الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

ثمّ بعد وفاته ابو محمّد عليّ بن الحسين زين العابدين ولد بالمدينة وقبض بها مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو جعفر محمّد بن عليّ الباقر ولد بالمدينة وقبض بها مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو عبد الله جعفر بن محمّد الصّادق ولد بالمدينة وقبض بها مسموما.

ثمّ بعد وفاته أبو على موسى بن جعفر الكاظم ولد بالأبواء وقبض ببغداد مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو الحسن عليّ بن موسى الرّضا ولد بالمدينة وقبض ببغداد مسموما.

ثمّ بعد وفاته أبو جعفر محمّد بن عليّ الجواد ولد بالمدينة وقبض ببغداد مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو الحسن عليّ بن محمّد الهادى ولد بالمدينة وقبض بسرّمن رأى مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو محمّد الحسن بن عليّ العسكرى ولد بالمدينة وقبض بها مسموما.

ثمّ بعد وفاته ابو القاسم محمّد بن الحسن المهدىّ صاحب الزّمان ولد بسرّمن رأى وبقى ، صلوات الله عليه وعليهم اجمعين.

ثبت إمامة هؤلاء الأحد عشر بالتّرتيب المذكور بنصّ كلّ إمام سابق من الأئمّة الاثنى عشر على إمامة لاحقه بان نصّ الإمام الأوّل وهو امير المؤمنين (ع) على إمامة الثّاني أعنى أبا محمد الحسن (ع) ، والثّاني على إمامة الثّالث ، وهكذا إلى أن نصّ الإمام الحادى عشر وهو أبو محمّد الحسن العسكرى على إمامة الإمام الثّاني عشر أعنى أبا القاسم محمّد المهدىّ صاحب الزمان وذلك لما ثبت بالتّواتر أنّ أمير المؤمنين (ع) وصىّ ولده الحسن (ع) وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثمّ دفع

٢٠١

إليه الكتاب والسّلاح وقال له : يا بنيّ أمرنى رسول الله (ص) أن أوصى إليك كتابى وسلاحى كما أوصى إلى ودفع إلى كتابه وسلاحه ، وأمرنى أن آمرك إذا حضر الموت أن أن تدفعها إلى أخيك الحسين ، ثمّ أقبل على الحسين وقال : أمرك رسول الله (ص) أن تدفع إلى ابنك هذا ، ثمّ أخذ بيد على بن الحسين فقال : وأمرك رسول الله أن تدفع إلى ابنك محمد فأقرئه من رسول الله ومنّى السّلام ، وهكذا نصّ كلّ سابق على اللّاحق بالخلافة والإمامة نصّا متواتر إلينا كما تقرّر عند المحقّقين.

وأيضا ثبت إمامة الأئمّة الأحد عشر بالأدلّة السّابقة أى بخلاصة الأدلّة المذكورة فيما سبق صريحا فى إمامة أمير المؤمنين (ع) وهى النّص المتواتر من النّبيّ (ص) والأفضليّة والعصمة.

أمّا النّص المتواتر من النّبيّ على إمامة هؤلاء الأئمة فكقوله (ص) لابى عبد الله الحسين : هذا إمام بن إمام اخو إمام ابو أئمة التّسعة تاسعهم قائمهم ، وكحديث جابر بن عبد الله الانصارى وهو أنّه لما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قلت : يا رسول الله عرفنا الله فأطعناه ، وعرفناك فاطعناك ، فمن أولى الأمر الّذين أمرنا بطاعتهم فقال : هم خلفائى يا جابر وأولياء الأمر بعدى أوّلهم أخى عليّ ، ثمّ من بعده الحسن ولده ، ثمّ الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمّد بن على وستدركه يا جابر فإذا ادركته فأقرئه منى السّلام ، ثم جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ على بن موسى الرّضا ، ثمّ محمّد بن عليّ ، ثمّ عليّ بن محمّد ، ثمّ الحسن بن عليّ ، ثمّ محمّد بن الحسن صاحب الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

وكما روى عن ابن عبّاس انّه قال رسول الله (ص) : خلفائى وأوصيائى وحجج الله على الخلق بعدى اثنى عشر أوّلهم أخى وأخرهم ولدى ، قيل يا رسول الله من اخوك قال عليّ بن ابى طالب (ع) ، قيل من ولدك قال المهدىّ الّذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، والّذي بعثنى بالحقّ بشيرا لو لم يبق من الدّنيا إلا يوم واحد يطول الله تعالى ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدى المهدىّ فينزل روح الله عيسى بن مريم (ع)

٢٠٢

فيصلّى خلفه وتشرق الارض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب.

وكما روى أنّه قال رسول الله (ص) : إن الله اختار من الايام يوم الجمعة ، ومن الشّهور شهر رمضان ، ومن اللّيالى ليلة القدر ، واختار من النّاس الأنبياء ، واختار من الأنبياء الرّسل ، واختارنى من الرّسل ، واختار منّى عليّا ، واختار من عليّ الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء وهم تسعة من ولده ينفون عن هذا الدّين تحريف الضّالّين وانتحال المبطلين ، تأويل الجاهلين.

