الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

١ ـ أن يفسد بنو إسرائيل في الأرض «ولتلاحظ كلمة في الأرض» ، فإنه لا يصدق ذلك على بلد أو قرية صغيرة في نواحي الحجاز مثلا ، بل لا بد أن يكون فسادهم وعلوهم في الأرض المقدسة ، أو في الأرض بصورة عامة ، أو على الأقل في مراكز هامة ، بحيث يرون أنفسهم لا غالب لهم ، ولا شيء يقف في وجههم.

ثم يعلون علوا كبيرا «ولتلاحظ هذه الجملة بدقة أيضا».

٢ ـ أن يبعث الله عليهم عبادا له أتقياء مؤمنين ، فيجوسون خلال ديارهم ، ويدخلون المسجد ، (والتعبير بالجوس لربما يشير إلى عدم المكث طويلا فيها) ؛ لأن الجوس هو الوطء مع الاستقصاء ، وربما يكون هو الوطء الخفيف ، وهو وطء خلال الديار أو فيما بينها من دون ثبات وتحكم فيها نفسها أو لعله إشارة إلى الدخول السري للمجاهدين.

٣ ـ ثم يمد الله بني إسرائيل بأموال وبنين ، ويصير جيشهم أعظم ، ويرد لهم الكرة على السابقين.

٤ ـ ثم يعود أولئك المؤمنون فيقومون بعمل تكون له ثلاث نتائج.

الأولى : سوء وجوه الإسرائيلين.

والثانية : دخولهم المسجد الحرام من جديد ، كما دخلوه أول مرة.

والثالثة : أنهم يتبرون ما علاه قوم آخرون لم تحددهم الآية ، ولم تذكر هويتهم ، لكنهم معروفون بالاستكبار.

كل ذلك سوف يحصل في المستقبل ، حسبما تفيده الآيات الكريمة ، مع العلم بأنه لم يحصل من ذلك شيء في الماضي.

١٤١

ويبقى أن نشير إلى المؤيدات التالية :

القميون يقاتلون الإسرائيليين :

ويؤيد ما تقدم : ما رواه المجلسي عن كتاب تاريخ قم ، تأليف : الحسن بن محمد بن الحسن القمي :

«روى بعض أصحابنا قال : كنت عند أبي عبد الله «عليه السلام» جالسا ؛ إذ قرأ هذه الآية : حتى (١)(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) فقلنا : جعلنا فداك ، من هؤلاء؟

فقال ـ ثلاث مرات ـ : هم والله أهل قم» (٢).

ولقد قال هذا «عليه السلام» قبل أن تخلق إسرائيل بأكثر من اثني عشر قرنا ، وفي حين لم يكن لليهود أية قوة في منطقة بيت المقدس.

وقوله «عليه السلام» هذا يعني : أن أهل قم باعتبارهم مسلمين ، أو قادة للمسلمين هم الذين سوف يقودون الحرب ضد بني إسرائيل في المرة الأولى ، وهم المعنيون بقوله : (عِباداً لَنا) وباقي الحديث يفهم من الآيات الكريمة ؛ حيث تعود لإسرائيل الكرة عليهم بجيش أعظم ، ثم يعود المسلمون بقيادة أهل قم أو بقيادة غيرهم (المهدي مثلا) ليسوؤوا وجوه الإسرائيليين وليدخلوا المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا علوّ قوم معروفين بالاستكبار.

__________________

(١) الموجود في القرآن : (فإذا) فلعل كلمة (حتى) من كلام الراوي.

(٢) البحار ج ٦٠ ص ٢١٦.

١٤٢

الغرب وإسرائيل :

وثمة رواية ضعيفة أيضا تقول : «وتشب نار بالحطب الجزل من غربي الأرض ، رافعة ذيلها ، تدعو يا ويلها لرحلة ومثلها ؛ فإذا استدار الفلك ، قلتم مات أو هلك بأي واد سلك ، فيومئذ تأويل هذه الآية :

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً»)(١).

فهذه الرواية تشير إلى أن علو الإسرائيليين وكرتهم على (عِباداً لَنا) لسوف تكون بمعونة غربية ، تمدهم بالمال والجيوش حتى يصبحوا أكثر نفيرا وجندا.

