الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

يكذبه الكثير مما قدمناه ، ونزيد هنا : أن النبي كان أول من أعلن الدعوة ، وليس أبا بكر.

هذا عدا عن أنهم يذكرون تارة : أن ابن مسعود هو أول من أعلن ، وأخرى عمر بن الخطاب ، وهنا يذكرون : أبا بكر.

كما أن الرواية تنص على أن إظهار أبي بكر للإسلام قد كان حينما كان المسلمون ثمانية وثلاثين رجلا والنبي «صلى الله عليه وآله» في دار الأرقم.

وقد تقدم : أن أبا بكر لم يكن قد أسلم بعد ، لأنه إنما أسلم بعد أكثر من خمسين رجلا.

إلا أن يكون المقصود هو بلوغ المسلمين الذين أسلموا بعد الهجرة إلى الحبشة ثمانية وثلاثين رجلا ، لكن ذلك لا يتلاءم مع تصريح الرواية بأن ذلك قد كان يوم إسلام حمزة ، حينما كان النبي «صلى الله عليه وآله» في دار الأرقم.

أول شهيد في الإسلام من آل ياسر :

وعلى كل حال ؛ فلقد عذب آل ياسر أشد العذاب ، واستشهدت سمية أم عمار على يد فرعون قريش أبي جهل لعنه الله ، فكانت أول شهيدة في الإسلام (١) ثم استشهد ياسر «رحمه الله» تعالى.

ولكنهم ذكروا : أن أول قتيل في الإسلام هو الحارث بن أبي هالة ،

__________________

(١) الاستيعاب هامش الإصابة ج ٤ ص ٣٣١ و ٣٣٠ و ٣٣٣ ، والإصابة ج ٤ ص ٣٣٥ و ٣٣٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٩٥ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٤٨١ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٨.

٢٢١

حيث إنه لما أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يصدع بما يؤمر ، قام «صلى الله عليه وآله» في المسجد ، فقال : قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ؛ فوثبت إليه قريش ؛ فأتى الصريخ أهله ؛ فكان أول من أتاه الحارث هذا ؛ فضرب في القوم فصرفهم عنه وعطفوا عليه حتى قتلوه (١).

وهذا لا يصح ؛ لما تقدم من أن الله قد منع النبي «صلى الله عليه وآله» بأبي طالب وقومه ، ولم يجرؤوا على أن ينالوه بسوء في شعره وبشره.

وكذلك الحال بالنسبة إلى من أسلم من بني هاشم ، حيث لم يعذب جعفر ، ولا علي ولا غيرهما ، وذلك لمكان أبي طالب «رحمه الله» ، كما قلنا ، وأيضا فإن كلمة المؤرخين تكاد تكون متفقة على أن أول شهيد في الإسلام كان سمية وزوجها.

أضف إلى ذلك : أن كل ما يقال في كيفية إعلانه بالدعوة يتنافى ويتناقض مع ما ذكروه هنا (راجع ما تقدم تحت عنوان : فاصدع بما تؤمر).

والذي يمكن أن نفهمه : هو أنه ربما يكون الهدف من وضع هذه القضية هو أن يثبتوا أن خديجة قد تزوجت قبل النبي «صلى الله عليه وآله» برجل أو أكثر ، وولد لها منهما.

وقد تقدم ما يوجب الشك في ذلك ، حين الكلام على زواجها بالرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله».

__________________

(١) نور القبس ص ٢٧٥ عن الشرقي ابن القطامي ، والإصابة ج ١ ص ٢٩٣ عن الكلبي ، وابن حزم وعن العسكري والأوائل ج ١ ص ٣١١ و ٣١٢.

٢٢٢

عمار بن ياسر :

وعذب عمار أيضا عذابا شديدا من قبل بني مخزوم ، حتى أكره على التفوّه بما يعجب المشركين ، فتركوه ؛ فأتى النبي «صلى الله عليه وآله» باكيا ، وقال له : لم أترك يا رسول الله ، وقد أكرهوني حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، فقال له النبي «صلى الله عليه وآله» : كيف تجد قلبك يا عمار؟

قال : إنه مطمئن بالإيمان يا رسول الله قال : «لا عليك ، فإن عادوا إليك فعد لما يريدون ؛ فقد أنزل الله فيك : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»)(١).