وكما روى ان شخصا يهوديّا اسمه جندل أسلم عند رسول الله (ص) وسئل عن الأئمّة والخلفاء من بعده فقال (ص) : أوصيائى من بعدى بعدد نقباء بنى إسرائيل ، أوّلهم سيّد الأوصياء ووارث الأنبياء ابو الأئمّة النّجباء على بن ابى طالب ، ثمّ ابناه الحسن والحسين ، فإذا انقضت مدّة الحسين قام الأمر بعده عليّ ابنه ويلقّب بزين العابدين ، فإذا انقضت مدّة عليّ قام بالأمر بعده ابنه جعفر يدعى بالصّادق ، فاذا انقضت مدّة جعفر قام بالأمر بعده ابنه موسى يدعى بالكاظم ، فاذا انقضت مدّة موسى قام بالأمر بعده ابنه عليّ يدعى بالرضا ، فاذا انقضت مدّة عليّ قام بالأمر بعده ابنه محمد يدعى بالتقى ، واذا انتهت مدّة محمّد قام بالأمر بعده ابنه عليّ يدعى بالنقى ، فاذا انتهت مدّة عليّ قام بالأمر بعده ابنه الحسن يدعى بالأمين ، فاذا انقضت مدة الحسن قام بالأمر بعده ابنه الخلف الحجّة ويغيب عن الأمّة.

ثم قال جندل : قد وجدنا ذكرهم فى التوراة وقد بشّرنا موسى بن عمران (ع) بك وبالأوصياء من ذريّتك. ثم تلا رسول الله (ص) : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً).

ثم قال جندل : فما خوفهم يا رسول الله؟

فقال (ص) : فى زمن كلّ واحد منهم شيطان يمرّ به ويؤذيه فإذا عجّل الله خروج قائمنا يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ، ثم قال (ص) : طوبى للصّابرين

٢٠٣

فى غيبته ، طوبى للمقيمين على حجّته ، اولئك من وصفهم الله فى كتابه فقال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وقال : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وكما روى انّه قال رسول الله (ص) للحسين : يا حسين يخرج من صلبك تسعة من الأئمّة ، منهم مهدىّ هذه الأمة ، فإذا استشهد ابوك فالحسن بعده ، فإذا سمّ الحسن فانت ، فاذا استشهدت فعلىّ ابنك ، فاذ مضى عليّ فمحمّد ابنه ، فاذا مضى محمّد فجعفر ابنه ، فاذا قضى جعفر فموسى ابنه ، فاذا قضى موسى فعلىّ ابنه ، فاذا قضى عليّ فمحمّد ابنه ، فاذا قضى محمّد فعلىّ ابنه ، فاذا قضى عليّ فالحسن ابنه ، ثم الحجّة بن الحسن يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

وكما روى من طريق المخالفين عن مسروق انّه قال : بينا نحن عند عبد الله بن مسعود إذ يقول لنا شابّ : هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ فقال : انّك لحديث السّنّ وانّ هذا شيء ما سألنى عند أحد ، نعم عهد إلينا نبيّنا أن يكون بعده اثنى عشر خليفة عدد نقباء بنى اسرائيل إلى غير ذلك من الأخبار المسطورة المشهورة عند الموافق والمخالف والنّصوص المذكورة ، وان لم يكن بعضها متواترا لكن القدر المشترك منها هو إمامة الأئمّة الأحد عشر بالتّرتيب المذكور وقد بلغ حد التّواتر عند أهل الحق فمنع ذلك ضعيف جدّا على ما لا يخفى.

وأمّا الأفضليّة فلمّا ثبت انّ كلّ واحد من هؤلاء الأئمّة المعصومين كان أفضل أهل زمانه فى الكمالات العلميّة والعمليّة ، حتّى انّ أبا يزيد البسطامى مع علوّ شأنه كان سقّاء فى دار ابى عبد الله جعفر الصادق عليه السّلام أى كان يستفيض ماء المعرفة من بحر علم الإمام ويفيضه على الطّالبين العطشانين. وكان معروف الكرخى مع رفعة مكانه بوّاب دار ابى الحسن على بن موسى الرضا ، والأفضل هو المتعيّن للإمامة ، لامتناع خلوّ الزّمان عن الإمام ، وقبح تقديم المفضول على الفاضل على ما تقدّم بيانه قطعا. وأنت تعلم انّه يندفع بهذا التّقرير ما قيل انّ الافضليّة بذلك الاعتبار لا تدلّ على الإمامة

٢٠٤

فليتامّل.

وأمّا العصمة فلانّ الإمام يجب أن يكون معصوما ولم يكن أحد غير الأئمّة المعصومين معصوما ، فبقيت الإمامة لهم لامتناع خلوّ الزّمان عن الإمام على ما تبيّن ، والمناقشة فى تلك المقدّمات غير مسموعة على ما لا يخفى.

وأمّا الادلّة المذكورة ضمنا فى قوله : والادلّة لا تحصى كثرة فبعضها يجرى هنا أيضا كدعوى الإمامة وإظهار المعجزة على ما بيّنه العلماء الامامية فى كتبهم ، وكذا النّصوص الجليّة الغير المتواترة كما نقله العلماء ، وقد نقلنا بعضا منها سابقا. ولك أن تجعل أدلّة أمامة أمير المؤمنين (ع) جميعا أدلة على إمامة باقى الأئمّة (ع) بناء على تنصيصه بإمامتهم قطعا ، كما انّ ادلّة النّبوّة ادلّة على الإمامة مطلقا. فعلى هذا لا يبعد أن يكون قول المصنّف : وبالأدلّة السّابقة إشارة إلى جميع الأدلّة المذكورة فى إمامة امير المؤمنين صريحا وضمنا فاعرف ذلك.

واعلم انّ الإمام الثّاني عشر أعنى محمّد المهدىّ (ع) حىّ موجود من حين ولادته وهو سنة ستّ وخمسين ومأتين من الهجرة إلى آخر زمان التّكليف ، لأنّ الإمام لطف وهو يجب على الله تعالى ما بقى مكلّف على وجه الأرض ، وقد ثبت فى الأخبار الصحيحة انّه عليه السّلام آخر الأئمّة وقد سمعت منّا بعضا منها فيجب بقائه إلى آخر زمان التّكليف قطعا.

