الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

إطلاقا ، بل هو يهرب منه ، ويعده خسارة له ، ما بعدها خسارة.

أما حمزة «رحمه الله» ، فكان يعتبر الموت في سبيل هذا الدين نصرا وفوزا ، تماما بالمقدار الذي يعتبره أبو جهل ، ومن هم على شاكلته خسرانا وضياعا فلماذا إذا يخشى الموت ويخافه؟

بل لماذا لا يكون الموت عنده أحلى من العسل ، وألذ من الشهد؟.

ومن جهة ثالثة : فإن أبا جهل لم يكن على استعداد لأن يحارب بني هاشم في تلك الفترة ، التي كان له فيها أنصار كثيرون فيهم ، لأن حربه لهم لسوف تؤدي إلى أن يخسر هؤلاء الذين يلتقي معهم فكريا وعقيديا ، لأنهم بحكم المنطق القبلي الذي يهيمن على مواقفهم وتصرفاتهم لن يتركوا ابن أخيهم ، حتى ولو كان على غير دينهم ، وقد وعدوا أبا طالب باستثناء أبي لهب أن يمنعوا محمدا ممن يريد به سوء كما تقدم.

بل إن تحرك أبي جهل في ظروف كهذه لربما يؤدي إلى ترسيخ أمر محمد ، وإلى دخول الكثيرين من بني هاشم في دينه ، حمية وانتصارا.

وهذا ما لا يريده أبو جهل ، ولا يرغب فيه.

إذا ، فقد كانت جميع الظروف تدفعه إلى الاستسلام للذل والهوان في مقابل أسد الله وأسد رسوله.

والخلاصة :

أن حب أبي جهل للحياة ، وجبنه ، ثم ما كان يراه من الصلاح في عدم التصعيد في مناهضة محمد وبني هاشم ، قد جعله في موقف الذليل المهان ، وجعل الله كلمة الباطل هي السفلى ، وكلمة الحق هي العليا.

٢٨١

ملاحظة هامة :

والملاحظ هنا : أنه بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب تتراجع قريش ، وتليّن من موقفها ، وتدخل في مفاوضات معه «صلى الله عليه وآله» ، وتعطيه بعض ما يريد ، لأنها رأت أن المسلمين يزيد عددهم ويكثر ، فكلمه عتبة ، فأبى «صلى الله عليه وآله» كل عروضهم (١).

عبس وتولى :

ويذكر المؤرخون بعد قضية الغرانيق ، القضية التي نزلت لأجلها سورة عبس وتولى ، المكية ، والتي نزلت بعد سورة النجم.

وملخص هذه القضية : أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتكلم مع بعض زعماء قريش ، ذوي الجاه والمال ، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم ـ وكان أعمى ـ فجعل يستقرئ النبي «صلى الله عليه وآله» آية من القرآن ، قال : يا رسول الله ، علمني مما علمك الله.

فأعرض عنه رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعبس في وجهه ، وتولى ، وكره كلامه ، وأقبل على أولئك الذين كان «صلى الله عليه وآله» قد طمع في إسلامهم ، فأنزل الله تعالى :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ، وَهُوَ يَخْشى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(٢).

__________________

(١) راجع : كنز العمال : ج ١٤ ص ٤٨ عن البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر.

(٢) الآيات من أول سورة عبس.

٢٨٢

وفي رواية : أنه «صلى الله عليه وآله» كره مجيء ابن أم مكتوم وقال في نفسه : يقول هذا القرشي : إنما أتباعه العميان والسفلة ، والعبيد ، فعبس «صلى الله عليه وآله» الخ .. «وكأن ذلك الزعيم لم يكن يعلم بذلك!! وكأن قريشا لم تكن قد صرحت بذلك وأعلنته!!».

وعن الحكم : ما رؤي رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد هذه الآية متصديا لغني ، ولا معرضا عن فقير.

وعن ابن زيد : لو أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتم شيئا من الوحي ، كتم هذا عن نفسه (١).

فابن زيد يؤكد بكلامه هذا على مدى قبح هذا الأمر ، وعلى مدى صراحة الرسول «صلى الله عليه وآله» ، حتى إنه لم يكتم هذا الأمر ، رغم شدة قبحه وشناعته!.

لقد أجمع المفسرون ، وأهل الحديث ، باستثناء شيعة أهل البيت «عليهم السلام» على أصل القضية المشار إليها.

