الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

المستقبل ، أو للتأبيد فى الدّنيا بدليل قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) أى الموت ، لأنّهم يتمنّونه فى الآخرة للتّخلّص عن العذاب ، وقوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) لأنّ حتّى يدلّ على الانتهاء وهو ينافى التأبيد المطلق.

اقول : إذا أثبتنا أنّ كلمة لن للتأبيد مطلقا بالنّقل عن أهل اللّغة ، فالظاهر أنّها فى الآيتين المذكورتين وأمثالهما محمولة على المجاز ، وهذا القدر كاف فى هذا المقام إذ المقصود تأييد الدّليل العقلى بالدّليل النّقلى ، وإلّا فالمطلب يقينىّ والدّلائل النّقليّة فى الأكثر ظنّيات.

فالأولى فى تقرير الاعتراض أن يقال : أهل اللّغة اختلفوا فى كلمة لن فقال بعضهم للتأبيد مطلقا ، وبعضهم انّها للتأبيد فى الدّنيا ، وقيل هو الحقّ وبعضهم للتأكيد فى المستقبل ، وقال بعضهم لا دلالة لها على التّأبيد ولا على التّأكيد أصلا فلا يثبت كونها للتّأبيد مطلقا ، ولو سلّم فلا يدلّ تأبيد النّفى مطلقا على الاستحالة ، والمدّعى استحالة الرّؤية البصريّة. اللهم إلّا أن يستند بالإجماع المركّب وفيه ما فيه.

والحقّ أنّ كلمة لن فى هذه الآية لتأبيد نفى الرّؤية بل لامتناعها بقرينة ما بعدها أعنى قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الآية ، لأنّ حاصله بحسب الظّاهر استدلال على ذلك بأنّ رؤية موسى (ع) يستلزم استقرار الجبل فى حال التجلّى ، واللّازم محال فالملزوم مثله. نعم يمكن جعل هذا الاستدلال أيضا دليلا على امتناع رؤيته على ما لا يخفى. وأيضا هذا الكلام يدلّ على أنّ الجبل مع عظم جسامته وغاية صلابته لا يقدر على ورود التّجلّى عليه بل يضمحلّ ويصير كأنّ لم يكن شيئا مذكورا ، فكيف يقدر موسى (ع) على رؤيته بالبصر. وربما يفهم من سياق هذا الكلام بحسب الظّاهر أنّ المراد استحالة الرّؤية البصريّة لا انتفائها فى الجملة كما لا يخفى على المنصف المتفطّن فى معرفة أساليب التّراكيب.

واحتجّ المخالف بتلك الآية على إمكان الرّؤية البصريّة من وجهين :

أحدهما أنّ موسى (ع) سأل الرّؤية حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)

١٤١

ولو امتنعت لما سألها ، لانه لو علم امتناعها كان سؤالها منه عبثا لا يصدر عن العاقل فضلا عن النّبيّ الكامل ، ضرورة انّ طلب المحال عبث ، ولو لم يعلم امتناعها لم يصحّ كونه نبيّا كليما ، بل لم يصلح للنّبوّة ، إذ المقصود من البعثة هو الدّعوة ، إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة.

وثانيهما أنّ قوله تعالى. (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) تعليق للرّؤية البصريّة على استقرار الجبل ، ولا شك انّ استقراره أمر ممكن ، والمتعلّق على الممكن ممكن لأنّ معنى التّعليق انّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير الممكنة ، وفى كلا الوجهين نظر :

أمّا الأوّل فمن وجهين :

أحدهما انّا نختار الشّقّ الأوّل من التّرديد ، ونمنع كون السؤال عبثا لجواز أن يكون لاظهار امتناع الرّؤية على القوم على أبلغ وجه وآكد طريق ، أو لمزيد الاطمينان بتعاضد العقل والنّقل كما فى سؤال إبراهيم (ع) عن كيفية إحياء الموتى حيث قال : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

وثانيهما انّا نختار الشّقّ الثّاني ، ونمنع كون الجاهل ببعض الأحكام فى بعض الأوقات غير صالح للنّبوّة والتكليم ، إذ المقصود من البعثة هو الدّعوة إلى الأحكام الشّرعيّة على سبيل التّصريح بحسب تدريج نزول الوحى ، فيجوز أن لا يكون الأنبياء عالمين ببعضها فى بعض الأوقات حتّى نزول الوحى.

وأمّا الثّاني فمن وجهين أيضا :

أحدهما النّقض ، وهو أن يقال : لو صحّ هذا الدّليل لزم أن يكون عدم الواجب لذاته ممكنا ، ضرورة انّه يصحّ تعليق عدمه بعدم العقل الأوّل على رأى الفلاسفة ، وبعدم الصّفات الحقيقيّة على رأى الأشاعرة بأن يقال إنّ عدم العقل الأوّل ممكن قطعا ، وكذا عدم الصّفات الحقيقيّة على ما لا يخفى.