وأمّا استبعاد طول حياته فجهالة محضة ، لأنّ طول العمر امر ممكن بل واقع شايع كما نقل فى عمر نوح (ع) ولقمان (ع) وغيرهما. وقد ذهب العظماء من العلماء إلى انّ أربعة من الأنبياء فى زمرة الأحياء : خضر والياس فى الأرض وعيسى وادريس فى السّماء ، على أنّ خرق العادة جائز إجماعا سيّما من الأولياء والأوصياء ، والباعث على اختفائه إمّا قوّة المخالفين وضعف المؤالفين ، أو مصلحة متعلّقة بالمؤمنين ، أو حكمة غامضة لا يطلع عليها إلّا ربّ العالمين.

اللهم اطلع علينا نيّر إقباله ونوّر أعيننا بنور جماله بحقّ محمّد وعترته وآله.

٢٠٥

الفصل السّابع

من الفصول السبعة

فى المعاد

وهو فى اللّغة إمّا مصدر ميمى أو اسم مكان أو زمان من العود بمعنى الرّجوع ، وفى عرف الشّرع عبارة من عود الرّوح إلى الحيوان بعد الموت ، إمّا بأن يعيد الله بدنه المعدوم بعينه ويعيد الرّوح إليه عند اكثر المتكلّمين ، وإمّا بأن يجمع أجزائه الأصليّة كما كانت أوّلا ويعيد الرّوح إليها عند من لا يجوّز إعادة المعدوم ، ومنهم على ما هو مذهب الفلاسفة أو عن زمان ذلك العود كما يقال : الآخرة معاد الخلق هذا هو المعاد الجسمانيّ والبدنىّ. وقد يطلق المعاد على الرّوحانيّ وهو مفارقة النّفس عن بدنها وإيصالها بعالم المجرّدات وسعادتها وشقاوتها هناك لفضائلها النّفسانيّة ورذائلها.

وأعلم ان العقلاء اختلفوا فى المعادين على خمسة اقوال :

أحدهما ، القول بثبوت المعاد البدنىّ فقط وهو مذهب جمهور المتكلّمين النّافين للنّفس النّاطقة المجرّدة.

وثانيهما ، القول بثبوت المعاد الرّوحاني وهو مذهب الفلاسفة الإلهيّين.

وثالثها ، القول بثبوتهما معا وهو مذهب المحقّقين من قدماء المعتزلة ومتأخرى الامامية وغيرهم ، فإنّهم قالوا : الإنسان بالحقيقة هو النّفس النّاطقة وهى المكلّف والمطيع

٢٠٦

والعاصى والمثاب والمعاقب ، والبدن يجرى مجرى الآلة لها ، والنفس باقية بعد خراب البدن.

ورابعها ، القول بعدم ثبوت شيء منهما وهو مذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيّين.

وخامسها ، القول بالتّوقّف فى هذه الأقسام وهو المنقول عن جالينوس.

والمقصود هاهنا إثبات المعاد البدنىّ وهو مما وقع عليه الإجماع ، ولذا قال المصنّف اتّفق المسلمون كافّة أى جميعا ليشمل جميع أهل الملل ، على وجوب المعاد البدنىّ وثبوته قطعا ، وكلّ ما اتّفق المسلمون كافّة على وجوبه فهو حقّ ثابت لأنّ الإجماع حجّة إجماعا ، فالمعاد البدنىّ حقّ ثابت. وبملاحظة هذا الدّليل قال ولأنّه عطف على ما يفهم من فحوى الكلام أى المعاد البدنى لو لاه ثابت لقبح التّكليف والتّالى باطل فالمقدّم مثله ، أمّا الشّرطيّة فلأنّ التّكليف بالأوامر والنّواهى على تقدير عدم ثبوت المعاد البدنىّ تكليف بالمشقّة بلا فائدة ، ضرورة انّ إيصال الفائدة موقوف على المعاد البدنى ، ولا شك انّ التّكليف بالمشقّة من غير فايدة ظلم قبيح. وأمّا بطلان التّالى فلما تقدّم من استحالة القبيح عليه تعالى.

وأيضا لو لم يكن المعاد البدنى ثابتا لم يتصوّر ايفاء الله تعالى بوعده بالثّواب على الطّاعة وبتوعّده بالعقاب على المعصية ، واللّازم باطل فالملزوم مثله ، أمّا الملازمة فلأنّه لا يتصوّر الثّواب والعقاب بعد الموت ، إلّا بالمعاد البدنىّ ، وأمّا بطلان اللّازم فلأنّه تعالى وعد المكلّفين بالثّواب وتوعّدهم بالعقاب بعد الموت ، ومن البيّن انّ الإيفاء بالوعد والوعيد واجب وعدمه قبيح يستحيل عليه تعالى.

وفى كلا الدّليلين نظر ، لأنّ التّكليف والإيفاء بالوعد والوعيد لا يستدعيان المعاد البدنىّ بل مطلق المعاد ، لإمكان إيصال الثّواب والعقاب إلى النّفس النّاطقة فى عالم المجرّدات من غير عودها إلى البدن. وما قيل فى دفعه من أنّ بعض التّكاليف بدنيّة فيجب إعادة البدن وإيصال مستحقّها إليها بمقتضى العدل ليس بشيء ، لأنّ كون التّكليف بدنيّا لا يستلزم كون الثّواب والعقاب بدنيّين كما لا يخفى. نعم يمكن توجيه الدّليل الثّاني بأنّ الله تعالى وعد بالثّواب البدنىّ مثل دخول الجنّة والتلذّذ بلذّاتها ، وتوعّد بالعقاب البدنىّ مثل

٢٠٧

دخول النار وادراك دركاتها ، وهما موقوفان على المعاد البدنى. ولو بنى الكلام على انتفاء النّفس النّاطقة كما هو مذهب جمهور المتكلمين كما بنى على ما ثبت من أنّ الدّنيا دار العمل لا دار الجزاء لتمّ الدليلان فليتأمّل جدّا. ثمّ هذان الدّليلان مبنيّان على القول بالحسن والقبح العقليّين ووجوب العدل على الله تعالى كما هو مذهب اهل الحق.

