الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

ثانيا : لم يكن في المنطقة العربية وغيرها مرصد للأوضاع السماوية ، وإنما كانت المراصد موجودة في المشرق والمغرب لدى الروم واليونان ، وغيرهما. ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت ، على أن بلاد الغرب ، الذين كانوا معتنين بهذا الشأن بينها وبين مكة من اختلاف الأفق ما يوجب فصلا زمانيا معتدا به.

وقد كان القمر على ما في بعض الروايات بدرا قد انشق حين طلوعه ، ودام مدة يسيرة ، ثم التأم ، فيقع طلوعه في بلاد المغرب وهو ملتئم ثانيا (١).

إمكان الانشقاق والالتئام علميا :

ويبقى هنا سؤال وهو : هل يمكن علميا الانشقاق في الأجرام السماوية؟

وإذا أمكن الانشقاق ، فإنما يمكن ببطلان التجاذب بين الشقتين حينئذ ؛ فيستحيل الالتئام بعد الانشقاق.

وأجيب عنه : بأن خرق العادة بقدرة الله سبحانه ليس محالا.

كما أن العلماء يقولون : إنه قد حدثت انشقاقات كثيرة في الأجرام السماوية ؛ بسبب عوامل خاصة ، ومن الأمثلة على ذلك :

١ ـ إن ثمة حوالي خمسة آلاف من القطع الكبيرة والصغيرة التي تدور حول الشمس ويعتقد العلماء أنها بقايا إحدى السيارات التي كانت بين مداري المريخ والمشتري ، ثم انفجرت لأسباب مجهولة وتحولت إلى قطع متفاوتة الأحجام في مدارات حول الشمس.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦٤ و ٦٥.

٣٤١

٢ ـ ويقولون : إن الشهب هي أحجار صغيرة تسير بسرعة مذهلة في مدار حول الشمس ، وربما تتقاطع مع الأرض أحيانا ، فتجذبها الأرض ، فتصطدم بالجو الأرضي فتشتعل ثم تتلاشى.

ويقول العلماء : إنها بقايا نجوم انفجرت وتشققت بهذا النحو.

٣ ـ والمنظومة الشمسية أيضا يقال ـ حسب نظرية لابلاس ـ إنها كانت في الأصل قطعة واحدة ، ثم انفجرت ، لسبب غير معلوم فصارت على هذا النحو ، فلماذا لا ينشق القمر بسبب قاهر وهو القدرة الإلهية ، حيث إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد دعا الله فاستجاب له؟ ولم يدّع أحد أنه ينشق بلا سبب أصلا.

وأما عودته إلى الالتئام بعد ذلك ، فقد قال العلماء : إن كل جرم كبير له جاذبية.

ولذلك نجد أن الشمس كثيرا ما تجذب بعض القطعات التي تدور حولها ، فتتحول تلك القطع بفعل الصدمة والاحتكاك إلى لهب متلاش.

إذا ، فما دام كل من شقي القمر قريبا إلى الآخر ، وبعد رفع تأثير القوة المانعة من تأثير الجاذبية ، فلماذا لا يشد كل من النصفين النصف الآخر إلى نفسه ، ليعودا كما كانا ، وأي محذور عقلي في ذلك؟! (١).

وقد أوجز العلامة الطباطبائي الإجابة عن سؤال امتناع الالتئام لعدم الجاذبية ، فقال : إن الاستحالة العقلية ممنوعة ، والاستحالة العادية ، بمعنى اختراق العادة ، لو منعت عن الالتئام بعد الانشقاق ، لمنعت أولا عن

__________________

(١) كتاب : همه بايد بدانند ص ٨٤ ـ ٩٠.

٣٤٢

الانشقاق بعد الالتئام ولم تمنع. وأصل الكلام مبني على خرق العادة (١).

ومما تجدر الإشارة إليه هنا : أن جريدة كيهان الإيراينة قد نشرت بتاريخ : الثلاثاء ٣ شباط ٢٠٠٤ «١٤ / ١١ / ١٣٨٢ ه‍. ش» العدد ٦٢ / ١٧٨٧٦ خبرا مفاده أن رواد الفضاء الأمريكي قد توصلوا في تحقيقاتهم الأخيرة إلى أن القمر قد انشق إلى نصفين ، ومن ثم ـ بواسطة قوة فاعلة ـ التأم من جديد.

