الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧٥

استبعاد الإسراء والمعراج :

وبعد ، فلا بد لنا من الإشارة هنا : إلى أن استبعاد الإسراء والمعراج ؛ بدعوى عدم إمكان تصور أن تقطع تلك المسافات الشاسعة ، التي تعد بآلاف الأميال في ليلة واحدة ذهابا وإيابا ـ هذا الاستبعاد ـ في غير محله.

فقد حضر عرش بلقيس لدى سليمان من اليمن إلى بلاد الشام في أقل من لمح البصر ، وكان عفريت من الجن قد تكفل بأن يأتيه به قبل أن يقوم من مقامه.

وأما بالنسبة لنا اليوم فقد أصبح التصديق بالإسراء والمعراج أكثر سهولة ، والإقناع به أقرب منالا ، ولا سيما بعد أن تمكن هذا الإنسان العاجز المحدود من أن يصنع ما يمكنه من قطع ١٣ كيلومترا في ثانية واحدة ، ولربما يتضاعف ذلك عدة مرات في المستقبل ، كما أنه قد اكتشف أن سرعة النور هي حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية (١) ، بل يعتقد بعض العلماء : أن الموجات غير المرئية للجاذبية تستطيع أن تقطع العالم بلحظة واحدة من دون حاجة إلى الزمان ..

وبعد كل هذا فإنه إذا كان قطع المسافات البعيدة بهذه السرعة المذهلة ليس مستحيلا على هذا الإنسان المحدود ، الذي بقي الأعوام الطوال يفكر ويستعد ، ويجمع الخبرات والإمكانات ، فهل يستحيل على خالق الإنسان والكون ، ومبدعه أن يسري بعبده الذي اصطفاه رسولا للبشرية جمعاء ، ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وإلى ملكوت السموات ، ثم يعيده إلى مكانه الأول؟!.

__________________

(١) راجع حول سرعة النور : موسوعة المعارف والعلوم ص ١٠.

١٢١

من أهداف الإسراء والمعراج :

إننا إذا أردنا معرفة الأهداف والحكم ، والمعجزات ، والتأثيرات العميقة للإسراء والمعراج ، فلا بد لنا من دراسة كل نصوصه ، وفقراته ، ومراحله بدقة وعمق ، بعد تحقيق الصحيح منها ، وحيث إن ذلك غير متيسر بل هو متعذر علينا في ظروفنا الحاضرة ، فإننا لا بد أن نكتفي بالإشارة إلى الأمور التالية :

أولا : إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة كبرى خالدة ، ولسوف يبقى البشر إلى الأبد عاجزين عن مجاراتها ، وإدراك أسرارها ولعل إعجازها هذا أصبح أكثر وضوحا في هذا القرن الواحد والعشرين ، بعد أن تعرف هذا الإنسان على بعض أسرار الكون وعجائبه ، وما يعترض سبيل النفوذ إلى السماوات من عقبات ومصاعب.

وإعجازها هذا إنما يكون بعد التسليم بنبوة النبي «صلى الله عليه وآله» عن طريق الخضوع لمعجزته الخالدة ، وهي القرآن ، أو اليقين بصدقه «صلى الله عليه وآله» عن أي طريق آخر ، بحيث يكون ذلك موجبا لليقين بصدق إخباراته كلها ؛ فإذا أخبر «صلى الله عليه وآله» بهذه الحادثة ، فإن إخباره مساوق لليقين بوقوعها ، وهي حينئذ تكون معجزة خالدة تتحدى هذا الإنسان على مدى التاريخ.

ثانيا : يلاحظ : أن هذه القضية قد حصلت بعد البعثة بقليل ، وقد بيّن الله سبحانه الهدف من هذه الجولة الكونية ؛ فقال في سورة الإسراء : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا)(١).

__________________

(١) الآية ١ من سورة الإسراء.

١٢٢

وإذا كان الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله» هو الأسوة والقدوة للإنسانية جمعاء ، وإذا كانت مهمته هي حمل أعباء الرسالة إلى العالم بأسره ، وإذا كان سوف يواجه من التحديات ، ومن المصاعب والمشكلات ما هو بحجم هذه المهمة الكبرى ، فإن من الطبيعي : أن يعده الله سبحانه إعدادا جيدا لذلك ، وليكن المقصود من قصة الإسراء والمعراج هو أن يشاهد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بعض آثار عظمة الله تعالى ، في عملية تربوية رائعة ، وتعميق وترسيخ للطاقة الإيمانية فيه ، وليعده لمواجهة التحديات الكبرى التي تنتظره ، وتحمل المشاق والمصاعب والأذايا التي لم يواجهها أحد قبله ، ولا بعده ، حتى لقد قال حسبما نقل «ما أوذي نبي مثلما أوذيت».