وثانيهما الحلّ ، وهو أن يقال : إن أريد بامكان المعلّق فى الآية إمكانه فى ذاته فمسلّم،

١٤٢

لكن لا نسلّم أن المعلّق على الممكن فى ذاته ممكن لجواز أن يكون الممكن فى ذاته محالا فى نفس الأمر ، والمحال فى نفس الأمر جاز أن يستلزم محالا كما انّ عدم العقل الأوّل يستلزم عدم الواجب لذاته. وإن أريد إمكان المعلّق عليه فى نفس الأمر فهو مسلّم ، لجواز ان يكون المعلّق عليه استقرار الجبل فى حالة التّجلّى الواقع بعد النّظر بدلالة ال فاء فى قوله تعالى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) ومن الجائز أن يكون استقرار الجبل فى تلك الحالة ممتنعا فى نفس الأمر لاقتضاء التّجلّى ذلك. ولقد بان من هذا البيان أنّ ما فى بعض الشروح من الاستدلال على استحالة رؤية البصريّة بذلك التعليق بناء على أنّ استقرار الجبل حال تحرّكه محال ، والمعلّق على المحال محال ضعيف جدّا كما لا يخفى.

وقد اعترض على الوجهين المذكورين بوجوه أخر لا نطول الكلام بايرادها.

الصّفة الخامسة من الصّفات السلبيّة نفى امكان الشّريك عنه أى كون إمكان الشّريك منفيا عنه تعالى ، بمعنى كونه تعالى بحيث لا يمكن له شريك وهو المقصود بالوحدانيّة الّتي هى أعظم أصول الدّين وحقيقة التّوحيد هى التصديق بأنّه تعالى واحد فى صفته كما انّه واحد فى ذاته ، وإلّا لكان الحكم بالوحدة لغوا ، وكأنّه المراد فى مثل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، والصّفة الّتي يعتبر الوحدة فيها فى الشّرع على ما يستفاد من كلام بعض المحقّقين ثلاث : الوجوب الذّاتي ، والخالقيّة أى الصّنع على وجه الكمال ، والقدرة التّامّة والمعبودية أى استحقاق العبادة. فالوحدانيّة. إمّا انتفاء الشّريك فى الوجوب الذّاتي وفى الصّنع على وجه القدرة التامّة ، أو فى استحقاق العبادة

والمخالف فى الأخير جمع المشركين من الوثنيّة وغيرهم ، وفى الأوّلين الثّنوية منهم المانويّة والدّيصانية والمجوس فإنّهم قالوا بوجود واجبين أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشّر إلّا انّ المجوس ذهبوا الى إنّ خالق الخير هو يزدان وخالق الشّرّ اهرمن أى الشّيطان. والمانويّة والدّيصانيّة إلى أن خالق الخير هو النّور وخالق الشّر هو الظلمة على ما يستفاد من شرح المواقف. والظاهر من عبارة الكتاب أن المراد هاهنا نفى الشّريك فى وجوب الوجود حيث قال فى تقرير الدّليل الثّاني : لاشتراك الواجبين فى

١٤٣

كونهما واجبى الوجود.

وأمّا نفى الشّريك فى الصّنع مع القدرة التّامّة فربما يستدل عليه بأنّه التّمانع على ما هو المتبادر منها ، إذ الظّاهر أنّ المراد يكون الآلهة فى السّماء والأرض كونها مؤثّرة فيهما صانعة لهما لا ممكنة فيهما.

وأمّا نفى الشّريك فى استحقاق العبادة ، وهو (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، فقد دلّ عليه الدّلائل السّمعيّة ، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السّلام فإنّ جميعهم كانوا يدعون المكلّفين أوّلا إلى هذا التّوحيد وينهونهم عن الاشتراك فى العبادة كما لا يخفى.

للسّمع يعنى انّ الدّليل على نفى الشّركة فى وجوب الوجود بمعنى أنّه لا يمكن أن يصدق مفهوم الواجب لذاته فى نفس الأمر إلّا على ذات واحدة سمعى وعقلى أمّا السّمعى فكقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) و (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، وغيرهما من الأدلّة السّمعيّة وإجماع الأنبياء. وفيه نظر ، لأنّ تلك الأدلّة لا يدلّ على نفى إمكان الشّريك فى وجوب الوجود صريحا على ما لا يخفى. وأمّا العقلى فكبرهان التمانع وغيره.