وفي مقابلة تلفزيونية مع عالم الجيولوجيا الدكتور زغلول النجار أعلن أنه وخلال محاضرة له في جامعة «كارديف» في غرب بريطانيا ، أكد داود موسى بيتكوك «رئيس الحزب الإسلامي البريطاني» : أنه سمع ذلك من التلفزيزن البريطاني ، وأن هذا كان سبب إسلامه.

دلالة الآية القرانية على ذلك :

ويحتمل البعض : أن يكون قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(٢) ناظرا إلى المستقبل ، وأنه من أشراط الساعة ، كتكوير الشمس ، وانكدار النجوم.

وأجيب عنه بما حاصله :

أولا : إن ظاهر قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(٣) هو أن جماعة من مخالفي النبي لا يؤمنون بالآيات وكلما جاءتهم

__________________

(١) تفسير الميزان ص ١٩ ـ ٦٥.

(٢) الآية ١ من سورة القمر.

(٣) الآية ٢ من سورة القمر.

٣٤٣

آية يزيد عنادهم واستكبارهم ، ويعتبرونها من السحر.

مما يدل على أنه قد جرى له «صلى الله عليه وآله» معهم في قصة انشقاق القمر مثل ذلك.

ثانيا : إن جملة «انشق» فعل ماض ، ولا يراد الاستقبال من الفعل الماضي إلا بقرينة ، وهي غير موجودة ، بل الموجود خلافه ؛ فقد قال الرازي :

«المفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق ، ودلت الأخبار الصحاح عليه» (١) وإن كان الطبرسي وابن شهر آشوب يستثنيان : عطاء ، والحسن والبلخي (٢).

ثم قال الطبرسي : وهذا لا يصح ، لأن المسلمين أجمعوا على ذلك ، فلا يعتد بخلاف من خالف فيه (٣).

وإن قيل : إن اقتران جملة : اقتربت الساعة : بجملة : وانشق القمر ، يوحي بأن زمانهما واحد.

فالجواب هو : أن كثيرا من الآيات تؤكد على أن الساعة قد قرب وقتها ، فلم الغفلة؟ قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)(٤).

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي ج ٢٩ ص ٢٨.

(٢) مجمع البيان ج ٩ ص ١٨٦ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٢٢.

(٣) مجمع البيان ج ٩ ص ١٨٦.

(٤) سورة الأنبياء الآية ١.

٣٤٤

وينقل عنه «صلى الله عليه وآله» أنه قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) وأشار إلى إصبعيه.

«والظاهر : أن ذلك بملاحظة مجموع عمر الدنيا الطويل جدا ، حتى ليصح أن يقال :

إن هذا الفاصل الزماني بين بعثته «صلى الله عليه وآله» وقيام الساعة ليس بشيء».

وبعد هذا .. فإن مفاد الآية يكون : أن الساعة قد اقتربت ، وهذه الآية المعجزة قد ظهرت للنبي «صلى الله عليه وآله».

ولكن هؤلاء المشركين المستكبرين لا يؤمنون ، ولا يصدقون ، بل يقولون : سحر مستمر (٢).

ولكن بعض المحققين يقول : إن قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ..) جملة شرطية ، لا دلالة فيها على وقوع ذلك.

وجملة (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) مساقها مساق قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإنها جملة فعلية ماضوية ، ولكن الأمر لم يأت بعد بقرينة قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

وكذا الحال في قوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بملاحظة قوله تعالى :

__________________

(١) نقله في مفتاح كنوز السنة ص ٢٢٧ عن البخاري ، ومسلم ، وابن ماجة والطيالسي ، وأحمد ، والترمذي والدارمي ، فراجع.

(٢) راجع في كل ما ذكرناه في دلالة الآية كتاب : همه بايد بدانند (فارسي) ص ٧٦ ـ ٨٠.

٣٤٥

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ..) والمراد بيان حالهم لو وقع لهم أمر كهذا.

وأما الإجماع الذي ادعاه الطبرسي ؛ فلا حجية فيه ، إذ من المحتمل أن يكون منشؤه الفهم الخاطئ للآية ، انتهى كلامه.

ونقول نحن : إن هذا الكلام له وجه ، لو لم يكن لدينا أخبار صحيحة تدل على وقوع انشقاق القمر.