وعلى حسب نص السيوطي ، والمناوي ، وغيرهما : «ما أوذي أحد ما أوذيت» (١) ولا سيما إذا عرفنا : أن عمق إدراك هذا النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ـ وهو عقل الكل ، وإمام الكل ـ لأخطار الانحرافات في المجتمعات ، وانعكاساتها العميقة على الأجيال اللاحقة كان من شأنه أن يعصر نفسه ألما من أجلهم ، ويزيد في تأثره وعذاب روحه حتى لقد خاطبه الله تعالى بقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)(٢).

وأيضا ، فإنه بالإسراء والمعراج يفتح قلبه وعقله ليكون أرحب من هذا

__________________

(١) راجع : الجامع الصغير ج ٢ ص ١٤٤ وكنوز الحقائق ، هامش الجامع الصغير ج ٢ ص ٨٣.

(٢) الآية ٨ من سورة فاطر.

١٢٣

الكون ، ويمنحه الرؤية الواضحة ، والوعي الأعمق في تعامله مع الأمور ، ومعالجته للمشكلات ، ولا سيما إذا كان لا بد أن يتحمل مسؤولية قيادة الأمة والعالم بأسره.

وكذلك ليصل هذا النبي الأمي إلى درجة الشهود والعيان بالنسبة إلى ما أوحي إليه ، وسمع به عن عظمة ملكوت الله سبحانه ، ولينتقل من مرحلة السماع إلى مرحلة الرؤية والشهود ، ليزيد في المعرفة يقينا ، وفي الإيمان رسوخا.

ثالثا : لقد كان الإنسان ـ ولا سيما العربي آنئذ ـ يعيش في نطاق ضيق ، وذهنية محدودة ، ولا يستطيع أن يتصور أكثر من الأمور الحسية ، أو القريبة من الحس ، التي كانت تحيط به ، أو يلتمس آثارها عن قرب ، وذلك من قبيل الفرس ، والسيف ، والقمر ، والنجوم ، والماء والكلاء ، ونحوها ، ويشعر بالحب ، والبغض والشجاعة وغير ذلك.

فكان ـ والحالة هذه ـ لا بد من فتح عيني هذا الإنسان على الكون الأرحب ، الذي استخلفه الله فيه ، ليطرح على نفسه الكثير من التساؤلات عنه ، ويبعث الطموح فيه للتعرف عليه ، واستكناه أسراره ، وبعد ذلك إحياء الأمل وبث روح جديدة فيه ، ليبذل المحاولة للخروج من هذا الجو الضيق الذي يرى نفسه فيه ، ومن ذلك الواقع المزري ، الذي يعاني منه.

وهذا بالطبع ينسحب على كل أمة ، وكل جيل ، وإلى الأبد.

رابعا : والأهم من ذلك : أن يلمس هذا الإنسان عظمة الله سبحانه ، ويدرك بديع صنعه ، وعظيم قدرته ، من أجل أن يثق بنفسه ودينه ، ويطمئن إلى أنه بإيمانه بالله ، إنما يكون قد التجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح ،

١٢٤

ولا يريد له إلا الخير ، قادر على كل شيء ، ومحيط بكل الموجودات.

خامسا : وأخيرا ، إنه يريد أن يتحدى الأجيال الآتية ، ويخبر عما سيؤول إليه البحث العلمي ـ من التغلب على المصاعب الكونية ، وغزو الفضاء ـ فكان هذا الغزو بما له من طابع إعجازي خالد هو الأسبق والأكثر غرابة وإبداعا ؛ وليطمئن المؤمنون ، وليربط الله على قلوبهم ، ويزيدهم إيمانا كما قلنا.

الأذان :

ونحن نعتقد : أن الأذان قد شرع في مناسبة الإسراء والمعراج كما جاء في الخبر الصحيح ، ولكنهم إنما يذكرون ذلك بعد الهجرة ؛ فنحن نرجئ الحديث عنه إلى هناك ، إن شاء الله تعالى.

اليهود والمسجد في القرآن :

قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ، ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١).