ونحن نرى : أنها قضية مفتعلة ، لا يمكن أن تصح ، وذلك.

أولا : لضعف أسانيدها ، لأنها تنتهي : إما إلى عائشة ، وأنس ، وابن

__________________

(١) راجع في هذه الروايات : مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٣٧ والميزان عن المجمع وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٧٠ عن الترمذي ، وأبي يعلى ، وحياة الصحابة ج ٢ ص ٥٢٠ عنه ، وتفسير الطبري ج ٣٠ ص ٣٣ و ٣٤ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٣١٤ و ٣١٥.

وأي تفسير قرآن آخر لغير الشيعة ؛ فإنك تجد فيه الروايات المختلفة التي تصب في هذا الاتجاه ، فراجع الأخير على سبيل المثال.

٢٨٣

عباس ، من الصحابة ، وهؤلاء لم يدرك أحد منهم هذه القضية أصلا ، لأنه إما كان حينها طفلا ، أو لم يكن ولد (١) ، أو إلى أبي مالك (٢) ، والحكم ، وابن زيد ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة ، وهؤلاء جميعا من التابعين فالرواية إليهم تكون مقطوعة ، لا تقوم بها حجة.

ثانيا : تناقض نصوصها (٣) حتى ما ورد منها عن راو واحد ، فعن عائشة ، الأمر الذي يشير إلى وجوب كذب وافتعال لكثير من نصوصها فلا يمكن الاعتماد على الروايات إلا بعد تحديد ما هو صحيح منها.

في رواية : إنه كان عنده رجل من عظماء المشركين ، وفي أخرى عنها : عتبة وشيبة.

وفي ثالثة عنها : في مجلس فيه ناس من وجوه قريش ، منهم أبو جهل ، وعتبة بن ربيعة.

وفي رواية عن ابن عباس : إنه «صلى الله عليه وآله» كان يناجي عتبة ، وعمه العباس ، وأبا جهل.

وفي التفسير المنسوب إلى ابن عباس : إنهم العباس ، وأمية بن خلف ، وصفوان بن أمية.

وعن قتادة : أمية بن خلف ، وفي أخرى عنه : أبي بن خلف.

وعن مجاهد : صنديد من صناديد قريش ، وفي أخرى عنه : عتبة بن

__________________

(١) راجع : الهدى إلى دين المصطفى ج ١ ص ١٥٨.

(٢) الظاهر أن المراد به : أبا مالك الأشجعي ، المشهور بالرواية ، وتفسير القرآن ، وهو تابعي.

(٣) راجع : الهدى إلى دين المصطفى ج ١ ص ١٥٨ و ١٥٩.

٢٨٤

ربيعة ، وأمية بن خلف.

هذا ، عدا عن تناقض الروايات مع بعضها البعض في ذلك ، وفي نقل ما جرى ، وفي نص كلام الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ونص كلام ابن أم مكتوم.

ونحن نكتفي بهذا القدر ، ومن أراد المزيد فعليه بالمراجعة والمقارنة.

ثالثا : إن ظاهر الآيات المدعى نزولها في هذه المناسبة هو أنه كان من عادة هذا الشخص وطبعه ، وسجيته ، وخلقه : أن يتصدى للغني ، ويهتم به ولو كان كافرا ويتلهى عن الفقير ولا يبالي به أن يتزكى ، ولو كان مسلما.

وكلنا يعلم : أن هذا لم يكن من صفات وسجايا نبينا الأكرم «صلى الله عليه وآله» ، ولا من طبعه ، وخلقه.

كما أن العبوس في وجه الفقير ، والإعراض والتولي عنه ، لم يكن من صفاته «صلى الله عليه وآله» حتى مع أعدائه ، فكيف بالمؤمنين من أصحابه وأودائه (١) ، وهو الذي وصفه الله تعالى بأنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢).

بل لقد كان من عادته «صلى الله عليه وآله» مجالسة الفقراء ، والاهتمام بهم ، حتى ساء ذلك أهل الشرف والجاه ، وشق عليهم ، وطالبه الملأ من قريش بأن يبعد هؤلاء عنه ليتبعوه ، وأشار عليه عمر بطردهم ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(٣).

__________________

(١) راجع : الهدى إلى دين المصطفى ج ١ ص ١٥٨ ، والميزان ج ٢٠ ص ٢٠٣ ، وتنزيه الأنبياء ص ١١٩ ومجمع البيان ج ١ ص ٤٣٧.