الأساطير :

هذا ، وقد لعبت الأهواء والأساطير في قضية شق القمر ، حتى لقد شاع على ألسنة الناس : أن أحد شقي القمر قد مر من كمّ النبي «صلى الله عليه وآله».

فيقول العلامة الشيخ ناصر مكارم : إن هذا الكلام ليس له في كتب الحديث والتفسير عين ولا أثر ، سواء عند السنة ، أو عند الشيعة.

وثمة تفاصيل وخصوصيات تذكر في بعض الروايات لا نرى في تحقيق الحق فيها كبير نفع ، ولا جليل أثر ؛ ولذا فنحن نعرض عنها إلى ما هو أهم ، ونفعه أعم.

نقض الصحيفة :

وبعد ثلاث سنوات تقريبا من حصر المسلمين في شعب أبي طالب ، أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عمه أبا طالب بأن الإرضة قد أكلت كل ما في صحيفتهم من ظلم وقطيعة رحم ولم يبق فيها إلا ما كان اسما لله. وفي نص آخر :

«أنها قد أكلت كل اسم لله تعالى فيها ، ولم تبق إلا كل ظلم وشر ،

٣٤٦

وقطيعة رحم» (١).

والأصح هو الأول كما هو صريح الكلام المنقول عن أبي طالب «عليه السلام» ..

فخرج أبو طالب من شعبه ، ومعه بنو هاشم إلى قريش ، فقال المشركون : الجوع أخرجهم.

وقالوا له : يا أبا طالب ، قد آن لك أن تصالح قومك.

قال : قد جئتكم بخير ، ابعثوا إلى صحيفتكم ، لعله أن يكون بيننا وبينكم صلح فيها. فبعثوا ، فأتوا بها ، فلما وضعت وعليها أختامهم.

قال لهم أبو طالب : هل تنكرون منها شيئا؟

قالوا : لا.

قال : إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط : أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة ، فأكلت كل قطيعة وإثم ، وتركت كل اسم هو لله ؛ فإن

__________________

(١) ولربما يقال : إن استمرار قريش على عدائه «صلى الله عليه وآله» ، إلى حين نقض الصحيفة ، يدل على أن الأرضة إنما محت اسم الله تعالى. وأبقت قطيعة الرحم وسائر المواد التي اتفقوا عليها.

وقد استبعد البعض ذلك استنادا إلى أن أكل الأرضة لاسم الله بعيد. فلعلهم التزموا بمضمونها وإن كانت الأرضة قد محتها ، أو أنهم أعادوا كتابتها.

ولربما يرد على ذلك بأن الأرضة إنما محت اسم الله عنها تنزيها له عن أن يكون في صحيفة ظالمة كهذه وهذا إعجاز مطلوب وراجح من أجل إظهار الحق ، وليس في ذلك إهانة.

٣٤٧

كان صادقا أقلعتم عن ظلمنا ، وإن يكن كاذبا ندفعه إليكم فقتلتموه.

فصاح الناس : أنصفتنا يا أبا طالب ، ففتحت ، ثم أخرجت ، فإذا هي كما قال «صلى الله عليه وآله» : فكبر المسلمون ، وامتقعت وجوه المشركين.

فقال أبو طالب : أتبين لكم : أينا أولى بالسحر والكهانة؟. فأسلم يومئذ عالم من الناس.

ولكن المشركين لم يقنعوا بذلك ، بل استمروا على العمل بمضمون الصحيفة ، حتى قام جماعة منهم بالعمل على نقضها ، ويذكرون منهم : هشام بن عمرو بن ربيعة ، وزهير بن أمية بن المغيرة ، والمطعم بن عدي ، وأبا البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وكلهم له رحم ببني هاشم والمطلب ، وتكلموا في نقضها ؛ فعارضهم أبو جهل فلم يلتفتوا إلى معارضته ، ومزقت الصحيفة ، وبطل مفعولها. وخرج الهاشميون حينئذ من شعب أبي طالب رضوان الله تعالى عليه (١).

حنكة أبي طالب ، وإيمانه :

إن المطالع لأحداث ما قبل الهجرة النبوية الشريفة ليجد عشرات الشواهد الدالة على حنكة أبي طالب «عليه السلام».

وخير شاهد نسوقه الآن على ذلك ، هو ما ذكرناه آنفا ، حيث رأيناه

__________________

(١) راجع فيما تقدم : السيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٦ ودلائل النبوة ط دار الكتب ج ٢ ص ٣١٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٨٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٧ و ١٣٨ ط دار المعرفة وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣١ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٨٥ و ٨٦.