وأمّا ما يصح الاستدلال به عند الكلّ فهو ما ذكره بقوله : ولأنّه اى المعاد البدنى ممكن فى ذاته والمخبر الصّادق قد أخبر بثبوته وكل ما كان كذلك فهو ثابت فيكون المعاد البدنىّ حقّا ثابتا ، أمّا الصّغرى فلأنّ جميع الأجزاء على ما كانت عليه ، واعادة التّأليف المخصوص والرّوح إليها أمر ممكن لذاته ، ضرورة انّ الأجزاء المتفرّقة قابلة للجمع على الوجه المخصوص ، وعود الرّوح إليها بلا ريبة. ولو فرض انها عدمت فلا شكّ فى أنّه يجوز إعادتها أيضا ثم جمعها وإعادة التّأليف المخصوص والرّوح إليها بناء على جواز إعادة المعدوم. وقد تواتر انّ النّبيّ (ص) كان يخبر بثبوت هذا المعاد ويدعو المكلّفين إلى الإيمان به ويبشّر المطيع وينذر العاصى منه كما يدلّ عليه قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، وأمّا الكبرى فلعصمة الشّارع ولدلالة المعجزة على صدقه سيّما فى الأحكام التبليغيّة هذا.

أقول : فى بيان الصّغرى نظر ،

أمّا أوّلا ، فلانّا لا نسلّم إمكان جمع الأجزاء المتفرّقة على الوجه المذكور لجواز أن يكون اجتماعها كذلك بعد افتراقها واختلاطها بغيرها ممتنعا لذاته. وأمّا ثانيا فلانّ جواز إعادة المعدوم غير مسلّم عند الخصم وما ذكروه فى بيانه مدخول كما لا يخفى على من يتأمّل فيه ، وللآيات الدّالّة عليه أى على ثبوت المعاد البدنى بحيث لا يقبل التّأويل حتّى صار من ضروريّات الدّين وعلى الإنكار والردّ على جاحده أى منكره كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). وقوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) وقوله تعالى :

٢٠٨

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) قال المفسّرون نزلت هذه الآية فى ابىّ ابن خلف حيث خاصم النّبيّ (ص) وأتاه بعظم قد رمّ وبلى ففتّه بيده ، وقال : يا محمّد أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ ، قال : نعم ويبعثك ويدخلك النار. وأنت تعلم انّ هذا مما يقلع عرق التأويل ، ولذلك قال الرّازى : الإنصاف انّه لا يمكن الجمع بين ايمان بما جاء به النّبيّ (ص) وبين إنكار حشر الجسمانى ، وغير ذلك من الآيات الواردة فى هذا المعنى كثير جدّا. ولا يذهب عليك انّ الاستدلال بالآية على ثبوت المعاد البدنىّ إنّما يتمّ بملاحظة إمكانه وصدق المخبر فيها فيكون هذا الدّليل راجعا إلى الدّليل السّابق عليه فالأولى تركه ، أو ايراد قوله للآيات الخ اشارة بدون العطف قبل نتيجة الدّليل السّابق دليلا على اختيار الشّارع بثبوته كما انّ الاولى أن يقول على الإنكار باعادة حرف الجرّ ليوافق المذهب المشهور المنصور عند الجمهور فى العطف على الضمير المجرور على ما لا يخفى.

واعلم انّ ثبوت المعاد البدنىّ لكلّ إنسان مما يجب اعتقاده ويكفر جاحده ، لما عرفت انّه من ضروريّات الدّين ، وان لم يكن بعض ادلّة المصنف دالّا على ذلك. وأمّا المعاد الرّوحاني فلا يتعلّق التّكليف باعتقاده لا إثباتا ولا نفيا ، بل هو من وظائف الفلسفة ، والقائلون بهما معا أرادوا أن يجمعوا بين الشّريعة والحكمة على ما يستفاد من كلام الشيخ الرئيس فى الشفا وصرّح به الرازى فى بعض تصانيفه.

لا يقال إذا أكل إنسان إنسانا آخر بحيث صار جزء من الماكول جزء للآكل ، فذلك الجزء إمّا أن يعاد فيهما وهو محال ، أو فى احدهما فلا يكون الآخر معادا ، فلا يصح الحكم بثبوت المعاد البدنىّ لكلّ انسان.

لأنّا نقول : المعتبر فى المعاد البدنىّ جمع الأجزاء الأصليّة الباقية من أوّل العمر إلى آخره لا جميع الأجزاء ، وأجزاء الإنسان الماكول فضلة فى الآكل لا اصليّة.

٢٠٩

لا يقال يجوز أن يتولّد من الأجزاء الأصليّة للمأكول الفضلة فى الآكل نطفة يتولّد منها إنسان آخر فيعود المحذور.

لأنّا نقول لا نسلّم وقوع هذه الصّورة ومجرّد الجواز العقلى غير نافع فى مقام المعارضة على ما لا يخفى.

ويمكن أن يجاب عن الإشكالين بأنّ المحال إعادة الأجزاء الماكولة فيهما معا لا اعادتها فيهما على سبيل التعاقب ، ولا ينافيه ما ثبت من أنّ الآخرة دار الخلد لجواز تعاقب الإعادة لا إلى نهاية ، وحمل الخلد عليه بأدنى تمحّل فليتأمّل.

واحتجّ الحكماء على امتناع المعاد البدنىّ بما ذهبوا إليه من امتناع إعادة المعدوم.

