الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

فمقصود المصنّف أنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى عند انتفاء النّبيّ (ص) لحفظ الشّرع عقلا لا سمعا ، وذلك لأنّ الامامة الأظهر أن يقول لأنّها أى الإمامة يعنى الإمام لطف فإنّا نعلم قطعا أنّ النّاس إذا كان لهم رئيس أى حاكم ينصف أى ينتقم للمظلوم أى لأجله من الظّالم ويردع الظّالم ويمنعه عن ظلمه بل يزجر النّاس عن جميع المعاصى والمحظورات ، ويحثّهم على الطّاعات والعبادات ، وبالجملة يؤيّد قوانين الشّرع وينفذ أحكامه على أبلغ وجه وأتمّ طريق كانوا أى النّاس إلى الصّلاح فى الدّين أقرب ومن الفساد فيه أبعد منهم إذا لم يكن رئيس كذلك قطعا ، ومن البيّن انّ الإمام جامع لتلك الصّفات فيكون مقرّبا للعباد إلى الطّاعات ومبعّدا لهم من المحظورات ، فيكون لطفا إذ لا معنى للّطف إلا هذا. وإذا ثبت أنّ الإمام لطف وقد تقدّم انّ اللّطف واجب على الله عقلا ، فنصب الإمام واجب عليه تعالى عقلا.

وأقوى شبه الخصم أنّه إن اريد انّ امام الظّاهر المتصرّف فى أمور العباد لطف واجب فهو خلاف المذهب ، وإن أريد انّ الإمام مطلقا كذلك فهو ممنوع لأنّ الإمام إنّما يكون لطفا إذا كان ظاهرا زاجرا عن القبائح ، قادرا على تنفيذ الأحكام ، واعلاء لواء الإسلام ، وهو مدفوع بأنّ وجود الإمام مطلقا لطف وتصرّفه لطف آخر ، ضرورة أنّ لكلّ منهما مدخلا فى القرب إلى الطّاعة والبعد عن المعصية ، إلّا انّ الثّاني أقوى من الأوّل ، بناء على تفاوت مراتب القرب والبعد ، لكنّ الأوّل لطف لا مانع عنه ، فكان واجبا قطعا ، وأمّا الثّاني فهو لطف له موانع من جهة العباد لشدّة عنادهم وغلبة مخالفتهم للحقّ ومتابعتهم للأهواء حتى كاد أن يقعوا فى الفساد وتكثير الفتن فى البلاد ، ويؤيّده ما روى عن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : لا يخلو الأرض من قائم لله بحجّته إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا يبطل حجج الله وبيّناته.

اقول : بهذا التّقرير ظهر فساد ما قال بعض المحقّقين انّه لو كفى فى كون الإمام لطفا وجوده مطلقا من غير ظهوره وتصرّفه لكان العلم بكونه مخلوقا فى وقت ما مع عدم

١٨١

وجوده بالفعل كافيا أيضا فلا يكون وجوده بالفعل واجبا ، وذلك للقطع بأنّ وجود الإمام بالفعل لطف لا مانع عنه ، وان كان مجرّد كونه مخلوقا فى وقت ما لطف أيضا وقد تقرّر انّ كلّ لطف لا مانع عنه واجب على الله تعالى ، فوجوده بالفعل واجب عليه ـ تعالى قطعا.

المبحث الثّاني من المباحث الخمسة فى بيان عصمة الامام يجب أن يكون الامام معصوما عند اهل الحقّ ، ووافقهم الاسماعيلية خلافا لسائر فرق المخالفين ، والدّليل على ذلك من وجوه بعضها عقلى وبعضها نقلى ، والمصنّف أورد هاهنا ثلاثة عقلية وواحدا نقلية فقال وإلّا تسلسل أى وان لم يجب كون الامام معصوما لجاز التّسلسل ، أو ان لم يكن معصوما لوقع التّسلسل ، وعلى التقديرين اللّازم باطل قطعا فالملزوم مثله ، والملازمة لأنّ الحاجة الثّابتة للعباد الدّاعية إلى الإمام إنّما هى من جهة الأمور المقرّبة إلى الطّاعة والمبعّدة عن المعصية ، مثل ردّ الظّالم عن ظلمه والانتصاف للمظلوم منه أى من الظالم ليكون لطفا بناء على جواز ترك الطّاعة وارتكاب المعصية من العباد لعدم عصمتهم على ما عرفته تفصيلا ، فلو جاز أن يكون الإمام غير معصوم بل جائز الخطاء بترك الطاعة وارتكاب المعصية لا فتقر إلى إمام آخر ليكون لطفا بالنسبة إليه ، ضرورة أنّ اشتراك العلّة يستلزم اشتراك المعلول ، وذلك الامام الآخر على تقدير عدم عصمته يفتقر إلى ثالث وهو إلى رابع وهكذا إلى غير النّهاية لظهور امتناع الدور اللّازم على تقدير العود ، فلو جاز أن يكون الإمام غير معصوم ذهب سلسلة الأئمّة إلى غير النّهاية وتسلسل ولزم التّسلسل.

أقول لا يخفى عليك أنّ هذا الدّليل إنّما يدلّ على وجوب عصمة الإمام فى الجملة لا على وجوب عصمته مطلقا ، لجواز انتهاء تلك السّلسلة إلى إمام معصوم ، اللهم إلّا أن يقال لا قائل بالفصل ، فوجوب عصمة الإمام فى الجملة يستلزم وجوب عصمته مطلقا.

ثمّ أقول يمكن الاستدلال على هذا المطلب بالخلف ، بأن يقال لو جاز أن يكون

١٨٢

الإمام غير معصوم لافتقر إلى امام آخر لما ذكر ، فوجب أن يكون ذلك الإمام الآخر موجودا معه لكونه لطفا بالنسبة إليه ، واللطف واجب على الله على ما تقدّم ، وحينئذ يلزم أن يكون هذا الإمام إماما ، ضرورة انّه لا رئاسة له على إمامته فلا يكون رئاسته عامّة هذا خلف. ولانّه عطف على ما يفهم من فحوى الكلام ، كأنّه قال يجب أن يكون الإمام معصوما لأنّه لو لم يكن معصوما لتسلسل ، ولانّ الإمام لو لم يكن معصوما لجاز أن يفعل معصية والتالى باطل فالمقدّم مثله ، أمّا الشّرطيّة فظاهرة غنيّة عن البيان وأمّا بطلان التّالى فلانّه لو فعل المعصية فلا يخلو إمّا أن يجب الإنكار عليه أولا ، فإن وجب الإنكار عليه أى على الإمام الفاعل للمعصية بطريق الفرض أو على فعله لها سقط محلّه اى وقع الامام من القلوب وإذا سقط من القلوب انتفت فائدة نصبه وهى فائدة أقواله وأفعاله ليحصل القرب الى الطّاعة والبعد عن المعصية بسببه ، فيكون نصبه عبثا محالا على الله تعالى لقبحه هذا خلف.