واعلم انّ هذا المطلب مما اتّفق عليه جمهور العقلاء من المتكلّمين والحكماء ولكلّ منهما أدلّة عقلية على ذلك. والمشهور منها بين المتكلّمين برهان التّمانع المشار إليه بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فأراد المصنّف بعد الإشارة إلى ادلّتهم السّمعيّة أن يشير إليه ، وإلى واحد من أدلّة الحكماء فقال :

وللتّمانع أى لإمكان التّمانع. وتقريره أنّه لو أمكن وجود واجبين لزم أن لا يمكن وجود العالم فضلا عن أن يوجد بالفعل فيفسد اى لم يكوّن ولم يوجد نظام عالم الوجود واللّازم باطل بديهة فالملزوم مثله. وبيان الملازمة انّه لو أمكن وجود العالم على تقدير إمكان تعدّد الواجب لا لأمكن بينهما تمانع وتخالف ، بأنّ يريد أحدهما وجود العالم والآخر عدمه معا ، لأن الإمكان مصحّح للقدرة واجتماع الإرادتين ممكن أيضا ، إنّما الممتنع اجتماع المرادين ، وحينئذ إمّا يحصل المرادان معا أو لا يحصل شيء منهما ، أو يحصل أحدهما دون الآخر ، والأوّل يستلزم اجتماع النّقيضين ، والثّاني ارتفاعهما مع عجز كليهما ، والثّالث

١٤٤

يستلزم عجز أحدهما ، والعجز دليل الإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج. فإمكان العالم على تقدير إمكان تعدّد الواجب يستلزم إمكان التّمانع المستلزم للمحال. ولا شكّ انّ إمكان المحال محال. وأيضا فعلى تقدير إمكان تعدّد الواجب يلزم أن لا يمكن العالم بل شيء من الأشياء حتى لا يمكن التّمانع المستلزم للمحال.

أقول : فيه بحث ، أمّا أوّلا فلأنّا لا نسلّم أنّ الإمكان مصحّح للقدرة على ما عرفت فى بحث القدرة. وأمّا ثانيا فلأنّ إمكان اجتماع الإرادتين ممكن ، لجواز أن يكون اجتماعهما ممتنعا لامتناع اجتماع المرادين. وأمّا ثالثا فلانا لا نسلّم أن العجز دليل الإمكان لأنّه إنّما يستلزم الاحتياج فى الإيجاد أو الإعدام ، وهو لا يستلزم الإمكان والإمكان لازم للاحتياج فى الوجود وهو غير لازم للعجز. اللهم إلّا أن يقال المدّعى نفى امكان واجبين قادرين على الكمال. وما قيل إنّ الاحتياج نقص يستحيل عليه بالإجماع القطعىّ ففيه أنّ الإجماع القطعى لو ثبت وروده هاهنا فإنّما هو استحالة النقص على هذا الواجب المحقّق الوجود لا على مطلق

الواجب. وأمّا رابعا فلأنّ هذا الدّليل لو صحّ بجميع مقدّماته لزم أن لا يوجد واجب أصلا ، لأنّه لو وجد واجب لزم أن لا يمكن وجود العالم وإلّا لأمكن أن يتعلّق ارادته بوجود العالم وعدمه معا بعين ما ذكر من الدّليل وذلك يستلزم إمكان المحال على الوجه المذكور بعينه وما هو جوابنا فهو جوابكم. وما قيل فى دفعه من أنّ تعلّق إرادة الواحد لوجود العالم وعدمه غير ممكن مردود بأنّه منع مشترك لا يقدح فى النّقص كما لا يخفى. وانت تعلم أنّه يندفع بذلك التقرير الّذي أوردناه فى الدّليل.

قال بعض المحقّقين بعد تسليم خلاصة تلك المقدّمات : أنّ قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ ، إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) حجّة إقناعيّة والملازمة ظنيّة عادية على ما هو اللائق بالخطابيّات فان العادة جارية بوجود التّمانع والتّغالب عند تعدّد الحاكم على ما أشرنا إليه فى قوله تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وإلّا فإن أريد الفساد بالفعل أى خروجهما عن هذا النّظام المشاهد فمجرّد التّعدد لا يستلزمه لجواز الاتّفاق على هذا النّظام ، وإن أريد إمكان الفساد بالفعل فلا دليل على انتفائه ، بل النّصوص شاهدة بطىّ السّماوات

