الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

ولاستلزام نفيه أى نفى فعله تعالى لغرض أو نفى الغرض فى فعله تعالى العبث أى كون فعله عبثا خاليا عن فايدة وغرض وهو محال لأنّه قبيح والقبيح عليه تعالى محال كما مرّ آنفا.

واعترض عليه بأنّ العبث هو الخالى عن الفائدة والمصلحة لا الخالى عن الغرض والعلّة الغائية ، وافعاله تعالى مشتملة على حكم ومصالح لا يحصى لكنّها ليست أسبابا باعثة عليها وعللا مقتضية لها فلا يكون أغراضا وعللا غائية فلا عبث ولا قبيح.

اقول : يمكن أن يجاب عنه بأنّ الفاعل إذا فعل فعلا من غير ملاحظة فائدة ومدخليّتها فيه يعدّ ذلك الفعل عبثا أو فى حكم العبث فى القبح وان اشتمل على فوائد ومصالح فى نفس الأمر ، لأنّ مجرّد الاشتمال عليها لا يخرجه عن ذلك ، ضرورة ان ما لا يكون ملحوظا للفاعل عند إيقاع الفعل ولا مؤثّرا فى إقدامه عليه فى حكم العدم كما لا يخفى على من أنصف من نفسه. نعم ، إبطال العبث فى فعله تعالى بالأدلّة النقليّة مثل قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كما ذكره الشّارحون منظور فيه على ما لا يخفى.

وأمّا استدلال الاشاعرة على مذهبهم بأنّه لو كان فعله تعالى معلّلا بالغرض لكان ناقصا فى ذاته مستكملا بغيره الّذي هو ذلك الغرض ، ضرورة أنّه لو لم يكن كمالا بالنسبة إليه تعالى لم يكن باعثا له على ذلك الفعل.

ففيه نظر ، لأنّه لا يجوز أن يكون الغرض كمالا ونفعا بالنّسبة إلى غيره تعالى لا بالنّسبة إليه ، ودعوى العلم الضّرورىّ بانّه لو لم يكن أولى وأكمل بالنّسبة إليه تعالى لم يصلح أن يكون غرضا له ممنوعة على أنّ بطلان استكماله تعالى بغيره فى حيّز المنع ، اللهم إلّا أن يدّعى الإجماع ويبنى الكلام على الإلزام ، وفيه ما فيه فتأمّل. وليس الغرض من فعله تعالى هو الإضرار المحض لقبحه ضرورة ألا ترى أنّ من قدّم إلى غيره طعاما مسموما ليقتله يذمّه العقلاء ويعدّون ذلك الفعل منه قبيحا. وما قيل من أنّه كيف يدّعى

١٦١

هذا وانّا نعلم بالضرورة انّ خلود أهل النّار فيها من فعل الله تعالى ولا نفع فيه لهم ولا لغيرهم مدفوع بأنّ خلود أهل النّار فيها نفع عائد إلى أهل الجنّة وسبب لزيادة مسرّتهم فيها كما لا يخفى.

بل الغرض من فعله تعالى هو النّفع العائد إلى غيره لا إليه لامتناع استكماله بغيره على ما عرفت آنفا.

ولما بيّن أنّه لا بدّ من فعله تعالى من غرض هو نفع عائد إلى غيره أراد ان يبيّن ما هو الغرض من التّكليف الّذي اختصّ به نوع الإنسان من بين المخلوقات فقال فلا بدّ من التّكليف أى اذا عرفت ذلك فاعلم انّ التّكليف واجب وهو فى اللّغة من الكلفة وهى المشقّة ، وفى الشّرع بعث من يجب طاعته أى حمل من يجب إطاعته ، واحترز بالإضافة عن بعث من لم يجب إطاعته من الناس على ما فيه مشقّة أى فى الجملة ولو بالنّسبة إلى تركه. واحترز به عن بعث من يجب إطاعته على ما لا مشقّة فيه كالأفعال العادية والشّهوانيّة مثل النّوم والأكل والشّرب من حيث أنّها عادية أو شهوانية ، وأمّا الإتيان بها لإبقاء الحياة أو تحصيل القوّة على العبادة فهو واجب أو مندوب وفيه مشقّة ما ، والبعث من الله تعالى عليها بهذا الاعتبار تكليف شرعىّ.

وقوله على جهة الابتداء أى وجوبا أو بعثا واقعا على طريقة الابتداء لا بواسطة وجوب أو بعث آخر ، يخرج بعث غير الله من النّبيّ (ص) والامام (ع) والوالدين والسيّد على ما فيه مشقّة ، لأنّ وجوب إطاعتهم بواسطة وجوب إطاعة الله تعالى وإيجابه إطاعتهم وبعثهم بواسطة بعثه. وأنت تعلم أنّ الأفعال العادية والشّهوانيّة من حيث أنّها كذلك لا يتعلّق بها بعث الله تعالى ، لأنّها من المباحات ، والظاهر انّ بعثه تعالى لا يتعلّق بها بل انّما يتعلّق بها بعث غيره كالوالدين ، فلو اكتفى فى إخراجها بالقيد الأخير لكفى إلّا انّه قصد التفصيل والإشارة إلى وجه المناسبة بين المعنى الشّرعى واللّغوي فذكر قوله : على ما فيه مشقّة قبل قوله : على جهة الابتداء فلا تغفل. والظّاهر انّ قوله : بشرط الاعلام من تتمّة التّعريف متعلّق بالبعث أى بعث مشروط بالاعلام أو بالوجوب ، أى بعث من يجب

١٦٢

وجوبا مشروطا بالإعلام. وجعله متعلّقا بمحذوف أى إنّما يصحّ التّكليف أو إنّما يحسن التّكليف بشرط الإعلام بعيد جدّا ، وعلى كلّ تقدير فيه إشارة إلى أنّ التّكليف مشروط بإعلام المكلّف لقبح التّكليف من غير إعلام ضرورة. والمراد من الإعلام التّمكين على العلم لا الإعلام بالفعل لأنّ الجهّال حتّى الكفّار مكلّفون بالشّرائع عند أهل الحقّ إذا كانوا متمكّنين على العلم بها بالرّجوع الى الفقهاء مثلا بخلاف ما إذا كان لهم مانع شرعىّ من ذلك كالجنون إذا المجنون غير مكلّف.