ويمكن الاستدلال على استحالة وجوب الإنكار بظاهر قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) لدلالته على وجوب إطاعة الإمام ظاهرا ، وإن لم يجب الإنكار عليه سقط حكم الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر أى وجوبهما وهو أى سقوط حكمهما محال كما سيأتي فى آخر الباب ، وإذا ثبت استحالة كلّ من اللّازمين ثبت استحالة الملزوم قطعا ، فيكون فعل الإمام معصية باطلا وهو المطلوب. وأنت تعلم انّه لو استدلّ بأنّه لو فعل المعصية لسقط عن القلوب وانتفت فائدة نصبه كما استدلّ بذلك على وجوب عصمة النّبيّ (ص) من أوّل عمره إلى آخره لكان أولى كما لا يخفى. ولأنّه أى الإمام حافظ للشّرع أى مؤيّد له منفذ لأحكامه بين النّاس جميعا ، وكلّ من كان حافظا للشّرع بهذا الوجه فلا بدّ من عصمته أى الإمام ، أمّا الصّغرى فلاعتبار عموم الرّئاسة فى الدّين والدّنيا فى الإمامة على ما سبق ، وأمّا الكبرى فلأنّ من كان حافظا للشّرع بالوجه المذكور لا بدّ ان يكون آمنا عند النّاس من تغيير شيء من أحكامه بالزّيادة والنّقصان ، وإلّا لم يحصل الوثوق بقوله وفعله فلا يتابعه

١٨٣

العباد فيهما ، فيختلّ الرّئاسة العامّة وينتفى فائدة الامامة هذا خلف. فلا بدّ أن يكون معصوما ليؤمن على صيغة المضارع المجهول من الايمان المأخوذ من الأمن للتّعدية من الزّيادة والنّقصان أى ليجعل آمنا من الزيادة والنّقصان فى تبليغ الأحكام ، فثبت رئاسته العامّة فى الدّين والدّنيا ، وإلّا لم يكن آمنا من ذلك على ما لا يخفى.

أقول : هذا الدّليل قريب إلى ما استدلّ به على وجوب عصمة النّبيّ (ص) من أنّه لو لم يكن معصوما لم يحصل الوثوق بقوله فينتفى فائدة البعثة وعلى هذا لا يرد عليه بعض ما أورده بعض المحقّقين من أنّ الإمام ليس حافظا للشّرع بذاته بل بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة واجتهاده الصّحيح ، وأيضا لا حاجة إلى إثبات الصّغرى بأنّها اتّفاقيّة أو بأنّ الشّرع لا بدّ له من حافظ وحافظه لا يجوز أن يكون الكتاب ولا السّنّة ولا الإجماع ولا القياس ولا البراءة الأصليّة ، فتعيّن أن يكون هو الإمام كما فى بعض الشروح ، لأنّ دعوى الاتّفاق لا بيّنة لها ، وحصر الحافظ فى الأقسام المذكورة ممنوع لجواز أن يكون الحافظ هو الله تعالى او ملكا على أنّ ما ذكره فى إبطال كون الحافظ غير الإمام من تلك الأقسام محلّ تأمّل وهكذا حقّق ودع عنك ما قيل أو قال.

وأعلم أنّه ربّما يختلج فى بعض الأوهام أنّ هذا الدّليل يقتضي أن يكون العصمة شرطا فى المجتهد لانه حافظ للشّرع ، فلا بدّ أن يكون معصوما ليؤمن الزّيادة والنّقصان ، وكذا الدّليل المذكور قبله ، لأنّه لو فعل المعصية سقط من القلوب وانتفت فائدة الاجتهاد ، أو سقط حكم الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وكلاهما باطلان لكنّها ليست شرطا فيه على ما تقرّر فى محلّه ، وهو مدفوع بأنّ المجتهد ليس حافظا للشّرع بين جميع النّاس بل مظهر له على من قلّده ولا يجب فيه أن يكون آمنا من الزّيادة والنّقصان على سبيل القطع ، بل يكفى حسن الظّنّ به ، وكذا فعل المجتهد معصية لا يلزم انتفاء فائدة الاجتهاد لأنّ فائدة وجوب العمل بقوله على من قلّده ، ويكفى فيه حسن الظّنّ بصدقه بعد ثبوت الاجتهاد ، وذلك بشرط العدالة فيه ، وبالجملة مرتبة الاجتهاد لكونها دون مرتبة الإمامة يحصل باجتماع شرائطها المشهورة المسطورة فى كتب الاصول. ويكفى فى وجوب العمل

١٨٤

بقول المجتهد حسن الظّنّ بصدقه المتفرّع على ثبوت عدالته بعد حصول شرائط الاجتهاد كما تقرّر فى محلّه ، بخلاف مرتبة الإمامة فإنّها رئاسة عامّة بحسب الدّين والدّنيا ، ومن البيّن انّها لا يحصل لشخص إلّا بعد أن يكون معصوما آمنا من الخطاء والزّيادة والنّقصان فى أحكام الشرع ، وإلّا لاختلّت تلك الرّئاسة العامّة وانتفت فايدة الإمامة كما لا يخفى على من له طبع سليم وعقل مستقيم.

ولقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فى جواب ابراهيم حين طلب الإمامة لذريته بدلالة سابق الآية ، فيكون معناه انّ عهد الإمامة لا ينال الظّالمين ، وغير المعصوم ظالم ولو على نفسه ، فيلزم أن لا يناله الإمامة قطعا.

واعترض عليه بأنّه يجوز أن يكون المراد من العهد عهد النّبوّة ، وبأنّه يجوز أن يكون المراد من الظّلم المعصية المسقط للعدالة مع عدم التّوبة والإصلاح أو التّعدّى على الغير ، وكلّ منهما أخصّ من مطلق المعصية فلا يستلزمه عدم العصمة ، والكلّ مدفوع بأنّ العهد أعمّ من النّبوّة والإمامة ، والتّخصيص خلاف الأصل مع انّ سابق الآية يؤيّد ذلك كما لا يخفى ، والاستدلال مبنىّ على الظّاهر وتخصيص الظلم بما ذكر مع انه غير ظاهر لا يقدح فى المقصود لعدم الفرق بين المعاصى اتّفاقا فمنافاة بعضها للامامة يستلزم منافاة كلّها لها ، نعم يتّجه أنّ العصمة على ما فسّرت هى ملكة الاجتناب عن المعاصى ، فانتفاؤها لا يستلزم ثبوت المعصية. اللهم إلّا أن يفسّر العصمة بعدم خلق الله الذّنب فى العبد على ما قيل.

