الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

عليه وآله» أمثال حمزة وعلي إلى تمام الأربعين رجلا ؛ ولماذا لا يخاف على هذين المسلمين ، وليس لهما ناصر ، ولا عندهما أحد؟!.

٣ ـ إن قول حمزة عن عمر : «وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه» يشير إلى أنه «رحمه الله» لم يكن يقيم وزنا لعمر ، حتى حينما يكون عمر متوشحا بالسيف ، حتى يرى : أن أمره سهل ، وأن بالإمكان قتله بنفس سيفه الذي يحمله ، وهذا غاية في الاستهانة بقدرات عمر ، ما بعدها غاية.

٤ ـ لا ندري لماذا تهدد النبي عمر؟

وجبذه جبذة شديدة!!.

وكيف وصل عمر إلى النبي بهذه السهولة؟

ولماذا لقيه في الحجرة؟

ولماذا خرج المسلمون في صفين؟

وما هي فلسفة ذلك عسكريا ، وهل لم يكن عمر يعرف من هو أنقل رجل للحديث في قريش؟

ولماذا لم يكن يدنو إليه إلا شريف؟!

وإذا كان قد خرج مع المسلمين في صفين وتهدد المشركين ، وخاف رسول الله «صلى الله عليه وآله» حينئذ فلماذا احتاج إلى أنقل رجل للحديث في قريش؟!

ولماذا ذهب إلى المسلمين متوشحا سيفه؟!

إلى كثير من الأسئلة التي تعلم بالمراجعة والمقارنة.

٣٢١

خاتمة المطاف :

وبعد ما تقدم ، فإن المراجع لروايات إسلام عمر لا يصعب عليه : أن يكتشف بسرعة :

أن ثمة محاولات للتغطية على قضية إسلام حمزة ، الذي عز به الإسلام حقا ، وسر به رسول الله «صلى الله عليه وآله» سرورا كثيرا.

ولهذا تجد : أنهم يقرنون عمر بحمزة كثيرا في تلك الروايات ، ويحاولون إعطاءهما المواقف مناصفة ، مع تخصيص عمر بحصة الأسد فيها.

كما أن فضيلة رد الجوار التي هي لعثمان بن مظعون يحاولون إعطاءها إلى عمر.

بل نجد في بعض الروايات : أن أهل الكتاب في الشام قد بشروا عمر بما سوف يؤول إليه أمره في مستقبل هذا الدين الجديد (١) ، كما بشروا أبا بكر في بصرى (٢) وكما بشروا النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه (٣) حسب رواياتهم.

ثم إنهم قد وجدوا في عمر العلامات التي تدعم مدعاهم (٤) ، كما وجدوها في أبي بكر من قبل ..

__________________

(١) راجع الرياض النضرة ج ٢ ص ٣١٩.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٧٤ و ٢٧٥ و ١٨٦ والرياض النضرة ج ١ ص ٢٢١.

(٣) قد أشرنا إلى ما يذكرونه عن دور ورقة بن نوفل في ذلك ، وأثبتنا عدم صحة ذلك ، فراجع روايات بدء الوحي في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٤) تاريخ عمر بن الخطاب ص ٢٢.

٣٢٢

ثم كان إسلام عمر ، وكانت كل الجهود موقوفة على صنع الفضائل والكرامات له!!

فتبارك الله أحسن الخالقين!!

ولقد قال ابن عرفة المعروف بنفطويه : إن أكثر فضائل الصحابة قد افتعلت في عهد بني أمية ، إرغاما لأنوف بني هاشم! (١).

كما أن معاوية قد أمر الناس بوضع الحديث في الخلفاء الثلاثة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وحسبنا ما ذكرناه هنا ؛ فإن فيه مقنعا وكفاية لكل من أراد الرشد والهداية.

