غشاوة.
ويلاحظ : أن القرآن ما زاد في مقاومته لعبادة الأصنام ، والتوجيه إلى الله تعالى على أن نبه العقل ، وأثاره ، وأرشد إلى ما تقتضيه الفطرة السليمة في هذا المجال ، وكل من يستعرض الآيات القرآنية يرى كيف أن القرآن يهتم في الإرجاع إلى الفطرة ، وحكم العقل ، ويعتبر أن لهما وحدهما الحق في الحكم في هذا المجال.
ثانيا : إن أسلوب علي «عليه السلام» في المحافظة على عنصر السرية ، حتى لا يلتفت المشركون إلى طبيعة تحركاته وأهدافه ، وأسلوبه في إيصاله أبا ذر إلى الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ـ رغم أنه لا يزال فتى يافعا ـ إن دلّ على شيء ؛ فإنما يدلّ على دراية وروية ، وتبصر وتدبر بالأمور ، مما
__________________
(١) طبقات ابن سعد ج ٤ قسم ١ ص ١٦٣ ، وراجع تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ١٠٠.
(٢) طبقات ابن سعد ج ٤ ق ١ ص ١٦٣. ولا بأس بمراجعة ما كتبناه حول أبي ذر في مقال لنا في كتاب : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام. وحلية الأولياء ج ١ ص ١٥٧.
يؤكد امتيازه «عليه السلام» على غيره ، ممن عاش ومارس الأمور.
كما أن اتكال أبي ذر رجل الحكمة والتبصر على دعوة علي «عليه السلام» له ، واستجابته لدعوته ونزوله ضيفا عليه ، يدلّ على أنه كان يرى في علي من الحكمة والروية ما لا يراه في غيره ، مهما كان فارق السن بينه وبين أولئك كبيرا.
ولقد كان «عليه السلام» يهدف إلى الحفاظ على أبي ذر من جهة ، وعلى أن لا يلفت نظر المشركين إلى أنه يقوم بنشاط من أجل إدخال الناس في هذا الدين الجديد من جهة أخرى ، وهذا الثاني هو الأهم بالنسبة إليه ، فإنه لا يمكن أن يتخلى عن الدعوة في سبيل الشخص ، ولكن الشخص هو الذي يضحي بنفسه وبكل ما لديه في سبيل الحفاظ على الدعوة وبقائها ، ولكن هذه التضحية لا بد أن تكون في وقت الحاجة إليها ، وحين يكون لا بد منها ولا غنى عنها ، وإلا فلربما يكون ضررها أكثر من نفعها ، أو على الأقل يكون هدرا لطاقات ، وإتلافا لقدرات ربما تكون الدعوة في يوم ما بأمسّ الحاجة إليها.
ثالثا : ما فعلته قريش بأبي ذر لم يكن بسبب أن المواجهة كانت قد وقعت بينها وبين النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فإن هذه المواجهة لم تكن حصلت حينئذ ، وإنما رأت في تصرف أبي ذر هذا تحديا لها ، واعتداء على شرفها ، وكبريائها ، ولا يقصد منه إلا تحقيرها وإذلالها ، من دون مبرر ظاهر تراه وتتعقله لتصرف كهذا سواه ، ولعلها أرادت من بطشها بهذا الرجل الغريب والوحيد ردع الآخرين ، وإرهابهم ، ومنعهم من الإقبال على الدخول في الإسلام ، أو من التظاهر به.
رابعا : إنتقام أبي ذر من قريش على ذلك النحو قد أثر فيها نفسيا ، وروحيا إلى حد بعيد ، وعرفها :
أنها لا يمكن أن تتعامل مع الآخرين ، كما يحلو لها ، وعلى حسب ما تشتهي ، لأن الآخرين يملكون من الوسائل الفعالة للضغط عليها ما لا تجد معه حيلة ، ولا تستطيع سبيلا.
خامسا : إن نجاح أبي ذر في دعوته قومه من قبيلتي غفار وأسلم ، حتى إنه يستغل تشوقهم للحصول على غرائر الحنطة لطرح الخيار النهائي عليهم ـ إن نجاحه هذا ـ ليدل على أنه كان بعيد الهمة والنظر عاقلا لبيبا أريبا ، يدرك أهداف الرسالة السماوية الحقة التي اعتنقها خير إدراك ، ويدرك واجباته تجاهها ، ثم هو ينفذ مهمته ، ويقوم بواجباته على النحو الأكمل والأمثل.