واعلم انّ ما ذكره فى النّبيّ من وجوب عصمته من أوّل عمره إلى آخره وتنزيهه عما لا يليق بشأنه مع دليلها جاز فى الإمام بعينه ، وإنّما ترك بالمقايسة ، والحقّ أنّ الإمامة بمنزلة النّبوّة فى أكثر الأحكام والأدلّة لكون الامام نائبا عن النّبيّ قائما مقامه من عند الله سيما امير المؤمنين (ع) كما يشير إليه قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) الحمد لله الّذي هدانا لهذا.

المبحث الثّالث من المباحث الخمسة فى طريق معرفة الامام ، اتّفقوا على انّ

١٨٥

الإمامة يثبت بالتّخصيص من الله ومن يعلمه بها من نبىّ أو إمام لكن ذهب أهل السّنّة إلى أنّها تثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد أيضا ، ويوافقهم بعض المعتزلة والصّالحية من الزّيديّة ، وقالت الجارودية يثبت أيضا بخروج كلّ فاطمى بالسّيف إذا كان عالما بأمور الدّين شجاعا داعيا إلى الحق.

وقال أهل الحق من الشّيعة الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه أى لا يثبت الإمامة بالبيعة أو الخروج كما زعم المخالفون ، بل يجب أن يكون منصوصا عليها من عند الله إمّا بإعلام معصوم أو باظهار معجزة ، لأنّ الإمامة مشروطة بالعصمة ، وكل ما هو مشروط بالعصمة يجب ان يكون منصوصا عليه كذلك. فالإمامة يجب أن يكون منصوصا عليها كذلك ، أمّا الصّغرى فلما تقدّم من البراهين ، واما الكبرى فهى لأنّ العصمة من الأمور الباطنة الّتي لا يعلمها إلّا الله العلّام الغيوب أو من يعلمه بها وإذا كانت العصمة كذلك فكلّ ما هو مشروط بها يجب أن يكون منصوصا عليه من الله بأحد الوجهين حتّى يظهر على النّاس ويثبت عندهم ، ويؤيّد ذلك ما روى عن قائم آل محمّد ابى القاسم محمّد المهدىّ صاحب الأمر عليه وعلى آبائه الصّلاة والسّلام انه سئل فى حال صباه بحضرة أبيه الإمام الزّكىّ الحسن العسكرى (ع) انّه ما المانع عن أن يختار القوم أماما لأنفسهم؟ فقال (ع) : على مصلح أم مفسد؟ قال السّائل : بل على مصلح ، فقال (ع) : بل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قال : بلى ، فقال ، (ع) : فهى العلّة ، ثمّ أيّد ذلك بواقعة موسى (ع) واختياره من أعيان قومه لميقات ربّه سبعين رجلا مع كونهم منافقين فى الواقع على ما نطق به القرآن. فلا بدّ فى ثبوت الامامة من نصّ من يعلم عصمته من نبىّ أو إمام مثلا عليه أى على إمامة امام.

الظّاهر انّ المراد من النّص هاهنا ما يقابل الظّاهر كما هو مصطلح الأصوليين ، ويحتمل أن يراد به مطلق التعيين كما يلائمه وقوع لفظ التّعيين مقام النّص مع ترك ما يتعلّق به اعنى قوله عليه فى بعض النّسخ. وأنت تعلم أنّ فى النّسخة الأولى احتمالات كثيرة

١٨٦

من حيث التّركيب ، وفى الثّانية أكثر منها فلا تغفل ، أو من ظهور معجزة على يده أى الإمام تدلّ تلك المعجزة على صدقه فى دعوى الإمامة. ممّا استدلّ به على هذا المطلب انّه لا شكّ انّ الإمامة من أهمّ أمور الدّين وأعظم أركانه قطعا ، وعادة الله وسيرة النّبيّ (ص) انّهما لا يهملان التّنصيص على أدنى ما يحتاج إليه من أحكام الشرع مثل ما يتعلّق بالاستنجاء وقضاء الحاجة فما ظنّك بأعظمها.

المبحث الرّابع فى أفضلية الامام من الرعية ، يجب أن يكون الإمام أفصل وأكمل فى الفضائل من الرّعيّة أى جميع من هو تحت إمامته ورئاسته خلافا للجمهور لما تقدّم فى النّبيّ (ع) مما يدلّ على أفضليّته من الأمّة عقلا وسمعا. والظّاهر انّ الرّعية فعيلة بمعنى المفعول من الرّعاية لرعاية الإمام ايّاهم ، والتّاء إمّا للنّقل أو للتّأنيث لجريانها على موصوف مؤنّث محذوف كالفرقة كما قالوا فى الحقيقة.

المبحث الخامس فى تعيين الأئمة ـ عليهم السّلام ـ بعد رسول الله (ص) ، الإمام بعد الرّسول (ص) بلا فصل امير المؤمنين وامام المتّقين عليّ بن أبى طالب ، (ع) الظّاهر انّ الإمام لا يطلق إلّا ، على من هو حقّ فى دعوى الإمامة وأمّا الكاذب الغاصب لها كأبي بكر وعمر وعثمان فانما يطلق عليه عند أهل الحق الخليفة دون الإمام فلا حاجة إلى تقييد الإمام بالحقّ هاهنا كما وقع فى بعض العبارات ، وأنت تعلم انّه على هذا لا بدّ من حمل الرّئاسة فى تعريف الإمامة على الرّئاسة الصّحيحة كما هو المتبادر منها.

فالامام بعد رسول الله (ص) بلا فصل عند قوم العبّاس بن عبد المطلب عمّ الرّسول ، وعند جمهور المخالفين ابو بكر بن ابى قحافة وعند أهل الحق امير المؤمنين على بن ابى طالب (ع) للنّص هو اللّفظ المفيد الّذي لا يحتمل غير المقصود ، وقد يطلق ويراد به الدّليل النّقلى من الكتاب والسّنّة وكأنّه المراد هاهنا المتواتر هو ما اخبر به جمع كثير لا يتصوّر تواطؤهم على الكذب ولا يعتبر فيه عدد معين كما قيل بل مصداقه العلم بلا شبهة من كثرة المخبرين على ما هو التحقيق من النّبيّ (ع) على إمامة امير المؤمنين (ع) كحديث الغدير وبيانه أنّه لما نزل قول تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ

١٨٧

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية حين رجوعه عن حجّة الوداع نزل النّبي (ص) بغدير خم وهو موضع بين مكة والمدينة بالجحفة وقت الظهيرة فى يوم شديد الحرّ حتّى انّ الرّجل كان يضع ردأه تحت قدمه من شدّة الحرّ قام النّبيّ (ص) بجمع الرجال فصعد عليها وقال : معاشر المسلمين! ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، فاخذ بضبع أمير المؤمنين (ع) ورفعه حتّى نظر النّاس إلى بياض ابط رسول الله (ص) وقال من كنت مولاه فعلىّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله فلم ينصرف النّاس حتى نزل قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فقال النّبيّ (ص) : الحمد لله على إكمال الدّين وإتمام النّعمة ورضاء الله برسالتى وبولاية على بعدى. ولا يخفى ان الحديث المذكور على الوجه المسطور يدلّ على إمامة امير المؤمنين (ع) بعد النّبيّ (ص) بلا فصل.