التقية في الكتاب والسنة :

ونقول :

١ ـ إن ما جرى لعمار ونزول الآية فيه دليل على مشروعية التقية ، إذا خاف الإنسان على نفسه وماله.

وقد صرحوا بجواز التقية وإظهار الموالاة حتى للكفار ، إذا خيف على النفس التلف ، أو تلف بعض الأعضاء ، أو خيف من ضرر كبير يلحق الإنسان في نفسه (٢).

بل لقد قال محمد بن عقيل : «التقية مما أجمع المسلمون على جوازه ، وإن اختلفت تسميتهم لها ، فسماها بعضهم بالكذب لأجل الضرورة أو

__________________

(١) راجع : حلية الأولياء ج ١ ص ١٤٠ وتفسير الطبري ج ٤ ص ١١٢ وتفسير النيسابوري بهامشه وغير ذلك كثير جدا.

(٢) راجع على سبيل المثال : أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٩.

٢٢٣

المصلحة ، وقد عمل بها الصالحون ، فهي من دين المتقين الأبرار ، وعكس القول فيها كذب ظاهر» (١).

٢ ـ ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (.. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(٢).

٣ ـ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ..)(٣) إلى قوله : (.. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً)(٤).

قال البخاري : «فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله ، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به» (٥).

ملاحظة :

الآية موجودة كما في سورة النساء الآية ٩٧ ولكن الفقرة الأخيرة غير موجودة فيها ولا في الآيات بعدها لكن البخاري قد ذكرها كذلك. فذكرناها حسبما هي فيه رعاية لأمانة النقل عنه.

٤ ـ وقال تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ

__________________

(١) تقوية الإيمان ص ٣٨.

(٢) الآية ٢٨ من سورة آل عمران.

(٣) الآية ٩٧ من سورة النساء.

(٤) الآية ٧٥ من سورة النساء.

(٥) صحيح البخاري ط الميمنية ج ٤ ص ١٢٨.

٢٢٤

رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ..)(١).

والقول بأن هذه الآية قد نسخت لا مثبت له ، بل لقد روي عن الإمام الباقر «عليه السلام» ما يدل على خلاف ذلك ، فقد روى الكليني عن عبد الله بن سليمان ، قال : «سمعت أبا جعفر «عليه السلام» يقول ـ وعنده رجل من أهل البصرة ، يقال له : عثمان الأعمى ، وهو يقول : إن الحسن البصري يزعم : أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار.

فقال أبو جعفر «عليه السلام» : فهلك إذا مؤمن من آل فرعون ، ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا «عليه السلام» ؛ فليذهب الحسن يمينا وشمالا ؛ فو الله ما يوجد العلم إلا ههنا» (٢).

فاستدلال الإمام «عليه السلام» بالآية يدل على أن عدم كونها منسوخة كان متسالما عليه لدى العلماء آنئذ.

وأما من السنة ، فنذكر :

١ ـ عن أبي ذر ، عنه «صلى الله عليه وآله» : ستكون عليكم أئمة يميتون الصلاة ، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (٣) وثمة حديث آخر بهذا المعنى فليراجع (٤).

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة غافر.

(٢) الكافي (الأصول) ج ٢ ص ٤٠ و ٤١ منشورات المكتبة الإسلامية ، والوسائل ج ١٨ ص ٨.

(٣) مسند أحمد ج ٥ ص ١٥٩.

(٤) مسند أحمد ج ٥ ص ١٦٠ و ١٦٨.

٢٢٥

٢ ـ ما جاء : أن مسيلمة الكذاب أتي برجلين ، فقال لأحدهما : تعلم أني رسول الله؟ قال بل محمد رسول الله ، فقتله.

وقال للآخر ذلك ، فقال : أنت ومحمد رسول الله ؛ فخلى سبيله ، فبلغ ذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال : أما الأول فمضى على عزمه ويقينه ، وأما الآخر ، فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه (١).

٣ ـ ما رواه السهمي عنه «صلى الله عليه وآله» : لا دين لمن لا ثقة له (٢).