سادسا : إن محاولات أبي ذر الجادة للتعرف على صدق النبي «صلى الله عليه وآله» في دعواه ، وإرساله أخاه أولا ، ثم ذهابه هو بنفسه ، وبقاءه ثلاثة أيام يبحث عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، إنما كانت بدافع ذاتي ينبع من داخله ، يدفعه إلى البحث عن الحق ، والعمل من أجله ، وفي سبيله.
وهذا يؤيد القول : بأن العقل هو الذي يحكم ويدفع إلى تعلم ما ينفع ، وما يضر ، للالتزام بذاك ، والابتعاد عن هذا. بل هو أمر فطري مغروس في فطرة الإنسان وطبيعته وسجيته ، حتى إنك تجد الطفل الذي يحس بألم النار ليس فقط لا يحاول بعد ذلك الاقتراب منها ، وإنما هو يجهد بكل ما أوتي من قوة وحول في الابتعاد عنها.
سابعا : إن موقف علي «عليه السلام» من أبي ذر ليعكس لنا : أن هذا
الفتى اليافع والناشئ كان يعتز بنفسه ، ويثق بها ، فيدعو أبا ذر ليكون ضيفه ثلاثة أيام ، ثم هو يساعده على الوصول إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بشكل ذكي وحذر ، ثم هو يتركه ثلاثة أيام لا يسأله عن أمره حتى لا يشعر هذا الضيف بأن مضيفه ربما يكون قد ضاق به ذرعا ، أو ملّ وجوده ؛ وليكون قد أتاح له الفرصة ليستأنس في هذا البلد الذي يراه غريبا عليه ، ويألفه ، ويرتاح إليه نفسيا ، كما ارتاح جسديا ؛ وليكون أنفذ بصيرة ، وأكثر اطمينانا في بيان حاجته التي جاء من أجلها.
ثامنا : إن جهر أبي ذر بإسلامه ، وتعريضه نفسه للضرب والإهانة من قبل المشركين ، إنما يعكس لنا مدى اعتزاز أبي ذر بإسلامه هذا ، ومدى استعداده للتضحية في سبيله ، ثم هو يعكس مدى حنق قريش ورعونتها في مواجهة الدعوة إلى الله تعالى ، حتى إنها تنسى : أن من تبطش به ربما يكون في المستقبل سببا في عرقلة تجاراتها إلى الشام ، ومضايقتها اقتصاديا.
نعم ، تنسى ذلك ، وتهجم عليه لتضربه ، ثم ترتد عنه لا بدافع إنساني ، ولا عن قناعة فكرية ، وإنما لدوافع اقتصادية دنيوية ، تعكس أنانيتها ، ومستوى تفكيرها أولا وأخيرا ، ولا شيء أخطر على الإنسان من الأنانية التي ربما تضع على عينيه غشاوة ؛ فلا يبصر الحق الأبلج ، ولا يهتدي سواء السبيل.
تاسعا : لعل أبا ذر قد أراد كسر شوكة أعداء الإسلام ، وفتح ثغرة في هذا الجبروت ، ثم كسر حاجز الخوف لدى المسلمين ، ليتشجعوا على مواجهة الأخطار ، وضرب المثل الحي لهم في مجال التضحية من أجل الدين والحق ، كما أن ذلك لسوف يؤثر على من يميلون إلى هذا الدين ويتعاطفون
مع المسلمين ، ويثير إعجابهم بصورة كبيرة.
وأخيرا ، فلسوف نرى : أن ثمة محاولات لنسبة موقف أبي ذر الشجاع والجريء والفذ هذا تجاه قريش إلى غيره من الصحابة ، كأبي بكر تارة ، وعمر أخرى.
ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصح ، كما سنذكره حين الحديث عن إسلام عمر ، وهجرة أبي بكر.