١٤٥

ورفع هذا النّظام فيكون ممكنا لا محالة ، وذلك لأنّ المراد بفسادهما عدم تكوّنهما وعلى هذا يتمّ الملازمة وبطلان اللّازم قطعا كما عرفت ، ولا حاجة فى دفعه إلى أن يقال الآية محمولة على نفى تعدّد الواجب المؤثّر فى السّماء والأرض كما هو المتبادر من قوله فيهما والمراد بفسادهما عدم تكوّنهما ، وعلى هذا يكون الملازمة قطعيّة لأنّ وجود الآلهة المؤثّرة فيهما يستلزم إمكان التّمانع فى التّأثير وهو يستلزم امتناع تعدّد الواجب المؤثّر فيهما ، ويلزم منه عدم تكوّنهما قطعا ، ضرورة أنّ تاثير الواجبين فيهما لا يمكن أن يكون على سبيل التوارد ، فهو إمّا على سبيل الاجتماع أو التّوزيع فيلزم عدم تكوّن الكلّ أو البعض على تقدير انتفاء أحدهما ، لأنّه إمّا جزء علّة تامّة للكلّ أو علّة تامّة للجزء فيلزم فسادهما قطعا بمعنى عدم تكوّن هذا المجموع المشاهد كلّا أو بعضا ، لأنّه يتّجه على هذا التّقرير أنّ الظّاهر نفى تعدّد الواجب المؤثّر فى السّماء والأرض غير كاف فى التّوحيد المعتبر شرعا ، على أنّه لا يلزم من امتناع تعدّد الواجب المؤثّر انتفاء جزء العلّة أو علّة الجزء ، لجواز أن يكون امتناعه بأن لا يكون هناك إلّا واجب واحد مؤثّر فيهما ابتداء مع انّ المطلوب ذلك الامتناع ، فلا حاجة إلى بيان استلزامه لشيء آخر على ما لا يخفى ، فليتأمل فى هذا المقام جدّا. وفى هذا المقام أبحاث أخر يستدعى إيرادها رسالة مفردة والله ولىّ التّوفيق.

وأيضا لا يمكن أن يكون له تعالى شريك فى وجوب الوجود لاستلزامه أى إمكان الشّركة فى الوجوب التّركيب ، أى إمكان التّركيب الّذي قد ثبت فيما تقدّم استحالته عليه تعالى وفيه ما فيه. وذلك الاستلزام لاشتراك الواجبين على تقدير تعدّد الواجب فى كونهما واجبى الوجود ، أى فى وجوب الوجود الّذي هو الهيئة المشتركة بينهما على هذا التّقدير قطعا ، ولا شكّ أنّ التّشارك فى الماهيّة يستلزم الامتياز بتشخّص داخل فى هويّة كلّ واحد من المتشاركين فلا بدّ للواجبين من مائز أى مميّز داخل فى هويّتهما فيلزم على تقدير تعدّد الواجب تركيب كلّ واحد من الواجبين من الماهيّة المشتركة والمميّز.

وفيه نظر ، لأنّه إنّما يتم إذا كان الوجوب وجوديّا موجودا فى الخارج ، لأنّه

١٤٦

إذا كان وجوديّا امتنع أن يكون زائدا على الواجب لما تقرّر فى محلّه من أنّ الوجوب متقدّم على الوجود ، ولو كان زائدا على تقدير كونه وجوديّا يجب أن يكون متأخّرا عن الوجود ، ضرورة انّ الصّفات الوجوديّة متأخّرة عن وجود الموصوف ، فيلزم الدّور على تقدير تعدّد الواجب لا يمكن أن يكون الوجوب عين شيء منهما وإلّا لم يكن مشتركا بينهما ، فتعيّن أن يكون جزءا مشتركا بينهما ، فيلزم التّركيب قطعا. وأمّا إذا كان الوجوب أمرا عدميّا غير موجود فى الخارج فلا يتمّ الكلام ، لجواز أن يكون الصّفات العدميّة متقدّمة على وجود الموصوف كالإمكان والاحتياج إلى المؤثّر فى الممكنات فلا يلزم التّركيب على هذا التّقدير ، وإلّا لزم التّركيب على تقدير التوحيد أيضا لاشتراك الممكنات فى كثير من الصّفات كالوجود المطلق والشّيئيّة والامكان العام.

وقد أشار صاحب الواقف إلى هذا البحث قال : هذا الوجه مبنىّ على أن الوجوب وجودىّ فان تمّ لهم ذلك تمّ الدّست. ونحن نقول لا يتمّ الدّليل على هذا التّقدير أيضا ، لجواز أن يكون الوجوب المطلق وجوديّا زائدا على الواجب ذهنا ومتّحدا معه خارجا ، والوجوب الخاص عينه ذهنا وخارجا كما هو مذهب الحكماء فى الوجوب والوجود وغيرهما من الصّفات. وعلى هذا قياس ساير الكليّات الطبيعيّة العرضيّة الموجودة فى ضمن أفراده كالكاتب والضّاحك وغيرهما ، وحينئذ لا يلزم الدّور لأنّ تقدّم الوجوب على الوجود إنّما هو على تقدير مغايرتهما للّذات كما هو مذهب جمهور المتكلّمين. وأمّا على تقدير اتّحادهما معه فلا تقدّم هناك قطعا مع أنّ هذا الدّليل من أدلة الحكماء ولهذا بنى على كون المميّز داخلا فى الهويّة كما هو رأيهم. وأمّا على رأى المتكلّمين فيجوز أن يكون المميّز خارجا عنهما ، حتّى أنّهم قالوا بأنّ للواجب ماهيّة كلّية ولا يلزم التّركيب ، لأنّ التّشخّص خارج عن هويّته فليتأمّل جدّا.