ولسوف تكون حربا ضروسا وقاسية ، كما يفهم من لحن الرواية المشار إليها ، لو صحت.

الحروب الطويلة والصعبة :

وهذه دولة الإسلام قد ظهرت ، وهي بقيادة أهل قم ، ولكنها تواجه الحروب المدمرة ، والمؤامرات الصعبة من قبل قوى الاستكبار العالمي.

وقد جاء في الرواية المروية عن : علي بن عيسى ، عن أيوب بن يحيى الجندل ، عن أبي الحسن الأول «عليه السلام» ، أنه قال :

«رجل من أهل قم ، يدعو الناس إلى الحق ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد ، لا تزلّهم الرياح العواصف ، ولا يملون من الحرب ، ولا يجبنون ،

__________________

(١) البحار ج ٥٢ ص ٢٧٢ و ٢٧٣. وراجع ج ٥١ ص ٥٧.

١٤٣

وعلى الله يتوكلون ، والعاقبة للمتقين» (١).

ولربما يمكن أن نستفيد من قوله : «لا تزلهم الرياح العواصف» : أن دولة الإسلام هذه سوف تواجه مشكلات صعبة ، لا يثبت أمامها الرجال العاديون.

ومن قوله : «لا يملون من الحرب» : أنهم سوف يواجهون حروبا طويلة ، يمل منها الإنسان العادي.

ولكنهم سوف يصمدون ، وفي النهاية سوف ينتصرون إن شاء الله ، وذلك لقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

الفلسطينيون والأرض :

والإسلام حين حث على الجهاد ، فإنه ربط بأمرين ، كل منهما له حضور في قضية اغتصاب فلسطين ، وهما :

الأول : القتال في سبيل الله سبحانه ، المتمثل بقتال من تجرأ على المقدسات ، واستولى على بيت المقدس ، أولى القبلتين .. والذي يقدسه المسلمون عامة ، وفيه محاريب الأنبياء ، وباب حطة وما إلى ذلك ..

الثاني : القتال في سبيل المستضعفين ، فإن نفس الإستضعاف مرفوض بمنطق القرآن والإسلام ، بغض النظر عن الخسائر المادية ، وغيرها ..

__________________

(١) البحار ج ٦٠ ص ٢١٦.

ويلاحظ وجود بعض الاختلاف بين هذا النص وبين ما في الترجمة الفارسية لكتاب تاريخ قم ، فلعل المترجم قد تصرف في العبارة ، ولعل نسخة المجلسي تختلف عن النسخة المتداولة لكتاب تاريخ قم ، فليلاحظ ذلك.

١٤٤

وقد أوجب الله على الناس القتال ضد من يستضعف الناس ، ويقهرهم حتى لو لم يأخذ منهم أرضا أو مالا ، أو ما إلى ذلك.

وقد قال تعالى مشيرا إلى هذين الأمرين : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)(١).

وقد أصبح التعدي على المقدسات ، والإستضعاف للناس أكثر حضورا وظهورا فيما يجري على أرض فلسطين.

ولا بد من إبراز هذا وذاك في كل هذا النضال والجهاد ضد الغاصب المستكبر ، ولا يصح تجاهل الجانب الإنساني في هذه القضية ، لأن أية قضية إذا أفرغت من محتواها الإنساني ؛ فإنها تفقد زخمها وقوتها ، ورافدها العاطفي ، وقد يصل الأمر بهذا الإنسان العادي إلى حد القول : بأنه لماذا يقاتل ويضحي؟ ما دام أن الأرض يمكن أن تباع وتشترى ، ويقايض عليها ، والإنسان وحده هو الأعلى والأغلى ؛ فلماذا إذن تزهق النفوس والأرواح في سبيلها ، ما دام يمكن الاستعاضة عنها بثمنها ، ثم الاحتفاظ بهذا الإنسان ومواهبه وطاقاته لما هو أهم ، ونفعه أعم؟.

وحتى بالنسبة للمقدسات في بيت المقدس أيضا ، فقد تجد من يقول : ليكن لأنصاف الحلول فيه مجال ، ولن يمانع الإسرائيليون من وصول المسلمين إلى مقدساتهم في كل حين ، وممارسة عباداتهم فيه بحرية ، إذا كانوا هم الحكام.