وأجاب المخالفون عنه بمنع صحّة الحديث ومنع دلالته على المدّعى بوجوه مختلفة مذكورة فى الكتب المشهورة والكلّ مكابرة. أمّا الأوّل. فلأنّ الحديث متواتر معنى ، ومنع التواتر إمّا لمحض العناد أو لأنّه (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). وأمّا الثّاني ، فلأنّ كلّ ذى عقل له شائبة من الإنصاف يعلم انّ نزول النّبيّ (ص) فى زمان ومكان لا يتعارف فيهما النّزول وصعوده على منبر من الرّحال ، وقوله فى حقّ مثل امير المؤمنين (ع) من كنت مولاه فعلى مولاه ودعاه بالوجه المذكور ليس إلّا لأمر عظيم الشّأن جليل القدر كنصبه للإمامة ، لا بمجرّد إظهار محبّته ونصرته سيّما مع قوله : ألست أولى بكم من أنفسكم مع وقوع هذه الصّورة بعد نزول الآية السّابقة ونزول الآية اللّاحقة بعدها ، فلا بدّ أن يكون المراد من المولى هو المتولّى للتّصرف فى أمور العباد لا النّاصر والمحبّ ولا غيرهما من معانى المولى أى هو الأولى بالتّصرف فى حقوق النّاس والتدبير لأمورهم بعدى كما إنّى كذلك الآن ، ولا معنى للإمامة إلا هذا ، والمنازع فى ذلك مكابر لا يلتفت إليه. وكحديث المنزلة وهو

١٨٨

قوله (ص) لامير المؤمنين (ع) حين خرج إلى غزوة تبوك واستخلفه على المدينة أنت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) إلّا انّه لا نبىّ بعدى. ومن البيّن المكشوف أنّ مقام الاستخلاف وقوله : إلا انه لا نبىّ بعدى يدلّان على أنّ المراد من المنزلة هو المرتبة المتعلّقة باستحقاق التّولّى والتّصرف فى أمور العباد ، وقد كانت مرتبة هارون من موسى فى ذلك الاستحقاق أقوى من مرتبة غيره من أصحاب موسى (ع) فكذا مرتبة امير المؤمنين (ع) فيه يكون أقوى من مرتبة غيره فيكون هو الإمام ، وأيضا الاستثناء يدلّ على أنّ كلّ منزلة كانت لهارون بالنّسبة الى موسى مما تتعلّق بإعانته ونصرة دينه ثابتة لامير المؤمنين (ع) سوى النّبوة ، ومن منازل هارون من موسى انّه قد كان شريكا له فى النّبوة ومن لوازم ذلك استحقاق الطّاعة العامّة بعد وفاة موسى لو بقى ، فوجب أن يثبت هذا لأمير المؤمنين (ع) لكن امتنع الشّركة فى النّبوة بالاستثناء ، فوجب أن يبقى مفترض الطّاعة على الأمّة بعد النّبيّ (ص) بلا فصل عملا بالدّليل باقصى ما يمكن.

وأجاب الخصم هاهنا بمثل ما اجاب سابقا ولا يخفى على المنصف ما فيه من المكابرة والعناد كما هو عادة اهل الفساد.

ولأنّه عطف على قوله : للنّص والضمير لامير المؤمنين (ع) أفضل من جميع الصّحابة وأكمل منهم فى الفضائل والكمالات لقوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) حيث جعله الله تعالى نفس الرّسول بناء على ما صرّح به أئمّة التّفسير من أنّ المراد من أنفسنا هو امير المؤمنين (ع) عبّر عنه بصيغة الجمع تعظيما لشأنه. ومن البيّن أنّه ليس المراد من النّفسية حقيقة الاتّحاد بل المراد المساوات فيما يمكن المساوات فيه من الفضائل والكمالات لانّه أقرب المعانى المجازية إلى المعنى الحقيقى فيحمل عليها عند تعذّر الحقيقة على ما هو قاعدة الأصول. ولا شكّ انّ الرّسول أفضل الناس اتّفاقا ومساوى الأفضل على جميع النّاس أفضل عليهم قطعا.

ولاحتياج النّبيّ (ص) عطف على قوله تعالى إليه أى امير المؤمنين فى المباهلة دون غيره ممن وقع النّزاع فى أفضليّتهم بعد النّبيّ (ص) ، وذلك لأنّه

١٨٩

لما نزلت آية المباهلة وهى قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) دعا رسول الله (ص) وفد نجران الى المباهلة وهى الدعاء على الكاذب من الفريقين ، وخرج معه عليّ وفاطمة والحسن والحسين (ع) لا غير ، وهو يقول إذا أنا دعوت فأمّنوا ، وقد اتّفق أئمّة التّفسير على أنّ المراد من قوله (أَبْناءَنا) هو الحسن والحسين (ع) ومن قوله (نِساءَنا) هو فاطمه (ع) ومن قوله (أَنْفُسَنا) امير المؤمنين (ع) ولا شك انّ ذلك يدلّ على احتياج النّبيّ (ص) فى إتمام أمر المباهلة إليهم دون غيرهم ، ومن احتاج النّبيّ إليه فى امر الدّين خصوصا مثل هذه الواقعة العظيمة الّتي هى من قواعد النّبوّة ودلايل علوّا المنزلة عند الله تعالى أفضل من غيره قطعا ، والمنازعة فى ذلك مكابرة غير مسموعة ، فيكون امير المؤمنين (ع) أفضل من غيره ولأفضليّته أدلّة لا تحصى سنذكر بعضا منها عن قريب. وإذا ثبت أنّه (ع) أفضل النّاس بعد النّبيّ (ص) وقد تقدّم أنّ الإمام لا بدّ أن يكون أفضل من الرّعية ، فلا يصلح غيره ممن وقع النزاع فى إمامتهم أن يكون إماما فيكون هو الإمام قطعا.

ولأنّ الإمام اى من ادلّة إمامة امير المؤمنين انّ الإمام يجب أن يكون معصوما لما تقدّم من الأدلّة الدّالّة على وجوب عصمة الإمام ولا أحد من غيره اى غير امير المؤمنين (ع) ممّن ادّعى له الإمامة من العباس وابى بكر بمعصوم إجماعا ، لسبق الكفر وغيره ممّا ينافى العصمة اتّفاقا ، فلا يكون غيره إماما ، فيكون هو الإمام لما تقدّم من أنّ الإمامة واجب على الله تعالى.