واعلم انّ للتّكليف شرائط كثيرة ، كعلم المكلّف وقدرته ، وإمكان المكلّف به ، وغيرها. وانّما خصّ ذلك الشّرط بالذّكر لمزيد الاهتمام به فتأمل. وإلّا عطف على قوله لا بد من التكليف ودليل عليه ، اى وان لم يكن التكليف واجبا لكان الله تعالى مغريا بالقبيح أى داعيا عليه حيث خلق الشّهوات النّفسانيّة فى طبيعة الإنس والجنّ ، وهى الميل إلى القبيح والنّفور عن الحسن المستدعيان لفعل القبيح وترك الحسن ، ولا شكّ انّ خلق ما يستدعى فعل القبيح وترك الحسن من غير زجر ومنع عنهما يقاوم الميل والنّفور الطبيعيّين ويغلب عليهما إغراء وبعث على القبيح والإغراء على القبيح قبيح ، فلا بدّ من زاجر يمنع ذلك ويغلب عليه وهو التّكليف المشتمل على الوعد بالثّواب العظيم والوعيد على العقاب الأليم الغالبين على الميل والنّفور الطبيعيّين.

واعلم انّه يستفاد من كلام بعض الشّارحين أنّ قول المصنّف : فلا بدّ من التكليف تفريع على ما قبله من وجوب الغرض فى افعاله تعالى وتوجيه التفريع انّه لما ثبت انّ الغرض من فعله تعالى نفع العبد ولا نفع حقيقى يستحقّ أن يكون غرضا لحق العباد إلا الثّواب وهو مما يقبح الابتداء به كما سيجيء ، اقتضت الحكمة توسيط التّكليف ، وفيه ما فيه مع أنّه لا حاجة على هذا إلى قوله : وإلّا لكان مغريا بالقبيح اللهم إلّا أن يكون الإشارة إلى دليل آخر على وجوب التّكليف وفيه ما لا يخفى.

ولمّا كان هاهنا مظنّة سؤالين : أحدهما ، المنع وهو انّا لا نسلّم حصر الزّاجر فى التّكليف لجواز أن يكون الزّاجر هو العلم الضّرورى بقبح القبيح وترتّب الذّم عليه و

١٦٣

وبحسن الحسن وترتّب المدح عليه بناء على أنّ الحسن والقبح عقليّان. وثانيهما ، المعارضة وهى انّ جهة حسن التّكليف إمّا حصول الثّواب والعقاب وكلاهما باطلان فالتكليف باطل. أمّا الأوّل فلانّ الثّواب مقدور لله تعالى ابتداء فلا فائدة فى توسيط التّكليف. وأمّا الثّاني فلأنّ العقاب إضرار محض وهو قبيح عليه تعالى كما مرّ.

أشار المصنّف الى جواب الأوّل بقوله : والعلم الضّرورى بقبح القبيح وحسن الحسن ترتّب الذّمّ والمدح عليهما غير كاف فى الزّاجر لاستسهال الذّم أى استسهال طبع الخلق الذّمّ وعدّه اياه سهلا حقيرا فى مقابل قضاء الوطر أى المقصود الطبيعىّ فى الأكثر ، فلا بد من التّكليف المشتمل على ما هو أقوى وأعظم شأنا مما يقتضيه الطّبيعة كما لا يخفى.

فإن قلت : هذا الجواب إبطال للسّند الأخصّ وهو خارج عن قانون المناظرة.

قلت : لما بطل كون العلم الضّرورى كافيا فى الزّاجر ثبت أنّه لا بد من أمر زائد فاختير التّكليف لاستلزامه ما هو الواجب فتأمّل ،

وأشار إلى جواب الثّاني بقوله : وجهة حسنه أى الغرض الباعث على وجوب التّكليف التّعريض للخلق بالثّواب وهو حاصل للمؤمن والكافر لا حصول الثّواب حتّى يختصّ بالمؤمن أعنى بالثّواب النّفع المستحقّ أى الّذي استحقّه العبد المقارن ذلك النّفع للتّعظيم والاجلال للعبد. فالنّفع جنس يشتمل المنافع كلّها. وقيد الاستحقاق احتراز عن التفضّل وقيد المقارنة للتّعظيم عن العوض الّذي صفة كاشفة للنّفع المذكور يستحيل الابتداء به من غير توسيط التّكليف ضرورة انّ تعظيم من لا يستحقّ التّعظيم قبيح عقلا ، ألا ترى أنّ السّلطان إذا أمر بزبّال واعطاه مالا كثيرا لا يستقبح ذلك منه بل يعدّ جودا وفضلا ، لكنّه مع ذلك إذا نزل لديه وقام بين يديه تعظيما له وتكريما إيّاه ، وامر خواصّ خدمه بتقبيل أنامله يستقبح ذلك منه جدّا وينسب عند العقلاء بقلّة العقل وخفّة الطّبع. فالله سبحانه لمّا أراد أن يعطى عباده منافع دائمة مقرونة باجلال وإكرام منه ومن ملائكته المقرّبين لم يحسن أن يتفضّل بذلك عليهم ابتداء من غير استحقاق سابق. وتلخيص الجواب انّا

١٦٤

لا نسلّم حصر جهة الحسن فى حصول الثّواب والعقاب ، ولو سلّم فنختار الشّقّ الأوّل ونمنع عدم الفائدة فى توسيط التّكليف.

المبحث الخامس فى أنّه تعالى يجب عليه اللّطف فسّروا مطلق اللّطف بأنّه ما يقرّب العبد إلى الطّاعة ويبعّده عن المعصية بحيث لا يؤدّى إلى الإلجاء وهو قسمان : لطف محصّل وهو يحصل فعل الطاعة وترك المعصية على سبيل الاختيار بأن لا يتوقّف حصولهما عليه كالقدرة والآلة ، ولطف مقرّب وهو ما يقرّب العبد إلى الطّاعة ويبعده عن المعصية هذا كالجنس مشترك بين قسمى اللّطف ، وقوله ولا حظّ له فى التّمكين أى لا دخل له فى الفعل والتّرك احتراز عن اللّطف المحصّل لكن الأولى أن يقول : ولا حظّ له فى الحصول إذا المتبادر من الحظّ والتّمكين المدخليّة فى الأقدار ، فيصدق على نفس القدرة انّه لا حظّ لها فى التّمكين ، مع أنّها من افراد اللّطف المحصّل. وقوله ولا يبلغ الالجاء أى لا يصل إلى حدّ الاضطرار اشارة إلى شرط معتبر فى مطلق اللّطف ، لأنّ الإلجاء ينافى التّكليف وما يتفرّع عليه من الثّواب والعقاب ، وذلك كبعثة الأنبياء ونصب الأئمّة ، فإنّ العباد معهما أقرب إلى الطّاعات وأبعد من المعاصى منهم بدونهما كما لا يخفى. لتوقّف متعلق بقوله يجب عليه اللّطف ودليل عليه غرض المكلّف من التّكليف وهو امتثال المكلّفين لما فيه من الأمر والنّهى عليه أى على اللّطف.