نعم ، يمكن أن يخطر كل هذا في ذهن الإنسان العادي.

__________________

(١) الآية ٧٥ من سورة النساء.

١٤٥

ولربما يؤثر هذا الخاطر على تعامله مع أقدس قضية ، فيما إذا فصل الجانب الإنساني والعاطفي والإسلامي عن الأرض ، فيضعف الدافع لتحريرها.

وهناك الكارثة الحقيقية والخيانة والجريمة الكبرى ، إذا ، فلا بد أن تبقى المآسي والمظالم التي تعرض ويتعرض لها الشعب الفلسطيني ماثلة للعيان أمام المقاتل المسلم والمؤمن بعدالة قضيته ، ليندفع إلى التضحية والفداء في سبيل قضيته المقدسة ، بروح رضية ، ونفس أبية ، وليمتزج من ثم الوعي بالعاطفة ، وكلاهما بالإيمان.

مع التأكيد على أنه ليس للمسؤولين والسياسيين أن يربطوا مصيرهم ومصير أمتهم بأولئك المنحرفين ، ولا أن يثقوا بهم ، لأن أولئك المنحرفين سوف يدفعونهم في النهاية ثمنا لمصالحهم ، ويساومون عليهم وبهم.

١٤٦

الفصل الثاني :

إنذار العشيرة

١٤٧
١٤٨

أهداف الإسلام :

إن من الواضح : أن أهداف الإسلام القصوى ليست هي مجرد تحقيق العدل ، ولو بمفهومه الأوسع ، إذ لو كان كذلك لم يبق معنى للأوامر الداعية إلى الجهاد والتضحية بالنفوس في سبيل الله والمستضعفين ، إذ لماذا يتخلى هذا الشخص عن نفسه وعن حياته في حين يبقى الآخرون يتمتعون بالحياة ، وبمباهجها ولذائذها؟!.

كما أنه لو كان العدل هو الهدف فلا يبقى معنى لمحبوبية الإيثار على النفس ومطلوبيته له تعالى ، ثم مدح من يفعل ذلك من الناس كما في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(١).

كما أنه لا معنى لنهي الإنسان عن الحقد والحسد ، وغير ذلك مما لا يمكن تتبعه واستقصاؤه ، فإن ذلك كله وسواه ليدل على أن الهدف ليس هو مجرد تحقيق العدل ، وإنما هو فوق وأهم وأقدس من ذلك.

إنه تجسيد إنسانية الإنسان ، وإظهار كنوزها ، والارتفاع بهذا الإنسان إلى مستوى الجدارة الحقيقية لأن يمثل النموذج الذي يريده الله للإنسان

__________________

(١) الآية ٩ من سورة الحشر.

١٤٩

الكامل ، وليس العدل وسواه من كمالات وفضائل إلا واحدا من تلك المراحل والوسائل الموصلة إلى ذلك الهدف المقدس والأسمى ، الذي يستبطن في داخله : كل العدل ، وكل الكمالات وكل الفضائل ، وأخيرا كل السعادة ، والفوز والنجاح.

هذا هو هدف الإسلام ، وهذا ما يسعى إليه ، ويعمل من أجل الوصول والحصول عليه ، وليس أدل على ذلك من الآية الكريمة التي تحدد مهمة النبي الرسول ، بأنه يعلّم الناس الحكمة ، ويطهرهم ، ويزكيهم ، بالإضافة إلى تبليغ رسالة الله لهم ، قال تعالى :

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

وليلاحظ : أيضا قوله تعالى : (.. ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢).

ومن يراجع الآيات القرآنية يجد الكثير الكثير مما يدل على ذلك دلالة واضحة ، حتى إن ذلك لا يحتاج إلى أي بيان أو توضيح ، ولا إلى المزيد من الدلالات والشواهد.

الحاجة إلى الوزير والوصي :

وبعد أن عرفنا حقيقة هدف الإسلام ، فإننا نعرف :

أن مهمته شاقة وعسيرة جدا لأنها تصطدم أولا وبالذات بالإنسان الفرد ،

__________________

(١) الآية ٢ من سورة الجمعة.

(٢) الآية ٦ من سورة المائدة.