ولأنّه أى أمير المؤمنين (ع) أعلم من جميع الصّحابة لقوة حدسه وشدّة ملازمته للنّبىّ (ص) لأنّه كان فى صغره فى حجره ، وفى كبره ختنا له يدخله كلّ وقت ، وكثرة استفادته منه حتّى قال : علّمنى رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لى من كلّ باب ألف باب. وقال : والله لو كسرت لى الوسادة ثمّ جلست عليها لحكمت بين أهل التّورية بتوريتهم وبين أهل الإنجيل

١٩٠

بإنجيلهم وبين أهل الزّبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم وقال : والله ما من آية نزلت فى برّ أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وفى أىّ شيء نزلت لرجوع الصّحابة هى فى الأصل مصدر من صحب يصحب نقل إلى معنى الصّفة ثمّ غلب استعماله فى أصحاب رسول الله (ص) فى وقائعهم المشكلة ومسائلهم المعضلة إليه أى أمير المؤمنين (ع) بعد غلطهم فى كثير منها ولم يرجع أمير المؤمنين (ع) إلى أحد منهم فى شيء من العلوم أصلا فيكون أعلم منهم.

ولقوله : (ص) عطف على قوله لرجوع الصّحابة أقضاكم عليّ لأنّ القضاء يحتاج إلى كثير من العلوم فيكون أعلم منهم جميعا ، ولاستناد العلماء فى علومهم إليه كالأصول الكلامية والفروع الفقهيّة وعلم التّفسير والحديث وعلم التّصوّف وعلم النّحو وغيرها ، حتّى انّ ابن عباس رئيس المفسرين تلميذه ، وأبا الأسود الدؤلى دوّن النّحو بتعليمه وارشاده ، وخرقة المشايخ ينتهى إليه. وإذا ثبت انّه أعلم الصّحابة ولا شكّ انّ الأعلم أفضل والأفضل هو المتعيّن للإمامة لما عرفت ، فيكون هو الإمام لا غير.

ولأنّه أزهد من غير النّبيّ (ص) وأكثر إعراضا عن متاع الدّنيا ولذّاتها وشهواتها لما ثبت انّه كان تاركا لمنافع الدّنيا بالكليّة مع القدرة لاتّساع أبوابها خصوصا بالنّسبة إليه حتّى طلّق الدّنيا ثلاثا وقال : يا دنيا يا دنيا إليك عنّى إليّ تعرضت أم إليّ تشوّقت لا حان حينك ، هيهات هيهات غرّي غيرى لا حاجة لى فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير وخطرك يسير وأملك حقير. وقال : والله لدنياكم هذه أهون فى عينى من عراق خنزير فى يد مجذوم ، وقال : إنّ دنياكم عندى لأهون من ورقة فى فم جرادة تقضمها ما لعلىّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى وتخشّن فى الماكل والمجلس حتّى قال عبد الله بن رافع : دخلت عليه يوما فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبزا شعيرا يابسا مرضوضا فأكلنا منه فقلت يا امير المؤمنين لم ختمته قال : خفت هذين

١٩١

الوالدين يلتانه بزيت أو سمن وكان نعلاه من ليف ويرقّع قميصه تارة بجلد وتارة بليف وقلّ أن يأتدم وكان لا يأكل اللّحم إلّا قليلا وقال : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان ولا شكّ انّه لم يكن أحد غير النّبيّ (ص) وأمير المؤمنين (ع) بهذه المرتبة من الزّهد. وكان أمير المؤمنين أزهد النّاس بعد النّبيّ (ص) ، ومن كان أزهد كان أفضل ، فثبت أنّه الإمام بعد النّبيّ (ص) لا غيره. وأنت تعلم أنّه كان الأولى تقديم قوله ولانّه أعلم إلى هاهنا على قوله ولأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما الخ ليكون فى عداد أدلّة الأفضليّة كما وقع فى التجريد ، ضرورة انّ هذه الصّفات إنّما تدلّ على الإمامة بواسطة دلالتها على الأفضليّة.

والأدلّة على إمامة أمير المؤمنين (ع) بعد النّبيّ (ص) بلا فصل لا تحصى أى لا يمكن إحصائها وعدّها كثرة أى لكثرتها منها ساير صفات الكمال الدّالّة على أفضليّة على (ع) مثل كونه أشجع النّاس بعد النّبيّ (ص) ، وأكثر جهادا معه وأعظم بلاء فى وقائعه ، حتّى لم يبلغ أحد درجته فى غزاة بدر وأحد ويوم الأحزاب وغزاة خيبر وحنين وغيرها من غزوات النّبيّ (ع) على ما اشتهر وتقرّر فى كتب السير حتّى قال النّبيّ (ص) فى اليوم الأحزاب لضربة عليّ خير من عبادة الثّقلين. وقال فى غزاة خيبر : لأسلّمن الرّاية غدا إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار ، ائتونى بعلى بعد ما سلمها إلى ابى بكر وعمر وانهزم المسلمون وقال امير المؤمنين (ع) : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانيّة ولكن قلعته بقوة ربانيّة ولا شك انّ من كان هذا شأنه كان افضل لقوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً). ومثل كونه (ع) أجود النّاس بعد النّبيّ (ص) كما اشتهر عنه من إيثار المجاوع على نفسه وأهل بيته حتى أنزل الله تعالى فى شأنهم : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) ، وتصدّق فى الصّلاة بخاتمه حتى نزل فى حقه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية. ومثل كونه (ع) أعبد النّاس حتّى روى أن جبهته (ع) صارت كركبة الإبل لطول سجوده ، وكانوا

١٩٢

يستخرجون النّصول من جسده وقت اشتغاله بالصّلاة لالتفاته بالكلّية الى الله تعالى ، واستغراقه فى المناجات معه. وأحلمهم حتى ترك ابن ملجم عليه اللّعنة فى دياره وجواره واعطاه العطاء مع علمه بحاله ، وعفى عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدّة عداوته له ، وعفى عن سعيد بن العاص وغيره من الأعداء. وأحسنهم خلقا وأطلقهم وجها حتى نسب إلى الدعابة مع شدّة بأسه وهيبته ، وأفصحهم لسانا على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة حتى قال البلغاء : كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، وأحفظهم للقرآن حتّى انّ أكثر القرّاء كأبي عمرو وعاصم وغيرهما يستندون قراءتهم إليه ، فإنّهم تلامذة ابى عبد الله السّلمى وهو تلميذ امير المؤمنين (ع) إلى غير ذلك من صفات الكمال ، حتى انّه سئل الخليل بن احمد العروضى عن فضائله فقال : ما أقول فى حقّ رجل أخفى أعدائه فضائله بغيا وحسدا ، وأخفى أحبّائه فضائله خوفا ووجلا ، فخرج من بين الفريقين ما ملاء الخافقين. ومن البيّن ان تلك الصّفات تدلّ على الأفضليّة الدّالّة على الإمامة.