وهو تصحيف على الظاهر ، والصحيح : «لا تقية» كما يدل عليه ما رواه شيعة أهل البيت عنهم «عليهم السلام» (٣).

٤ ـ قصة عمار بن ياسر المعروفة ، وقول النبي «صلى الله عليه وآله» له : إن عادوا فعد ، وهي مروية في مختلف كتب الحديث والتفسير.

وفي هذه المناسبة نزل قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»)(٤).

٥ ـ إستعمال النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه للتقية ، حيث بقي ثلاث أو خمس سنوات يدعو إلى الله سرا ، وهذا مجمع عليه ، ولا يرتاب فيه أحد ،

__________________

(١) محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني : ج ٤ ص ٤٠٨ ـ ٤٠٩ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ١٠ وسعد السعود ص ١٣٧.

(٢) تاريخ جرجان : ص ٢٠١.

(٣) راجع : الكافي (الأصول) : ج ٢ ص ٢١٧ ط الآخندي ، ووسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٦٥. وراجع : ميزان الحكمة : ج ١٠ ص ٦٦٦ و ٦٦٧.

(٤) راجع : فتح الباري : ج ١٢ ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٢٢٦

وإن كنا قد ذكرنا : أن الحقيقة ليست هي ذلك.

٦ ـ إن الإسلام يخيّر الكفار في ظروف معينة بين الإسلام والجزية ، والسيف.

وواضح : أن ذلك إغراء بالتقية ، لأن دخولهم في الإسلام في ظروف كهذه لن يكون إلا لحقن دمائهم ، وليس عن قناعة راسخة ، وهذا نظير قبول المنافقين في المجتمع الإسلامي ، وتآلفهم على الإسلام ، على أمل أن يتفاعلوا مع هذا الدين ، ويستقر الإيمان في قلوبهم.

٧ ـ وحين فتح خيبر قال حجاج بن علاط للنبي «صلى الله عليه وآله» : إن لي بمكة مالا وإن لي أهلا وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئا؟! فأذن له رسول الله أن يقول ما شاء (١).

وأما التقية في التاريخ :

فنذكر على سبيل المثال :

١ ـ إن رجلا سأل ابن عمر فقال : «أدفع الزكاة إلى الأمراء؟

فقال ابن عمر : ضعها في الفقراء والمساكين.

قال : فقال لي الحسن : ألم أقل لك : إن ابن عمر إذا أمن الرجل قال : ضعها في الفقراء والمساكين»؟ (٢).

٢ ـ وقد ادّعوا : أن أنس بن مالك قد روى حديث القنوت قبل الركوع

__________________

(١) دراسات في الكافي والصحيح ص ٣٣٨ عن السيرة الحلبية.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٤ ص ٤٨.

٢٢٧

تقية من بعض أمراء عصره (١).

٣ ـ وحين شاور العباس بن الحسن كتّابه وخواصه فيمن يولون الخلافة بعد موت المكتفي ، أشار عليه ابن الفرات بأن ينفرد بكل واحد منهم فيعرف رأيه وما عنده «فأما أن يقول كل واحد رأيه بحضرة الباقين فربما كان عنده ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيّه ، قال : صدقت ، ثم فعل ما أشار به عليه» (٢).

٤ ـ تقية النبي «صلى الله عليه وآله» والحمزة في بيعة العقبة ، وستأتي نصوصها في فصل مستقل.

٥ ـ عن أيوب قال : ما سألت الحسن عن شيء قط ما سألته عنها (أي عن الزكاة).

قال : فيقول لي مرة : أدها إليهم.

ويقول لي مرة : لا تؤدها إليهم (٣) أي للأمراء.

إلا أن يقال : إن هذا التردد من الحسن ، إنما هو لأجل عدم وضوح الحكم الشرعي له ، جوازا أو منعا.

٦ ـ وفي خطبة لمحمد بن الحنفية : لا تفارق الأمة ، اتق هؤلاء القوم (يعني الأمويين) بتقيتهم ، ولا تقاتل معهم.

قال : قلت : وما تقيتهم؟

__________________

(١) راجع : المحلى ج ٤ ص ١٤١.

(٢) الوزراء للصابي ص ١٣٠.

(٣) المصدر السابق.