الباب الثاني
حتى وفاة أبي طالب عليه السّلام
الفصل الأول : الإسراء والمعراج
الفصل الثاني : إنذار العشيرة
الفصل الثالث : حتى الهجرة إلي الحبشة
الفصل الرابع : هجرة الحبشة
الفصل الخامس : حتى الشعب
الفصل السادس : في شعب أبي طالب عليه السّلام
الفصل السابع : أبو طالب عليه السّلام
الفصل الأول :
الإسراء والمعراج
الإسراء والمعراج :
بعد بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وفي أثناء المرحلة السرية ، التي استمرت ثلاث ، أو خمس سنوات ، كان ـ على الأرجح ـ الإسراء والمعراج : الإسراء إلى بيت المقدس ، حسب نص القرآن الكريم.
والمعراج من هناك إلى السماء ، الذي وردت به أخبار كثيرة.
وحيث إن التفاصيل الدقيقة لهاتين القضيتين يصعب الجزم في كثير منها إلا بعد البحث الطويل والعميق.
ذلك لأن هذه القضية ، وجزئياتها قد تعرضت على مر الزمان للتلاعب والتزيد فيها ، من قبل الرواة والقصاصين ، ثم من قبل أعداء الإسلام ؛ بهدف تشويه هذا الدين ، وإظهاره على أنه يحوي الغرائب والعجائب ، والأساطير والخرافات ، لأسباب شخصية ، وسياسية وغيرها.
ولم يسلم من مكائد هؤلاء حتى رموز الإسلام ، وحفظته وأئمة المسلمين أيضا.
وقد حذر الإمام الرضا «عليه السلام» من هؤلاء ـ حسبما روي عنه ـ حيث قال لابن أبي محمود : «إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة :
أحدها : الغلو.
وثانيها : التقصير في أمرنا.
وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا.
فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا.
وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا.
وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عز وجل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»)(١).
وبعد ما تقدم ، فإن التعرض لبحث التفاصيل الدقيقة لقضية الإسراء والمعراج يحتاج إلى توفر تام ، وتأليف مستقل ؛ ولذا فنحن لا نستطيع في هذه الفرصة المتوفرة لنا أن نعطي تصورا دقيقا عنه.
وعلى هذا ، فسوف نكتفي بالإشارة إلى بعض الجوانب التي رأينا أن من المناسب التعرض لها ؛ فنقول :
متى كان الإسراء والمعراج؟!
إن المشهور هو : أن الإسراء والمعراج قد كان قبل الهجرة بمدة وجيزة ؛ فبعضهم قال : ستة أشهر.
وبعضهم قال : في السنة الثانية عشرة للبعثة ، أو في الحادية عشرة أو في العاشرة.
__________________
(١) الآية ١٠٨ من سورة الأنعام ، راجع : البحار ج ٢٦ ص ٢٣٩ وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٣٠٤.
وقيل : بعد الهجرة (١).
وفي مقابل ذلك نجد البعض يقول : إنه كان في السنة الثانية من البعثة (٢) ، وقيل : في الخامسة ، وقيل في الثالثة ـ وهو الأرجح عندنا ـ ولعل ابن عساكر يختار ما يقرب مما ذكرنا ، حيث إنه ذكر الإسراء في أول البعثة كما ذكره عنه ابن كثير (٣).
وقال مغلطاي ، بعد أن ذكر بعض الأقوال : «وقيل : كان بعد النبوة بخمسة أعوام ، وقيل : بعام ونصف عام.
وقال عياض : بعد مبعثه بخمسة عشر شهرا» (٤).
وقال ملا علي القاري : «وذكر النووي : أن معظم السلف ، وجمهور المحدثين والفقهاء على أن الإسراء والمعراج كان بعد البعثة بستة عشر شهرا» (٥).
وقال ابن شهر آشوب : «ثم فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه في السنة التاسعة من نبوته» (٦).
فإن قوله : «في السنة التاسعة» راجع إلى فرض الصلوات ، وقد ظهر من
__________________
(١) راجع : السيرة الحلبية ، وتاريخ الخميس ، وغير ذلك.
(٢) البحار ج ١٨ ص ٣١٩ عن العدد ، ونقل ذلك عن الزهري في عدة مصادر.
(٣) البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٨.
(٤) سيرة مغلطاي ص ٢٧.
(٥) شرح الشفاء للقاري ج ١ ص ٢٢٢.
(٦) المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٤٣.
كلامه : أن فرضهما كان بعد الإسراء والمعراج ، ولكنه لم يبين لنا تاريخه بالسنة ولا باليوم والشهر.