ومنها انّه (ع) ادّعى الإمامة بعد النّبيّ (ص) بلا فصل ، وأظهر المعجزة ، وكلّ من كان كذلك فهو إمام بعد النّبيّ (ص) بلا فصل ،

أمّا دعوى الإمامة فمشهورة فى كتب السير حتى ثبت انّه لمّا عرف مخالفة المخالفين وإصرارهم على ضلالتهم قعد فى بيته واشتغل بكتاب ربّه ، فطلبوه للبيعة فامتنع ، وأضرموا فى بيته النار وأخرجوه قهرا ، وكفاك شاهدا صادقا فى هذا المعنى خطبته الموسومة بالشقشقية فى نهج البلاغة.

وأمّا إظهار المعجزة فلما ثبت عنه من قلع باب خيبر ورميه اذرعا وقد عجز من اعادته سبعون رجلا من الأقوياء ، ومخاطبته الثّعبان على منبر الكوفة ، ورفع الصّخرة العظيمة عن القليب حين توجّهه إلى صفين ، ومحاربة الجنّ حين مسيره مع النّبيّ (ص) الى غزوة بنى المصطلق ، وردّ الشّمس لإدراك الصّلاة فى وقتها ، والإخبار عن الغيب واستجابة الدعاء وغير ذلك من الوقائع المشهورة المنقولة عنه.

١٩٣

وأمّا الكبرى فلما ذكرنا فى إثبات النّبوّة.

والجواب عنه بانّا لا نسلّم انّه (ع) ادّعى الإمامة بعد النّبيّ (ص) بلا فصل ، ولو سلّم فلا نسلّم ظهور تلك المعجزات فى مقام التّحدّى ليس بشيء ، أمّا الأوّل فلانّه مكابرة غير مسموعة ، لما فصّلنا آنفا. وأمّا الثّاني فلانّ الحقّ انّه لا يشترط التّصريح بالتّحدّى فى دلالة المعجزة ، بل يكفى التّحدّى الضّمنى بقرائن الأحوال على ما حقّق فى محلّه ، ومنع التّحدّى الضّمنى فى امير المؤمنين مكابرة غير مسموعة أيضا كما لا يخفى.

ومنها النّصوص الجليّة من النّبيّ (ص) كقوله مخاطبا لاصحابه : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين والإمرة بالكسر الامارة ، وقوله لأمير المؤمنين : أنت الخليفة بعدى فاستمعوا له وأطيعوه ، وقوله (ص) فى مجمع بنى عبد المطلب : أيّكم يبايعنى ويوازرنى يكون أخى ووصيّى وخليفتى من بعدى وقاضى دينى بكسر الدّال ، وقوله مشيرا إليه : هذا ولىّ كلّ مؤمن ومؤمنة ، وقوله : إنّه سيّد المسلمين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين ، وقوله : خير من أتركه بعدى عليّ ، وقوله : إنا سيّد العالمين وعليّ سيّد العرب ، وقوله (ص) لفاطمة : إنّ الله أطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتّخذه نبيّا ، ثمّ أطلع ثانيا واختار منهم بعلك ، وقوله لها : أمّا ترضين انى زوّجتك من خير أمتى وقوله (ص) فى ذى الثّدية : يقتله خير الخلق وفى رواية خير هذه الأمّة وقد قتله امير المؤمنين مع خوارج نهروان ، وخبر المؤاخاه وهو مشهور بين الجمهور جدّا ، وخبر الطّائر المشوىّ وهو قوله حين أهدى إليه طاير مشوىّ : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معى فجاء أمير المؤمنين (ع) وأكل معه ، وخبر مساواة الأنبياء وهو قوله : من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه ، وإلى نوح فى تقواه ، وإلى ابراهيم فى حلمه ، وإلى موسى فى هيبته ، وإلى عيسى فى عبادته ، فلينظر إلى على بن ابى طالب (ع) ، إلى غير ذلك من الأخبار الدّالّة على إمامة الأئمة الاثنى عشر على ما سيجيء بيانها وغيرها. ولا يخفى على المتأمّل الصّادق انّ تلك النّصوص تدلّ بحسب الظّاهر على إمامة أمير المؤمنين بعد النّبيّ (ص) بلا فصل ، وهذا القدر كاف

١٩٤

فى الاستدلال بعد إقامة الادلّة القطعيّة على المطلوب. فاندفع ان كلّ واحد من النّصوص المذكورة خبر واحد فى مقابلة الإجماع ، ولو صحّت لما خفيت على الصّحابة والتّابعين والمحدّثين وذلك لأنّ الخبر الواحد يفيد الظّنّ. واما حديث مقابلة الإجماع فكلام واه مبنىّ على مذهب أهل الضلال ، كيف وإجماع من عدا أهل البيت باطل بالإجماع ، على انّ القدر المشترك بين تلك النّصوص متواتر قطعا.

واعلم انّ الشّارحين جعلوا بعض تلك النّصوص من قبيل النّصّ المتواتر الّذي استدلّ به المصنّف أوّلا على إمامة امير المؤمنين وهو مخالف لكلام صاحب التجريد على ما لا يخفى.

ومنها قوله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). وبيانه انّه نزل باتّفاق المفسّرين فى أمير المؤمنين (ع) حيث سأله سائل وهو فى الصّلاة فتصدّق بخاتمه. وكلمة إنّما للحصر باتّفاق أئمّة التّفسير والعربيّة والولىّ إمّا بمعنى المتولّى لحقوق النّاس والمتصرّف فى أمورهم ، أو بمعنى المحبّ والنّاصر ، أو بمعنى الحرىّ والحقيق ، لكن لا يصحّ هاهنا حمله على الثّالث وهو ظاهر ، ولا على الثّاني لأنّ الولاية بمعنى المحبّة والنّصرة يعمّ المؤمنين لقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا يصحّ حصرها فى بعضهم ، فتعيّن الأوّل. والمراد بالموصولين هو أمير المؤمنين لانحصار اجتماع الأوصاف المذكورة فيه ونزول الآية فى شأنه اتّفاقا ، فثبت أنّه المتولّى والمتصرّف فى حقوق النّاس فيكون هو الإمام لا غير.

وللمخالفين فى جوابه كلمات شتّى :

منها انّ الظّاهر أن يراد من الولىّ المحبّ والنّاصر ليوافق السّابق واللّاحق من الآيتين المشتملتين على الولاية ، والتّولّي بمعنى المحبّة والنّصرة.

اقول : هذا مردود ، بما بيّنا من أنه لا يصحّ حمل الولىّ هاهنا على المحبّ والنّاصر ، ورعاية التّوافق إنّما يجب إذا لم يمنع عنها مانع.

١٩٥

ومنها انّ الحصر إنّما يكون نفيا لما وقع فيه تردّد ونزاع ، ولم يكن عند نزول الآية نزاع فى التّولّى والإمامة ، بل بعد وفاة النبي (ص).