__________________

(١) راجع النصائح الكافية ص ٧٤ وحياة الإمام الحسن للقرشي ج ٢ ص ١٤٨ والكنى والألقاب ج ٣ ص ٢٦٢ وفجر الإسلام ص ٢١٣.

٣٢٣
٣٢٤

الفصل السادس :

في شعب أبي طالب عليه السّلام

٣٢٥
٣٢٦

المقاطعة :

«لما رأت قريش عزة النبي «صلى الله عليه وآله» بمن معه ، وعزة أصحابه في الحبشة ، وفشوّ الإسلام في القبائل» (١) ، وأن جميع جهودها في محاربة الإسلام قد باءت بالفشل ، حاولت أن تقوم بتجربة جديدة ، وهي الحصار الاقتصادي والاجتماعي ضد الهاشميين ، وأبي طالب ؛ فإما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد لها للقتل ، وإما أن يتراجع محمد «صلى الله عليه وآله» نفسه عن دعوته.

وإما أن يموتوا جوعا وذلا ، مع عدم ثبوت مسؤولية محددة على أحد في ذلك ، يمكن أن تجر عليهم حربا أهلية ، ربما لا يمكن لأحد التكهن بنتائجها ، وعواقبها السيئة.

فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على عدم التزوج والتزويج لبني هاشم ، وبني المطلب ، وأن لا يبيعوهم شيئا ، ولا يبتاعوا منهم ، وأن لا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور ، أو يسلموا لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليقتلوه.

__________________

(١) سيرة مغلطاي ص ٢٣ ، وراجع سيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٧٥ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٧ ، عن المواهب اللدنية.

٣٢٧

وقد وقع على هذه الصحيفة أربعون رجلا من وجوه قريش ، وختموها بخواتيمهم ، وعلقت الوثيقة في الكعبة مدة ويقال : «إنهم خافوا عليها السرقة ؛ فنقلوها إلى بيت أم أبي جهل» (١).

وكان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر الروايات ، وقيل ست.

وأمر أبو طالب بني هاشم أن يدخلوا برسول الله «صلى الله عليه وآله» الشعب ـ الذي عرف بشعب أبي طالب ـ ومعهم بنو المطلب بن عبد مناف ، باستثناء أبي لهب لعنه الله وأخزاه (٢).

واستمروا فيه إلى السنة العاشرة ، ووضعت قريش عليهم الرقباء حتى لا يأتيهم أحد بالطعام ، وكانوا ينفقون من أموال خديجة ، وأبي طالب ، حتى نفدت ، حتى اضطروا إلى أن يقتاتوا بورق الشجر.

وكان صبيتهم يتضاغون جوعا ، ويسمعهم المشركون من وراء الشعب ، ويتذاكرون ذلك فيما بينهم ، فبعضهم يفرح ، وبعضهم يتذمم من ذلك.

ويقولون : إنه ربما وجد فيهم من يتعاطف مع المسلمين ، وكان هذا يصدر غالبا ممن يتصل بهم نسبا ، كأبي العاص بن الربيع ، وحكيم بن حزام وإن كنا نحن نشك في ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) هكذا جاء في بعض الروايات في البحار ج ١٩ ص ١٦ عن الخرائج والجرائح. ولا يهمنا تحقيق هذا الأمر كثيرا ..

(٢) وقيل : إن أبا سفيان بن الحارث أيضا لم يدخل الشعب معهم ، ولكنه قول نادر ، والأكثر على الاقتصار على أبي لهب لعنه الله .. ولسنا هنا في صدد تحقيق ذلك ..

٣٢٨

ولم يكونوا يجسرون على الخروج من شعب أبي طالب إلا في موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكانوا يشترون حينئذ ويبيعون ضمن ظروف صعبة جدا ، حيث إن المشركين كانوا يلتقون بكل من يقدم مكة أولا ، ويطمعونه بمبالغ خيالية ثمنا لسلعته ، شرط أن لا يبيعها للمسلمين.