وفى بعض الشروح أنّه لا يجوز أن يكون الواجب على تقدير اشتراك الواجبين فيه زائدا عليهما ، وإلّا لزم احتياج كلّ منهما إلى أمر زائد منفصل عنه وهو محال. ولا يخفى انه كلام خال عن التحصيل. وأنت تعلم أنّ هذا الدّليل كما يدلّ على نفى الشّريك فى

١٤٧

وجوب الوجود يدلّ على نفى المثل والنّدّ ، لأنّ المثل فى اصطلاح الحكماء والمتكلّمين هو المشارك فى تمام الماهيّة ، ولا شكّ انّ المشاركة فى الماهيّة يستلزم التّركيت ممّا به اشتراك وممّا به امتياز. والنّدّ أخصّ من المثل لأنّه المثل المناوى أى المخالف على ما قيل ، ونفى الأعمّ يستلزم نفى الأخصّ قطعا. فظاهر انّ ما فى بعض الشروح من أنّ نفى الشّريك يستلزم نفى المثل لأنّ المثل أخصّ من الشّريك فى تمام الحقيقة والنّدّ بمعنى المثل فاسد من وجهين فتوجّه.

ومن ادقّ ما استدلّ به على امتناع تعدّد الواجب لذاته ، أنّه لو تعدّد الواجب لكان مجموعهما ممكنا فلا بدّ من علّة فاعليّة مستقلّة لكن لا يمكن أن يكون تلك العلّة نفس المجموع لاستحالة كون الشيء علّة لنفسه ولا جزأ منه ولا خارجا عنه ، لأنّ فاعل الكلّ لا بدّ أن يكون فاعلا لجزء ما منه ، فيلزم كون الواجب معلولا لغيره وهو محال.

اقول : فيه نظر امّا أوّلا فلأنّه يجوز أن يكون مجموع الواجبين واجبا ، إذ الواجب الخارج عن القسمة على رأى الحكماء ما كان وجوده عين ذاته وعلى رأى المتكلّمين ما كان ذاته مقتضيا لوجوده اقتضاء تامّا ضروريّا ، وكلا المعنيين صادق على هذا المجموع قطعا ، واحتياجه إلى الجزء لا ينافى ذلك. وأمّا ما حقّق فى محلّه من أنّ لوازم الوجوب الذّاتي استحالة كون الواجب مركّبا فهو على تقدير تمامه مبنى على امتناع تعدّد الواجب ، فاثبات هذا بذلك دور. وأمّا ثانيا ، فلجواز أن يكون مجموع الواجبين ممكنا وعلّته أحدهما ، ولا يلزم أن يكون فاعل الكلّ فاعلا لجزئه وإنّما يلزم ذلك إذا كان إمكان الكلّ واحتياجه إلى الفاعل باعتبار جزء ما منه ، وأمّا إذا كان باعتبار نفسه من غير حاجة لشيء من الأجزاء إلى الفاعل كما فيما نحن فيه فلا على ما لا يخفى. وقد سمعت منافى أوائل الكتاب ما ينفعك فى هذا الباب.

الصّفة السّادسة من الصّفات السّلبيّة نفى المعانى والأحوال عنه أى كونه تعالى بحيث لا يثبت له شيء من المعانى والأحوال ، والمراد من المعانى الصّفات الوجوديّة الزّائدة على الذّات ، ومن الأحوال الصّفات الّتي هى غير موجودة ولا معدومة قائمة بموجود

١٤٨

على ما توهّمه مثبتوا الحال من المتكلّمين.

وتلخيص الكلام فى هذا المقام أنّ المختار عند أهل الحق وهو مذهب الحكماء أنّه ليس للواجب صفة موجودة زايدة على ذاته ، بل وجوده وساير صفاته عين ذاته ، بمعنى أنّ ما يترتّب فى الممكنات على صفة زايدة قائمة بها من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها يترتّب فى الواجب على ذاته المقدّسة ، خلافا للاشاعرة حيث قالوا جميعا بسبع صفات حقيقيّة له تعالى هى : العلم والقدرة والحياة والإرادة والسّمع والبصر والكلام ، وبعضهم بها مع التّكوين ولبعض المعتزلة حيث قالوا بأحوال خمسة له تعالى هى : العالميّة والقادريّة والحييّة والموجودية والألوهيّة ، ولبعض المتكلّمين من الأشاعرة والمعتزلة حيث قالوا بصفات وجوديّة أخرى كالبقاء والقدم واليد والوجه وغيرها.