والحاصل أنّ إتمام الغرض من التّكليف موقوف على اللّطف ، وكلّ ما يتوقّف عليه إتمام الغرض فهو واجب ، فاللّطف واجب. أمّا الأوّل فإنّ المريد لفعل من غيره إذا علم أنّه لا يفعله أى لا يفعل ذلك الغير الفعل المراد بسهولة إلا بفعل يفعله المريد من غير مشقّة وتعب لو لم يفعله أى المريد ذلك الفعل المبنىّ عليه سهولة الفعل المراد لكان المريد ناقضا لغرضه من الإرادة وهو الإتيان بالفعل المراد ، وهذا حكم ضرورى كمن دعى شخصا إلى طعام وهو يعلم أنّه لا يجيبه بسهولة إلّا بعد إرسال عبده إليه ولا مشقّة له فى ذلك الإرسال ، فلو لم يرسل عبده إليه لعدّ العقلاء ناقضا لغرضه على ما لا يخفى. وأمّا الثّاني فلأنّ ترك ما يتوقّف عليه إتمام الغرض نقض له وهو

١٦٥

قبيح عقلا بالضّرورة والقبح مستحيل عليه تعالى ، فيكون ما يتوقّف عليه إتمام الغرض واجبا عليه قطعا. وإنّما حملنا توقّف غرض المكلّف على اللّطف على توقّف إتمامه عليه أولا وفعل الغير للمراد على فعله له بسهولة ثانيا ، لأنّ الكلام فى اللّطف المقرّب وهو مما يتوقّف عليه إتمام الغرض لا نفسه. وعورض هذا الدّليل بأنّه لو كان اللّطف واجبا عليه تعالى لكان مثل نصب الإمام المعصوم فى كلّ ناحية ، وتعيين حاكم مجتهد فى كلّ بلد إلى غير ذلك مما لا يجب عليه تعالى اتّفاقا وبديهة واجبا عليه تعالى لكونه لطفا بالضرورة ، ويمكن تقريره نقضا إجماليّا أيضا كما لا يخفى. وفيه نظر ، لأنّا لا نسلّم انّ مثل هذه الأمور لطف يتوقّف عليه إتمام الغرض لجواز اشتمالها على مفسدة مثل قيام الفتن والمخالفة بين المسلمين بحيث يختلّ نظام أمور الدّين فليتأمّل ، وللمخالفين هاهنا شبه اخرى لا نطول الكلام بإيرادها ودفعها.

واعلم انّ المراد بوجوب اللّطف عليه تعالى وجوب نفسه عليه إن كان من مقولة فعله تعالى كبعثة الأنبياء أو نصب الائمّة ووجوب الإشعار به للملطوف وإيجابه عليه ان كان فعل الملطوف كنصب الادلّة على ما يجب معرفته بالدّليل ووجوب إعلامه به ، وتحصيله له إن كان فعل غيرهما كالإعانة فى تحصيل المصالح ودفع المفاسد.

المبحث السّادس فى أنّه تعالى يجب عليه عوض الآلام الصّادرة عنه ابتداء من غير سبق استحقاق كالأمراض والغموم المستندة إلى علم ضرورىّ أو كسبى يقينيّ أو ظنىّ وتفويت المنافع لمصلحة الغير كالزّكاة ، والمضارّ الصّادرة عن العباد بأمره كالذّبح فى الهدى والأضحية ، أو باباحته كالصّيد ، والمضارّ الصّادرة عن غير عاقل بتمكينه كالألم الصّادرة عن السّباع المولمة وبالجملة كلّ ألم للعبد كان الله تعالى هو الباعث على حصوله ابتداء سواء كان لقدرة العبد واختياره مدخل فيه أولا ، فيجب عوضه عليه تعالى. وأمّا ما كان الباعث على حصوله هو العبد عقلا أو شرعا كالاحتراق عند إلقاء إنسان فى النّار والقتل عند شهادة الزّور ، أو كان الباعث عليه هو الله تعالى لكنّ بسبق استحقاق المكلّف له بارتكاب معصية كآلام الحدود فلا يجب عوضه عليه تعالى ، بل عوض الأوّل للعبد ولا

١٦٦

عوض للثّانى. ومعنى العوض هو النّفع المستحقّ أى الّذي استحقّه شخص الخالى من تعظيم وإجلال ، فالقيد الأوّل لإخراج التفضّل والثّاني لإخراج الثّواب.

إذا عرفت هذا فنقول : يجب على الله تعالى إيصال عوض الآلام الصّادرة عنه بالتفضّل المذكور إلى المتألّم بها ، وإلّا أى وإن لم يوصل عوض تلك الآلام إلى المتألّم بها لكان الإيلام بها ظلما منه تعالى عليه ، واللازم باطل لأنّه تعالى الله عن ذلك أى عن الظّلم لكونه قبيحا عقلا فالملزوم مثله ، ووجه الملازمة أنّ الإيلام بكلّ واحد من تلك الآلام على تقدير عدم عوض إيصال العوض يكون إضرارا محضا منه غير مستحقّ لكونه باعثا عليهما ابتداء ، ولا شكّ فى أنّ الإضرار المحض من غير استحقاق ظلم فيكون الإيلام بها على ذلك التّقدير ظلما قطعا. وإذا ثبت أنّ عدم إيصال العوض فى تلك الآلام إلى المتألّم بها باطل ممتنع ثبت أنّ إيصال العوض إليه واجب عليه تعالى وهو المطلوب.