١٥٠

حيث لا بد له من السيطرة على غرائزه وشهواته وطموحاته ، ليوجهها ويستفيد منها في مجال بناء الشخصية الإنسانية المثالية والفضلى ، كما أنها تهدف إلى التغيير الجذري في البنية الاجتماعية والسياسية وغيرها للمجتمع ، ليقتلع كل جذور الشر ، ويستأصل كل عوامل الانحراف ؛ ليغرس عوضا عنها كل معاني الخير والصلاح ، والبركة والفلاح.

نعم ، إنها مهمة شاقة وعسيرة جدا ، ولا أشق ولا أعسر منها ، وهي تحتاج لإنجازها ثم إلى استمرارها إلى جهد هائل ومستمر ، ما دام أن الإنسان يحمل في داخله عوامل التغيير والتحول ، التي منحه الله إياها لتكون عوامل لبقائه وسعادته ولراحته ، وأعطاه أيضا وسائل ضبطها والهيمنة عليها وتوجيهها ، ولكن تلك الوسائل كثيرا ما تضعف عن السيطرة على تلك العوامل.

ولسوف يبقى هذا الخطر قائما ، ما دام ذلك الصراع قائما.

وإذا كان الصراع مستمرا باستمرار وجود الإنسان على مدى الزمان ، وكان خطر الشذوذ والانحراف مستمرا أيضا :

فإن الأنبياء «عليهم السلام» سيكونون بحاجة إلى مواصلة القيام بمهمة التربية والتزكية ، وغرس الفضائل الإنسانية والأخلاقية في نفوس الناس ، بالإضافة إلى الاستمرار في تلاوة الآيات القاهرة للعقل ؛ والمرضية للوجدان ، وبالإضافة إلى تعليم الشريعة والأحكام ، ثم الإشراف على تطبيقها ، والرقابة المستمرة على ذلك.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى الوزير والوصي ، والنصير والأخ والولي ، والخليفة للنبي «صلى الله عليه وآله» ، فجاء تنصيب علي «عليه السلام» من

١٥١

قبل الرسول الأكرم «صلوات الله عليه وآله» هو الحركة السليمة والطبيعية في خط الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه ، وما يوم الدار ، وما جرى من تنصيب علي «عليه السلام» فيه خليفة ووزيرا ووصيا للرسول إلا واحدا من تلك المناسبات الكثيرة التي جرى فيها التأكيد على هذا الأمر ، وترسيخه بصورة قوية وحاسمة.

فإلى حديث الدار فيما يلي من مطالب.

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ :

إنه بعد السنوات الثلاث الأولى ، بدأت مرحلة جديدة وخطيرة وصعبة ، هي مرحلة الدعوة العلنية إلى الله تعالى.

وقد بدأت أولا على نطاق ضيق نسبيا ، حيث نزل عليه «صلى الله عليه وآله» قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(١) فيقول المؤرخون ، (والنص للطبري) ما ملخصه : إنه لما نزلت هذه الآية دعا عليا «عليه السلام» ؛ فأمره أن يصنع طعاما ، ويدعو له بني عبد المطلب ليكلمهم ، ويبلغهم ما أمر به.

فصنع علي «عليه السلام» صاعا من طعام ، وجعل عليه رجل شاة ، وملأ عسا من لبن ، ثم دعاهم ، وهم يومئذ أربعون رجلا ، يزيدون رجلا ، أو ينقصونه ، فيهم أعمام النبي «صلى الله عليه وآله» : أبو طالب ، وحمزة والعباس ، وأبو لهب ؛ فأكلوا.

قال علي «عليه السلام» : فأكل القوم ، حتى ما لهم بشيء من حاجة ، وما

__________________

(١) الآية ٢١٤ من سورة الشعراء.

١٥٢

أرى إلا موضع أيديهم ، وأيم الله الذي نفس علي بيده ، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال : إسق القوم ؛ فجئتهم بذلك العس ؛ فشربوا منه حتى رووا منه جميعا ، وأيم الله ، إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : لقدما سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ، ولم يكلمهم الرسول «صلى الله عليه وآله».

فأمر «صلى الله عليه وآله» عليا «عليه السلام» في اليوم الثاني : أن يفعل كما فعل آنفا ، وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» : يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة.

وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ؛ فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم؟.