والدّليل على نفى المعانى والاحوال عنه تعالى أنّه لو كان البارى تعالى قادرا بقدرة زايدة وعالما بعلم زائد وغير ذلك أى أو كان غير ذلك بأن يكون مريدا بإرادة زايدة أو قادرا بقادريّة زايدة وعالما بعالميّة زايدة وعلى هذا القياس فى ساير المعانى والاحوال لافتقر فى صفة من صفاته إلى ذلك المعنى المغاير له أى مثلا ، إذ المراد بالمعنى هاهنا أعمّ من الصّفة الموجودة والحال ليشتمل الأحوال أيضا ، ولا شك انّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن فيكون البارى تعالى ممكنا وقد ثبت وجوبه هذا خلف.

فلمّا كان ثبوت صفة زايدة من المعانى والأحوال له تعالى مستلزما للمحال وهو افتقاره فى صفته الى الغير المستلزم لإمكان الواجب كان ذلك الثّبوت محالا قطعا ، فظهر انّ هذا الدّليل كما يدلّ على نفى المعانى يدلّ على نفى الأحوال فلا حاجة إلى تخصيصه بنفى المعانى كما يوهمه لفظ المعنى فى نظم الدّليل وإثبات نفى الأحوال بدليل آخر وهو انّ ثبوت الأحوال من توابع ثبوت المعانى فيلزم نفيها من نفى المعانى كما فى بعض الشروح مع أنّ فيه ما لا يخفى.

واعلم انّ ذلك الدّليل أولى مما قيل أنّه لو كان له تعالى صفة زايدة وجوديّة ، فإن كانت واجبة لذاتها يلزم تعدّد الواجب ، وان كانت ممكنة فان كان موجدها ذاته تعالى

١٤٩

يلزم أن يكون شيء واحد فاعلا وقابلا ، وإن كان غير ذاته يلزم احتياج الواجب الى الغير ، واللّوازم كلّها باطلة وذلك لأنّه يرد عليه انّ امتناع كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا لو تم إنّما يتمّ إذا كان ذلك الشيء واحدا من كلّ وجه حتّى يكون فاعلا وقابلا من جهة واحدة وهو فيما نحن فيه ممنوع مع انّ الافتقار إلى الغير لازم على جميع التّقادير ، فلا حاجه إلى ذلك التّرديد والتفصيل. نعم يتّجه على الدّليلين انّهما مبنيّان على ثبوت المعنى المطلق له تعالى على ما سيجيء بيانه وسيأتى الكلام فيه تفصيلا.

الصفة السّابعة من الصفات السلبية أنّه تعالى غنىّ ، اى ليس بمحتاج إلى غيره أصلا لا فى وجوده ولا فى صفة من صفاته مطلقا ، وذلك لأنّ وجوب وجوده لما تقدّم من دليل إثبات الواجب من دون غيره لما سبق دليل نفى الشّركة فى وجوب الوجود يقتضي استغنائه أى الواجب تعالى عنه أى عن غيره وإلّا لكان ممكنا ، ضرورة أنّ الاحتياج إلى الغير ينافى وجوب الوجود وافتقار غيره إليه أى افتقار غير الواجب مطلقا إلى الواجب وإلّا لكان بعض أغياره واجبا ، ضرورة انّ الممكن لا بد له من الاستناد إلى الواجب ابتداء او بواسطة على ما سبق بيانه تفصيلا.

أقول : فيه نظر ، لأنّ الافتقار إلى الغير فى صفة غير الوجود لا ينافى الوجوب الذّاتي على أنّ الافتقار فى الوجود إلى الغير إنّما ينافى الوجوب الذّاتىّ لو استند ذلك الغير إليه على ما مرّت الإشارة إليه فليتأمّل.

وأنت تعلم أنّ بيان افتقار غير الواجب إليه زائد لا دخل له فى اثبات المدّعى إلّا أن يقال فيه إشارة إلى دليل آخر على ذلك المدّعى ، وتقريره أنّ افتقار غير الواجب إليه يستلزم عدم احتياجه إلى الغير وإلّا لزم الدّور على ما لا يخفى.