٢٢٨

قال : تحضرهم وجهك عند دعوتهم ؛ فيدفع الله بذلك عنك ، وعن دمك ودينك وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به (١).

٧ ـ استفتي مالك بالخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن ، وقيل له :

في أعناقنا بيعة لأبي جعفر المنصور.

فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين (٢).

٨ ـ ونقل القرطبي ، عن الشافعي ، والكوفيين : القول بالتقية عند الخوف من القتل ، وقال : «أجمع أهل العلم على ذلك» (٣).

٩ ـ عن حذيفة قال : كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال : أحصوا لي كم يلفظ الإسلام.

قال : فقلنا : يا رسول الله ، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟

قال : إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا.

قال : فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا (٤).

وحذيفة قد مات بعد البيعة لعلي «عليه السلام» بأربعين يوما ، فهذا النص يدل على أن الناس المؤمنين كانوا قبل ذلك يعيشون في ضغط شديد ، وأن الذين يسيطرون على الشارع هم الناس الذين كانوا يحقدون على الدين

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٧٠.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٢٨٣ ، والطبري ط أوربا ج ٣ ص ٢٠٠.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ١٨١.

(٤) صحيح مسلم : ج ١ ص ٩١ ، وصحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ ه‍. ق : ج ٢ ص ١١٦ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٨٤.

٢٢٩

والمتدينين ، ويهزؤون ويحاربون كل شيء يمت إلى الدين بصلة.

١٠ ـ لقد اتقى عامة أهل الحديث ، وكبار العلماء وأجابوا إلى القول بخلق القرآن ، وهم يعتقدون بقدمه ، ولم يمتنع منهم إلا أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح (١) ، وحتى أحمد ؛ فإنه قد تاقى في ذلك ، فكان إذا وصل إلى المخنق قال : ليس أنا بمتكلم.

كما أنه حين قال له الوالي : ما تقول في القرآن؟ أجاب : هو كلام الله ، قال : أمخلوق هو؟

قال : هو كلام الله لا أزيد عليها (٢).

بل قال اليعقوبي : إنه لما سئل أحمد عن ذلك قال : «أنا رجل علمت علما ولم أعلم فيه بهذا.

وبعد المناظرة وضربه عدة سياط ، عاد إليه إسحاق بن إبراهيم فناظره ، قال له : فيبقى عليك شيء لم تعلمه؟

قال : بقي علي.

قال : فهذا مما لم تعلمه ؛ وقد علّمكه أمير المؤمنين؟

قال : فإني أقول بقول أمير المؤمنين.

قال : في خلق القرآن؟

قال : في خلق القرآن.

__________________

(١) تجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٦٥.

(٢) تاريخ الطبري ج ٧ ص ٢٠١ وراجع : آثار الجاحظ ص ٢٧٤ ، ومذكرات الرماني ص ٤٧.

٢٣٠

قال : فأشهد عليه ، وخلع عليه ، وأطلقه إلى منزله (١).

مع أنه هو نفسه يقول : إن من قال : القرآن كلام الله ، ووقف ؛ فهو من الواقفة الملعونة (٢).

وقد عمل ابن الزبير بالتقية في مواجهة الخوارج (٣).

واتقى أيضا الشعبي ومطرف بن عبد الله من الحجاج.

واتقى عرباض بن سارية ومؤمن الطاق من الخوارج وصعصعة بن صوحان من معاوية (٤).

وممن استعمل التقية في قضية خلق القرآن إسماعيل بن حماد ، وابن المديني ، وكان ابن المديني يلزم مجلس القاضي أبي دؤاد المعتزلي ، ويقتدي به في الصلاة ، ويجانب أحمد بن حنبل وأصحابه (٥).

١١ ـ ويقولون : إن إبراهيم «عليه السلام» عندما سأله ذلك الحاكم الجبار عن امرأته قال : «هذه أختي» وذلك في الله (٦) فراجع.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٧٢.

(٢) بحوث مع أهل السنة والسلفية ص ١٨٣ و ١٨٤ عن : الرد على الجهمية لابن حنبل في كتاب الدومي ص ٨٢.