هذا خلاصة الكلام فى المقام على ما يستفاد من كلامهم فى تقرير المرام. وانت تعلم ان الفرق بين الغم المستند إلى علم ضرورى او كسبى والإحراق عند إلقاء شخص فى النّار بأن الباعث على حصول الأوّل هو الله تعالى وعلى حصول الثّاني هو العبد الملقى مشكل جدّا فليتأمّل.

ولمّا بيّن أنّه قد يجب العوض على الله تعالى خلافا للأشاعرة لأنّهم لا يوجبون شيئا عليه تعالى ، أراد أن يشير إلى الفرق بين العوض الواجب عليه تعالى والعوض الواجب على العباد ، فقال ويجب زيادته أى زيادة العوض الواجب عليه تعالى على قدر الألم بحيث ينتهى إلى حدّ الرّضا عند كل عاقل وإلّا اى وان لم يجب الزيادة بل جاز الاقتصار على قدر استحقاق الآلام المعتبر فى العوض لكونه كافيا فى دفع الظّلم لكان أى لا لأمكن أن يكون ذلك الإيلام عبثا خاليا عن الفائدة والتّالى باطل ، فالمقدم مثله ، بخلاف العوض الواجب على العباد فإنّه لا يجب زيادته عليهم. والمشهور أنّ بينهما فرقا آخر وهو أنّه لا بدّ فى العوض الواجب عليه تعالى من اشتمال الألم المعوّض عنه تعالى اللّطفية بالنّظر الى المتألّم به أو إلى غيره وإلّا لكان عبثا بخلاف العوض الواجب على العباد وهاهنا نظر.

واعلم أنّه كما يجب عليه تعالى إيصال العوض الواجب عليه إلى المتألّم كذلك

١٦٧

يجب عليه إيصال العوض الواجب على العباد إلى المتألّم إمّا بأخذه منهم ان كان لهم عوض أو بالتفضّل من قبلهم ان لم يكن.

وهذا معنى قولهم : انتصاف المظلوم من الظّالم واجب عليه تعالى أمّا عقلا فلأنّه مكّن الظّالم وخلّى بينه وبين المظلوم مع قدرته على منعه ، فلو لم ينتصف منه لضاع حقّ المظلوم ، وتضييع حق المظلوم قبيح. وأمّا سمعا فلما ورد فى القرآن من أنّ الله تعالى يقضى بين عباده بالحقّ وهاهنا زيادة تفصيل لا يسعه المقام.

١٦٨

الفصل الخامس

من الفصول السبعة

فى

النّبوّة

النّبيّ هى إمّا من النّبوة بمعنى الارتفاع لما فى الأنبياء من علوّ الشّأن وسطوع البرهان ، أو من النّبي بمعنى الطّريق لكونهم وسائل إلى الله تعالى ، أو من النّبإ بمعنى الخبر لإخبارهم عنه تعالى. وهى على الأوّلين على أصلها ، وعلى الثّالث أصلها النّبوءة بالهمزة فقلبت واوا وادغمت كالمروءة. ومعناها العرفى كون انسان مخبرا عن الله تعالى بلا واسطة بشر على ما يناسب تعريف المصنّف وهو الأنسب للوجه الثّالث من وجوه الاشتقاق. وربما يعتبر كون الإنسان مبعوثا من الحقّ إلى الخلق على ما يناسب التّعريف المشهور للنّبىّ ، وهو إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام.

والظّاهر أنّ المقصود بالذّات هاهنا إثبات النّبوّة لنبيّنا عليه السّلام كما فى المبحث الأوّل ، وبيان ساير الأحكام الّتي فى ساير المباحث واقع على سبيل الاستطراد على أن يكون كلمة فى فى العنوان داخلة على المحمول ، ويحتمل ان يكون المقصد بيان أحكام النّبوّة من كونها ثابتة لنبيّنا (ص) ومشروطة بالعصمة وغيرهما على أن يكون كلمة فى داخلة على الموضوع. ولما كان النّبيّ محمولا فيما قصد هاهنا على ما هو الظّاهر فسّره بقوله النّبيّ وهو فى اللغة فعيل بمعنى الخبير او الرفيع او الطريق وفى العرف هو

١٦٩

الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر ، فالإنسان احتراز عن غيره كالملك وقيد الإخبار عن الله لإخراج غير المخبر عنه من الإنسان وقيد عدم وساطة البشر لإخراج الإمام والقائم لكونهما مخبرين عن الله تعالى بواسطة الرّسول أو الإمام. ولا يخفى ان المتبادر من الإخبار هو الإخبار المطابق للواقع فلا يتوهّم صدق التّعريف على المتنبّي.

واعلم انّ الرّسول عند بعضهم مساوق للنّبىّ ، والجمهور على أنّه أخصّ منه ويؤيّده قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) ، وقد دلّ الحديث على أنّ عدد الأنبياء أكثر من عدد الرّسول ، فاشترط بعضهم فى الرّسول الكتاب ، وبعضهم الشّرع الجديد.

واعترض على الأوّل بأنّ الرّسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والكتب مائة وأربعة على ما تقرّر فى الشّرع. اللهم إلّا أن يكتفى بالمقارنة من غير اشتراط النّزول ، إذ يجوز تكرار النّزول كما فى الفاتحة. وعلى الثّاني بأنّ اسماعيل من الرّسل مع أنّه ليس له شرع جديد على ما صرّح به بعض المحقّقين.

وفيه أى فى الفصل الخامس خمسة مباحث :

الأوّل من تلك المباحث ، فى بيان نبوّة نبيّنا(ص) ويتفرّع عليه نبوّة ساير الأنبياء (ع) والمراد بضمير الجميع آخر الامم ، ومعنى الإضافة كونه (ص) مبعوثا لتبليغ الأحكام إليهم بواسطة أو بغير واسطة ، وإنّما آثر طريق الإضافة لكونها أخصر طريق إلى إحضاره فى ذهن السّامع ، وفيها من الدّلالة على تعظيم شأن المضاف إليه ما لا يخفى. محمّد بن عبد الله بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف (ص) ذكر النّسب لزيادة التّوضيح ، وإلّا فلا يتبادر الذهن من اسم محمّد هاهنا إلّا إلى المسمّى المقصود منه المتصور بوجوه كلية منحصرة فى ذلك الفرد ، مثل كونه خاتم النبيين ، وسيّد المرسلين ، والمبعوث إلى آخر الأمم ، وأفضل العرب والعجم. وهذا الاسم مشتقّا له من الحمد للمبالغة فى محموديّته ، كما يدلّ عليه باب التّفعيل للتّكثير ، كما انّ احمد مشتقّ له منه للمبالغة

١٧٠

فى حامديّته ، والأوّل أشهر وأبلغ لدلالته على ما له من مقام المحبوبيّة ، ولذا خصّ به كلمة التّوحيد رسول الله أى نبيّ الله بالحقّ المبعوث منه إلى الخلق لتبليغ الأحكام على القول بالمساوقة بين الرّسول والنّبيّ.