١٥٠

الفصل الرّابع

من الفصول السبعة

فى

العدل

وهو تنزّهه تعالى عن فعل القبيح والإخلال بالواجب ، ولا يخفى عليك أنّه فى الحقيقة من الصّفات السّلبيّة ، وكان الأظهر إدراجه فيها إلّا انّه قد جرت العادة بإفراده عنها فى البحث لكثرة مباحثة وعظم شأنه حتّى انّ المعتزلة سمّوا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد ، ولأنّ حاصله انّ الله تعالى يفعل الواجب ولا يفعل القبيح فهو راجع الى الأفعال الثّبوتيّة والسلبيّة وهى غير الصّفات الثّبوتيّة والسّلبيّة المذكورة ، ويؤيّده انّ صاحب التجريد عنون الفصل السّابق بإثبات الصّانع وصفاته وهذا الفصل بافعاله تعالى ، وفيه اى فى هذا الفصل مباحث ستة

المبحث الأوّل فيما يتوقّف عليه معرفة العدل من تقسيم الفعل إلى القبيح والحسن المنقسم إلى الواجب وغيره مع بيان أنّ الحسن والقبح عقليّان لا شرعيّان.

وتحقيق التقسيم أنّ الفعل الاختياري الصّادر بالاختيار عن أولى العلم سواء كان فعل الله تعالى أو فعل العبد ، وسواء كان من أفعال اللّسان أو الجنان أو الأركان إن تعلّق بفعله ذمّ يسمّى قبيحا ، وإن لم يتعلّق بفعله ذمّ يسمّى حسنا. وهو إمّا أن يتعلّق بفعله مدح

١٥١

أولا فالأوّل واجب أن تعلّق بتركه ذمّ وإلّا فمندوب ، والثانى مكروه إن تعلّق بتركه مدح وإلّا فمباح فافعال الله تعالى مطلقا والواجب والمندوب من أفعال العباد داخلة فى الحسن اتّفاقا وكذا المكروه والمباح على قول الأكثرين. وربما يقال إن تعلّق بفعله مدح فهو حسن كالواجب والمندوب ، وإن تعلق بفعله ذم فهو قبيح كالحرام ، وما لا يتعلق بفعله مدح ولا ذمّ كالمكروه والمباح خارج عنهما. وأمّا فعل النّائم والسّاهى وأفعال البهائم فلا يوصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، وفى افعال الصّبيان خلاف كذا فى شرح المواقف. ومن هاهنا تبيّن أنّ ما زعمه الأشاعرة انّه لا معنى لوجوب الشيء على الله تعالى توهّم فاسد للقطع باستحقاق ترك بعض الأفعال عند العقل الذّم سواء صدر من الله او من غيره.

ثمّ اختلف فى أنّ الحسن والقبح بالمعنيين المذكورين شرعيّان أو عقليّان ، فذهب المعتزلة إلى أنّهما عقليّان بمعنى أنّ الحاكم بهما العقل والفعل حسن أو قبيح فى نفسه إمّا لذاته أو لصفة حقيقيّة لازمة له أو لوجوده واعتبارات فيه على اختلاف فيما بينهم ، والشّرع كاشف ومبيّن للحسن والقبح الثّابتين له على احد الأنحاء الثّلاثة ، وليس له أن يعكس القضيّة بأنّ يحسّن ما قبّحه العقل ويقبّح ما حسّنه. نعم قد يبدل الجهة المحسّنة أو المقبّحة بحسب تبدّل الأشخاص والأوقات ويكشف الشّرع عن ذلك التبدّل كما فى صوره النّسخ. وقالت الأشاعرة لا حكم للعقل فى حسن الأشياء وقبحها بل الشّرع هو المثبت والمبيّن لهما فلا حسن ولا قبح قبل ورود الشّرع ، وله أن يعكس القضيّة فيصير الحسن قبيحا والقبيح حسنا كما فى النّسخ.

وللحسن والقبح معنيان آخران لا نزاع فى كونهما عقليّين : أحدهما كون الصّفة صفة الكمال وكون الصفة صفة النّقصان ، كما يقال العلم حسن أى صفة الكمال والجهل قبيح أى صفة النقصان. وثانيهما ملائمة الغرض ومنافرته ، يقال هذا حسن أى موافق للغرض وذاك قبيح أى مخالف له.

والمختار عند أهل الحق مذهب المعتزلة لقولهم ولهم فى إثبات ذلك وجوه كثيرة اشار المصنّف إلى اثنين منها. احدهما أنّه لو كان الحسن والقبح شرعيّين لما حكم العقل بهما مع