(٢) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

(٣) الآية ٥٢ من سورة الأنعام.

٢٨٥

ويظهر : أن الآية قد نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة لوجود ابن مسعود في الرواية ، أو حين بلوغهم أمر الهدنة ، ورجوعهم إلى مكة.

ولكن يبقى إشكال أن ذكر عمر في هذا المقام في غير محله ، حيث لم يكن قد أسلم حينئذ لأنه إنما أسلم قبل الهجرة إلى المدينة بيسير ، كما سنرى.

كما أن الله تعالى : قد وصف نبيه في سورة القلم التي نزلت قبل نزول (عَبَسَ وَتَوَلَّى) بأنه على خلق عظيم ، فإذا كان كذلك ، فكيف يصدر عنه هذا الأمر المنافي للأخلاق ، والموجب للعتاب واللوم منه تعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله» ، فهل كان الله ـ والعياذ بالله ـ جاهلا بحقيقة أخلاق نبيه؟ أم أنه يعلم بذلك ، لكنه قال هذا لحكمة ولمصلحة اقتضت ذلك؟ نعوذ بالله من الغواية ، عن طريق الحق والهداية.

رابعا : إن الله تعالى يقول في الآيات : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ، وهذا لا يناسب أن يخاطب به النبي «صلى الله عليه وآله» ، لأنه مبعوث لدعوة الناس وتزكيتهم.

وكيف لا يكون ذلك عليه ، مع أنه هو مهمته الأولى والأخيرة ، ولا شيء غيره.

ألم يقل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ..)(١) فكيف يغريه بترك الحرص على تزكية قومه (٢).

__________________

(١) الآية ٢ من سورة الجمعة.

(٢) تنزيه الأنبياء ص ١١٩.

٢٨٦

خامسا : لقد نزلت آية الإنذار : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١) قبل سورة عبس بسنتين فهل نسي «صلى الله عليه وآله» : أنه مأمور بخفض الجناح لمن اتبعه؟

وإذا كان نسي ، فما الذي يؤمننا من أن لا يكون قد نسي غير ذلك أيضا ، وإذا لم يكن قد نسي ، فلماذا يتعمد أن يعصي هذا الأمر الصريح؟! (٢).

سادسا : إنه ليس في الآية ما يدل على أنها خطاب للنبي «صلى الله عليه وآله» ، بل الله سبحانه يخبر عن رجل مّا أنه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) ثم التفت الله تعالى بالخطاب إلى ذلك العابس نفسه ، وخاطبه بقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي بحضوره مجلس النبي «صلى الله عليه وآله» وسماعه لما يدور فيه الخ ..

سابعا : لقد ذكر العلامة الطباطبائي : أن الملاك في التفضيل وعدمه ليس هو الغنى والفقر ، وإنما هو الأعمال الصالحة ، والسجايا الحسنة ، والفضائل الرفيعة.

وهذا حكم عقلي وجاء به الدين الحنيف ، فكيف جاز له «صلى الله عليه وآله» أن يخالف ذلك ، ويميز الكافر لما له من وجاهة على المؤمن؟ (٣).

والقول : بأنه إنما فعل ذلك لأنه يرجو إسلامه ، وعلى أمل أن يتقوى به الدين ، وهذا أمر حسن ، لأنه في طريق الدين ، وفي سبيله ، لا يصح ، لأنه

__________________

(١) الآيتان ٢١٤ و ٢١٥ من سورة الشعراء.

(٢) الميزان ج ٢٠ ص ٣٠٣.

(٣) راجع : الميزان ج ٢٠ ص ٣٠٤.

٢٨٧

يخالف صريح الآيات التي تنص على أن الذم للعابس كان لأجل أنه يتصدى لذاك الغني لغناه ، ويتلهى عن الفقير لفقره.

ولو صح هذا ، فقد كان اللازم أن يفيض القرآن في مدحه وإطرائه على غيرته لدينه ، وتحمسه لرسالته ؛ فلماذا هذا الذم والتقريع إذا؟!

ونشير أخيرا : إلى أن البعض قد ذكر : أنه يمكن القول بأن الآية خطاب كلي مفادها : أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان إذا رأى فقيرا تأذى وأعرض عنه.

والجواب :

أولا : إن هذا يخالف القصة التي ذكروها من كونها قضية في واقعة واحدة لم تتكرر ..