ولك أن تحمل الرّسول على المعنى الأخصّ ، بناء على تضمّن دعوى الرّسالة لدعوى النّبوّة ، لاستلزام الخاصّ العامّ قطعا لأنّه ادّعى النّبوّة.

وظهر على يده المعجزة المشهور بين الجمهور أنّها أمر خارق للعادة قصد به إظهار صدق من ادّعى انّه نبيّ الله ، ولها شروط مثل أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه من التّروك ، وأن يكون واقعا مقام التّحدّى والمعارضة صريحا أو ضمنا ، وأن يكون على وفق الدّعوى إلى غير ذلك. وقد فسّرها بعض المتأخرين من أهل الحق بثبوت ما ليس بمعتاد أو نفى ما هو معتاد ومع خرق العادة ومطابقة الدّعوى. ولعلّ فى هذه العبارة تنبيها على بعض تلك الشّروط ، وعلى أىّ تقدير هى من العجز المقابل للقدرة ، والتّاء إمّا للنّقل أو للتّأنيث على اعتبار الموصوف مؤنّثا كالحالة والصورة.

وأنت تعلم انّ القيد الأخير فى التّعريفين لإخراج ساير أقسام الخارق من الكرامة والإرهاص والمعونة والإهانة والاستدراج على ما هو المشهور ، ولا يبعد أن يقال المراد من الدّعوى فى التّعريف الثّاني أعمّ من دعوى النّبوّة والإمامة كما هو الظّاهر على أن يكون الكرامة عند أهل الحق داخلة فى المعجزة حقيقة ، ويؤيّده شيوع إطلاق المعجزة على كرامة الأئمة المعصومين (ع) فى كلام مشايخ المحققين كما سيجيء فى كلام المصنف غير مرّة ، وكأنّه لهذا خصّ علماء الأشاعرة التّعريف الأوّل بقولهم عندنا. وأمّا قوله مع خرق العادة فهو متعلّق بقوله نفى ما هو معتاد احتراز عن مثل ترك الأكل والشّرب وغيرهما ، ضرورة انّه يصدق عليه انّه نفى ما هو معتاد لكون المتروك معتادا لكنّه ليس خارقا للعادة ، لأنّه معتاد أيضا كالمتروك وخارق العادة ما لا يكون معتادا بل يمتنع عادة على ما لا يخفى. فالاعتراض عليه ب أنّه لغو محض ، ولعلّه من طغيان القلم كما وقع من بعض المحققين سهو محض وكأنّه من طغيان القلم ، نعم يتّجه على هذا التّعريف انّه لا

١٧١

يصدق على أكثر المعجزات كالقرآن وانشقاق القمر وغيرهما ، بل إنّما يصدق على ثبوتها كما يرد على التّعريف الأوّل أنّه صادق على ثبوت مثل القرآن والانشقاق وخلقهما أيضا مع أنّ المعجزة إنّما يطلق على نفسهما. اللهم إلّا أن يتكلّف فى التّعريف ، أو فى الإطلاق فاعرف ذلك هذا كلام وقع فى البين ، فلنرجع إلى بيان المقصود فنقول : العمدة فى الاستدلال على ذلك المطلب أنّ النّبيّ (ص) أظهر المعجزة كالقرآن هو اسم للنّظم الحادث المنقول إلينا بين دفّتى المصاحف تواترا ، فإنّ ظهوره على يده وو أعجازه كلاهما معلومان قطعا على ما سيأتى تفصيله ، وقد نطق به كثير من الآيات كقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) إلى غير ذلك ، وانشقاق القمر بإشارته العالية على ما روى عن جمع كثير وجمّ غفير انّه انشقّ القمر شقين متباعدين بحيث كان الجبل بينهما ، وقد نطق به القرآن كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وكان فى مقام التّحدّى فيكون معجزة ، على أنّ جميع الحكماء حتّى السّحرة اتّفقوا على أنّ السّحر لا تأثير له فى شيء من السّماويات ونبوع الماء أى فورانه من بين أصابعه الشّريفة على ما روى فى صورة متعدّدة.

منها ما روى أنّه أتى النّبيّ (ص) بقدح زجاج وفيه ماء قليل وهو بقباء فوضع يده فيه فلم يدخل فأدخل أصابعه الأربع ولم يستطع إدخال الإبهام ، وقال للنّاس : هلموا إلى الشّراب قال الرّاوى : فلقد رأيت الماء وهو ينبع من بين أصابعه ولم يزل النّاس يردون حتى رووا ، وروى أنّ عدد الواردين كان ما بين السّبعين الى الثّمانين ، ولا يخفى أنّ هذا أعجب وأعظم من انفجار العين لموسى (ع) بضربته العصا عليه وإشباع الخلق الكثير من الطّعام اليسير هذا أيضا مروىّ فى صور متعدّدة. منها ما روى انّه لما نزل قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال سيد المرسلين لامير المؤمنين (ع) : سوّ فخذ شاة فجئنى بعرّ أى قصعة من لبن وادع لى

١٧٢

بنى هاشم ففعل أمير المؤمنين (ع) ذلك ودعاهم ، وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتّى شبعوا ، وما كان يرى إلا أثر اصابعهم وشربوا من العرّ حتى اكتفوا واللّبن على حاله ، فأراد النّبيّ (ص) أن يدعوهم إلى الإسلام. قال ابو لهب : سحركم محمّد فقوموا قبل أن يدعوكم فقال النّبيّ لأمير المؤمنين على : افعل غدا مثل ما فعلت ففعل. فلمّا أراد النبي (ص) أن يدعوهم قال ابو لهب : مثل ما قال ، فقال النّبيّ (ص) لأمير المؤمنين (ع) افعل هذا مثل ما فعلت ففعل مثل ذلك فى اليوم الثّالث ، ودعاهم النّبيّ (ص) إلى الإسلام وقال : كلّ من آمن فالخلافة من بعدى له فما أجابه إلى ذلك أحد منهم ، فأظهر أمير المؤمنين كلمة الشهادة وفيه دليل على حقية إمامة أمير المؤمنين (ع) وبطلان المخالفين كما لا يخفى.