وقال الديار بكري : «فأما سنة الإسراء ، فقال الزهري : كان ذلك بعد المبعث بخمس سنين.
حكاه القاضي عياض ، ورجحه القرطبي ، والنووي.
وقيل : قبل الهجرة بسنة إلخ» (١).
الأدلة على المختار :
وأما ما يدل على أن الإسراء قد كان في السنوات الأولى من المبعث ؛ فعدا عن الأقوال المتقدمة ، ولا سيما ما ذكره الزهري والنووي ، نشير إلى الأمور التالية :
١ ـ ما روي عن ابن عباس أن ذلك كان بعد البعثة بسنتين (٢) وابن عباس كان أقرب إلى زمن الرسول ، وأعرف بسيرته من هؤلاء المؤرخين ، فإذا ثبت النص عنه قدم على أقوال هؤلاء.
ولربما لا يكون هذا مخالفا لما تقدم عن الزهري وغيره ، إذا كان ابن عباس لا يحسب الثلاث سنوات الأولى ، على اعتبار : أنه «صلى الله عليه وآله» إنما أمر بإنذار الناس بعدها.
٢ ـ قد ورد عن الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» : أن الإسراء قد كان
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠٧.
(٢) البحار ج ١٨ ص ٣١٩ و ٣٨١ عن المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٧٧ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٦ ، حيث ذكر ذلك بعد المبعث ، وقبل الإنذار.
بعد ثلاث سنين من مبعثه (١) ، وهذا هو الأصح والمعتمد.
٣ ـ ويدل على ذلك بشكل قاطع ما روي عن : ابن عباس ، وسعد بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، والإمام الصادق «عليه السلام» ، وعمر بن الخطاب ، وعائشة ، من أنه «صلى الله عليه وآله» ـ حينما عاتبته على كثرة تقبيله ابنته سيدة النساء ، فاطمة «عليها السلام» ـ قال لها : نعم يا عائشة ، لما أسري بي إلى السماء أدخلني جبرئيل الجنة ، فناولني منها تفاحة ، فأكلتها ، فصارت نطفة في صلبي ، فلما نزلت واقعت خديجة ، ففاطمة من تلك النطفة ؛ ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها (٢).
ومعلوم مما سبق : أن فاطمة قد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات ؛ فالإسراء والمعراج كانا قبل ذلك بأكثر من تسعة أشهر ، ولعله قبل ذلك بسنتين.
__________________
(١) البحار ج ١٨ ص ٣٧٩ عن الخرائج والجرايح.
(٢) تاريخ بغداد ج ٥ ص ٨٧ ، والمواهب اللدنية ج ٢ ص ٢٩ ، ومقتل الحسين للخوارزمي ص ٦٣ / ٦٤ وذخائر العقبى ص ٣٦ ، وميزان الاعتدال ج ٢ ص ٢٩٧ و ١٦٠ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٦٥ ، وتلخيصه للذهبي ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٠٢ ، وينابيع المودة ص ٩٧ ، ونزهة المجالس ج ٢ ص ١٧٩ ، ومناقب المغازلي ص ٣٥٨ والبحار ج ١٨ ص ٣١٥ و ٣٥٠ و ٣٦٤ ، ونور الأبصار ص ٤٤ و ٤٥ وعلل الشرائع ص ٧٢ ، وتفسير القمي ونظم درر السمطين ص ١٧٦ ومحاضرة الأوائل ص ٨٨ وملحقات إحقاق الحق للمرعشي ج ١٠ ص ١ ـ ١١ عن بعض من تقدم ، وعن : أرجح المطالب ص ٢٣٩ ، ووسيلة المآل ص ٧٨ / ٧٩ ، وإعراب ثلاثين سورة ص ١٢٠ ، وكنز العمال ج ١٤ ص ٩٧ وج ٣ ص ٩٤ ، ومفتاح النجا ص ٩٨ مخطوط وأخبار الدول ص ٨٧ وعن ميزان الاعتدال ج ١ ص ٣٨ و ٢٥٣ وج ٢ ص ٢٦ و ٨٤ والدر المنثور ج ٤ ص ١٥٣ عن الطبراني والحاكم.
حتى أذن الله لتلك النطفة بالظهور ، والاستقرار في موضعها.