ثانيا : إذا كان المقصود هو الإعراض عن مطلق الفقير ؛ فلماذا جاء التنصيص على الأعمى؟!.

ثالثا : هل صحيح أنه قد كان من عادة النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك؟!!.

المذنب رجل آخر :

فيتضح مما تقدم : أن المقصود بالآيات شخص آخر غير النبي «صلى الله عليه وآله» ويؤيد ذلك :

ما روي عن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» ، أنه قال : كان رسول الله إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : مرحبا ، مرحبا ، والله لا يعاتبني الله فيك أبدا ، وكان يصنع به من اللطف ، حتى يكف عن النبي «صلى الله عليه

٢٨٨

وآله» مما كان يفعل به (١).

فهذه الرواية تشير : إلى أن الله تعالى لم يعاتب نبيه في شأن ابن أم مكتوم ، بل فيها تعريض بذلك الرجل الذي ارتكب في حق ابن أم مكتوم تلك المخالفة ، إن لم نقل : إنه يستفاد من الرواية نفي قاطع حتى لإمكان صدور مثل ذلك عنه «صلى الله عليه وآله» ، بحيث يستحق العتاب والتوبيخ ؛ إذ لا معنى لهذا النفي لو كان الله تعالى قد عاتبه فعلا.

هذا ولكن الأيدي غير الأمينة قد حرفت هذه الكلمة ؛ فادعت أنه «صلى الله عليه وآله» كان يقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، فلتراجع كتب التفسير ، كالدر المنثور وغيره ، والصحيح هو ما تقدم.

سؤال وجوابه :

ولعلك تقول : إنه إذا كان المقصود بالآيات شخصا آخر ؛ فما معنى قوله تعالى : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) وقوله : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) فإن ظاهره : أن هذا التصدي والتلهي من قبل من يهمه هذا الدين ؛ فيتصدى لهذا ، ويتلهى عن ذاك؟!.

فالجواب :

أولا : إنه ليس في الآيات ما يدل على أن التصدي كان لأجل الدعوة إلى الله أو لغيرها.

فلعل التصدي كان لأهداف أخرى دنيوية ، ككسب الصداقة ، أو

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ص ٤٢٨ ، وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٥٠٩ ، ومجمع البيان ج ١٠ ص ٤٣٧.

٢٨٩

الجاه ، أو نحو ذلك.

ثانيا : وقوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ليس فيه أنه يزكى على يد المخاطب ، بل هو أعم من ذلك ، فيشمل التزكي على يد غيره ممن هم في المجلس ، كالنبي «صلى الله عليه وآله» أو غيره.

ثم لنفرض : أن التصدي كان لأجل الدعوة ، فإن ذلك ليس محصورا به «صلى الله عليه وآله» ؛ فهم يقولون : إن غيره كان يتصدى لذلك أيضا ، وأسلم البعض على يديه ، لو صح ذلك!.

الرواية الصحيحة :

وبعد ما تقدم نقول : الظاهر هو أن الصحيح ما جاء عن الإمام الصادق «عليه السلام» : أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فجاءه ابن أم مكتوم.

فلما جاءه تقذر منه ، وعبس في وجهه ، وجمع نفسه ، وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك عنه ، وأنكره عليه (١).

ويلاحظ : أن الخطاب في الآيات لم يوجه أولا إلى ذلك الرجل ؛ بل تكلم الله سبحانه عنه بصورة الحكاية عن الغائب : إنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى).

ثم التفت إليه بالخطاب ، فقال له مباشرة : (وَما يُدْرِيكَ*).

ويمكن أن يكون الخطاب في الآيات أولا للنبي «صلى الله عليه وآله» ،

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٣٧ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٤٢٨ ، وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٥٠٩.

٢٩٠

من باب : «إياك أعني واسمعي يا جارة». والأول أقرب ، وألطف ذوقا.

إتهام عثمان :

ولعلك تقول : إن بعض الروايات تتهم عثمان بهذه القضية ، وأنه هو الذي جرى له ذلك مع ابن أم مكتوم (١).

ولكننا نشك في هذا الأمر ، لأن عثمان قد هاجر إلى الحبشة مع من هاجر ، فمن أين جاء عثمان إلى مكة ، وجرى منه ما جرى؟!.