وتسبيح الحصى على ما روى أنّه (ص) أخذ كفّا من الحصى فسجن فى يده حتى سمع التسبيح ، وهى المعجزات الظّاهرة على يده أكثر من أن تحصى أى من الأمور الّتي من شأنها أن تعدّ وتحصى ومثل تسبيح العنب والرّمّان الّذين أكل النّبيّ منها حين مرض فاتاه جبرئيل بهما على طبق على ما روى عن ابى عبد الله الصادق عن ابيه الباقر (ع). وحركة الشّجر من شطّ الوادى إليه ، وشهادتها له بالنبوّة والرّسالة ، وشهادة الذئب بذلك ، وشهادة النّاقة عنده ببراءة صاحبها من السّرقة ، وقصة سؤال الظبية الّتي ربطها الأعرابى الاطلاق عنه ورجوعها إليه ، وكلام الذّراع لمسمومة ، او حنين الجذع من مفارقته (ص) عند صعوده على المنبر ، وإخباره عن المغيبات كمقتل الحسن والحسين (ع) ، وهدم الكعبة إلى غير ذلك من المعجزات المشهورة المسطورة فى الكتب المبسوطة عند المخالف والموافق.

وبالجملة أظهر النّبيّ (ص) تلك المعجزات وادّعى النّبوّة وكلّ من ادّعى النّبوّة وأظهر المعجزة فهو رسول الله وصادق فى دعوى النبوة ، فكان (ص) صادقا فى دعوى النّبوّة والرّسالة. أمّا الصّغرى فدعوى النّبوّة معلومة بالتواتر الملحق بالمعاينة وإظهار المعجزة بوجهين :

١٧٣

أحدهما ، أنّه قد نقل عنه من إظهار المعجزات ما بلغ القدر المشترك منه حدّ التواتر ، وإن كان تفاصيلها آحاد كما فى وجود حاتم ، وكلام المصنف إنّما يلائم هذا الوجه كما لا يخفى.

وثانيهما ، أنّه أتى بالقرآن وتحدّى به البلغاء والفصحاء من العرب العرباء ، فعجزوا عن الإتيان بمقدار ، أقصر سورة منه مع كثرتهم وعصبتهم وتهالكهم على ذلك حتى أعرضوا عن المعارضة بالحروف إلى المنازعة بالسّيوف ولم ينقل عن أحد منهم مع توفّر الدّواعى الإتيان بشيء يدانيه ، فدلّ ذلك قطعا على أنّه من عند الله ، وعلم به كونه معجزة علما عاديا لا يقدح فيه شيء من الاحتمالات العقليّة ، سواء كان إعجازه لبلاغته كما ذهبوا إليه الجمهور ، أو لا سلوبه الغريب ونظمه العجيب على ما اختاره بعض المعتزلة ، أو لاجتماعهما على ما قيل ، أو للصرفة إمّا بسلب قدرتهم عند المعارضة كما اختاره السيّد المرتضى ، أو بصرف دواعيهم إلى المعارضة عنها مع قدرتهم كما ذهب إليه بعض المعتزلة ، أو لاشتماله على الإخبار عن المغيبات على ما هو المختار عند بعض ، أو لخلوّه عن الاختلاف والتّناقض على ما هو المختار عند بعض آخر. وأمّا الكبرى فلانّ المعجزة تدلّ على تصديق الله تعالى لمن أظهرها ، وكلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق وإلّا لزم إغراء المكلّفين بالقبيح وهو تصديق الكاذب ، واللّازم باطل فالملزوم مثله ، أما الملازمة فظاهر ، وأمّا بطلان اللّازم فلأنّ الإغراء بالقبيح عقلا قبيح ، والقبيح محال عليه تعالى لما مرّ ، فيكون الإغراء بالقبيح منه محالا قطعا.

المبحث الثّاني من المباحث الخمسة فى وجوب عصمته أى فى بيان أنّ النّبيّ (ص) يجب أن يكون معصوما عن جميع المعاصى ما دام نبيّنا أو فى الجملة ، ليظهر فائدة المبحث الثّالث بعد هذا المبحث. والضّمير إمّا عائد إلى نبيّنا أو إلى مطلق النّبيّ (ع) لاشتراك ما ذكر من الدّليل. وفيه ردّ على الفرقة المخالفين. فإنّ الخوارج جوّزوا مطلق الذّنوب على الأنبياء مع قول بعضهم بأنّ كلّ ذنب كفر وعامة المخالفين جوّزوا الصّغائر الغير الخسيسة عليهم سهوا ، وجوّز الجمهور تلك الصّغائر عمدا والكبائر الّتي من غير الكذب فى أحكام الشّرع سهوا ، وبعضهم جوّز تلك الكبائر مطلقا ، ومنهم

١٧٤

من جوّز الكذب فى أحكام الشّرع أيضا سهوا. ولمّا توقّف تقرير الدّليل على تحرير الدّعوى فسّر العصمة بقوله :

العصمة عن المحقّقين لطف أى شيء يقرّب العبد إلى الطّاعة ويبعّده عن المعصية يفعله الله تعالى بالمكلّف ويوجده فيه أى ملكة خلقها الله فيه لطفا بحيث لا يكون له داع يفضى إلى ترك الطّاعة وارتكاب المعصية أى لا يترك طاعة ولا يرتكب معصية أصلا مع قدرته على ذلك المذكور من ترك الطّاعة وارتكاب المعصية. وهذا معنى قولهم : هى لطف من الله يحمله على فعل الخير ويزجره عن فعل الشّرّ مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء وفيه إشارة إلى ردّ ما قيل فى تفسير العصمة إلى انّها خاصّة فى نفس الشّخص أو فى بدنه يمتنع بسببها صدور الذّنب عنه ، كيف ولو كان الذّنب ممتنعا عن المعصوم لما صحّ تكليفه بترك الذّنب ولما كان مثابا عليه واللازم باطل اتّفاقا ، ويؤيّده قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، إلى غير ذلك من النّصوص.