وأجيب عنه بأنّ امتناع اعادة المعدوم ممنوع ، وما ذكروه فى بيانه لا يتمّ ، ولو سلّم فإنّما يلزم منه امتناع المعاد البدنىّ بإعادة البدن الأوّل بعينه بعد انعدامه لامتناعه بجمع الأجزاء المتفرّقة لذلك البدن.

ويرد عليه انّ امتناع إعادة المعدوم يستلزم امتناع المعاد البدنىّ بجميع الأجزاء المتفرّقة ، لأنّه إن كان البدن الأوّل بعينه فلا يتصوّر المعاد وإلّا فإن أعيد ذلك البدن بعينه يلزم إعادة المعدوم وقد فرضنا امتناعه ، وان اعيد مثله يلزم التّناسخ ولذا قيل : ما من مذهب إلّا وللتّناسخ فيه قدم راسخ. وجوابه انّ المعاد البدنىّ عبارة عن عود الرّوح إلى أجزاء البدن الأوّل بعد تفرّقها ، وان لم يكن الهيئة الاجتماعية السّابقة معادة ، ولا يقدح تبدّل بعض الأجزاء والأوصاف فى عود البدن الأوّل عرفا وشرعا كما انّ زيدا مثلا يتبدّل بعض أجزائه وأوصافه عند انتقاله من الطّفوليّة إلى الشّباب ومنه إلى الشّيب ومع ذلك يعدّ شخصا واحدا من أوّل عمره إلى آخره فى الشّرع والعرف ، وليس ذلك من قبيل التّناسخ ، لأنّه عبارة عن انتقال النّفس من البدن إلى بدن آخر مغاير الأوّل بحسب ذوات الاجزاء ، ولا تغاير هاهنا فى الذّوات بل فى الهيئة ، ولو سمّى هذا تناسخا كان مجرّد اصطلاح لا يضرّنا إذا لم يقم دليل على استحالته قطعا.

وكلّ من كان له عوض على الله تعالى أو على غيره من المكلّفين اى نفع

٢١٠

مستحق سواء كان مقرونا بالتّعظيم أولا ليشمل الثّواب أيضا أو كان عليه عوض لغيره كعامّة المؤمنين يجب على الله تعالى بعثه وفى بعض النّسخ إعادته عقلا لأنّ عدم إعادته يستلزم عدم إيصال حقّه إليه أو أخذ حق الغير منه وكلّ منهما ظلم قبيح يستحيل عليه تعالى وغيره أى غير من له عوض أو عليه كبعض الأطفال الكفّار يجب إعادته سمعا للنّصوص الواردة عليها فى الشّرع على ما سبقت الإشارة إليها لا عقلا لعدم لزوم محال عقلى على تقدير عدم إعادته.

ويجب الإقرار والتصديق بكلّ ما جاء به النّبيّ (ص) أى بحقيقته بمعنى انّ كلّ ما اخبر به من الأمور الممكنة حق ثابت فى نفس الأمر سواء علم مجيئه به يقينا كما فى الخبر المتواتر أو ظنيا كما فى غيره من الأخبار الواردة فى الأحكام الشّرعيّة لأفعال المكلّفين وأحوال الأنبياء السّابقين والأئمة المعصومين والأمم الأوّلين والآخرين وأحوال أهل الدنيا والآخرة اجمعين ، وذلك لان النّبيّ (ص) يجب أن يكون معصوما والعصمة يستلزم الصّدق فى جميع الأحكام ، وإذا دلّ الدّليل على حقّية ما جاء به النّبيّ وإن كان ظنّيا وجب التّصديق بحقّية ذلك ولو ظنّا لما ثبت انّ موجب الظنّ قطعىّ واجب ، فتخصيص ما جاء به النّبيّ (ص) بما علم مجيئه به بطريق التّواتر كما وقع فى بعض الشروح ليس على ما ينبغى ، على انّه لا يساعد ذلك ما ذكره المصنّف من جملة ذلك هاهنا من الصّراط والميزان وغيرهما ، لأنّ كون تلك الأمور ممّا علم مجيء النّبيّ به يقينيّا محلّ تأمّل ، وان كانت النّصوص المشتملة عليها ثابتة بالتّواتر ، نعم المعتبر فى الإيمان شرعا هو الإقرار بكلّ ما جاء به النّبيّ (ص) من عند الله وعلم مجيئه به بالضّرورة ، إمّا تفصيلا وإمّا اجمالا فيما علم إجمالا ، حتّى من أنكر شيئا من ذلك فهو كافر بخلاف ما علم مجيئه به بطريق الظّنّ كما فى الاجتهاديّات فانّ الإقرار به ليس بايمان وانكاره لا يوجب الكفر.

ثمّ فى الإيمان الشّرعى أقوال :

أحدهما ، انّ التّصديق القلبى بما علم مجيء النّبيّ به ضرورة وهو المختار

٢١١

عند اكثر المحقّقين.

وثانيهما ، انّه التّصديق بالجنان والإقرار باللّسان وهو المروىّ عن بعض المخالفين وقد اختاره صاحب التجريد منّا.

وثالثها ، انّه التّصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان وهو المختار عند بعض العلماء من المحدّثين والفقهاء ، وقيل هو الإقرار اللّسانىّ بكلمتى الشهادة ، وقيل الإقرار اللّسانى بهما مع مواطاة القلب ، وقيل العمل بالطّاعات مطلقا ، وقيل العمل بالطّاعات المفروضة دون النّوافل. وتحقيق الكلام لا يناسب المقام.