٤ ـ إن سورة الإسراء قد نزلت في أوائل البعثة ، ويدل على ذلك :
أ ـ ما رواه البخاري وغيره ، من أن قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)(١) قد نزل بمكة ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» مختف.
وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ؛ فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ، ومن أنزله ، ومن جاء به إلخ (٢).
ومعلوم : أن اختفاء النبي «صلى الله عليه وآله» في دار الأرقم إنما كان في أوائل البعثة ، والمقصود بالاختفاء هو التخفي عن أعين المشركين حين الصلاة.
وأجاب المحقق الروحاني على ذلك ، بأن من الممكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» حينئذ مختفيا في شعب أبي طالب.
فلا تدل هذه الرواية على أن الإسراء كان في أول البعثة.
ولكن ، لنا أن نناقشه بأن الداعي إلى دخولهم الشعب لم يكن هو التخفي في الصلاة وتلاوة القرآن ، وإنما اضطرهم المشركون إلى دخوله ، وحاصروهم فيه ، فالتعبير بالاختفاء يدل على أن ذلك قد كان في أوائل البعثة.
__________________
(١) الآية ١١٠ من سورة الإسراء.
(٢) صحيح البخاري طبع سنة ١٣٠٩ ه ج ٣ ص ٩٩ ، والدر المنثور ج ٤ ص ٢٠٦ عنه وعن : مسلم وأحمد والترمذي ، والنسائي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والطبراني والبيهقي.
ووجود هجوم في سورة الإسراء على عقائد المشركين لا يضر إذا كانت السورة قد نزلت في أوائل البعثة.
ب ـ ما ذكره البعض في مقال له (١) من أن سورة الإسراء قد نزلت بعد الحجر بثلاث سور (٢) وسورة الحجر قد نزلت في المرحلة السرية.
وفيها جاء قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(٣).
الأمر الذي تسبب عنه الجهر بالدعوة وإظهارها.
وإيراد المحقق الروحاني هنا : بأن في السورة ما يدل على وجود الصدام بين النبي «صلى الله عليه وآله» والمشركين.
وهذا الصدام إنما حصل بعد الاختفاء في دار الأرقم ، وبعد الإعلان بالدعوة.
يجاب عنه بما تقدم : من أن من غير البعيد أن تكون هذه السورة قد نزلت تدريجا ؛ فبدأ نزولها في أول البعثة.
ثم أكملت في فترة التحدي والمجابهة بين النبي «صلى الله عليه وآله» والمشركين.
ويدل على قدم نزولها أيضا : قول ابن مسعود عن سور الإسراء ، والكهف ، ومريم : إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي (٤).
__________________
(١) راجع : مجلة الوعي الإسلامي المغربية عدد ١٦٣ ص ٥٦.
(٢) راجع : الإتقان ج ١ ص ١١ ، وتاريخ القرآن للزنجاني ص ٣٧.
(٣) الآية ٩٤ من سورة الحجر.
(٤) صحيح البخاري ج ٣ ط سنة ١٣٠٩ ص ٩٦ والدر المنثور ج ٤ ص ١٣٦ عنه وعن ابن الضريس وابن مردويه.
وابن مسعود ممن هاجر إلى الحبشة ، ورجع منها ، والنبي «صلى الله عليه وآله» يتجهز إلى بدر (١).
إلا أن يقال : إن ابن مسعود إنما هاجر إلى الحبشة بعد الطائف ، أي في الهجرة الثانية ، لا في الأولى ؛ فلاحظ ؛ فإن ذلك لا يلائم قوله : إنهن من العتاق الأول.
٥ ـ إن سورة النجم ـ التي يذكرون أنها تذكر المعراج في آياتها ـ قد نزلت هي الأخرى في أوائل البعثة ؛ فإنها نزلت بعد اثنتين أو ثلاث وعشرين سورة ، ونزل بعدها أربع وستون سورة في مكة (٢).
وسيأتي في قصة الغرانيق المكذوبة أو المحرفة : أنهم يقولون : إنها إنما نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة بثلاثة أشهر ، والهجرة إلى الحبشة إنما كانت في السنة الخامسة.
بل لقد قيل : إن سورة النجم هي أول سورة أعلن النبي «صلى الله عليه وآله» بقراءتها ؛ فقرأها على المؤمنين والمشركين جميعا (٣).