ونجيب بأن هناك نصوصا تاريخية صرحت بأن أكثر من ثلاثين رجلا قد عادوا إلى مكة بعد شهرين من هجرتهم كما تقدم ، وكان عثمان منهم ثم عاد إلى الحبشة (٢).

وعلى كل حال ، فإن أمر اتهام عثمان (٣) أو غيره من بني أمية ، لأهون بكثير من اتهام النبي المعصوم ، الذي لا يمكن أن يصدر منه أمر كهذا على الإطلاق.

__________________

(١) تفسير القمي ج ٢ ص ٤٠٥ وتفسير البرهان ج ٤ ص ٤٢٧ ، وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٥٠٨.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٣.

(٣) ونحن نجد في عثمان بعض الصفات التي تنسجم مع مدلول الآية ، كما تشهد له قضيته مع عمار حين بناء المسجد في المدينة ، حين ردد عمار ما ارتجز به علي عليه السلام تعريضا بعثمان :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب قائما وقاعدا

ومن يرى عن التراب حائدا

وستأتي هذه القضية إن شاء الله تعالى.

٢٩١

وإن كان يهون على البعض اتهام النبي «صلى الله عليه وآله» بها أو بغيرها ، شريطة أن تبقى ساحة قدس غيره منزهة وبريئة!!.

تاريخ هذه القضية :

ونسجل أخيرا : تحفظا على ذكر المؤرخين لرواية ابن أم مكتوم ونزول سورة عبس ، بعد قضية الغرانيق ؛ فإن الظاهر هو أن هذه القضية قد حصلت قبل الهجرة إلى الحبشة لأن عثمان كان قد هاجر إلى الحبشة قبل قضية الغرانيق بشهرين كما يقولون ، إلا أن يكون عثمان قد عاد إلى مكة مع من عاد بعد أن سمعوا بقضية الغرانيق كما يدعون.

أعداء الإسلام وهذه القضية :

ومما تجدر الإشارة إليه هنا : أن بعض المسيحيين الحاقدين قد حاول أن يتخذ من قضية عبس وتولى وسيلة للطعن في قدسية نبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» (١) ، ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فها نحن قد أثبتنا : أنها أكاذيب وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.

أكاذيب أخرى مشابهة :

وبالمناسبة فقد رووا : أن الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، جاءا إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فوجداه قاعدا مع عمار ، وصهيب ، وبلال وخباب ، وغيرهم من ضعفاء المؤمنين ، فحقروهم ، فخلوا بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، فقالا : إن وفود العرب تأتيك ؛ فنستحي أن يرانا العرب قعودا

__________________

(١) راجع : الهدى إلى دين المصطفى ج ١ ص ١٥٨.

٢٩٢

مع هذه الأعبد فإذا جئناك فأقمهم عنا ، قال : نعم.

قالا : فاكتب لنا عليك كتابا ؛ فدعا بالصحيفة ، ودعا عليا ليكتب ، فنزل قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ..)(١) فرمى «صلى الله عليه وآله» بالصحيفة ، ودعاهم وجلس معهم ، وصار دأبه هذا : أن يجلس معهم ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركهم فأنزل الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ..)(٢).

فكان يجلس معهم إلى أن يقوموا عنه وفي بعض الروايات : إنهم يقصدون أبا ذر وسلمان (٣).

ويردّ هذه الأباطيل جميع ما تقدم حين الكلام عن قصة ابن أم مكتوم ، ولذلك فلا حاجة إلى الإعادة ، وأيضا فقد استفاض : أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة في مكة (٤) ، فما معنى أن تكون هذه الآيات قد نزلت بهذه المناسبة في المدينة؟!.

والقول بأن نزولها كذلك لا ينافي كون هذه الآيات نزلت بهذه المناسبة ،

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ٢٨ من سورة الكهف.

(٣) حلية الأولياء ج ١ ص ١٤٦ ـ ٣٤٥ ، وراجع مجمع البيان ج ٣٠٥٣٠٦٤. والبداية والنهاية ج ٦ ص ٥٦ وعن كنز العمال ج ١ ص ٢٤٥ وج ٧ ص ٤٦ عن ابن أبي شيبة وابن عساكر. والدر المنثور في تفسير الآيات المشار إليها. عن العديد من المصادر.

(٤) راجع الميزان ج ٧ ص ١١٠.