إذا عرفت هذا فاعلم انه يجب الإقرار بكلّ ما جاء به النّبيّ من الأمور الممكنة فمن ذلك الصّراط هو على ما ورد فى بعض الأخبار جسر ممدود على متن جهنّم أدقّ من الشّعر وأحدّ من السّيف تعبره اهل الجنّة ويزلّ به أقدام أهل النّار ، ويوافقه ما صرّح به ابن بابويه فى الاعتقادات من انّه جسر جهنّم ويمرّ عليه جميع الخلق والميزان هو فى المشهور ميزان له كفّتان ولسان وشاهين يوزن به الأعمال ، وقد ورد تفسيره بذلك فى بعض الاحاديث وإنطاق الجوارح أى انطاق الله تعالى جوارح المكلّفين يوم القيامة ليشهدوا عليهم بما كانوا يكسبون ، وتطاير الكتب المثبتة فيها طاعات المكلّفين ومعاصيهم يوم القيامة فيؤتى للمؤمنين بايمانهم وللكافرين بشمائلهم ووراء ظهورهم لإمكانها دليل على كون الأمور المذكورة مما جاء به النّبيّ من الأمور الممكنة. وقد أخبر المخبر الصّادق وهو النّبيّ المؤيّد بالمعجزات بها أى بتلك الأمور فيكون ما جاء به النّبيّ من الأمور الممكنة ، وكلّ ما جاء به النّبيّ من الأمور الممكنة يجب الاعتراف به لما عرقت من وجوب عصمته ، فيجب الاعتراف بها أى بتلك الأمور قطعا. أمّا إمكانها فمعلومة بديهة وإن كانت مخالفة للعادة.

وأمّا الاخبار بالأوّل فلقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والمراد بالورد عليها المرور على الصّراط. ولقوله (ص) لعلىّ : يا عليّ إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصّراط فلا يجوز على الصّراط إلّا من كانت له براءة بولايتك.

٢١٢

وأمّا الاخبار بالثّانى فلقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ). وأمّا قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) فقد سئل الإمام الصّادق (ع) فقال : الموازين الأنبياء والأوصياء.

وأما الاخبار بالثّالث فلقوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا : أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

وأمّا الاخبار بالرّابع فلقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً).

ويمكن ان يجعل قوله : لإمكانها متعلّق بقوله يجب الإقرار بكلّ ما جاء به النّبيّ والضّمائر راجعة إلى كلمة ما باعتبار معناها لكونها عبارة من الأمور الممكنة وعلى هذا ثبت وجوب الاعتراف بتلك الأمور المفصّلة ضمنا.

وأنكر بعض المعتزلة الصّراط لأنّه لا يمكن العبور عليه وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين والصّلحاء المتّقين ولا عذاب عليهم يوم القيامة اتّفاقا.

وجوابه انّ إمكان العبور ظاهر كالمشى على الماء والطّيران فى الهواء ، والله تعالى قادر على أن يسهّل على المؤمنين حتّى انّ منهم من يجوزه كالبرق الخاطف ، ومنهم كالريح العاصف ، ومنهم كالجواد إلى غير ذلك مما ورد فى الخبر.

وأنكر بعضهم الميزان لأنّ الأعمال أعراض إن أمكن إعادتها لا يمكن وزنها قطعا ، ولانها معلومة لله تعالى فوزنها عبث. والجواب عن الأوّل ، انّ المراد بوزن الأعمال وزن كتبها ، وقيل يجعل الحسنات أجساما نورانيّة والسّيئات أجساما ظلمانيّة. وعن الثّاني ، انّ عدم اطّلاعنا على فائدة الوزن لا يستلزم كونه عبثا ، على انّه يجوز أن يكون الفائدة إلزام العصاة وإتمام الحجّة عليهم.

واعلم انّ مما جاء به النّبيّ (ص) ويجب الاعتراف به مسئلة القبر ونعيم المؤمنين المطيعين وتعذيب الكافرين العاصين فيه ، وكذا الحسنات والسؤال يوم القيامة وحوض

٢١٣

الكوثر لإمكانها واخبار النّبيّ بوقوعها. أمّا إمكانها فظاهر.

وأمّا الاخبار بوقوع الأوّل فكقوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، وقوله تعالى حكاية : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) وأخذ الاحيائين فى القبر وثبوت الإحياء فيه يدلّ على ساير الأحوال المذكورة لعدم الفصل. وكقوله (ص) : القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفرات النّيران ولحديث فاطمة أمّ المؤمنين (ع) على ما اشتهر وتقرّر عند المحقّقين ولغيره من الأحاديث.

وأنكر بعض المعتزلة لأنّ الميّت جماد لا حياة له ولا إدراك فتعذيبه محال.

وجوابه انّه يمكن أن يخلق الله تعالى فى الميّت نوعا من الحياة إمّا بإعادة الرّوح أيضا أو بدونها على اختلاف وقع بين المحقّقين قدر ما يدرك ألم التّعذيب أو لذة التنعيم من غير ان يتحرّك ويضطرب أو يرى عليه أثر العذاب والنّعيم ، حتى انّ الغريق فى الماء والمصلوب فى الهواء والمأكول فى بطون الحيوانات ينعم أو يعذّب وإن لم يطلع عليه ولا استحالة فى ذلك وإن كان مخالفا للعادة فإنّ من أخفى النّار فى الشّجر الأخضر قادر على إخفاء ذلك الأثر.

وأمّا الاخبار بوقوع الثّاني ، فكقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) وقوله (ص) : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وفيه خلاف المعتزلة أيضا على وزان ما عرفت فى الميزان.

وأمّا الاخبار بوقوع الثّالث ، فكقوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

وأمّا الاخبار بوع الرابع ، فكقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) على وجه وكقوله (ص) : ليختلجنّ قوم من أصحابى دونى وأنا على الحوض فيؤخذ دونهم ذات الشّمال ، فأنادى يا ربّ أصحابى أصحابى فيقال لى انّك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ومن ذلك القبيل الجنّة والنّار وساير السّمعيات.