وكان أبو لهب هو رائدهم في ذلك ؛ فكان يوصي التجار بالمغالاة عليهم حتى لا يدركوا معهم شيئا ، ويضمن لهم ، ويعوضهم من ماله كل زيادة تبذل لهم.

بل لقد كان المشركون يتهددون كل من يبيع المسلمين شيئا بنهب أمواله ، ويحذرون كل قادم إلى مكة من التعامل معهم.

والخلاصة : أن قريشا قد قطعت عنهم الأسواق ، فلا يتركون لهم طعاما يقدم مكة ، ولا بيعا إلا بادروهم إليه ، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله «صلى الله عليه وآله» (١).

وقد استمرت هذه المحنة سنتين أو ثلاثا ، وكان علي أمير المؤمنين «عليه السلام» أثناءها يأتيهم بالطعام سرا من مكة ، من حيث يمكن ، ولو أنهم ظفروا به لم يبقوا عليه ، كما يقول الإسكافي وغيره (٢).

وكان أبو طالب رضوان الله تعالى عليه كثيرا ما يخاف على النبي «صلى الله عليه وآله» البيات ؛ فإذا أخذ الناس مضاجعهم ، اضطجع النبي «صلى

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٥٦.

٣٢٩

الله عليه وآله» على فراشه ، حتى يرى ذلك جميع من في شعب أبي طالب ، فإذا نام الناس جاء وأقامه ، وأضجع ابنه عليا مكانه (١).

وثمة أبيات شعر له «رحمه الله» مخاطبا بها ولده عليا بهذه المناسبة ، فلتراجع في مصادرها.

أموال خديجة ، وسيف علي عليهما السّلام :

هنا سؤال مفاده : إن من المعروف أن الإسلام قد قام بسيف أمير المؤمنين «عليه السلام» ، الذي قال فيه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ كما سيأتي في غزوتي أحد وبدر :

لا فتى إلا علي

لا سيف إلا ذو الفقار

وبأموال خديجة رحمها الله تعالى ، التي أنفقتها في سبيل الله سبحانه فما معنى هذا الكلام وما الذي يرمي إليه؟!

فهل معنى ذلك : أن خديجة كانت ترشو الناس من أجل أن يدخلوا في الإسلام؟

وهل يمكن العثور على مورد واحد من هذا القبيل في التاريخ؟!

لعلك تقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتألف كثيرين على الإسلام ، فيعطيهم الأموال ترغيبا لهم في ذلك.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٥٦ وج ١٤ ص ٦٤ ، والغدير ج ٧ ص ٣٥٧ و ٣٥٨ عن كتاب الحجة لابن معد.

وذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٤ من دون تصريح بالاسم ، وتيسير المطالب ص ٤٩.

٣٣٠

وقضية غنائم حنين الآتية إن شاء الله أوضح دليل على ذلك ، ولا يجهل أحد سهم المؤلفة قلوبهم في الإسلام.

والجواب :

أن هذا الذي ذكر ليس معناه أنهم كانوا يأخذون الرشوة على الإسلام ، وإنما يريد الإسلام لهؤلاء أن يعيشوا في الأجواء الإسلامية ، ويتفاعلوا معها ، وينظروا لها نظرة سليمة ، ومن دون وجود أية حواجز نفسية ، أو سياسية ، أو اجتماعية فكان هذا المال المعطى لهم يساعد على التغلب على تلك الحواجز الوهمية في أكثرها ، ويجعلهم يعيشون في الأجواء والمناخات الإسلامية ، ويتعرفون على خصائص الإسلام وأهدافه.

ولتحصل لهم من ثم القناعات الوجدانية والفكرية بأحقية الإسلام ، وسمو أهدافه.