__________________

(١) الآيات ٤ الى ١٠ من سورة الإسراء.

١٢٥

مفاد الآيات إجمالا :

هذه الآيات الكريمة تتضمن :

أ ـ أحداثا أربعة هامة ، هي التالية :

١ ـ إن بني إسرائيل سوف يفسدون في الأرض ، ويعلون علوا كبيرا ، بعد أن كتب الله عليهم الجلاء ، وضرب عليهم الذل والمسكنة ، وباؤوا بغضب من الله.

٢ ـ إن عبادا لله أولي بأس شديد سوف يحاربون الإسرائيليين ، بعد فسادهم وعلوهم ، ويطأون بلادهم ، ويجوسون خلال ديارهم جزاء على بغيهم وفسادهم ، ويدخلون المسجد أيضا.

٣ ـ إن بني إسرائيل سوف تكثر بعد ذلك أموالهم ، وأولادهم ، وذلك يحتاج إلى مدة طويلة نسبيا ، ولسوف يجهزون جيشا أعظم من جيش أولئك العباد ، وتكون الكرة لهم عليهم.

٤ ـ ثم إنهم بعد أن يعودوا إلى الإفساد من جديد ؛ في مهلة زمنية لا بأس بمقدارها يعود أولئك العباد إلى حربهم ، ليسوؤوا وجوههم ، وليدخلوا المسجد ، والظاهر أن المراد به المسجد الحرام ، وليتبروا ما علوا تتبيرا.

ولم تبين الآية من هم هؤلاء الذين يصيبهم هذا التتبير ، فإن الظاهر هو أنهم قوم آخرون غير بني إسرائيل.

ب ـ إن حصول المرتين الأولى والثانية ، يعني الإفساد الأول من بني إسرائيل ثم إرسال الله تعالى عبادا له عليهم ، أمر حتمي ، لقوله تعالى :

١٢٦

(وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً)(١). وأما المرتان الأخيرتان فهما تتوقفان على اعتبار بني إسرائيل بما حصل ، ثم اختيارهم أحد الأمرين.

فلأجل إبراز عنصر الاختيار هذا والتشكيك بصدوره منهم ، عبر ب «إن» : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ ..) لأنها تستعمل في مقام الترديد والشك في صدور الإحسان منهم.

ضرب القاعدة ، وإعطاء الضابطة :

ثم إنه بالنسبة للإفساد الثاني قد اختار التعبير ب «إذا» كما استعمل نفس هذه الكلمة بالنسبة لإفسادهم الأول ، وذلك لإفادة أن اختيارهم لطريق الشر أمر حتمي ، ولا شك فيه لما يعلمه الله فيهم من خصائص ، وطموحات.

ولكن جواب الشرط قد جاء بصيغة المضارع لإفادة حصول سوء الوجوه لهم والتتبير لعلو قوم آخرين بصورة تدريجية ، ليكون ذلك أدعى في الإذلال ، وأدل على المساءة ، ولكن هذا المضارع إنما هو بملاحظة زمان تحقق الشرط في المستقبل.

ويلاحظ هنا : كثرة المؤكدات على صدور ذلك منهم ؛ فلاحظ قوله تعالى : (قَضَيْنا) المشير إلى حتمية ذلك لكن لا على سبيل الجبر ، وإنما على سبيل الإخبار بما هو حتمي الوقوع بحسب ما يعلمه الله من أحوالهم ، ثم عبر بكلمة : (فِي الْكِتابِ*) المفيدة إلى نوع التأكيد أيضا.

ثم أتى بلام الابتداء في أكثر من مورد ، فقال : (لَتُفْسِدُنَ وَلَتَعْلُنَ).

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الإسراء.

١٢٧

ثم أتى بنون التوكيد ، مشفوعة بإذا التي تستعمل في مقام الجزم بتحقق الشرط.

وعقّب على ذلك باعتباره وعدا قد جاء بصيغة التحقق والوقوع ، حيث قال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) ولم يقل : وقت أو موعد وهو يقتضي الحصول والتحقق أيضا ، ثم ألحقه بكلمة : (بَعَثْنا) ، ولم يقل : «سنبعث» ، ليشير إلى أنه أمر حاصل لا محالة ، فهو يخبر عن وقوعه.

ثم عاد فكرر كونه وعدا ولكن بصيغة تؤكد وقوعه وحصوله حيث قال : (وَكانَ وَعْداً) ثم وصفه بقوله : (مَفْعُولاً).