٣٤٨

يطلب منهم أن يحضروا صحيفتهم ، ويمزج ذلك بالتعريض بإمكان أن يكون ثمة صلح في ما بينهم وبينه.

وما ذلك إلا من أجل أن لا تفتح الصحيفة إلا علنا ، يراها كل أحد ، وأيضا حتى يهيئهم للمفاجأة الكبرى ، ويمهد السبيل أمام طرح الخيار المنطقي عليهم ، ليسهل عليهم تقبله ، ثم الالتزام به ، ولا سيما إذا استطاع أن ينتزع منهم وعدا بما يريد ، ويضعهم أمام شرف الكلمة ، وعلى محك قواعد النبل واحترام الذات ، حسب المعايير التي كانوا يتعاملون على أساسها ..

وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد ، حتى ليصيح الناس : أنصفتنا يا أبا طالب.

ثم تبرز لنا من النصوص المتقدمة حقيقة أخرى ، لها أهميتها وانعكاساتها ، وهي تدل على مدى ثقة أبي طالب بصدق النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وبسداد أمره ، وواقعية ما جاء به ، حتى قال : إن ابن أخي حدثني ولم يكذبني قط ..

وكان يتألم جدا من اتهام ابن أخيه بالسحر والكهانة ، ويعتبر ذلك افتراء ظاهرا ، ويغتنم الفرصة السانحة للتعبير عن خطل رأيهم ، وسفه أحلامهم ، فيقول لهم : «أتبين لكم : أينا أولى بالسحر والكهانة»؟!

وكانت النتيجة : أن أسلم بسبب هذه المعجزة يومئذ عالم من الناس.

القبلية وآثارها :

وقد لاحظنا فيما سبق : أن القبلية قد ساعدت إلى حد ما في منع الكثير من الأحداث التي تؤثر مستقبليا على الدعوة ونجاحها.

٣٤٩

وليكن ما قام به هؤلاء الذين عملوا على نقض الصحيفة هو أحد الشواهد على ذلك.

ولكن الذي يلفت نظرنا هو : أننا لا نرى أبا لهب فيمن قام في ذلك أو ساعد عليه.

كما أننا لا نجد أثرا لابن عم خديجة حكيم بن حزام ، الذي تدّعي الروايات!! أنه كان يرسل الطعام لهم وهم محصورون في الشعب.

وأيضا لا نجد مكانا لأبي العاص بن الربيع الأموي (!!) ، الذي سوف يأتي حين الكلام على أسطورة تزويج الإمام علي «عليه السلام» ببنت أبي جهل أنهم يدعون (!!) : أن النبي «صلى الله عليه وآله» أثنى على صهره!! تعريضا بعلي الذي لم يكن يستحق إلا التقريع والتعريض (!!). علي الذي كان يخاطر بنفسه ، ويأتي لهم بالطعام من مكة ، ولو وجدوه لقتلوه ، كما تقدم.

ما بعد نقض الصحيفة :

واستمر الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» يعمل على نشر دينه ، وأداء رسالته ، واستمرت قريش تضع في طريقه العراقيل ، وتحاول أن تمنع الناس من الاجتماع به ، والاستماع إليه ، بكل الوسائل التي تقع تحت اختيارها ، والنبي «صلى الله عليه وآله» يتحمل ويصبر ، لا يكل ولا يمل ، ولم تفلح قريش في ذلك ، ولا وصلت إلى نتيجة ، والأحداث التي في هذا السبيل كثيرة ، لو أردنا استقصاءها لطال بنا المقام ، ولا محيص لنا عن تجاوزها إلى غيرها ، وإن كان يعز ذلك علينا.

٣٥٠

وفد من الحبشة :

وقدم على النبي الأعظم الأكرم «صلى الله عليه وآله» أول وفد من خارج مكة ، وبالذات من الحبشة ، ومن النصارى ، وقيل : من نجران ، وكان يتألف ـ على قول ابن إسحاق وغيره ـ من عشرين رجلا ، وقيل غير ذلك ، وكان على رأس الوفد جعفر بن أبي طالب «رحمه الله» (١).