قال : فأحجم القوم عنها جميعا ، وقال علي : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم ؛ فاسمعوا له وأطيعوا.

قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

وفي بعض نصوص الرواية : أنه لما قام علي «عليه السلام» فأجاب ، أجلسه النبي «صلى الله عليه وآله».

ثم أعاد الكلام ، فأجابه علي ، فأجلسه ، ثم أعاد عليهم ، فلم يجيبوا ، وأجاب علي «عليه السلام» ، فقال له «صلى الله عليه وآله» ذلك.

١٥٣

وعلى حسب نص الإسكافي : أنه «صلى الله عليه وآله» قال : هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي من بعدي.

وأنهم قالوا لأبي طالب : أطع ابنك ، فقد أمره عليك (١).

__________________

(١) راجع هذه القضية في : تاريخ الطبري ج ٢ ص ٦٣ ، ومختصر تاريخ أبي الفداء ج ٢ ص ١٤ ط دار الفكر بيروت وشواهد التنزيل ج ١ ص ٣٧٢ و ٤٢١ وكنز العمال الطبعة الثانية ج ١٥ ص ١٦ و ١١٧ و ١١٣ و ١٣٠ عن ابن إسحاق ، وابن جرير وصححه ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي معا في الدلائل ، وتاريخ ابن عساكر ، ترجمه الإمام علي بتحقيق المحمودي ج ١ ص ٨٧ و ٨٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٤٤ عن الإسكافي ، وحياة محمد لهيكل الطبعة الأولى ص ٢٨٦.

وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ١٥٩ وكفاية الطالب ص ٢٠٥ عن الثعلبي ومنهاج السنة ج ٤ ص ٨٠ عن البغوي وابن أبي حاتم والواحدي والثعلبي وابن جرير ، ومسند أحمد ج ١ ص ١١١ ، وفرائد السمطين ، بتحقيق المحمودي ج ١ ص ٨٦ ، وإثبات الوصية للمسعودي ص ١١٥ و ١١٦ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٦٠ و ٤٥٩. والغدير ج ٢ ص ٢٧٨ ـ ٢٨٤ عن بعض من ذكرنا وعن : أنباء نجباء الأبناء ص ٤٦ و ٤٧ ، وشرح الشفاء للخفاجي ج ٣ ص ٣٧.

وراجع أيضا : تفسير الخازن ص ٣٩٠ ، وكتاب سليم بن قيس وغيرهم ، وخصائص النسائي ص ٨٦ الحديث ٦٣ ، وراجع : البحار ج ٣٨ والدر المنثور ج ٥ ص ٩٧ عن مصادر كنز العمال لكنه حرف فيه ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٣٠٢ عن عدد من الحفاظ بإسقاط منه أيضا ، وينابيع المودة ص ١٠٥ وغاية المرام ص ٣٢٠ وابن بطريق في العمدة ، وتفسير الثعالبي ، وتفسير الطبري ج ١٩ ص ٧٥ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠ ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٥٠ و ٣٥١.

١٥٤

التعصب الأعمى :

ولا بد أن نشير هنا : إلى أن الطبري ، قد ذكر هذا الحديث في تاريخه على النحو المتقدم.

ولكنه ندم على ذلك ـ على ما يظهر ـ فذكر نفس هذا الحديث في تفسيره برمته حرفيا ، متنا وسندا ، ولكنه غير فيه عبارة واحدة ، فذكرها على النحو التالي : «فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ، وكذا وكذا.

إلى أن قال :

ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا»!! (١).

وقد تبعه على هذا ابن كثير الشامي أيضا ؛ فلم تسمح نفسه بذكر ما في تاريخ الطبري.

بل نقل خصوص ما في التفسير ، مع أن تاريخ الطبري هو مصدره ومعتمده في تاريخه!! (٢).

كما أن محمد حسنين هيكل بعد أن ذكر في كتابه حياة محمد ، في الطبعة الأولى ص ١٠٤ نص الطبري في التاريخ ، عاد فحذف من الطبعة الثانية ص ١٣٩ ط سنة ٣٥٤ ه‍. قوله : «وخليفتي فيكم» واقتصر على قوله : «ويكون أخي ووصيي» وذلك لقاء خمسمائة جنيه ، أو لقاء شراء ألف نسخة من كتابه (٣).