ومن ذلك الثّواب قد مرّ تفسيره والعقاب وهو الضّرر المستحقّ المقارن

٢١٤

للاهانة والتحقير وتفاصيلهما أى أحوالهما المفصّلة المنقولة من جهة الشّرع أى بطريق الشّرع صلوات الله على الصّادع به بعنى الشّارع من الصّدع بمعنى الإظهار ومنه قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ). أمّا انّ ثبوت الثّواب والعقاب مما جاء به النّبيّ من الأمور الممكنة فلظهور إمكانها وكثرة الأخبار الواردة بهما بحيث لا يقبل التّأويل ، حتّى كانّه من ضروريّات الدّين. واختلفوا فى أنّ ثبوتهما عقلى أو سمعى ، فقالت الأشاعرة انّه سمعى. وقال أهل الحق الثّواب واجب عقلا وسمعا ، أمّا عقلا فلما عرفت من أن انتفائه يستلزم الظلم ولاشتماله على اللّطف ، وأمّا سمعا فللآيات والأحاديث الواردة فى ذلك على ما لا يخفى. وكذا العقاب على الكافر واجب عقلا وسمعا لاشتماله على اللّطف ولقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وأمّا العقاب على غير الكافر من عصاة المؤمنين فجائز عقلا وسمعا ، لأنّ استحقاق العقاب بارتكاب المعصية مشتمل على اللّطف وللأدلّة السّمعية وفيه ما فيه فتأمّل تعرف.

وأمّا تفاصيلهما فهى إشارة إلى اسبابهما وكيفيّاتهما ، أمّا سبب الثّواب فهو فعل الواجب لوجه وجوبه او لوجوبه ، وفعل المندوب كذلك وترك القبيح والإخلال به لقبحه ، وسبب العقاب ترك الواجب أو الإخلال به وفعل القبيح على ما تقرّر فى الشّرع.

وأمّا كيفيّاتهما فهى دوام الثّواب للمؤمن المطيع والعقاب على الكافر ، وانقطاع عذاب المؤمن العاصى وإن ارتكب الكبيرة لإيمانه وسقوط عذابه بالعفو والشّفاعة وزيادة الثّواب لأهله بالأخير لورود الشّرع بذلك كلّه. ومنها دخول الجنّة والنّار المخلوقتين الآن ، وحصول النّعيم الباقى فى الجنّة مع كثرة أنواعه ولطافة أصنافه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ووقوع العذاب الدّائم فى النّار مع شدّة آلامه وغلظة أقسامه على ما ورد به الكتاب والسنّة واجماع الامة.

ومن ذلك وجوب التّوبة على العاصى مؤمنا كان أو كافرا ، وهى فى اللّغة الرّجوع فاذا أسندت إلى الله تعالى يراد بها الرّجوع إلى العبد بالنّعمة والمغفرة ، وإذا

٢١٥

أسندت الى العبد يراد بها الرّجوع من المعصية ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) وفى الشّرع النّدم على المعصية من حيث هى معصية فى الماضى مع تركها فى الحال والعزم على عدم العود إليها فى الاستقبال. والظّاهر انّه لا حاجة إلى القيدين الأخيرين لأنّ قيد الحيثيّة مغن عنهما كما لا يخفى. والدليل على وجوبها عقلا أنّها دافعة لضرر المعصية وهو العقاب ، ودفع الضّرر وإن كان مظنونا واجب عقلا وكذا ما يدفع به ، وسمعا قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) واختلف فى أنّه هل يصحّ التّوبة عن معصية دون معصية أولا ، فاختار المحقّقين الثّاني مع العلم بكون كلّ منهما معصية وعدم استحقاق إحداهما. والتحقيق أنّه إن اعتبر فى الثّواب أن يكون النّدم على المعصية للقبح المطلق فالحقّ هو الثّاني ، وإن اعتبر كونها لقبحها المخصوص فالحقّ الأوّل.

وأعلم انّ المعصية إن كانت فى حقّ الله تعالى من فعل قبيح يكفى فى براءة الذمّة عنها بالتّوبة حصول مفهومها كشرب الخمر ، وإلا كانت فى حقّه تعالى من الإخلال بواجب فإن أمكن تداركها شرعا باداء أو قضاء فلا بدّ منه أيضا كترك أداء الزّكاة والصّلاة والصّوم ولا يكفى حصول مفهومها كترك صلاة العيدين ، وإن كانت فى حق آدميّ فإن كانت إضلالا له فلا بدّ من إرشاده أيضا ، وان كانت ظلما عليه بالاغتياب الواصل إليه أو غصب ماله فلا بدّ فى الأوّل من الاعتذار أيضا ، وفى الثّاني من إيصال الحقّ إليه أو إلى وارثه أو استبراء ذمته عنه عن إحداهما بوجه من الوجوه الشّرعية أيضا ، كلّ ذلك مع الإمكان فى الحال وأمّا مع التّعذّر مطلقا فيكفى حصول المفهوم ومع التّعذّر فى الحال والإمكان فى الاستقبال لا بدّ من العزم على ذلك أيضا.