وإذا عرفت هذا فنقول النّبيّ يجب عصمته عن جميع المعاصى عند أهل الحق لأنّه لو لا ذلك الوجوب لم يحصل الوثوق بقوله أى لجاز أن لا يحصل الوثوق والاعتماد على قول النّبيّ ، والتّالى باطل فالمقدّم مثله. أمّا الشّرطيّة فلأنّ انتفاء وجوب العصمة يستلزم جواز صدور المعصية وهو مستلزم لجواز عدم الوثوق. وأمّا بطلان التّالى فلأنّه حينئذ يحتمل أن يكون كاذبا فى أقواله ، وعلى هذا لا يحصل الانقياد فى أمره ونهيه ، فينتفى فائدة البعثة وهى اجراء الأحكام الشّرعيّة وهو أى انتفاء فائدة البعثة محال لاستلزامه العبث الممتنع عليه تعالى لكونه قبيحا.

وأورد عليه أنّ صدور الذّنب عن النّبيّ (ص) سيّما الصّغيرة سهوا لا يخلّ بالوثوق بقوله بل إنّما يخلّ بذلك صدور الكذب فيما يتعلّق بالأحكام الشّرعيّة ، ضرورة أنّه يبطل دلالة المعجزة فلا يثبت وجوب العصمة عن جميع المعاصى وهو المطلوب.

١٧٥

أقول المراد من الوثوق الوثوق التّام الزّاجر المانع عن متابعة مشتهيات النّفس ، ضرورة أنّ فائدة البعثة والتّكليف إنّما يبتنى على ذلك ، ولا يخفى على المتأمّل المنصف انّ صدور ذنب ما بل جواز صدوره عنه يستلزم احتمال صدور الكذب فى الأحكام الشّرعيّة عند العقل ، فيحيل الوثوق ، فلا يحصل ذلك الوثوق التّام إلّا اذا وجب الاجتناب عن المعاصى كلّها. نعم يتّجه انّ اللّازم مما ذكر وجوب الاجتناب عن المعاصى لا وجوب ملكة الاجتناب عنها ، والمدّعى وجوب العصمة الّتي هى ملكة الاجتناب عنها على أنّ المخلّ بالوثوق إنّما هو ظهور المعصية لا صدورها والكلام فى صدور المعصية لا فى ظهورها فليتأمّل.

المبحث الثّالث فى أنّه أى نبيّنا (ص) أو مطلق النّبيّ (ع) معصوم من أوّل عمره إلى آخره قبل البعثة وبعدها عن جميع أنواع المعاصى عمدا وسهوا خلافا لجمهور المتكلمين من الخوارج القائلين بجواز الكفر عليه قبل البعثة وبعدها ، وغيرهم ممّن جوّز صدور الكبائر والصّغائر عمدا وسهوا قبل البعثة ، وذلك لعدم انقياد القلوب إلى طاعة من عهد أى علم منه فى سالف عمره أى قبل البعثة شيء من أنواع المعاصى والكبائر وما تنقر النّفس منه من الصّغائر الخسيسة كسرقة لقمة وتطفيف حبّة ولا يخفى انّ ذكر الكبائر هذه والصّغائر بعد المعاصى تخصيص بعد تعميم لكونها أقوى المعاصى وأبعدها من الصّدور عن الأنبياء ، ولهذا اتّفق جمهور المخالفين على امتناع صدورها عنهم بعد البعثة. والحق أنّ صدور المعاصى عنهم قبل البعثة كصدورها عنهم بعدها موجب لعدم إطاعتهم وعدم انقياد أمرهم ونهيهم فينتفى فائدة البعثة كما عرفت آنفا.

وأنت خبير بأنّ هذا الدّليل راجع إلى الدّليل المتقدّم فالكلام فيه كالكلام فى ذلك ، ولا يثبت عصمة الأنبياء عن جميع المعاصى مطلقا. فما ورد فى الكتاب والسّنّة مما يوهم صدور معصية عنهم فمحمول على ترك الأولى بناء على ما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقرّبين أو ما دل بوجه آخر كما حقّقه سيد المرتضى فى تنزيه الأنبياء وغيره فى غيره.

١٧٦

المبحث الرابع فى تفضيل النّبيّ (ص) على غيره ممن بعث إليه يجب أن يكون النّبيّ (ص) أفضل أهل زمانه المبعوث هو إليهم أى أعلم وأكمل منهم ، لأنّه لو لم يكن أفضل منهم لكان إمّا مساويا أو مفضولا لهم وكلاهما باطلان ، الأوّل لامتناع الترجيح من غير مرجّح ، والثّاني لقبح تقديم المفضول النّاقص على الفاضل الكامل عقلا وسمعا. أمّا عقلا فظاهر وأمّا سمعا فلأنّه قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ومن البيّن انّ هذا الاستفهام التّقريرىّ يدلّ على قبح تقديم المفضول على الفاضل سمعا بل عقلا أيضا. وكان الأفضليّة هاهنا ليست بمعنى الأفضليّة فى قولهم : الأنبياء أفضل من الملائكة لكونها بمعنى اكثرية الثّواب عند الله ، بخلاف ما نحن فيه لكونها بمعنى الأكمليّة وهو المراد من أفضليّة الإمام من الرّعية على ما سيجيء وان كانت أكثريّة الثّواب ثابتة للنّبىّ والإمام أيضا.