كما أن من هؤلاء من يرى : أن هذا الدين قد حرمه من المال والثروة والامتيازات التي يحبها ، فلماذا لا يدبر في الخفاء ما يزيح هذا الكابوس الخانق ، والمضر بمصالحه؟

فإذا أعطي المال ، وأفهم أن الإسلام ليس عدوا للمال : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ..)(١) فإنه يمكن إقناعه حينئذ بأن هدف الإسلام ليس إلا التركيز على إنسانية الإنسان ، واعتبارها المقياس الحقيقي له ، لا المال ، ولا القوة ولا الجمال ، ولا الجاه ، ولا غير ذلك ، وأنه يهدف إلى تنظيم حياة هذا الإنسان في هذا الخط ، ليكون سعيدا

__________________

(١) الآية ٣٢ من سورة الأعراف.

٣٣١

في الدنيا والآخرة على حد سواء.

وأما أموال خديجة ؛ فلم تكن تعطى كرشوة على الإسلام ، ولا كانت تنفق على المؤلفة قلوبهم.

وإنما كانت تسد رمق ذلك المسلم ، الذي يعاني أعظم المشاق والآلام ، في سبيل إسلامه وعقيدته ، هذا المسلم الذي لم تتورع قريش عن محاربته بكل ما تملكه من أسلحة لا إنسانية ولا أخلاقية ، حتى بالفقر والجوع.

فكانت تلك الأموال تسد رمق من يتعرض للأخطار الكبيرة ، وتخدم الإسلام عن هذا الطريق.

وهذا معنى قولهم : إن الإسلام قام بأموال خديجة.

وملاحظة لا بد منها ، وهي أن أموال خديجة التي أنفقت في المقاطعة ، كانت في غالبها من النوع الذي يمكن الانتفاع به في سد رمق الجائع ، وكسوة العاري ، وأما ما سواه ؛ فلربما لم يتعرض لذلك ؛ بسبب عدم القدرة على البيع والشراء في غالب الأحيان.

ونشير أخيرا ، إلى أن مكة مهما عظمت الثروة فيها ، فإنها لا تخرج عن كونها محدودة الإمكانات ، تبعا لموقعها ، وحجمها ؛ لأنها لم تكن مدينة كبيرة جدا ، بل كانت بلدا كبيرا بالنسبة إلى القرية ، ولذا جاء التعبير عنها في القرآن ب «أم القرى» وثروة في بلد كهذا تبقى دائما محدودة ، تبعا لمحدوديته ، وقدراته ، وإمكاناته.

حكيم بن حزام وعواطفه تجاه المسلمين :

قد تقدم أنهم يذكرون حكيم بن حزام في جملة من كان يرسل الطعام

٣٣٢

سرا إلى المسلمين في شعب أبي طالب روى ذلك ابن إسحاق وغيره (١).

ولكننا بدورنا نشك في ذلك ، فإن حكيم بن حزام كان من القوم الذين انتدبتهم قريش لقتل رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليلة الغار ، وباتوا على باب النبي «صلى الله عليه وآله» يرصدونه بانتظار ساعة الصفر (٢) وقد رد الله كيدهم إلى نحورهم.

أضف إلى ذلك : أنه كان يحتكر جميع الطعام الذي كان يأتي إلى المدينة على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٣) ، وكان من المؤلفة قلوبهم (٤).

ومن كانت له نفسية كهذه ، فإنه يصعب عليه جود كهذا ، خصوصا إذا كان معه تعريض نفسه لأخطار العداء مع قريش ، إلا أن يكون يمارس ذلك بروحه الاحتكارية التجارية ؛ فيبيع المسلمين الطعام بأغلى الأثمان ، فيعرض نفسه لهذه الأخطار حبا بالمال.

ويكون حبه للمال ، وتفانيه في سبيله هو الذي يسهّل عليه كل عسير ، ويذلل له ركوب كل صعب وخطير.

أضف إلى ذلك : أنه سوف يأتي حين الكلام على إسلام أبي طالب حين

__________________

(١) راجع : سيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٧٩ وغير ذلك من كتب السيرة.