(٣) راجع العقد الفريد لابن عبد ربه ج ٢ ص ٣٩٣.

(٤) العقد الفريد ج ٢ ص ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٥) راجع لسان الميزان ج ١ ص ٣٣٩ ـ ٤٠٠ متنا وهامشا.

(٦) صحيح البخاري ط الميمنية : ج ٤ ص ١٢٩ ومسند أحمد ج ٢ ص ٤٠٣ وأخرجه أبو داود والترمذي ، وقصص الأنبياء للنجار : ص ٩٨ ـ ٩٩ ومسند أبي يعلى ج ١٠ ص ٤٢٧.

٢٣١

١٢ ـ وعن عبيد الله بن معاذ العنبري ، عن أبيه قال : «كتبت إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة ، قاضي واسط ، فكتب إلي : لا تكتب عنه ، ومزق كتابي» (١).

١٣ ـ وقد عمل صعصعة بالتقية في خطبته في قصة خروج المستورد أيام معاوية (٢).

١٤ ـ وفي غارة بسر بن أبي أرطاة على المدينة ، وشكوى جابر بن عبد الله الأنصاري لأم سلمة زوج النبي : أنه خشي أن يقتل ، وهذه بيعة ضلال ، قالت : إذن ، فبايع ؛ فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ويحضرون الأعياد مع قومهم (٣).

١٥ ـ وقد خطب الإمام الحسين «عليه السلام» مؤبنا أخاه الحسن السبط «عليه السلام» حينما توفي ، فكان مما تمدحه به : أنه قد آثر الله عند مداحض الباطل ، في مكان التقية بحسن الروية (٤).

١٦ ـ والإمام الحسين «عليه السلام» لم يستجب لأهل الكوفة حينما طلبوا منه القيام ضد معاوية بعد سم الإمام الحسن «عليه السلام» ، وله موقف آخر «عليه السلام» يؤيد فيه موقف أخيه القاضي بعدم الثورة على

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ١ ص ١٨ ومعرفة علوم الحديث ص ١٣٦.

(٢) راجع : بهج الصباغة : ج ٧ ص ١٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ١٩٨.

(٤) راجع : تهذيب تاريخ دمشق : ج ٤ ص ٢٣٠ وعيون الأخبار لابن قتيبة : ج ٢ ص ٣١٤ ، وحياة الإمام الحسن «عليه السلام» للقرشي : ج ١ ص ٤٣٩.

٢٣٢

معاوية ما دام حيا. فراجع (١).

١٧ ـ قال الحسن (البصري) : التقية إلى يوم القيامة (٢).

١٨ ـ وقال البخاري : «وقال ابن عباس : في من يكرهه اللصوص ، فيطلق ، ليس بشيء ، وبه قال ابن عمر ، وابن الزبير ، والشعبي ، والحسن» (٣).

١٩ ـ وقال البخاري أيضا : «يمين الرجل لصاحبه : أنه أخوه ، إذا خاف عليه القتل أو نحوه ، وكذلك كل مكروه يخاف ، فإنه يذب عنه الظالم ، ويقاتل دونه ولا يخذله ، وإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص.

وإن قيل له : لتشربن الخمر ، أو لتأكلن الميتة ، أو لتبيعن عبدك ، أو تقر بدين ، أو تهب هبة أو تحل عقدة ، أو لتقتلن أباك ، أو أخاك في الإسلام وسعه ذلك.

إلى أن قال : قال النخعي : إذا كان المستحلف ظالما فنيّة الحالف ، وإن كان مظلوما ؛ فنية المستحلف» (٤).

ولا بأس بمراجعة الشروح على صحيح البخاري على كتاب الإكراه ، ففيها توضيحات ومطالب مفيدة في هذا المجال (٥).

__________________

(١) راجع : الأخبار الطوال ص ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢٢٢.

(٢) صحيح البخاري (ط الميمنية) ج ٤ ص ١٢٨.

(٣) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٢٨.

(٤) المصدر السابق.

(٥) راجع : عمدة القاري ج ٢٤ ص ٩٥ ـ ١٠٨ ، وفتح الباري ج ١٢ ص ٢٧٧ ـ ٢٨٩ ، وإرشاد الساري ج ١٠ ص ٩٣ ـ ١٠٢.