المبحث الخامس فى تنزيه النّبيّ (ص) يجب أن يكون النّبيّ (ص) منزّها عن جميع ما يوجب التنزّه عنه سواء كان فيما يتعلّق به مثل عن دناءة الاباء لكفر أو بدعة أو صنعة دنيّة كالحياكة وعهر الأمّهات أى زنائهنّ كما روى عن النّبيّ (ص) : لم يزل ينقلنى الله من الأصلاب الطّاهرة إلى الأرحام الزّكيّة أو كان فى نفسه إمّا فى أحواله من الصّفات الخسيسة كالبول فى الطّريق والصّنائع الرّدية والرّذايل الخلقيّة ـ بالضمّ ـ أى الأخلاق الذّميمة ، كالفظاظة والغلظة والبخل والحسد وما أشبه ذلك ، وإمّا فى ذاته وخلقته من الأمراض المزمنة والعيوب الخلقيّة ـ بالكسر ـ الدّالة على خسّة صاحبها كالبرص والجذام والأبنة وما أشبه ذلك لما فى ذلك المذكور كلّه من النّقص الموجب لسقوط وقعه عن القلوب فيسقط محلّه ومنزلته أى وقعه وشأنه عن القلوب أى قلوب الأمّة فلا ينقادون لأوامره ونواهيه والمطلوب من البعثة خلافه أى خلاف ذلك السّقوط وهو ارتفاع وضع النّبيّ (ص) وعظم شأنه فى القلوب ، فيختلّ

١٧٧

بذلك أمر البعثة ، بل يجب أن يكون النّبيّ (ص) متّصفا بصفات الكمال من كمال العقل والذّكاء وقوّة الرّأى والتّدبير وفرط الشّجاعة والسّخاوة إلى غير ذلك ليحصل المطلوب من البعثة وتنظيم أمرها على ما ينبغى.

١٧٨

الفصل السّادس

من الفصول السبعة

فى

الإمامة

أى فى إثبات الإمامة للأئمة (ع) أو فى بيان أحكامها على قياس ما عرفت فى عنوان فصل النّبوّة وفيه خمسة مباحث :

المبحث الأوّل فى بيان وجوبها ، ولما توقّف معرفة وجوبها على معرفة مفهومها فسّرها بقولها الإمامة وهى فى الأصل بمعنى الايتمام والاقتداء ، ومنها الإمام لمن يؤتمّ به كالإزار لما يؤتزر به ، كذا فى الكشاف وفى العرف رئاسة عامّة بالنّسبة إلى جميع النّاس فى الدّين والدّنيا جميعا لشخص واحد من الأشخاص. فالرّياسة جنس شامل للمحدود وغيره ، وقيد العموم لإخراج الرّئاسة الخاصّة كالرّئاسة فى بعض النّواحى ، وإيراد الظرفين للتنبيه على أنّ المعتبر فى الإمامة هو الرّئاسة بحسب الدّين والدّنيا معا ، والقيد الأخير للتنبيه على أنّه لا بد أن يكون الإمام فى كلّ عصر واحدا متعدّدا. وأمّا ما قيل إنّ الرّئاسة جنس قريب والجنس البعيد هو النسبة المشتركة بين المقولات السّبع العرضيّة النّسبيّة ففيه نظر ، لأنّ كون النّسبة جنسا ممنوع ، لأنّ تلك المقولات أجناس عالية ، والنّسبة عرض عام لها على رأيهم ، ولو سلّم فكون النّسب من الأعراض النّسبيّة ممنوع ، ولو سلّم فكون

١٧٩

الرّئاسة جنسا قريبا ممنوع ، لجواز أن يكون جنسا متوسّطا ، وكذا ما قيل انّها بمنزلة الجنس محلّ نظر ، إذ الظّاهر انّ هذا التّعريف حدّ اسميّ للإمامة والرّئاسة جنس اسمي لها ، لكونها ماهيّة اعتبارية. وأمّا ما قيل انّ الظّرفين للاحتراز عن الرّئاسة العامّة فى أحدهما ففيه انّ الرّئاسة العامّة بهذا الوجه احتمال عقليّ لا يلتفت إلى الاحتراز عنه فى التعريفات. وما قيل انّ القيد الأخير يجوز أن يكون للاحتراز عن النّبوّة المشتركة كنبوّة موسى وهارون عليهما السّلام ـ أو عن رئاسة الامّة إذا عزلوا الإمام لفسقه ، يرد عليه انّه لا بدّ فى التّعريف من قيد آخر لإخراج النّبوّة مثل النّيابة عن النّبيّ كما هو المشهور ، وعلى هذا الاحاجة فى الاحتراز عن النّبوّة المشتركة إلى ذلك القيد. والقول بانّ المحدود هو الإمامة المطلقة الشّاملة للنّبوّة فلا حاجة إلى قيد النّيابة عن النّبيّ لإخراجها لا يساعده العرف المشهور وسوق الكلام فى هذا المقام ، مع أنّه لا حاجة حينئذ إلى اخراج النّبوّة المشتركة أيضا. وأمّا حديث رئاسة الأمّة عند عزل الإمام فكلام مبنىّ على رأى أهل السّنّة على وفق أئمّتهم الفاسقة الفاسدة.

وقد توهّم بعضهم أنّه لا بدّ فى التّعريف من قيد بحقّ الأصالة لإخراج رئاسة نائب فوّض الإمام إليه عموم الولاية ، وفيه أنّه إن اراد بعموم الولاية العموم المعتبر فى ذلك التّعريف فهو احتمال عقلىّ لا يقدح فى التعريفات ، وإن اراد العموم فى الجملة كعموم الولاية الثّابت للمجتهدين فلا شكّ انّ قيد العموم المذكور اخرج تلك الرّئاسة ، على أنّ قيد النّيابة عن النّبيّ (ص) كاف فى إخراجها على التّقديرين كما لا يخفى.

وهى أى الإمامة واجبة عقلا. اختلفوا فى أنّ نصب الامام بعد انقراض زمن النّبوّة واجب أولا وعلى تقدير وجوبه واجب على الله أو على العباد وإمّا عقلا أو سمعا ، فذهب أهل الحقّ إلى أنّه واجب على الله تعالى عقلا ، ووافقهم الاسماعيليّة إلّا أنّ أهل الحق يوجبون عليه تعالى لحفظ قواعد الشّرع والاسماعيليّة ليكون معرّ فالذات الله وصفاته بناء على ما هو مذهبهم من أنّه لا بدّ فى معرفته تعالى من معلّم. وذهب أهل السّنّة إلى أنّه واجب على العباد سمعا ، واكثر المعتزلة والزّيديّة إلى وجوبه عليهم عقلا وقيل عقلا وسمعا معا ، وذهب الخوارج إلى عدم وجوبه مطلقا ، وقيل يجب عند الخوف لا مع الأمن وقيل بالعكس.

١٨٠