فوجدوا النبي «صلى الله عليه وآله» في المسجد الحرام ؛ فكلموه ، وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، وبعد دعوة الرسول «صلى الله عليه وآله» لهم إلى الإسلام آمنوا وصدقوا ، فلما قاموا ، اعترضهم أبو جهل ، وعنفهم على إسلامهم ، وتركهم دينهم ؛ فقالوا : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا ؛ فأنزل الله تعالى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، إلى قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٢).

وكانت هذه ـ بطبيعة الحال ـ ضربة قاسية لقريش وكبريائها ، وخططها

__________________

(١) كذا قال البوطي في فقه السيرة ص ١٢٦ ومجمع البيان ج ٧ ص ٢٥٨ ويفهم منه أنهم قدموا مع جعفر حين قدومه نهائيا عام خيبر.

(٢) الآية في سورة القصص من آية ٥٢ حتى آية ٥٥ ، وراجع الحديث في سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٣٢ ، وتفسير ابن كثير ، والقرطبي ، والنيسابوري في تفسير الآيات ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٨٢.

٣٥١

وأهدافها ، وخصوصا إذا كان ذلك الوفد قد جاء من الحبشة ، وبالأخص بقيادة جعفر «عليه السلام» فإن ذلك يعني :

أن الدعوة قد بدأت تأخذ طريقها إلى القلوب في مناطق لا تخضع لقريش ، وسلطانها ، ونفوذها.

كما أنه إنذار لها بلزوم التحرك بسرعة قبل أن يفوت الأوان.

ولكن كيف؟ وأنى؟. وهذا أبو طالب ، ومعه الهاشميون والمطّلبيون يمنعون محمدا ويحوطونه ، فلا بد إذن من الانتظار.

من مواقف أبي طالب :

وكان أبو طالب شيخ الأبطح «عليه السلام» هو الذي حامى وناصر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وحدب عليه منذ طفولته ، وحتى الآن : فقد نصره بيده ولسانه ، وواجه المصاعب الكبيرة ، والمشاق العظيمة في سبيل الدفع عنه ، والذود عن دينه ورسالته ، وإعطائها الفرصة للتوسع والانتشار ، ما وجد إلى ذلك سبيلا.

وهو أيضا الذي كان يقدمه على أولاده جميعا ، وقد أرجعه بنفسه من بصرى إلى مكة عند ما حذره بحيرا من اليهود عليه «صلى الله عليه وآله».

نعم ، وهو الذي رضي بعداء قريش له ، وبمعاناة الجوع والفقر ، والنبذ الاجتماعي ، ورأى الأطفال يتضاغون جوعا ، حتى اقتاتوا ورق الشجر ، بل لقد عبر صراحة :

عن أنه على استعداد لأن يخوض حربا طاحنة ، تأكل الأخضر واليابس ، ولا يسلّم محمدا لهم ، ولا يمنعه من الدعوة إلى الله ، بل هو لا

٣٥٢

يطلب منه ذلك على الأقل.

وهو الذي يقف ذلك الموقف العظيم من جبابرة قريش وفراعنتها ، حينما جاءه النبي «صلى الله عليه وآله» ـ وقد ألقت عليه قريش سلا ناقة ـ فأخذ «رحمه الله» السيف ، وأمر حمزة بأن يأخذ السلا ، وتوجه إلى القوم ، فلما رأوه مقبلا عرفوا الشر في وجهه ، ثم أمر حمزة أن يلطخ سبالهم ، واحدا واحدا ، ففعل (١).

وفي نص آخر : أنه نادى قومه ، وأمرهم بأن يأخذوا سلاحهم ؛ فلما رآه المشركون أرادوا التفرق ؛ فقال لهم : «ورب البنيّة ، لا يقوم منكم أحد إلا جللته بالسيف ، ثم وجأ أنف من فعل بالنبي ذلك حتى أدماها ـ وفاعل ذلك هو ابن الزبعرى ـ وأمرّ بالفرث والدم على لحاهم (٢).

وفي الشعب كان يحرس النبي «صلى الله عليه وآله» بنفسه وينقله من مكان إلى آخر.

ويجعل ولده عليا «عليه السلام» في موضع النبي «صلى الله عليه وآله» ، حتى إذا كان أمر ، أصيب ولده دونه وقد خاطب «رحمه الله» في هذه المناسبة عليا «عليه السلام» بأبيات معبرة.