(٢) البحار ج ١٩ ص ٣١ ومجمع البيان ج ٤ ص ٥٣٧.

(٣) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٣٥ والتوحيد للصدوق ص ٣٨٩ والوسائل ج ١٢ ص ٣١٦ والكافي ج ٥ ص ١٦٥ والتهذيب للطوسي ج ٧ ص ١٦٠ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢٦٦ ط جماعة المدرسين والاستبصار ج ٣ ص ١٥.

(٤) نسب قريش ص ٢٣١.

٣٣٣

الكلام على رده «صلى الله عليه وآله» هدية ملاعب الأسنة : أن النبي «صلى الله عليه وآله» ، قد رد هديته وهدية غيره ، لأنها هدية من مشرك ، فلا يعقل : أن يقبلها الآن ، ويردها بعد ذلك ، وإلا لاعترضوا عليه بقبوله لها قبل الآن.

إلا أن يدعى : أن ابن حزام إنما كان يعطي الأطفال والنساء ، وغيرهم من بني هاشم المحصورين في الشعب ، وهؤلاء كانوا يقبلون ذلك منه ، وإن كان النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يقبل. فتبقى ملاحظة : إنه قد يكون إنما يأتيهم بالطعام ليبيعهم إياه بأغلى الأثمان لا دافع لها.

ومن ذلك كله يظهر أيضا : أنه لا يمكن الاطمئنان ، ولا قبول قولهم : إن أبا العاص بن الربيع كان يفعل مثل ذلك آنئذ.

ونحن لا نستبعد : أن يكون للزبيريين يد في تسجيل هذه الفضيلة لحكيم بن حزام ، لا سيما وأنه كان ممن تلكأ عن بيعة أمير المؤمنين «عليه السلام» ، وكان عثمانيا متصلبا (١).

وقد أشرنا إلى ذلك حين الكلام حول ولادة أمير المؤمنين «عليه السلام» في الكعبة ، وحين الكلام عن افتعال الأكاذيب في موضوع الوحي وكيفياته.

انشقاق القمر :

وفي السنة الثامنة من البعثة ، حينما كان المسلمون محصورين في شعب أبي طالب ، كانت قضية انشقاق القمر (٢).

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٣٨٧.

(٢) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦٢ و ٦٤.

٣٣٤

وقد جاء في الروايات الكثيرة : أن قريشا سألوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يريهم آية ، فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم ؛ فقالوا : هذا سحر مستمر ، فأنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(١).

وفي رواية : أنهم قالوا : انتظروا ما يأتيكم به السفار ؛ فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فجاء السفار ، فسألوهم ، فقالوا : نعم رأيناه ، فأنزل الله : اقتربت الساعة وانشق القمر (٢).

ونقل عن السيد الشريف في شرح المواقف ، وعن ابن السبكي في شرح المختصر :

أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره عند أهل السنة (٣) ، وأما عند غيرهم ، فيقول العلامة البحاثة السيد الطباطبائي «رحمه الله» : «ورد انشقاق القمر لرسول الله «صلى الله عليه وآله» في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» كثيرا ، وقد تسلمه محدثوهم والعلماء من غير توقف» (٤).

ولكن على أية حال .. لا يمكن أن تعتبر هذه المسألة من ضروريات

__________________

(١) الآيتان ١ و ٢ من سورة القمر.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ١٣٣ عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في دلائلهما ، ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٢٢.

(٣) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦٠.

(٤) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦١ وراجع باب المعجزات السماوية في البحار ، ج ١٧ ص ٣٤٨ ـ ٣٥٩.

٣٣٥

الدين ، كما أشار إليه بعض الأعلام (١).

شبهة ، وحلها :

يقول العلامة الطباطبائي : «واعترض عليها : بأن صدور المعجزة منه «صلى الله عليه وآله» باقتراح من الناس ، ينافي قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(٢).