٢٩٣

مرفوض لأنها قد نزلت دفعة واحدة قبل الهجرة ، بعد إسلام الأنصار ، لأنها نزلت وأسماء بنت يزيد الأنصارية آخذة بزمام ناقة النبي «صلى الله عليه وآله» (١) والآية نزلت في المدينة على الفرض.

على أن قصة عبس وتولى وحدها كافية لأن يرتدع النبي «صلى الله عليه وآله» عن أمر كهذا ، ولا سيما إذا كانت تؤنب غيره «صلى الله عليه وآله» ، ممن هو ليس بمعصوم على فعل كهذا.

ثم إن سلمان إنما أسلم في المدينة ، كما أن أبا ذر قد فارق النبي «صلى الله عليه وآله» فور إسلامه ، وأقام بعسفان على طريق قوافل مكة ، كما قدمنا.

والظاهر هو أنهم أصروا على النبي «صلى الله عليه وآله» أن يبعد الفقراء عنه ، حتى توسطوا لدى أبي طالب في ذلك ، وأشار عليه عمر بقبول ذلك كما جاء في بعض الروايات ، فجاءت هذه الآيات في ضمن سورة الأنعام بمثابة رد عليهم ، وتفنيد لرأيهم.

وليس في الآيات ما يدل على قبوله «صلى الله عليه وآله» بذلك ، كما تدعيه الروايات المزعومة آنفا.

ولم نتوسع في بيان وجوه الاختلاف بين الروايات ، ونقاط الضعف فيها ، والرد على هذه المزاعم ، اعتمادا على ما ذكرناه في قضية ابن أم مكتوم المتقدمة.

بل إن ظاهر الآية الأولى : أن طرد الذين يدعون ربهم .. قد كان عقابا لهم على أمر صدر منهم ، وذلك بقرينة قوله تعالى فيها : (ما عَلَيْكَ مِنْ

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢.

٢٩٤

حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(١). فكأن الله سبحانه قد رفع التكليف عنه «صلى الله عليه وآله» بمؤاخذتهم ، رفقا منه تعالى بهم ، وعطفا عليهم.

قضية إسلام عمر بن الخطاب :

ويقولون : إن عمر بن الخطاب قد أسلم في السنة السادسة من البعثة ، بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام ؛ حيث خرج متوشحا سيفه ، يريد رسول الله ورهطا من أصحابه ، وهم قريب من أربعين رجلا في دار الأرقم عند الصفا ، فيهم أبو بكر ، وحمزة ، وعلي ، وغيرهم ممن لم يخرج إلى الحبشة ، فالتقى عمر بنعيم بن عبد الله ، فسأله عن أمره ، فأخبره : أنه يريد أن يقتل محمدا.

فذكر له نعيم : أنه إن قتله لا ينجو من بني عبد مناف ، وأن صهره وأخته قد أسلما ، فرجع عمر إليهما ، وعندهما خباب بن الأرت يعلمهما سورة طه ، فلما سمعوا حسه ، اختبأ خباب في مخدع ، وخبأت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة تحت فخذها.

فدخل عمر ، وبعد كلام بطش عمر بختنه ، وشج أخته ، فأخبرته حينئذ أنهما قد أسلما ؛ فليصنع ما بدا له. فندم عمر ، وارعوى لما رأى الدم بأخته ، وطلب الصحيفة فلم تعطه إياها حتى حلف بآلهته ليردنها إليها ، فقالت له : إنك نجس على شركك ، ولا تغتسل من الجنابة ، وهذا لا يمسه إلا المطهرون.

فقام عمر ، فاغتسل (توضأ) ، ثم قرأ من الصحيفة صدرا وكان كاتبا ،

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة الإنعام.

٢٩٥

فاستحسنه ، وظهر له خباب ، وأخبره : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد دعا له بأن يعز الإسلام به أو بأبي جهل ، فطلب منه عمر : أن يدله على الرسول ليسلم ؛ ففعل ، فذهب إليهم ، وضرب الباب ، فنظر رجل منهم من خلال الباب ؛ فرآه متوشحا السيف ، فرجع إلى الرسول «صلى الله عليه وآله» فزعا ، فأخبره.

فقال حمزة : فأذن له ، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان يريد شرا ، قتلناه بسيفه.

فأذن له ، ونهض إليه «صلى الله عليه وآله» حتى لقيه في الحجرة ، فأخذ بمجمع ردائه ، ثم جبذه جبذة شديدة ، وتهدده ، فأخبره عمر : أنه جاء ليسلم ، فكبر «صلى الله عليه وآله» ، وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من في المسجد.