__________________

(١) راجع تفسير الطبري ج ١٩ ص ٧٥.

(٢) راجع : تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٥١ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٥٩.

(٣) راجع : فلسفة التوحيد والولاية ص ١٧٩ و ١٣٢ وسيرة المصطفى ص ١٣١ و ١٣٠.

١٥٥

ابن تيمية ، وحديث الدار :

أما ابن تيمية ، فقد أنكر ـ على عادته في إنكار فضائل سيد الأوصياء أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ حديث الدار ، وأورد عليه بما ملخصه :

أولا : إن في سند رواية الطبري أبا مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، وقال أحمد : ليس بثقة ، واتهمه ابن المديني بوضع الحديث إلخ.

ثانيا : تنص الرواية على أنه قد جمع بني عبد المطلب وهم أربعون رجلا.

ومن الواضح : أنه حين نزول الآية لم يكن بنو عبد المطلب بهذه الكثرة.

ثالثا : قول الرواية إن الرجل منهم ليأكل الجذعة ، ويشرب الفرق (١) من اللبن ، كذب ، إذ ليس في بني هاشم من يعرف بأنه يأكل جذعا ، ويشرب فرقا.

رابعا : إن مجرد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لا يوجب أن يكون المجيب وصيا وخليفة بعده «صلى الله عليه وآله» ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله.

كما أنه لو أجابه الأربعون ، أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له؟

خامسا : إن حمزة ، وجعفر ، وعبيدة بن الحرث قد أجابوا إلى ما أجاب إليه علي ، بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا (٢).

__________________

(١) الفرق : إناء يكتال به.

(٢) منهاج السنة ج ٤ ص ٨١ ـ ٨٣.

١٥٦

الرد على ابن تيمية :

ولكن كل ما ذكره ابن تيمية لا يصح ، ولا يلتفت إليه ، وذلك لما يلي :

١ ـ فأما بالنسبة لما ذكره أولا عن أبي مريم ، فقد قال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه ، وتجاوز الحد في مدحه (١) وأثنى عليه شعبة (٢).

وقال عنه الذهبي : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (٣).

وعدا عن ذلك فقد صرحوا بسبب تضعيفهم له ، وهو كونه شيعيا ، ونحن نرى أن ذلك لا يضره ؛ فقد روى أصحاب الصحاح ، ولا سيما البخاري ومسلم عن عشرات الشيعة (٤).

ومع غض النظر عن ذلك ؛ فإن المتقي الهندي قد نقل عن الطبري : أنه قد صحح هذا الحديث (٥).

كما وصححه الإسكافي المعتزلي (٦).

وصححه أيضا : الخفاجي في شرح الشفاء (٧).

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٢ ص ٢٨٠ ، ولسان الميزان ج ٤ ص ٤٣.

(٢) لسان الميزان ج ٤ ص ٤٢.

(٣) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ ص ٦٣١ و ٦٤٠ ، ولسان الميزان ج ٤ ص ٤٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) كنز العمال ج ١٥ ص ١١٣.

(٦) راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٤٤.

(٧) راجع : الغدير ج ٢ ص ٢٨٠.

١٥٧

وقد رواه أحمد بسند جميع رجاله رجال الصحاح بلا كلام ، وهم : شريك ، والأعمش ، والمنهال ، وعباد ، وعلي «عليه السلام» (١).

ولو سلم كل ذلك ؛ فإن طرق الحديث مستفيضة ، يقوي بعضها بعضا ؛ فلا يضر ضعف بعض الرجال في بعض الأسانيد.

وأعجب من ذلك دعوى أن لا تكون قضية الخلافة بعده «صلى الله عليه وآله» مذكورة في المسانيد ، فإن من راجع المصادر التي ذكرناها للحديث آنفا ؛ يعرف أنها موجودة في عشرات المصادر والمسانيد.

وأما الطعن في رواية ابن أبي حاتم باشتمال سندها على عبد الله بن عبد القدوس.

وقد ضعفه الدار قطني.

وقال النسائي : ليس بثقة.

وقال ابن معين : ليس بشيء ، رافضي خبيث ، أما هذا ـ فقد قال الشيخ المظفر «رحمه الله تعالى» في جوابه : «وفيه : أن تضعيفهم معارض بما في تقريب ابن حجر : أنه صدوق.