اقول : هذا أيضا مردود بما عرفت من أنّ كلمة إنّما للحصر إجماعا ، والوليّ بمعنى المتولّي لحقوق النّاس قطعا. ويجوز أن يكون الحصر لدفع التردّد الواقع من بعضهم عند نزول الآية بين انحصار الولاية فى الله ورسوله واشتراكها بينهما وبين غيرهما على أن يكون القصر لتعيين الاشتراك كما انّ القصر فى قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) قصر القلب بتحقيق اشتراك الرّسالة وعمومها لجميع النّاس وردّ اختصاصها بالعرب كما زعمته اليهود والنصارى ، على انّه يجوز أن يكون هذا القصر قصر الصّفة على الموصوف قصرا حقيقيّا ، ودفع التردّد والنّزاع وردّ الخطاء إنّما يشترك فى القصر الإضافى.

ومنها انّ ظاهر الآية ثبوت الولاية فى الحال ، ولا شبهة فى أنّ إمامة امير المؤمنين إنّما كانت بعد وفات النّبيّ (ص) فكيف تحمل الولاية على الإمامة.

اقول : هذا أيضا مردود بما عرفت مع أنّه لا مانع عن ثبوت الولاية فى الحال ، بل الظّاهر انّ المراد إثباتها على سبيل الدّوام بدلالة اسميّة الجملة وكون الولىّ صفة مشبّهة وهما دالّتان على الدّوام والثّبات ، ويؤيّد ذلك استخلاف النّبيّ لامير المؤمنين على المدينة فى غزوة تبوك وعدم عزله إلى زمان الوفاة ، فيعمّ الأزمان والأمور للإجماع على عدم الفصل ، على أنّه لا يبعد أن يكون الحصر لدفع التردّد والنّزاع الواقع فى الاستقبال وإثبات إمامة امير المؤمنين بعد وفاة النّبيّ بمعونة المقام.

ومنها انّ (الَّذِينَ) صيغة الجمع فلا يحمل على الواحد إلّا بدليل ، وقول المفسّرين انّ الآية نزلت فى حقّه (ع) لا يقتضي اختصاصها به ، ودعوى انحصار الصّفات المذكورة فيه مبنيّة على جعل (وَهُمْ راكِعُونَ) حالا عن فاعل (يُؤْتُونَ) ومن الجائز أن يكون معطوفا على (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بمعنى يركعون فى الصّلاة لا كصلاة اليهود بلا ركوع ، وأن يكون حالا أو معطوفا بمعنى انّهم خاضعون فى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أو فى جميع الاحوال.

اقول : هذا أيضا مردود بما عرفت من إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت فى

١٩٦

امير المؤمنين (ع) حين تصدّق بخاتمه فى الصّلاة ، وعلى هذا لا وجه للتّوجيهات المذكورة مع ركاكتها فى حدّ ذاتها ، بل يجب حمل الصّفات المذكورة على ظاهرها ولا شك انّها منحصرة فى امير المؤمنين ، والتعبير عنه بصيغة الجمع للتّعظيم والتبجيل أو ترغيب النّاس فى هذا الفعل هكذا. وينبغى ان يحقّق المقام حتى يتوصّل إلى ذروة المرام.

ومن الأدلّة قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) حيث أمر بطاعة أولى الأمر وهم الأئمّة المعصومون ، إذ المتبادر من أولى الأمر سيّما بعد الله ورسوله من يقوم مقام الرّسول فى التّولّي لأمور المسلمين مطلقا. ومن البين أنّ تفويض أمورهم لغير المعصوم قبيح ، ولم يكن بعد النّبيّ معصوم غير امير المؤمنين وأولاده اتّفاقا ، فهم أولى الأمر الّذين أمر المسلمون بإطاعتهم مطلقا ، فيكونون بعد النّبيّ (ص) أئمّة مطلقا ، وأمير المؤمنين إماما بعد النّبيّ بلا فصل ، ويؤيد ذلك حديث جابر على ما سنذكره مفصّلا ومنع المقدمات مكابرة غير مسموعة على ما لا يخفى.

ومنها انّه كان لكلّ واحد من أبى بكر وعمر وعثمان قبائح مشهورة دالّة على كونه ظالما ، والظّالم لا يصلح للإمامة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على ما تقدّم بيانه. ولا شكّ فى أنّ بطلان إمامتهم يدلّ على ثبوت إمامة امير المؤمنين (ع) كما أنّ ثبوت إمامته يدلّ على بطلان إمامتهم قطعا.

أمّا قبائح الثّلاثة فلسبق كفرهم وما يترتّب عليه اتّفاقا ، ومخالفتهم رسول الله (ص) فى التّخلّف عن جيش اسامة على ما روى أنّه (ص) قال فى مرض موته نفّذوا جيش اسامة ولعن من تخلّف عنه ، وقد كانوا ممّن يجب عليهم تنفيذ ذلك الجيش فلم يفعلوا مع علمهم بأنّ مقصود النّبيّ (ص) بعدهم عن المدينة حتى لا يتواثبوا على الخلافة ، وتستقرّ على أمير المؤمنين ، ولهذا لم يجعله من الجيش خاصّة.

وأمّا قبائح ابى بكر فلأنّه خالف كتاب الله حيث منع الإرث عن رسول الله بخبر رواه وحده وهو قوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث مما تركناه صدقه ، وأيضا منع سيّدة النّساء عن فدك وهى قرية بخيبر مع ادّعائها لها وشهادة أمير المؤمنين وأمّ أيمن

١٩٧

بذلك ، ومع ذلك لم يصدّقهم وصدّق أزواج النّبيّ (ص) فى ادّعاء الحجرة لهنّ من غير شاهد ، وقباحة هذا العمل واضحة جدّا ، ولهذا ردّها عمر بن عبد العزيز إلى أولاد سيّدة النّساء. وأيضا اعترف بعدم استحقاقه للخلافة بقوله : أقيلونى فلست بخيركم وعليّ فيكم وبأنّ له شيطانا يعتريه بقوله : إنّ لى شيطانا يعترينى فإن استقمت أعينونى وإن عصيت جنّبونى ، ومع ذلك كان مشتغلا بأمر الخلافة ، وهذا قبيح جدا. وأيضا أظهر الشّكّ عند موته فى استحقاقه للخلافة حيث قال : وددت أنّى سألت رسول الله عن هذا الأمر فيمن هو فكنّا لا ننازع أهله ومع ذلك كان مشتغلا بذلك الأمر. وأيضا اعترف عمر آخرا بعدم استحقاقه للخلافة مع كمال محبّته ونصرته له فى هذا الأمر حيث قال : كانت بيعة ابى بكر فلتة وفى الله شرّها ، فمن عاد إلى ذلك مثلها فاقتلوه ومع ذلك اشتغل به وهذا من قبائح عمر أيضا كما لا يخفى.