ونلاحظ أيضا أنه لم يزل يعبر بـ : «أمددنا ، بعثنا ، جعلنا ، رددنا» بصيغة الخبر عن أمر حاصل ، وإظهارا للثقة بحصوله أيضا ، فلاحظ الآيات.

ج ـ إن المستفاد من هذه الآيات هو : أن من سوف تجري لهم مع بني إسرائيل هذه الأحداث هم جماعة واحدة ، يجوسون خلال ديار بني إسرائيل أولا ، ثم ترد الكرة لبني إسرائيل عليهم ، ثم يعودون هم إلى ضرب بني إسرائيل ضربة تسوء لها وجوههم ، ويتبروا فيها ما علوا.

وذلك لأن الضمائر في : «جاسوا ، وعليهم ، وليسوؤوا ، وليدخلوا ، ودخلوه وليتبروا» ـ كل هذه الضمائر ترجع إلى جماعة واحدة ، عبر عنها بقوله تعالى : (عِباداً لَنا) ، وليس غيره في الآيات يصلح مرجعا لهذه الضمائر ـ أصلا.

د ـ يستفاد من هذه الآيات : أن هؤلاء العباد سوف يدخلون المسجد مرتين.

والظاهر : أن المراد به هو المسجد الحرام ، أما المسجد الأقصى الذي

١٢٨

حصل الإسراء إليه ، والذي بارك الله حوله ، فهو في السماء ، وأن دخولهم هذا سوف يكون على نحو واحد في المرتين معا ، أي بالقوة والقهر ، والغلبة (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

ه ـ إنه تعالى بعد أن ذكر الأحداث الأربعة عاد فقال : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) وهو لبيان قاعدة كلية ، وسنة إلهية في مواجهة طغيان بني إسرائيل وفسادهم ، وهو لا يدل على أن ذلك سوف يقع منهم ، بعد تلك الأحداث الأربعة ، بل إن ما سوف يقع جزما هو ما ذكر ، والظاهر : أن دولتهم تبقى ، ولا يصيبهم في المرة الثانية سوى سوء الوجوه ..

أما ما سواه فلا دليل على حدوثه ، بل إن تعبيره ب «إن» الشرطية ، الموضوعة للاستعمال في غير موارد الجزم لربما يشير إلى عدم الوقوع.

والظاهر هو أن القضاء عليهم إنما يكون على يد الإمام الحجة «صلوات الله وسلامه عليه».

و ـ إن المقصود ب : (عِباداً لَنا) قوم مؤمنون ، وذلك لاقتضاء ظاهر قوله : (بَعَثْنا) ، وقوله : (عِباداً لَنا)(١) لأن البعث للبشر على غيرهم ، وكلمة : (عِباداً لَنا) ، لم يستعملا في القرآن ـ إلا ما شذ ـ إلا في مقام المدح والثناء ، ولا سيما مثل قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وغير ذلك.

ولا أقل من أنه قصد به ما سوى الكافرين.

ولربما يشير إلى ذلك أيضا : أنه تعالى بعد أن ذكر انتصار عباده على بني

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٣ ص ٣٩.

١٢٩

إسرائيل وما سوف يحيق ببني إسرائيل من سوء ، وأنه جعل جهنم للكافرين حصيرا ، عاد فأجمل كل ذلك على شكل قاعدة كلية ، فبين : أن سنة الله هي أن يبشر عباده المؤمنين الذين يقفون المواقف الصالحة ، ويدافعون عن دينه ـ كهؤلاء العباد الذين أرسلهم على بني إسرائيل ـ بأن لهم أجرا عظيما ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويفسدون في الأرض ، ويعلون علوا كبيرا ، كما هو حال بني إسرائيل قد أعدّ لهم عذابا أليما ، فقال :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١).

ثم دخل في موضوع آخر.

ويرى العلامة المحقق البحاثة السيد الطباطبائي «رحمه الله» : أنه لا دليل في الكلام ـ أي في قوله تعالى : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) ـ يدل على كون المبعوثين «مؤمنين» ؛ إذ لا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل ، مع ما كان فيه من القتل الذريع ، والأسر ، والسبي ، والنهب ، والتخريب ، بعثا إلهيا ؛ لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض ، وعلوهم ، وبغيهم بغير الحق ؛ فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم ، وتأييدهم عليهم ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم (٢).

__________________

(١) الآيتين ٩ و ١٠ من سورة الإسراء.