وفي تهذيب التهذيب : قال محمد بن عيسى : ثقة.

وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال البخاري : هو في الأصل صدوق ، إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف.

مع أنه أيضا من رجال سنن الترمذي.

__________________

(١) راجع : المصدر السابق ، ومسند أحمد ج ١ ص ١١١.

١٥٨

ومدح هؤلاء مقدم ؛ لعدم العبرة في قدح أحد المتخالفين في الدين في الأخر ، ويقبل مدحه فيه.

وهم قذفوه بذلك ؛ لأنهم رموه بالتشيع ، ولا نعرفه في رجالهم.

لكن قد ذكر ابن عدي : أن عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت. ولعل هذا هو سر تهمتهم له (١).

٢ ـ وأما ما ذكره ابن تيمية ثانيا : فإن الظاهر هو أن كلمة (عبد) زيادة من الرواة ، بدليل : أن عددا من الروايات يصرح بأنه قد دعا بني هاشم (٢).

وجاء في روايات أخرى : أنه دعا بني عبد المطلب ، ونفرا من بني المطلب (٣) فلعل الأمر قد اشتبه على الراوي وأضاف كلمة «عبد» ، وهذا كثير.

وعليه فلا يلزم من ذلك كذب أصل الواقعة المتفق عليها إجمالا ، كما أن أبناء عبد المطلب إذا كانوا عشرة ، وكان أصغرهم يصل عمره حينئذ إلى ستين عاما ؛ فلماذا لا يكون لهم من الولد ما لو انضموا إليهم لبلغوا أربعين رجلا ، بل أكثر من ذلك بكثير ، وما وجه الاستبعاد لذلك؟

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٣٤.

(٢) كما في السيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٤٥٩ عن ابن أبي حاتم وكذا في البداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠ ، راجع كنز العمال ج ١٥ ص ١١٣ ، ومسند أحمد ج ١ ص ١١١ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٥٠ وابن عساكر ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي ج ١ ص ٨٧ ، وإثبات الوصية للمسعودي ص ١١٥ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٧ ، ومسند البزار مخطوط في مكتبة مراد رقم ٥٧٨.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٦٢ ط صادر.

١٥٩

٣ ـ وأما ما ذكره ثالثا : فقد أجاب عنه الشيخ المظفر : بأن عدم معروفيتهم بالأكل لا تدل على عدم كونهم كذلك ، فلعلهم كذلك في الواقع ، ولو سلم ؛ فإنه يلزم منه مبالغة الراوي في إظهار معجزة النبي «صلى الله عليه وآله» في إطعامهم رجل الشاة ، وعس اللبن الواحد (١).

٤ ـ وأما ما ذكره ابن تيمية رابعا : فجوابه ما ذكره الشيخ المظفر أيضا : من أن قوله هذا ليس علة تامة للخلافة ، ولم يدّع ذلك النبي «صلى الله عليه وآله» ، ليشمل حتى من لم يكن من عشيرته ، بل أمره الله بإنذار عشيرته ؛ لأنهم أولى بالدفع عنه ونصره ؛ فلم يجعل هذه المنزلة إلا لهم ، وليعلم من أول الأمر : أن هذه المنزلة لعلي «عليه السّلام» لأن الله ورسوله يعلمان :

أنه لا يجيب النبي «صلى الله عليه وآله» ويؤازره غير علي «عليه السلام» ؛ فكان ذلك من باب تثبيت إمامته ، بإقامة الحجة عليهم. ومع فرض تعدد المجيبين يعين الرسول الأحق بها منهم (٢).

وقد أوضح ذلك المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني : بأن الخطاب إنما هو للجميع ، لكن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعلم من خلقهم وعلاقاتهم ، وطبائعهم : أنهم سوف لا يجيبون إلا علي «عليه السلام» ، هذا بالإضافة إلى إعلام الله له بذلك.

ونقول نحن : إن مما يؤيد ذلك ، النص الذي سوف يأتي نقله عن البحار ، عن ابن طاووس ، تحت عنوان : «ماذا قال النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٣٥.

(٢) دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٣٦.

١٦٠