٢٣٣

٢٠ ـ حتى المغيرة بن شعبة فإنه يدعي أنه في عيبه عليا يعمل بالتقية فهو يقول لصعصعة : «هذا السلطان قد ظهر ، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيرا مما أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية فإن كنت ذاكرا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك وفي منازلكم سرا الخ .. (١).

٢١ ـ وفي حرب الجمل حمل محمد بن الحنفية على رجل من أهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب فلما عرفت الذي أراد كففت عنه (٢).

٢٣ ـ ويقول ابن سلام : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمره أن يصلي الصلاة لوقتها ثم يصلي مع الأمراء الذين يؤخرون الصلاة نافلة (٣).

٢٤ ـ وقد صرح الخدري بأنه يعمل بالتقية في ما يرتبط بموقفه من علي «عليه السلام» ليحقن دمه من بني أمية واستدل بآية ادفع بالتي هي أحسن السيئة (٤).

وقد ذكرت في الصراط المستقيم للبياضي ج ٣ ص ٧٢ و ٧٣ موارد عديدة أخرى فراجع.

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ١٢.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٦٧.

(٣) تهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٢٠٥.

(٤) سليم بن قيس ص ٥٣ ، مؤسسة البعثة ـ قم ـ إيران.

٢٣٤

التقية ضرورة فطرية عقلية دينية إصلاحية :

إن تشريع التقية لهو خير دليل على شمولية الإسلام ومرونته ، واتساعه لكل الظروف والأحوال ، إذ لو كانت الرسالة جافة وقاسية ، ولا تلاحظ الظروف الطارئة ، والأحوال العارضة ، فلا بد أن تصطدم مع الواقع ، وتنهار أمامه ، دون أن تتمكن من تجاوزه في حركتها الإصلاحية والتكاملية.

فهو بتشريعه للتقية ، إنما يحافظ على الرسالة من خلال حفاظه على رائدها ، وحافظها ، وحاملها في ذلك الظرف العصيب.

وخير شاهد على ذلك هو تلك الفترة التي مر بها النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمون في أول البعثة حيث كانوا يتحاشون فيها الصدام مع المشركين.

وإن المحافظة على حامل الرسالة من خلال مرونة الرسالة ، تكون ضرورية جدا حينما لا يكون للتضحية به فائدة ، ولا عائدة.

إن لم يكن في ذلك ضرر على الرسالة نفسها حينما تفقد جنديا أمينا من جنودها ، ربما تكون في وقت كانت بأمس الحاجة إليه.

فكثيرا ما يكون الحفاظ على الإسلام من خلال الحفاظ على جنوده الأبرار الأوفياء ، والذين يكونون دائما على استعداد للتضحية في سبيله كلما اقتضى الأمر ذلك.

فالتقية إنما شرعت للحفاظ على هؤلاء.

أما الآخرون ، الذين لا يفكرون إلا في أنفسهم ، فلا ينفعهم تشريع التقية ، ولا عدمه.

ومما يدلنا على أن تشريع التقية إنما هو للحفاظ على الرسالة من خلال

٢٣٥

الحفاظ على جنودها ، وليس ذلك نفاقا ، ولا انهزاما ، لأن هؤلاء المخلصين الذين يراد الحفاظ عليهم هم دائما على استعداد للبذل والعطاء :

أن الإمام الحسين «عليه السلام» الساكت في زمان معاوية هو نفسه الحسين الثائر على يزيد ، تحت شعار :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

فسكوته هناك كان حفاظا على الدين والحق ؛ تماما كما كانت ثورته هنا حفاظا على الحق والدين ، وقد تكلمنا على هذه النقطة في حلف الفضول.

ولأجل ذلك نجد : أنه إذا توقف الحفاظ على الحق على الفداء والتضحية ؛ فإن الإسلام يأمر به ، ولا يتسامح مع من يمتنع عنه.

وأيضا ، فلو كان في الإسلام جفاف وقسوة ؛ فربما يبعث ذلك الكثيرين على التخلي عنه ، أو بالأحرى على عدم الإقدام عليه.