(٢) تفسير الميزان ج ١٣ ص ٣٩.

١٣٠

ونقول :

إننا لا نستطيع ـ بدورنا ـ أن نقبل :

أن الله تعالى يؤيد الظالمين والمجرمين بأي وجه ، نعم ، هو يخلي بينهم وبينهم ، ويوقف تأييداته لهم ، وهذا غير تأييده لأولئك ، وبعثهم على هؤلاء.

إلا أن يدعى أن المراد هو التسليط عليهم ، وذلك بالتخلية فيما بينهم ، ووقف التأييدات للفئة المؤمنة بسبب ما فعلته.

لكن يرد عليه : أن نسبة البعث والإمداد ، ورد الكرة ـ والحالة هذه إلى الله سبحانه ـ تصبح غير ظاهرة ، ولا مقبولة.

كما أننا قد أشرنا فيما سبق إلى وجود بعض القرائن المشيرة إلى إيمان المبعوثين.

فالأظهر هنا : هو أن أولئك العباد سوف يدفعهم أمر الله تعالى والتكليف الشرعي إلى القيام بذلك العمل ؛ فيصح أن يقال : إن الله هو المحرك والباعث لهم.

هذا ما يستفاد من الآيات بشكل عام.

بقي الكلام في تطبيقها الخارجي ؛ فهل حصل وتحقق مفادها كله في السابق؟ أو أنه لسوف يحصل ذلك كله في الآتي!. أو أن بعض ذلك قد حصل؟. والبعض الآخر متوقع الحصول؟!.

أقوال الرواة والمفسرين :

لقد راجعنا عددا من كتب الحديث والتفسير ، فوجدنا الروايات والأنظار مختلفة ومتباينة في ذلك ..

١٣١

ونحن نذكر موجزا عن تلك الروايات والآراء بتلخيص منا ، وذلك على النحو التالي :

١ ـ عن ابن مسعود : إن الفساد الأول هو قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، ثم عادوا هم فغزوا النبط ، فأصابوا منهم.

٢ ـ عن عطية العوفي : بعث الله عليهم أولا جالوت ، ثم قتله طالوت على يد داود ، ثم قتلوا يحيى ؛ فبعث عليهم بخت نصّر ، وكذا عن ابن عباس.

٣ ـ عن علي : الفساد الأول قتل زكريا ، والثاني قتل يحيى ، مع عدم بيان من بعث عليهم في المرتين.

٤ ـ عن حذيفة : المرة الأولى بخت نصّر ، ثم ردهم كورش ، ثم عادوا في المعاصي ، فسلط عليهم ابطنا نحوس ، ثم عادوا في المعاصي ، فسلط عليهم ثالثا إسبيانوس.

٥ ـ عن ابن زيد : الأولى قتل زكريا ويحيى ، فسلط عليهم سابور ذا الأكتاف الفارسي ، من قبل زكريا ، وبخت نصّر من قبل يحيى.

٦ ـ عن مجاهد : إن ملك فارس بعث جندا إليهم ليتجسسوا أخبارهم ويسمعوا حديثهم ، ثم رجعت فارس ، ولم يكثر قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، ثم بعث عليهم ملك فارس ببابل جيشا ، أمّر عليه بخت نصّر ؛ فدمروهم (١).

__________________

(١) راجع هذه الروايات في الدر المنثور للسيوطي ج ٤ ص ١٦٣ ـ ١٦٥ عن ابن جرير ، وابن عساكر ، وابن أبي حاتم ، متفرقا ، وراجع : تفسير الطبري ، وتفسير ابن كثير ، وفتح القدير ، وغير ذلك من التفاسير ، في تفسير الآيات في سورة الإسراء.

١٣٢

رأي العلامة الطباطبائي رحمه الله :

قال العلامة البحاثة المحقق الطباطبائي «رحمه الله» : «.. والذي يظهر من تاريخ اليهود : أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصّر ، وبقي خرابا سبعين سنة ، والمبعوث ثانيا هو قيصر الروم إسبيانوس ، سيّر إليهم وزيره طوطوز ، فخرب البيت ، وأذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.

وليس من البعيد : أن تكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات ؛ فإن الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم ، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرة ، لكن نازلة بخت نصّر ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن كورش ، ثم اجتمع شملهم بعد برهة ، ثم غلب عليهم الروم ، وأذهبت بقوتهم ، وشوكتهم ، فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام».