__________________

(١) الكافي نشر مكتبة الصدوق ج ١ ص ٤٤٩ ومنية الراغب ص ٧٥ وراجع السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢ والسيرة النبوية لدحلان مطبوع بهامش الحلبية ج ١ ص ٢٠٢ و ٢٠٨ و ٢٣١ والبحار ج ١٨ ص ٢٥٩.

(٢) راجع : الغدير ج ٧ ص ٣٨٨ و ٣٥٩ وج ٨ ص ٣ ـ ٤ وأبو طالب مؤمن قريش ص ٧٣ كلاهما عن العديد من المصادر وثمرات الأوراق ص ٢٨٥ و ٢٨٦ ونزهة المجالس ج ٢ ص ١٢٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٤٠٦ ، ٤٠٥ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٤ و ٢٥.

٣٥٣

وأجابه علي «عليه السلام» بمثلها (١) فلتراجع.

وكان يدفع قريشا عنه باللين تارة ، وبالشدة أخرى ، وينظم الشعر السياسي ، ليثير العواطف ، ويدفع النوازل ، ويهيئ الأجواء لإعلاء كلمة الله ، ونشر دينه ، وحماية أتباعه.

وقد افتقد النبي «صلى الله عليه وآله» مرة «فلم يجده ؛ فجمع الهاشميين ، وسلّحهم ، وأراد أن يجعل كل واحد منهم إلى جانب عظيم من عظماء قريش ليفتك به ، لو ثبت أن محمدا أصابه شر» (٢).

كل ذلك في سبيل الدفع عن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ونصر دينه ، وإعلاء كلمته ، ورفعة شأنه.

وواضح : أن الإلمام بكل مواقف أبي طالب ، وتضحياته الجسام يحتاج إلى وقت طويل ، وجهد مستقل ونحن نكتفي بهذه الإشارة ، ونعترف أننا لم نقض حقه كما ينبغي وذلك من أجل أن نوفر الفرصة لبحوث أخرى في السيرة النبوية الشريفة.

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٦٤ و ٦٥ وأسنى المطالب ص ٢١ ولم يصرح باسم (علي) وكذا في السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٢ وراجع البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٤ ودلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٣١٢ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤٠ و ١٤١ والغدير ج ٧ ص ٣٦٣ و ٣٥٧ و ٣٥٨ وج ٨ ص ٣ و ٤ وأبو طالب مؤمن قريش ص ١٩٤.

(٢) قد مر ذلك في أثناء الحديث عن الإسراء والمعراج ، راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٦. أبو طالب مؤمن قريش ص ١٧١ ومنية الراغب ص ٧٥ و ٧٦ والغدير ج ٢ ص ٤٩ و ٣٥٠ و ٣٥١.

٣٥٤

مع تضحيات أبي طالب عليه السّلام :

مما تقدم يظهر أن أبا طالب ، شيخ الأبطح ، كان قد :

١ ـ تخلى حتى عن مكانته في قومه ، إلى بديل آخر هو في الاتجاه المضاد تماما ، وهو العداء لهم ، وسائر أهل بلده ، بل والدنيا بأسرها ، بل هو يتحمل النفي والنبذ الاجتماعي له ، ولكل من يلوذ به ، ولا يستسلم للضغوط المتنوعة التي يتعرض لها ، ولا تلين قناته ، ولا تصدع صفاته.

٢ ـ رضي بتحمل الجوع والفقر والمحاصرة الاقتصادية ، بل هو يبذل أمواله وكل ما لديه في سبيل هذا الدين.

٣ ـ وطّن نفسه على خوض حرب طاحنة ، ربما تنتهي بإبادة الهاشميين وأعدائهم ، إذا لزم الأمر.

٤ ـ ضحى حتى بولده الأصغر سنا عليّ «عليه السلام» وتحمل آثار غربة ولده الآخر جعفر ، المهاجر إلى الحبشة.

٥ ـ جاهد بيده ولسانه ، واستخدم كل ما لديه من إمكانات مادية ومعنوية ، ولا يبالي بالصعاب والمشاق كافة ، وهو يدافع عن هذا الدين ، ويحوطه بالرعاية والعناية ، ما وجد إلى ذلك سبيلا.

سؤال وجوابه :

ويرد سؤال ، هو : لماذا لا يكون ذلك كله بدافع عاطفي ، ونابعا عن حمية النسب والقبيلة؟!