فمفاد هذه الآية ، إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الأمة أصلا ، لأن الأمم السابقة كذبوا بها ، وهؤلاء يماثلونهم في طباعهم ؛ فيكذبون بها ، ولا فائدة في الإرسال مع عدم ترتب الأثر عليه ، أو المفاد ؛ أننا لا نرسل بها ، لأننا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها ؛ فعذبوا بها ، وأهلكوا.

ولو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها ، وعذبوا عذاب الاستئصال ، لكننا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب.

وعلى أي حال ، لا يرسل بالآيات إلى هذه الأمة ، كما كانت ترسل إلى الأمم الدارجة.

نعم ، هذا في الآيات المرسلة باقتراح الناس ، دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة ، كالقرآن المؤيد لرسالة النبي «صلى الله عليه وآله» ، وكآيتي العصا ، واليد لموسى «عليه السلام» ، وآية إحياء الموتى وغيرها لعيسى «عليه السلام» ، وكذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه ، كالخوارق الصادرة عن

__________________

(١) راجع : همه بايد بدانند (فارسي) ص ٧٥.

(٢) الآية ٥٩ من سورة الإسراء.

٣٣٦

النبي «صلى الله عليه وآله» ، لا عن اقتراح منهم الخ ..

ثم أجاب «رحمه الله» بما ملخصه : إن تكذيبهم بآية انشقاق القمر كان يستدعي العذاب ، لأنها آية اقتراحية منهم ، وما كان الله ليهلك جميع من أرسل نبيه إليهم ، وهم أهل الأرض جميعا إلا بعد إتمام الحجة عليهم ، ولم تتم الحجة بعد على جميع الناس ثم كذبوه ، ثم طلبوا الآية.

بل تمت الحجة على بعض الأفراد من الذين كانوا يعيشون في مكة ، لأن هذه الآية كانت قبل الهجرة بخمس سنين هذا بالإضافة إلى أنه ما كان الله ليهلك جميع أهل مكة ومن حولها ، لأن فيهم جمعا كبيرا من المسلمين ، قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١).

ولم يتزيل المشركون عن المسلمين ، ولا امتازوا عنهم.

كما أنه إذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله» بينهم فإنه لا يعذبهم.

قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ..)(٢) وما كان الله لينجي المؤمنين ويهلك الكفار بعد أن آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة ثمان من البعثة وثمان من الهجرة ، ثم أسلم عامتهم يوم الفتح ، والإسلام يكتفى فيه بظاهره.

وأيضا ، فإن عامة أهل مكة ومن حولها لم يكونوا أهل جحود وعناد ،

__________________

(١) الآية ٢٥ من سورة الفتح.

(٢) الآية ٣٣ من سورة الأنفال.

٣٣٧

وإنما كان ذلك في عظمائهم وصناديدهم ، الذين كانوا يستهزئون به «صلى الله عليه وآله» ، ويعذبون المؤمنين.

والآيات التي تبين أن صدهم عن المسجد الحرام ، واستفزازهم له «صلى الله عليه وآله» من الأرض ليخرجوه منها ، سوف ينشأ عنه أنهم (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً)(١) ، و (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٢) ـ هذه الآيات ـ قد تحقق مضمونها بما أصابهم يوم بدر من القتل الذريع.

فقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ..)(٣) إنما يفيد الإمساك عن إرسال الآيات ما دام النبي «صلى الله عليه وآله» فيهم ، وأما إرسالها وتأخير العذاب إلى حين خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه.

وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً)(٤) ـ إلى أن قال ـ : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(٥). لا يدل على نفي تأييد النبي «صلى الله عليه وآله» بالآيات المعجزة ، وإنكار نزولها من الأساس ، وإلا فإن جميع الأنبياء كانوا بشرا.

ومعنى الآية : أنه من حيث هو بشر فإنه لا يقدر على ذلك.