وأيضا خالف رسول الله (ص) فى الاستخلاف حيث لم يستخلفه ولا عمر وهو أخذ الخلافة واستخلف عمر. وأيضا خالف الرسول فى توليته عمر جميع امور المسلمين مع انّ النّبيّ (ص) عزله بعد ما ولّيه أمر الصّدقات. وأيضا قطع يسار سارق مع أنّه كان الواجب شرعا قطع يمينه ، وأحرق بالنّار فجاءة السلمى مع انّ النّبيّ (ص) نهى عن ذلك حيث قال : لا يعذّب بالنّار إلّا ربّ النّار ، ولم يعرف الكلالة حيث سئل عنها فلم يقل فيها شيئا ، ثمّ قال : أقول فى الكلالة برأيى فإن اصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشّيطان ، وهى عندنا على ما روى عن أمير المؤمنين (ع) الأخ والأخت لاب أو أمّ وعند المخالفين وارث لم يكن ولدا للمورّث ولا ولدا له. ولم يعرف ميراث الجدّة حيث سألت جدّة ميّت عن ميراثها فقال : لا اجد لك شيئا فى كتاب الله ولا سنّة نبيّه فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة انّ النّبيّ (ص) أعطاها السّدس. واضطرب كلامه فى كثير من احكامه وكلّ ذلك دليل على جهله وقبح حاله ، وأيضا لم يحدّ خالدا ولا اقتصّ منه مع أنّه قتل مالك بن نويرة وهو مسلم طمعا فى التزويج بزوجته لجمالها فتزوّج بها من ليلته وضاجعها فأثار عليه عمر بقتله قصاصا فقال : لا اغمد سيفا شهره الله على الكفّار وأنكر عمر على

١٩٨

ذلك وقال : لئن وليّت لأقيدنّك. وأيضا بعث إلى بيت أمير المؤمنين (ع) لما امتنع عن البيعة فأضرم فيه النّار وفيه سيدة نساء العالمين. وأيضا لما بايعه النّاس فصعد المنبر ليخطب جاءه الإمامان الحسن والحسين وقالا : هذا مقام جدّنا ولست له أهلا ومع ذلك لم يتنبّه ، وأيضا كشف بيت سيدة النّساء ثم ندم على ذلك إلى غير ذلك.

وأمّا قبائح عمر فلأنّه أمر برجم امرأة حاملة وأخرى مجنونة وأخرى امرأة ولدت لستّة اشهر ، فنهاه أمير المؤمنين عن ذلك وقال فى الأولى : ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل على حملها ، وقال فى الثانية : القلم مرفوع عن المجنون وقال فى الثالثة : انّ قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) مع قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) تدلّ على أنّ أقلّ مدة الحمل ستّة أشهر ، فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر. وأيضا فى موت النّبيّ (ص) حين قبض فقال : والله ما مات محمّد حتّى تلا عليه أبو بكر : إنّك ميّت وإنّهم ميّتون فقال : كأنّى لم اسمع هذه الآية وأيضا لمّا قال فى خطبته : من غالى فى صداق ابنته جعلته فى بيت المال فقالت امرأة : كيف تمنعها ما احلّه الله فى كتابه بقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : كلّ أفقه من عمر حتى المخدّرات فى الحجال. وأيضا خالف الله ورسوله حيث أعطى أزواج النّبيّ (ص) ومنع أهل البيت من خمسهم ، وأيضا قضى فى الحدّ بمائة قضيب. وأيضا فضّل فى القسمة والعطاء المهاجرين على الأنصار والأنصار على غيرهم والعرب على العجم ولم يكن ذلك فى زمن النّبيّ (ص). وأيضا منع المتعتين حيث صعد المنبر وقال : أيّها النّاس ثلاث كنّ فى عهد رسول الله (ص) أنا انهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ وهى متعة النّساء ومتعة الحجّ وحىّ على خير العمل ولا شكّ انّ ذلك كلّه مخالفة لله ورسوله. وأيضا خرق كتاب سيّدة نساء العالمين على ما روى أنّه لما طالت المنازعة بينها وبين ابى بكر فى فدك ردّها إليها وكتب لها فى ذلك كتابا. فخرجت والكتاب فى يدها فلقيها عمر فسألها عن حالها فقصّت القصّة فاخذ منها الكتاب وخرقه ، ثمّ دخل على ابى بكر وعاتبه على ذلك واتّفقا فى منعها عن فدك إلى غير ذلك من القبائح.

١٩٩

وأمّا قبائح عثمان فلأنّه ولى من ظهر فسقه حتى أحدثوا فى الدّين ما أحدثوا ، حيث ولىّ الوليد بن عتبه فشرب الخمر وصلّى وهو سكران ، واستعمل سعد بن الوقّاص على كوفة فظهر منه ما أخرجه أهل الكوفة ، وولىّ معاوية بالشّام فظهر منه الفتن العظيمة إلى غير ذلك. وأيضا آثر أهله وأقاربه بالأموال العظيمة حتى نقل انّه أعطى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف دينار. وأيضا أخذ الحمى لنفسه مع انّ النّبيّ (ص) جعل النّاس فى الماء والكلاء شرعا. وأيضا ضرب ابن مسعود حتى مات وأحرق مصحفه ، وضرب عمّار حتى أصابه فتق ، وضرب أبا ذر ونفاه الى ربذه وكلّ ذلك منكر فى الشّرع. وأيضا أسقط القود عن عبد الله بن عمر والحدّ عن وليد بن عتبة مع وجوبهما عليهما ، امّا وجوب القود على ابن عمر فلأنّه قتل هرمزان ملك اهواز وقد أسلم بعد ما أسر في فتح اهواز. وأمّا وجوب الحدّ على الوليد فلشربه الخمر ولذلك حدّه امير المؤمنين (ع) ، إلى غير ذلك من القبائح الشنيعة الصّادرة عنه حتى خذله المؤمنون وقتلوه وقال أمير المؤمنين (ع) قتله الله ولم يدفن ثلاثة ايام.

وأمّا ما ذكروا فى تأويل تلك القبائح وتوجيهها فهى أقبح منها لغاية بعدها وركاكتها كما لا يخفى على من تأمّل فيها وأنصف واستقام التأمّل ولم يتعسّف.

وأنت تعلم انّ كل واحدة من تلك القبائح الصّادرة عنهم دليل واضح على إمامة امير المؤمنين (ع) ، كما انّ كلّ واحد من ادلّة إمامته برهان قاطع على بطلانهم. وادلّة إمامته أكثر من أن تحصى حتّى انّ المصنّف ألف كتابا فى الإمامة وأورد فيه ألفى دليل على إمامته وسمّاه الفين ، ولغيره من العلماء مصنّفات كثيرة فى هذا ، وكفاك حجّة قاطعة على إمامته قول النّبيّ (ص) : أنا مدينة العلم وعليّ بابها وقوله : أنا وعلى من نور واحد لكن المخالفين (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

ثمّ الإمام من بعده أى بعد وفات أمير المؤمنين (ع) ولده الأسنّ ابو محمّد الحسن ولد بالمدينة وقبض بها مسموما.

ثمّ بعد وفاته أخوه ابو عبد الله الحسين الشّهيد ولد بالمدينة وقتل بكربلاء.

٢٠٠