قال هذا «رحمه الله» بعد أن ذكر : أنه كالمسلّم : أن إحدى هاتين النكايتين كانت على يد بخت نصّر (١).

ولكنه عاد فأورد على نفسه بأن في الآيات إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل هم قوم بأعيانهم في كلا المرتين.

وأجاب عن ذلك : بأنه مجرد إشعار ؛ من دون تصريح.

ونقول :

إن الضمائر حسبما تقدم ليس لها مرجع في الكلام سوى قوله : (عِباداً لَنا). وهذا يدل دلالة واضحة على وحدة القوم المرسلين على بني إسرائيل وليس مجرد إشعار.

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٣ ص ٤٤ و ٤٥.

١٣٣

ومرادنا بالوحدة هو أن يكون لهم رابطة تجمعهم ككونهم فرسا ، أو مسلمين مثلا ، ويرد على كلامه «رحمه الله» ، وعلى جميع الروايات المتقدمة ، عن الدر المنثور وغيره ما يلي :

١ ـ إننا لم نجد لبني إسرائيل كرة على بخت نصّر ، ولا على سابور ولا غيرهما ، بل إن كورش قد أرجعهم إلى بلادهم بعد حوالي مئة سنة من أسر بخت نصّر لهم ، مع أن الآية تكاد تكون صريحة بأن لبني إسرائيل كرة على أولئك العباد المبعوثين.

٢ ـ إن النبط لم يدخلوا المسجد الأقصى ـ حسب تفسيرهم ـ مرتين وكذلك بخت نصّر ، وقيصر ، وغيرهم ممن ذكر جميعا ، وقد أشارت الآية إلى أن المبعوثين سوف يدخلون المسجد مرتين.

٣ ـ إن جميع أولئك ما كانوا من المؤمنين ، بل كانوا من الطغاة والمتجبرين.

٤ ـ إن بخت نصّر كان قبل الميلاد بست مئة سنة تقريبا (١) وكان يحيى معاصرا للمسيح «عليه السلام» (٢) فكيف ينتقم له بخت نصّر؟ كما أن سابور متأخر عن بخت نصّر ، لا مقدم عليه كما في الرواية.

٥ ـ هذا كله عدا عن الإشكال في أسانيد تلكم الروايات (٣).

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٣ ص ٤٤ وفي تاريخ الخميس ج ١ ص ١٧٣ : من وقت تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى أربع مئة وإحدى وستون سنة.

(٢) راجع : قصص الأنبياء للنجار ص ٣٦٩.

(٣) هذه النقاط أشار إليها الأخ العلامة الشيخ إبراهيم الأنصاري حفظه الله تعالى في مقاله ، في مجلة الهادي.

١٣٤

٦ ـ إن إفسادهم في منطقة محدودة لا يعني كون ذلك هو المقصود من الآية التي تتحدث عن إفساد كبير ، وعلو لهم في الأرض ، ولا شك أنهم كانوا على مدى التاريخ أضعف من أن يكون لهم علو في الأرض كلها ، بل وحتى على سابور ، أو بخت نصّر أو غيرهما ، فضلا عن أن يكون لهم علو فرعون ، أو نظير استكبار قوم عاد.

رأي آخر في الآيات :

ويحتمل البعض : أن الفساد الأول كان في منطقة الحجاز ، فبعث الله النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم ، وضربهم الضربة القاصمة ، وكان دخول عمر إلى المسجد الأقصى ، الذي يمثل دخول المسلمين ، هو المعني في الآيات ، وتبقى المرة الثانية ستأتي. كما ويحتمل أن تكون هي ضربة بخت نصّر لهم هي الأولى ، والثانية هي ضربة عمر لهم.

ولكن ذلك لا يمكن قبوله ؛ لأن عمر حينما دخل المسجد الأقصى لم يكن في بيت المقدس أحد من اليهود ، وإنما كان تحت سيطرة النصارى ، الذين استولوا عليه قبل ذلك بعقود من الزمن ، وكانوا يجعلون الأقذار والأوساخ على «الصخرة» ، التي هي قبلة اليهود ، بل كانت المرأة ترسل بخرقة حيضها من بلاد الروم إلى بيت المقدس لتلقى على الصخرة ، مبالغة في امتهانها ، وإذلالا لليهود واحتقارا لهم (١).

كما أنه لا معنى لإرادة بخت نصّر ؛ ليكون هو بطل المرة الأولى ، وذلك لما أشرنا إليه في النقاط الست الآنفة الذكر.