__________________

(١) الآية ٧٦ من سورة الإسراء.

(٢) الآية ٤٩ من سورة الأنعام.

(٣) الآية ٥٩ من سورة الإسراء.

(٤) الآية ٩٠ من سورة الإسراء.

(٥) الآية ٩٣ من سورة الإسراء.

٣٣٨

وإنما الأمر إلى الله تعالى فهو الذي يأتي بالآيات في الحقيقة (١).

ويقول البعض : إن آية : (.. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(٢) لعلها ناظرة إلى أن دعوة النبي «صلى الله عليه وآله» ليست معتمدة على الآيات ، التي هي من قبيل ناقة ثمود ، وآيات موسى «عليه السلام» ، بل هي تعتمد بالدرجة الأولى على الإقناع ، وإقامة الحجة العقلية كدعوة إبراهيم «عليه السلام» ، وذلك لا ينافي صدور بعض الآيات في الموارد التي لا تنفع فيها الحجج العقلية ، والبراهين القطعية.

انشقاق القمر : الحدث الكبير :

وأوردوا على انشقاق القمر بأنه لو انشق ـ كما يقال ـ لرآه جميع الناس ، ولضبطه أهل الأرصاد في الغرب والشرق ، لكونه من أعجب الآيات السماوية ، والدواعي متوفرة على استماعه ونقله.

وأجيب :

أولا : إن من الممكن أن يغفل عنه ، فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس ، محفوظا عندهم ، يرثه خلف عن سلف (٣).

وأوضح ذلك بعض الأعلام بما حاصله : إنه لا بد من ملاحظة الأمور التالية :

١ ـ إن هذا الانشقاق قد حصل في نصف الكرة الأرضية ، حيث يوجد

__________________

(١) راجع فيما تقدم : تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦٠ ـ ٦٤.

(٢) الآية ٥٩ من سورة الإسراء.

(٣) تفسير الميزان ج ١٩ ص ٦٤.

٣٣٩

الليل دون النصف الآخر ، حيث يوجد النهار.

٢ ـ وفي هذا النصف لا يلتفت أكثر الناس إلى ما يحصل في الأجرام السماوية إذا كان ذلك بعد نصف الليل ، حيث الكل نائمون ، فإنهم جميعا لا يلتفتون إلى ذلك.

٣ ـ ولربما يكون في بعض المناطق سحاب يمنع من رؤية القمر.

٤ ـ والحوادث السماوية إنما تلفت النظر لو كانت مصحوبة بصوت كالرعد ، أو بأثر غير عادي كقلة نور الشمس في الكسوف ، إذا كان لمدة طويلة نسبيا.

٥ ـ هذا كله عدا عن أن السابقين لم يكن لهم اهتمام كبير بالسماء ومراقبة ما يحدث لأجرامها.

٦ ـ ولم يكن ثمة وسائل إعلام تنقل الخبر من أقصى الأرض إلى أقصاها بسرعة مذهلة ؛ لتتوجه الأنظار إلى ما يحدث.

٧ ـ والتاريخ الموجود بين أيدينا ناقص جدا ، فكم كان في تلك المئات والآلاف من السنين الخالية من كوارث وزلازل ، وسيول عظيمة أهلكت طوائف وأمما ، وليس لها مع ذلك في التاريخ أثر يذكر؟

بل إن زرادشت وقد ظهر في دولة عظيمة ، وله أثر كبير على الشعوب على مدى التاريخ ، لا يعرف حتى أين ولد ومات ودفن ، بل ويشك البعض في كونه شخصية حقيقية ، أو وهمية.

وبعد ما تقدم : يتضح أنه لا يجب أن يعرف الناس بانشقاق القمر ، ولا أن يضبطه التاريخ بشكل واضح (١) كما هو معلوم.

__________________

(١) همه بايد بدانند (فارسي) ص ٩٤ للعلامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

٣٤٠