ولسوف يأتي في إسلام وحشي وغيره : أن البعض كان يسلم ؛ لأنه يعرف أن محمدا لا يقتل أصحابه.

فمرونة الإسلام هذه هي التي أعطته قوة الدفع هذه ، ومكنته من أن يشق طريقه رغم كل التحديات الكبيرة ، والمصاعب الخطيرة ، التي واجهته عبر التاريخ.

وواضح : أن مرونة الإسلام هذه لا يجوز أن تفسر على أنها نوع من التساهل في الأحكام ؛ ليهون على البعض اعتناق الإسلام ، بل هي من قبيل الحفاظ على الإسلام والمسلمين ، حيث لا ضرر على المبدأ والرسالة ، وحيث يكون في عدم التقية هدر للطاقات والإمكانات ، حيث لا جدوى من هدرها.

٢٣٦

وليكن ذلك هو الفرق بين التقية وبين النفاق الذي يحلو للبعض أن ينبز به ـ ظلما وعدوانا ـ من يعتقد بمشروعية التقية.

وقد رأينا : أنه «صلى الله عليه وآله» ، حينما جاءته بعض القبائل وهي قبيلة ثقيف ، وطلبوا منه أن يعطيهم فرصة لعبادة أصنامهم ، وأن لا يفرض عليهم الصلاة لأنها صعبة عليهم ، وأن لا يكسروا صنمهم بيدهم ، نرى أنه «صلى الله عليه وآله» قبل بهذا الأخير ، ورفض الأولين (١).

كما أنهم قد طلبوا منه أن يسمح لهم بالزنى ، وشرب الخمر ، والربا ، وترك الصلاة (٢).

نعم فرفض ذلك ، ولم يأخذ بنظر الاعتبار أن هذه قبيلة تريد أن تسلم ،

__________________

(١) تاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣٥ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ٣ ص ١١ ، والكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٢٨٤ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج ٤ ص ٥٥ ، والسيرة النبوية لابن هشام : ج ٤ ص ١٨٤ و ١٨٥ ، والبداية والنهاية : ج ٥ ص ٣٠ ، والمواهب اللدنية : ج ١ ص ٢٣٦.

وبهذا يلاحظ : أن عمر بن الخطاب لم يكن موفقا حين أصر على الاقتصاص من جبلة بن الأيهم الذي دخل في الإسلام جديدا ، وكان ملكا في قومه ، ولم يتعرف بعد بعمق على عظمة وخصائص الإسلام ومميزاته الفريدة ، إذ قد كان عليه أن يراعي الموقف ، ويحل المشكلة بأسلوب مرن آخر.

(٢) السير النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ٣ ص ١١ ، والمواهب اللدنية : ج ١ ص ٢٣٦ ، وتاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣٥ و ١٣٦ و ١٣٧. وراجع بالنسبة لترك الصلاة المصادر التالية : الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٢٨٤ ، وكذا في السيرة النبوية لابن هشام : ج ٤ ص ١٨٥ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج ٤ ص ٥٦ ، والبداية والنهاية : ج ٥ ص ٣٠.

٢٣٧

فيتقوى بها الإسلام ، ويضعف بذلك جانب أعدائه ومناوئيه ، وهي في خلال هذه السنة تكون قد تعرفت على الإسلام وتدربت عليه.

نعم ، لقد رفض السماح لها بعبادة صنمها ، الذي عبدته عشرات الأعوام ، ولو لمدة سنة واحدة أيضا.

بل هو يرفضه ولو كان لساعة واحدة ، لأنه لا يريد أن يستفيد من أية وسيلة من أجل الوصول إلى أهدافه ، لأنه يعتبر الوسيلة جزء من الهدف ، ومنه تستمد قدسيتها ، كما سبق.

ولكنه في مقابل ذلك : لو أساء إليه أحد الناس مثلا ؛ فإنه على استعداد لأن يعفو عنه ، ولكن شرط : أن يعرف المعفو عنه أنه قد أذنب ، وأن هذا عفو عنه ، أما إذا فهم من ذلك مشروعية الأمر الذي ارتكبه ، فإن ذلك العفو يكون مرفوضا جملة وتفصيلا.

٢٣٨

الفصل الرابع :

هجرة الحبشة

٢٣٩
٢٤٠