٣٥٥

أو على حد تعبير البعض : بدافع من «حبه الطبيعي»؟ (١).

وجوابه :

١ ـ ما يأتي من أدلة قاطعة على إيمان أبي طالب عليه الصلاة والسلام ولا سيما أشعاره وتصريحاته الدالة على ذلك ، هذا بالإضافة إلى ما ورد عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعن الأئمة «عليهم السلام» من ولده في ذلك ..

٢ ـ يؤيد ذلك أنه إذا كان محمد «صلى الله عليه وآله» ابن أخيه ؛ فإن عليا «عليه السلام» ولده ، فلو كانت العاطفة النسبية هي الدافع ، فلماذا يضحي بولده دون ابن أخيه ، طائعا مختارا ، بعد تفكير وتأمل وتدبر لعواقب ذلك؟ ولماذا يرضى بأن يكون الاغتيال ـ لو تم ـ موجها له دونه؟!

أم يعقل أن يكون حبه الطبيعي لابن أخيه أكثر منه لولده ، وفلذة كبده؟!.

٣ ـ لو كانت الحمية القبلية ، والرابطة النسبية ، هي السبب في موقفه ذاك ، فأولا :

لماذا لم تدفع أبا لهب لعنه الله لأن يقف أيضا موقف أبي طالب «عليه السلام» ؛ فيدفع عن النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويضحي في سبيله ؛ حتى بولده ، وبمكانته ، وبكل ما يملك؟!.

بل لقد رأيناه من أشد الناس على النبي «صلى الله عليه وآله» ، وأكثرهم جرأة عليه ، وإيذاء له.

وأما سائر بني هاشم فإنهم وإن دخلوا الشعب مع النبي «صلى الله

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٩٤.

٣٥٦

عليه وآله» إلا أن تضحياتهم في سبيل النبي لم تبلغ عشر معشار تضحيات أبي طالب ، كما أنهم إنما وقفوا هذا الموقف تحت تأثير نفوذ أبي طالب ، وإصراره ..

بل لماذا يدفع الحب الطبيعي أبا طالب للتضحية بولده علي ، وبإخوته ، بل بسائر بني هاشم في سبيل ابن أخيه؟! ..

وهكذا يتضح : أن حمية الدين أقوى من حمية النسب ، ولذلك نرى المسلمين يصرحون بأنهم على استعداد لقتل آبائهم وأولادهم في سبيل دينهم.

وقد استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله «صلى الله عليه وآله» بقتل أبيه (١) ..

وفي صفين أيضا لم يرجع الأخ عن أخيه حتى أذن له أمير المؤمنين «عليه السلام» بتركه (٢) وقد قتل أهل الكوفة إخوانهم وأبناءهم حين أصبحوا خوارج (٣) إلى غير ذلك من الشواهد الكثيرة.

٤ ـ ثم إنه لو كان أبو طالب يفعل ذلك من أجل الدنيا ؛ فقد كان يجب أن يضحي بابن أخيه دون ولده ، ويضحي به دون عشيرته ؛ لأنه يحصل على الدنيا من هذا الطريق ؛ كما قتل المأمون أخاه ، وسممت أم الهادي ولدها ، لا أن يضحي بكل شيء دونه ، ويصر على ذلك حتى لو كانت النتيجة هي :

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٥ ص ١٨٠ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٤ عن عبد بن حميد ، وابن المنذر والإصابة ج ٢ ص ٣٣٦.

(٢) صفين للمنقري ص ٢٧١ و ٢٧٢.

(٣) راجع : كتابنا : عليّ والخوارج ج ٢ ص ٧٧ فما بعدها.

٣٥٧

خوض حرب تؤدي إلى قتله وجميع من معه من أهل وأحبة ، فإن هذا لا يصح في منطق المصالح الدنيوية بأية صورة على الإطلاق.

٥ ـ وأيضا ، فإن الحمية القبلية ـ لو كانت ـ فإنما تؤثر أثرها في حدود مصالح القبيلة ، والحفاظ على شؤونها ، ومستقبلها أما إذا كانت هذه الحمية سببا في تدمير القبيلة والقضاء عليها ، وتعطيل مصالحها ، وتعريض مستقبلها للأخطار الجسام ؛ فإن هذه الحمية لا يمكن أن يفسح لها المجال ، ولا أن يظهر لها أثر لدى عقلاء الرجال.