__________________

(١) تقدم ذلك في تمهيد الكتاب.

١٣٥

رأي آخر :

وثمة رأي أخر يقول : إن الفساد الأول هو إنكارهم نبوة نبينا «صلى الله عليه وآله» ، مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، واتفقوا مع المشركين ضده.

وإرسال عباد الله على هؤلاء المفسدين هو ما جرى في صدر الإسلام ، فأرسل الله النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين عليهم ؛ فضربوهم في خيبر وقريظة ؛ وقينقاع ، وغير ذلك ، وجاسوا خلال ديارهم ، ثم دخل المسلمون المسجد الأقصى في زمن عمر.

والفساد الثاني هو ما جرى ويجري منهم في فلسطين ولبنان ، والمنطقة بشكل عام ، في هذا القرن الرابع عشر ، ولسوف يأتي المهدي «عجل الله فرجه الشريف» لينتقم منهم ، ويدخل المسلمون المسجد ، كما دخلوه أول مرة في عهد عمر.

وقد قرر بعض الأعلام هذا ، وطبق الآيات عليه ، على النحو التالي :

إنه ليس في الآيات ما يدل على أن الغلبة على اليهود ، وغلبة اليهود على أولئك العباد تكون في مكان واحد محدد ، وقوله تعالى : (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يشعر ، بل يدل على أن قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ، هو غير دخولهم المسجد ، أي إنهما أمران متغايران ، كما يدل على أن الجوس خلال الديار متقدم على دخولهم المسجد ، وذلك لمكان اللام في قوله : (وَلِيَدْخُلُوا) التي هي لام العاقبة وقد تحقق ذلك في زمن عمر ، كما أن عدم ذكر دخول العباد بيت المقدس حينما بعثهم أولا يدل على أن دخول المسجد لمّا يتحقق لهم عند ذلك.

١٣٦

وتدل الآية على أن دخول المسجد في الثانية يكون أشد على اليهود لقوله تعالى : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) ، ففسادهم الثاني يكون في غلبتهم على البلاد المقدسة ، وقتلهم المسلمين ، وهذا ما يحصل في هذا العصر. وجزاؤهم سيكون عاجلا على يد أهل قم إن شاء الله تعالى ، أو المهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه» ، أو بإمارته مع كون الجيش من أهل قم ، والله العالم.

ونقول :

هذا رأي لا يمكن المساعدة عليه ، لأن ما ذكر في تطبيق الآيات عليه مخالف لظاهرها.

فأولا : إنه حين دخل عمر بيت المقدس لم يكن هناك مسجد أصلا ، فضلا عن أنه يسمى بالأقصى.

ثانيا : إن الظاهر : هو أن دخول المسجد سيكون عنوة وقهرا ورغما عن بني إسرائيل ، وحينما دخل المسلمون بيت المقدس في عهد عمر لم يكن في بيت المقدس أحد من اليهود ، وإنما كان النصارى هم المسيطرين.

فلم يحارب المسلمون اليهود ليدخلوا المسجد بالرغم عنهم ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن عمر قد دخل بيت المقدس صلحا وليس عنوة ، وظاهر الآية : هو أن الدخول سيكون عنوة ، معه سوء الوجوه ، وفيه القهر والغلبة على اليهود أنفسهم ، (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً).

فإذا كان الدخول في إحدى المرتين عنوة فسيكون في الثانية كذلك ، وقد دلت كلمة : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا ..) على أن الدخول الأول سيكون عنوة إن كان المقصود هو الدخول في هذه المرة ..

١٣٧

ثالثا : ما ذكر من أن اللام في (وَلِيَدْخُلُوا) تدل على أن الدخول سيتأخر عن الجوس خلال الديار ، وأن التفريق بين الجوس خلال الديار ، ودخول المسجد ، يدل على ذلك أيضا ، وكذا عدم ذكر الدخول للمسجد في المرة الأولى.

إن هذا الذي ذكر ، لا يدل على ذلك ؛ لأن ظاهر الآيات : أنه قد اكتفى في المرة الأولى عن ذكر دخول المسجد ، بذكر الجوس خلال الديار ، لأنه مستبطن له ويكون في ضمنه ، ثم أوضحه بقوله : (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقوله : (وَلِيَدْخُلُوا) معطوف على (لِيَسُوؤُا) بالواو ، التي لا تدل على الترتيب الزماني.