ومن ذلك وجوب الامر هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء بالمعروف أى الفعل الحسن والمراد به هاهنا الواجب والنّهى هو طلب التّرك على وجه الاستعلاء عن المنكر أى القبيح. والحاصل انّ حمل المكلف على الواجب ومنعه عن القبيح واجبان على المكلّف بالأدلّة السّمعيّة من الكتاب والسّنة وإجماع الأمّة. أمّا الكتاب

٢١٦

فلقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وأمّا السّنّة فلقوله (ص) لتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم وأمّا الإجماع فلاتّفاق كافّة المسلمين على ذلك قطعا. وكما انّ الأمر بالواجب والنّهى عن القبيح واجبان ، الأمر بالمندوب والنّهى عن المكروه مندوبان ، لكن لا مطلقا بل كلّ ذلك مشروط بشرط أن يعلم الآمر والنّاهى المكلّفان كون المعروف معروفا والمنكر منكرا يعنى انّ وجوب الأمر بالواجب مشروط بأن يعلم الآمر كون الواجب المأمور به واجبا ، ووجوب النّهى عن المنكر القبيح مشروط بأن يعلم النّاهى كون القبيح المنهىّ عنه قبيحا ، وكذا ندب الامر بالمندوب والنّهى عن المكروه مشروط بعلم كون المندوب مندوبا والمكروه مكروها ، لئلا ينجرّ الأمر إلى الأمر بالقبيح أو المكروه والنّهى إلى النّهى عن الواجب او المندوب وبشرط أن يكونا أى المعروف والمنكر ممّا سيقعان والأولى حذف قوله ممّا كما فى بعض النّسخ ، والأحسن أن يقال : وأن يكون المعروف سيقع والمنكر سيترك كما فى الدروس والمقصود كونهما استقبالين لأنّ الأمر بالماضى والنّهى عنه عبث وكذا الحال على ما لا يخفى ، وبشرط تجويز التّأثير أى تأثير الأمر والنّهى فى المأمور والمنهىّ بحسب الظّنّ لئلا يلزم العبث أيضا وبشرط ظنّ الأمن من الضّرر الغير المستحقّ بالنّسبة إليهما أو غيرهما من المؤمنين نفسا أو مالا لأنّه مفسدة ، والواجب لا يجوز اشتماله عليها بل يحرم الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر عند بعض الفقهاء. ثم طريق الأمر والنّهى التّدريج ، فالأوّل الإعراض ثمّ الكلام اللّيّن ثمّ الخشن ثم الأخشن ثم الضّرب. أمّا الجرح والقتل فالأقرب تفويضهما إلى الإمام عند بعضهم. وأمّا الأمر والنّهى بالقلب فيجبان مطلقا.

وأعلم انّهم اختلفوا فى أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر عقلى أو

٢١٧

سمعى ، فذهب الشّيخ مع بعض المعتزلة إلى الأوّل ، والسيّد مع الأشاعرة إلى الثّاني ،

واحتجّوا على الأوّل بأنّهما لطفان فى فعل الواجب وترك القبيح ، واللّطف واجب عقلا فيجبان عقلا. وعلى الثّاني بأنّهما لو وجبا عقلا لوجبا على الله تعالى ، واللّازم باطل فالملزوم مثله ، أمّا الملازمة فلأنّ كلّ واجب عقلىّ واجب على من حصل فى حقّه وجه الوجوب ، وأمّا بطلان اللّازم فلأنّهما لو وجبا عليه تعالى فأن كان فاعلا لهما وجب وقوع المعروف وانتفاء المنكر وهو خلاف الواقع ، وإن كان تاركا لهما يلزم الإخلال بالحكم وهو محال عليه تعالى.

اقول : فى كلا الدّليلين ، نظر أمّا الأوّل فلأنّا لا نسلّم انّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر لطف مطلقا ، ولو سلّم فوجوب اللطف على العباد محال لا بد له من بيان.

وأمّا الثّاني فلأنّا لا نسلّم انّ وجوبهما عقلا يستلزم وجوبهما على الله تعالى لجواز ان لا يكون وجه الوجوب حاصلا فيه تعالى ، ولو سلّم فاللّازم وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر عليه تعالى ، ولا يلزم من كونه آمرا أو ناهيا وقوع المأمور به وانتفاء المنهىّ عنه لعدم الإلجاء كسائر الأوامر والنّواهى. واختلفوا أيضا فى انّ وجوبهما عينىّ أو كفائىّ ، فقال الشّيخ بالأوّل والسيّد بالثّانى. واحتج الشّيخ بظاهر الآية الثانية من الآيتين المذكورتين فى بيان وجوبهما ، والسيّد بظاهر الآية الأولى منهما. وأنت تعلم انّ ظاهر الحديث المذكور يؤيّد الشّيخ ، وباب التأويل لدفع التّعارض مفتوح على المتخاصمين فليتأمّل.

ولا يخفى على المتفطّن حسن خاتمة هذه الرّسالة الشريفة حيث وقع اختتامها بالأمن من الضّرر كما انّ حسن فاتحتها حيث اتّفق افتتاحها بلفظ الباب كما لا يخفى على أولى الألباب.

اللهم افتح بالخير واختم ، واجعل عاقبة أمورنا بالخير. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين ، بحقّ نبيّك محمّد سيّد المرسلين ، وآله الطّيّبين الطّاهرين ، وعبادك الصّالحين من الأوّلين والآخرين.

اتّفق الفراغ عن نقله من المسودّة إلى البياض على يد العبد الضّعيف المرتاض

٢١٨

أبى الفتح ابن المخدوم الحسينى ـ فتح الله عليه أبواب المعانى ـ فى أوسط شهر محرّم الحرام من سنة ٩٧٥.

الحمد لله الّذي قد أتمّ كتابة هذه الكتاب بتوفيقه وكرمه بيد أقلّ العباد وتراب الأقدام سيّما المخلصين لعلوم الدّين محمد تقى بن محمّد على ارومجى ، غفر الله ذنوبهما وستر عيوبهما وكثر أولادهما وطاب نسلهما وغيرهما من المؤمنين والصّالحين ، بحقّ محمّد وآله فى ٦ شهر شوال المكرّم فى يوم الخميس قريب الزّوال سنة ١٢٦٦.

٢١٩
٢٢٠