وهكذا يتضح : أننا لا يمكن أن نفسر مواقف أبي طالب «عليه السلام» تلك ، إلا على أنها بدافع عقيدي وإيماني راسخ ، يدفع الإنسان للبذل والعطاء ، لكل ما يملك في سبيل دينه وعقيدته.

فصلوات الله وسلامه عليك يا أبا طالب ، يا أبا الرجال ، ويا رائد قوافل التضحية والفداء ، في سبيل الحق والدين ، ورحمة الله وبركاته.

عام الحزن :

وفي السنة العاشرة من البعثة كانت وفاة الرجل العظيم ، أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، ففقد النبي «صلى الله عليه وآله» بفقده نصيرا قويا ، وعزيزا وفيا ، كان هو الحامي له ، والدافع عنه ، وعن دينه ، ورسالته ، كما أشرنا إليه.

ثم توفيت بعده بمدة وجيزة ـ قيل : بثلاثة أيام ، وقيل بعده بحوالي شهر (١) خديجة أم المؤمنين صلوات الله وسلامه عليها ، أفضل أزواج النبي

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٤٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٣٢ البداية والنهاية ج ٣ ص ١٢٧ والتنبيه والإشراف ص ٢٠٠.

٣٥٨

الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، وأحسنهن سيرة وأخلاقا مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، وقد كانت بعض نساء النبي «صلى الله عليه وآله» (وهي عائشة) تغار منها غيرة شديدة ، كما سنرى ، رغم أنها لم تجتمع معها في بيت الزوجية ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تزوجها بعد وفاة خديجة بزمان (١).

ونستطيع أن نعرف : كم كان لأبي طالب ، ولخديجة «عليهما السلام» من خدمات جلّى في سبيل هذا الدين من تسمية النبي «صلى الله عليه وآله» عام وفاتهما ب : «عام الحزن» (٢).

الحب في الله والبغض في الله :

ومن الواضح : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن ينطلق في حبه لهما ، وحزنه عليهما من مصلحته الشخصية ، أو من عاطفة رحمية ، وإنما هو يحب في الله تعالى ، وفي الله فقط.

ويقدّر أي إنسان ، ويحزن لفقده ، ويرتبط به روحيا وعاطفيا ، بمقدار ارتباط ذلك الإنسان بالله ، وقربه منه ، وتفانيه في سبيله ، وفي سبيل دينه

__________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ج ٣ ص ١٢٧ ـ ١٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ١٣٣ ـ ١٣٥ صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٠٢ وكتاب عائشة للعسكري ص ٤٦ فما بعدها. وقد ذكرنا بعض المصادر لذلك في ما يأتي في فصل : حتى بيعة العقبة ، حين الكلام حول جمال عائشة وحظوتها.

(٢) سيرة مغلطاي ص ٢٦ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٣٠١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٥٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٩ ط دار المعرفة وأسنى المطالب ص ٢١.

٣٥٩

ورسالته.

أي أنه «صلى الله عليه وآله» لم يتأثر على أبي طالب وخديجة ؛ لأن هذه زوجته وذاك عمه.

وإلا فقد كان أبو لهب عمه أيضا ، وإنما لما لمسه فيهما من قوة إيمان ، وصلابة في الدين ، وتضحيات وتفان في سبيل الله ، والعقيدة ، وفي سبيل المستضعفين في الأرض ولما خسرته الأمة فيهما ، من جهاد وإخلاص قلّ نظيره في تلك الظروف الصعبة والمصيرية.

وقد ألمح النبي «صلى الله عليه وآله» إلى ذلك حينما جعل موت أبي طالب وخديجة مصيبة للأمة بأسرها ، كما هو صريح قوله في هذه المناسبة : «.. اجتمعت على هذه الأمة مصيبتان ، لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا» (١).

نعم ، وذلك هو الأصل الإسلامي الأصيل ، الذي قرره الله تعالى بقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ..)(٢) وهل ثمة محادة لله ولرسوله أعظم من الشرك ، الذي عبر الله عنه بقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(٣) و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ..)؟! (٤).

والآيات والروايات التي تؤكد على الحب في الله والبغض في الله كثيرة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٥ ط صادر.

(٢) الآية ٢٢ من سورة المجادلة.

(٣) الآية ١٣ من سورة لقمان.

(٤) الآية ٤٨ من سورة النساء.

٣٦٠