ثم طلب عمر من الرسول : أن يخرج ويعلن أمره ، قال عمر : فأخرجناه في صفين : حمزة في أحدهما ، وأنا في الآخر ، له كديد (أي غبار) ككديد الطحين ، حتى دخلنا المسجد.

قال : فنظرت إلي قريش فأصابتهم كآبة لم تصبهم مثلها ، فسماه رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ب «الفاروق» يومئذ.

وفي رواية : أن قريشا اجتمعت وتشاورت فيمن يقتل محمدا ، فقال عمر : أنا لها.

فقالوا : أنت لها يا عمر ، فخرج متقلدا السيف ، فالتقى بسعد بن أبي وقاص ، وجرت بينهما مشادة ، حتى سل كل منهما سيفه ؛ فأخبره سعد بخبر أخته إلخ ..

٢٩٦

وفي ثالثة : أنهم خرجوا وعمر أمامهم ، ينادي : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فلما سألته قريش عما وراءه تهددهم بأنه إن تحرك منهم أحد ليمكنن سيفه منه ، ثم تقدم أمام رسول الله ، يطوف الرسول ، ويحميه عمر ، ثم صلى النبي «صلى الله عليه وآله» الظهر معلنا.

وفي رابعة : أنه لما أسلم ـ وكان المسلمون يضربون ـ جاء إلى خاله أبي جهل ـ كما عند ابن هشام.

وقال ابن الجوزي : هو غلط بل خاله العاص بن هاشم ـ فأعلمه بإسلامه ، فأجاف الباب ، فذهب إلى آخر من كبراء قريش فكذلك.

فقال في نفسه : ما هذا بشيء ، الناس يضربون ، وأنا لا يضربني أحد ؛ فاستدل على أنقل رجل للحديث ، فدلوه ، فأعلمه بإسلامه ؛ فنادى في قريش بذلك ، فقاموا إليه يضربونه ؛ فأجاره خاله ، فانكشف الناس عنه ، ولكنه عاد فرد عليه جواره ؛ لأن الناس يضربون ولا يضرب ، قال : فلم يزل يضرب ، حتى أظهر الله الإسلام.

وفي خامسة : أنه ذهب ليطوف ، فقال له أبو جهل : زعم فلان أنك صبأت؟ فتشهد الشهادتين ، فوثب عليه المشركون ، فوثب عمر على عتبة بن ربيعة ، وبرك عليه ، وجعل يضربه ، وجعل إصبعيه في عينيه ، فجعل عتبة يصيح ، فتنحى الناس عنه ، فقام عمر ، فجعل لا يدنو منه إلا أحد شريف ، وجعل حمزة يكشف الناس عنه.

وفي سادسة : أنه كان صاحب خمر في الجاهلية ؛ فقصد ليلة المجلس المألوف له ، فلم يجد فيه أحدا ، فطلب فلانا الخمار ، فكذلك ، فذهب ليطوف فوجد محمدا يصلي ، فأحب الاستماع إليه ، فدخل تحت ثياب الكعبة وسمع ،

٢٩٧

فدخل الإسلام في قلبه فلما انصرف الرسول «صلى الله عليه وآله» وذهب إلى داره التي يسكنها المعروفة بالرقطاء لحقه في الطريق ، وأسلم ، ثم انصرف إلى بيته.

وفي العمدة : قيل أسلم عمر بعد ثلاثة وثلاثين رجلا وست نسوة ، وقال ابن المسيب بعد أربعين وعشر نسوة ، وقال عبد الله بن ثعلبة : بعد خمس وأربعين وإحدى عشرة امرأة.