والنقاش في كون آيات سورة النجم ناظرة إلى المعراج ، يمكن تجاوزه ، وعدم القبول به كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
٦ ـ ويؤيد كون هذه القضية قد حصلت في أوائل البعثة ، أنه حين عرج
__________________
(١) فتح الباري ج ٧ ص ١٤٥.
(٢) راجع الإتقان ج ١ ص ١٠ ـ ١١ و ٢٥.
(٣) تفسير الميزان مجلد ١٩ ص ٢٦.
به «صلى الله عليه وآله» صار الملائكة يسألون : أو قد أرسل إليه؟ (١).
فإن هذا يشير إلى أن ذلك إنما كان في أول بعثته «صلى الله عليه وآله» لا بعد عشرة أو اثنتي عشرة سنة ، فإن أمره «صلى الله عليه وآله» كان قد اشتهر في أهل السماوات حينئذ.
بل يمكن أن يكون قد اشتهر ذلك منذ الأيام الأولى من البعثة.
٧ ـ ما يدل على أن الإسراء قد كان قبل وفاة أبي طالب : فإن بعض الروايات تذكر أن أبا طالب «عليه السلام» قد افتقده ليلته ، فلم يزل يطلبه حتى وجده ، فذهب إلى المسجد ، ومعه الهاشميون ، فسل سيفه عند الحجر ، وأمر الهاشميين بإظهار السيوف التي معهم ، ثم التفت إلى قريش ، وقال : لو لم أره ما بقي منكم عين تطرف.
فقالت قريش : لقد ركبت منا عظيما (٢).
٨ ـ ما روي من أن جبرئيل قال للنبي «صلى الله عليه وآله» حين رجوعه : حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومني السلام (٣).
٩ ـ وعن عمر : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : ثم رجعت إلى
__________________
(١) مجمع الزوائد ج ١ ص ٦٩ / ٧٠ عن البزار والمواهب اللدنية ج ٢ ص ٦ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣١٠.
(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨٠ ، والبحار ج ١٨ ص ٣٨٤.
(٣) البحار ج ١٨ ص ٣٨٥ عن العياشي ، عن زرارة ، وحمران بن أعين ، ومحمد بن مسلم ، عن الباقر «عليه السلام».
خديجة ، وما تحولت عن جانبها (١).
فكل ذلك يدل على أن هذا الحدث قد كان قبل وفاة شيخ الأبطح ، وأم المؤمنين خديجة «رحمها الله» وهما قد توفيا في السنة العاشرة من بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» ، فكيف يكون الإسراء والمعراج قد حصل في الحادية عشرة أو الثانية عشرة أو بعدها؟!.
تسمية أبي بكر بالصديق
إنه إذا تأكد لنا : أن الإسراء والمعراج كان في السنة الثالثة من البعثة ، أي قبل أن يسلم من المسلمين أربعون رجلا ؛ فإننا نعرف : أن الإسراء كان قبل إسلام أبي بكر بمدة طويلة ؛ لأنه كما تقدم قد أسلم بعد أكثر من خمسين رجلا ، بل إنما أسلم حوالي السنة الخامسة من البعثة ، بل في السابعة أي بعد وقوع المواجهة بين قريش وبين النبي «صلى الله عليه وآله» أو بعد الهجرة إلى الحبشة فهو أول من أسلم بعد هذه المواجهة أو الهجرة ـ على الظاهر.
وإذا كان الإسراء قد حصل قبل إسلامه بمدة طويلة ، فلا يبقى مجال لتصديق ما يذكر هنا ، من أنه قد سمي صديقا حينما صدق رسول الله «صلى الله عليه وآله» في قضية الإسراء (٢) ، ولا لما يذكرونه من أن ملكا كان يكلم رسول الله حين المعراج بصوت أبي بكر (٣) وقد صرح الحفاظ بكذب طائفة
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣١٥.
(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٣١٥ ، والمواهب اللدنية ج ٢ ص ٤٠ ومستدرك الحاكم ، وابن إسحاق.
(٣) المواهب اللدنية ج ٢ ص ٢٩ و ٣٠ ، وراجع الدر المنثور ج ٤ ص ١٥٥ وراجع ص ١٥٤.