بل لعل ذكر دخول المسجد بين التتبير لما علوا ، وبين سوء الوجوه للإشارة إلى أن دخول المسجد سيكون في وسط المعركة في المرة الثانية ، وكذلك سيكون في المرة الأولى لقوله تعالى : (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

وإلا ، فلو صح ما ذكره صاحب هذا الرأي ، لوجب أن يكون الدخول الثاني للمسجد صلحا ، لا عنوة ، كما كان دخول عمر بن الخطاب في السابق ، وحينئذ فلا يبقى معنى لذكر دخول المسجد فيما بين قوله : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ، وبين قوله : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً).

ثالثا : إنه لم يكن لليهود في زمن النبي «صلى الله عليه وآله» فساد في الأرض ، وعلو كبير فيها ، وإنما كانوا في محيط ضيق جدا محصورين في نواحي المدينة ، وكانوا مقهورين من قبل الأوس والخزرج ، ويمالئون مشركي مكة ، وسائر القبائل في المنطقة ، فلا يصح أن يقال : إن لهم (عُلُوًّا كَبِيراً*).

فضلا عن إضافة قوله : (فِي الْأَرْضِ*) سواء قلنا : إن المراد : الأرض

١٣٨

المقدسة ، يعني فلسطين ، أو قلنا : بأن المراد الأرض مطلقا أي معظمها ، أو السيطرة على مراكز القوة والنفوذ فيها.

نقول هذا كله : مماشاة للمستدل فيما زعمه من أن المراد بالمسجد هو خصوص ما يسمى بالمسجد الأقصى ، والموجود في بيت المقدس فعلا.

وثمة رأي آخر أيضا :

وهو أن الحروب التي جرت بين العرب وإسرائيل تمثل المراحل الثلاث الأولى ، وبقيت المرحلة الأخيرة ، التي أشارت إليها الآية بالقول : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ..) وهي سوف تأتي إن شاء الله تعالى (١).

وهذا أيضا رأي لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأن العرب الذين حاربوا إسرائيل لم يجوسوا خلال ديار بني إسرائيل في حروبهم تلك ، ولا دخلوا المسجد عنوة ، بل إنهم ليسوا من عباد الله المؤمنين ؛ لأنهم قد تخلوا عن دينهم ، وجروا خلف شهواتهم ، واستبدت بهم انحرافاتهم بشكل واضح لكل أحد.

ماذا تقول الروايات؟!

لقد وردت بعض الروايات ـ التي ليس لها أسانيد معتبرة ـ تفيد :

أن الفساد الأول هو قتل علي ، وطعن الحسن «عليهما السلام» ، والعلو الكبير هو قتل الحسين ، ووعد أولاهما نصر دمه «عليه السلام» ، والمبعوثون أولا

__________________

(١) هذا رأي الشيخ إبراهيم الأنصاري في مجلة الهادي.

١٣٩

هم قوم قبل خروج القائم ، وكان وعدا مفعولا : خروج القائم «عليه السلام».

وثم رددنا لكم الكرة عليهم : خروج الحسين في سبعين من أصحابه (١).

وفي تفسير القمي :

الفساد الأول : فلان وفلان ، ونقضهم العهد ، والعلو الكبير : ما ادّعوه من الخلافة.

ووعد أولاهما : الجمل.

وجاسوا خلال الديار : طلبوكم ، وقتلوكم.

ورددنا لكم الكرة : بنو أمية.

ووعد الآخرة : القائم «عليه السلام».

وكما دخلوه أول مرة : رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وواضح : أن مفاد هذه الروايات ليس هو محط نظر الآيات صراحة ، وإنما هي ـ إن صحت ـ من باب الإشارة إلى أن ما يجري لبني إسرائيل ، يجري مثله لهذه الأمة أيضا ؛ إذ من الواضح : أن ما ذكرناه في مفاد الآيات لا ينسجم مع ما جاء في هذه الروايات ، كما يظهر بالملاحظة ، والمقارنة.

الرأي الأمثل :

وإذ قد عرفنا معنى الآيات إجمالا ، وعرفنا أن مفادها لم يحصل ولم يقع لبني إسرائيل بعد ، لا في تاريخهم القديم ، ولا الحديث ، فإننا نعلم : أن مفادها سيقع في المستقبل ، ومفادها هو :

__________________

(١) راجع : البحار ج ٥١ ص ٥٦ وتفسير البرهان ، وتفسير نور الثقلين.

١٤٠