وقيل : أسلم تمام الأربعين ؛ فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

__________________

(١) راجع في مجموع ما تقدم : الأوائل للعسكري ج ١ ص ٢٢١ و ٢٢٢ ، والثقات لابن حبان ص ٧٢ ـ ٧٥ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٨٨ ـ ٩٠ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٦١ عن البزار والطبراني ، وتاريخ الطبري حوادث سنة ٢٣ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٩١ ، وعمدة القاري للعيني ج ٨ ص ٦٨ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٦٦ ـ ٣٧٤ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧ وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص ٢٣ ـ ٣٠ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣١ و ٧٢ ـ ٨٠ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٢٩ ـ ٣٣٥ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٣٢ ـ ١٣٧ ومصنف الحافظ عبد الرزاق ج ٥ ص ٣٢٧ و ٣٢٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١٨٢ و ١٨٣ ، وأسباب النزول للواحدي وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٧٤ ـ ٢٧٦ ، والإتقان ج ١ ص ١٥ ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٠٠ وكشف الأستار عن مسند البزار ج ٣ ص ١٦٩ ـ ١٧٢ ولباب النقول ط دار إحياء العلوم ص ١١٣ ، إلى غير ذلك من كتب الحديث والتاريخ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٤ ـ ٩ ط دار النصر للطباعة.

٢٩٨

وثمة أوسمة أخرى :

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» كان قد دعا قبل إسلام عمر ، فقال : اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب.

وفي نص آخر : اللهم أيد (أو أعز) الإسلام بأبي الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، وكان دعاؤه «صلى الله عليه وآله» يوم الأربعاء ، وإسلام عمر يوم الخميس.

وعن ابن عمر : إنه «صلى الله عليه وآله» قال : اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك ، بأبي جهل ، أو بعمر بن الخطاب ، قال : وكان أحبهما إليه عمر.

وقالوا : إن إسلام عمر كان فتحا ، وإن هجرته نصرا ، وإن أمارته كانت رحمة ، وإنه لما أسلم قاتل حتى صلى المسلمون عند الكعبة (١) إلى غير ذلك مما لا مجال له هنا.

__________________

(١) راجع هذه الأحاديث وغيرها في : البدء والتاريخ ج ٥ ص ٨٨ ، وسيرة مغلطاي ص ٢٣ ، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٤ ص ٤٧٠ عن الطبراني ، وأحمد ، وابن ماجة ، والحاكم والبيهقي ، والترمذي ، والنسائي ، عن عمر ، وخباب ، وابن مسعود ، والأوائل ج ١ ص ٢٢١ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ قسم ١ ص ١٩١ ـ ١٩٣ ، وجامع الترمذي ط الهند ج ٤ ص ٣١٤ و ٣١٥ ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ٧ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ٣١٤ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٧٩ ، والبخاري ط الميمنية ، ومصنف عبد الرزاق ج ٥ ص ٣٢٥ ، والاستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ٢٧١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٣٠ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ١٠٢ وتاريخ الخميس ، وسيرة ابن هشام ، وسيرة دحلان ، ومسند أحمد ، وسيرة المصطفى ، والطبراني في الكبير والأوسط ، والمشكاة وغير ذلك من كتب الحديث والتاريخ.

٢٩٩

وقد استغرب الترمذي هذه الأحاديث رغم تصحيحه لبعضها.

ونحن نشك في صحة كل ما تقدم ، بل ونطمئن إلى بطلانه جميعا من الأساس ، ولبيان ذلك نشير إلى النقاط التالية :

١ ـ متى كان إسلام عمر؟!

تذكر تلك الروايات : أن عمر قد أسلم بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب «عليه السلام» بثلاثة أيام. وكان إسلامه سببا لخروجه «صلى الله عليه وآله» من دار الأرقم ، بعد أن تكامل المسلمون أربعين رجلا ، أو ما هو قريب من ذلك.

ونحن نشير هنا إلى :

أ ـ أن الخروج من دار الأرقم ـ كما يقولون ـ إنما كان في الثالثة من البعثة ، حينما أمر النبي «صلى الله عليه وآله» بالإعلان بالدعوة ، وهم يصرحون بأن إسلام عمر كان في السادسة من البعثة.

ب ـ إنهم يقولون إن عمر قد أسلم بعد الهجرة إلى الحبشة ، حتى لقد رق للمهاجرين ، لما رآهم يستعدون للرحيل ، حتى رجوا إسلامه منذئذ ، والهجرة إلى الحبشة قد كانت في السنة الخامسة من البعثة ، والخروج من دار الأرقم قد كان قبل ذلك أي في السنة الثالثة.

ج ـ أنه قد اشترك في تعذيب المسلمين ، وإنما كان ذلك بعد الخروج من دار الأرقم ، والإعلان بالدعوة.

متى أسلم عمر إذا؟!

إننا نستطيع أن نقول باطمئنان : إنه لم يسلم في السنة السادسة قطعا بل أسلم بعد ذلك بسنوات ، ومستندنا في ذلك :

٣٠٠