١٥٢

قطع النّظر عن ورود الشّرع قطعا ، لكنّ اللّازم باطل لأنّ العقل قاض اى حاكم بالضّرورة أى بالبديهة مع قطع النّظر عن ورود الشّرع أن اى بانّ من الأفعال الاختياريّة للعباد ما هو حسن كردّ الوديعة إلى صاحبها والإحسان أى الإنفاق على الفقراء والمساكين ، والصّدق النّافع فى الدّين والدّنيا ، وبعضها الأحسن ومنها أى الأفعال ما هو قبيح كالظّلم هو التّعدّى على الغير ، أو وضع شيء فى غير محلّه مطلقا والكذب الضّار فى الدّين والدّنيا. ولهذا أى لأنّ العقل يحكم بحسن بعض الأفعال وبقبح بعضها بالضرورة مع قطع النظر عن الشّرع حكم بهما أى بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها من نفى الشّرائع وأنكرها كالملاحدة هم الّذين مالوا عن الإسلام إلى الكفر ، وعن ظواهر النّصوص إلى بواطنها إسقاطا للأحكام الشّرعيّة ، وتخريبا للأركان الدّينيّة من الإلحاد وهو الميل والعدول وسمّوا باطنيّة أيضا لادعائهم أنّ النّصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلّا المعلّم ، بناء على ما زعموا أنّ النّظر الصحيح لا يفيد العلم المنجى من غير معلّم. وحكماء الهند هم جماعة من الحكماء مشهورون بإنكار الشّرائع والأديان ، فثبت أنّ العقل حاكم بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها مع قطع النّظر عن الشّرع ، والّا لما حكم بهما منكروه فقوله : ولهذا ... اشارة الى دليل قوله : العقل قاض بالضرورة على ما يدلّ عليه سياق الكلام ويقتضيه قوله : لهذا إذ المشهور فى مثله ان ما بعده إنّ لما قبله لمّ لما بعده وهو المطابق لكلام القوم فى تقرير هذا الدليل ، فجعله إشارة الى دليل على حدة على أصل الدّعوى كما يستفاد من كلام بعض الشارحين ليس على ما ينبغى. لكن يرد عليه أنّ حكم منكر الشّرع بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها لا يدلّ على كون العقل حاكما بالبديهة على ذلك ، اللهم إلّا أن يجعل قوله : بالضّرورة جهة للقضيّة لا إشارة إلى بداهة حكم العقل ويراد بحكم العقل بذلك حكمه به مع قطع النّظر عن الشّرع.

ثمّ أقول هذا الدّليل إنّما يدلّ على أنّه ليس جميع أفراد الحسن والقبح شرعيّة بمعنى رفع الإيجاب الكلّى لا على أنّه لا شيء من أفرادهما شرعيّا بمعنى السّلب الكلّى ،

١٥٣

لأنّ حكم العقل مع قطع النّظر عن الشّرع لا يجرى فى جميعها ، حيث قالوا إنّ حكم العقل بالحسن والقبح قد يكون ضروريّا من غير ملاحظة الشّرع كحسن الصّدق الضّار وقبح الكذب النّافع. وقد يكون موقوفا على ملاحظة الشّرع بمعنى أنّه لما ورد الشّرع بحسن شيء أو قبحه علم انّ هناك جهة عقليّة للحسن أو القبح كحسن صوم آخر رمضان وقبح صوم أوّل شوّال ، فحكم العقل بالحسن والقبح فى هذا القسم موقوف على كشف الشّرع عنهما ، وفى القسمين الأوّلين مؤيّد به. وبالجملة المدّعى أنّ الحسن والقبح عقليان بمعنى الإيجاب الكلّى والدّليل إنّما ينتهض على أنّهما عقليّان فى الجملة بمعنى الإيجاب الجزئىّ فلا يتمّ التّقريب. اللهم إلّا أن يقال اذا بطل كون جميع افراد الحسن والقبح شرعيّة ثبت كون جميعها عقليّة بناء على أنّه لا قائل بالفصل ، وفيه ما فيه مع أنّه ينافى ما صرّحوا به من أنّ هذا الدّليل من الأدلّة التحقيقيّة لهم على هذا المطلب.

وقد أجيب عن ذلك الدّليل بأنّ العقل إنّما يحكم بالحسن والقبح فى الصّورة المذكورة بمعنى ملائمة الغرض ومنافرته أو الكون صفة كمال والكون صفة نقص لا بالمعنى المتنازع فيه.

أقول العقل كما يحكم بحسن الصّدق النّافع وقبح الكذب الضّارّ مثلا بالمعنيين الأوّلين من غير ملاحظة الشّرع ، كذلك يحكم بهما بالمعنى المتنازع فيه من غير ملاحظته بل مع إنكاره أيضا ، ومنع ذلك مكابرة غير مسموعة كما لا يخفى على من له أدنى إنصاف. وثانيهما ما يدلّ عليه قوله : ولأنّهما أى الحسن والقبح وهو عطف على ما يفهم من فحوى الكلام كأنّه قال الحسن والقبح عقليّان لأنّ العقل قاض بالضّرورة ... ولأنّهما وقال : ولو انتفيا عقلا لكان أخصر وأظهر أى لو انتفى الحسن والقبح فى العقل أى كونهما عقليّين لانتفيا سمعا أى فى السّمع أى انتفى كونهما شرعيّين أيضا واللّازم باطل فالملزوم مثله. أمّا الملازمة فلأنّ الشّرع إنّما يدلّ على الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتبار دلالته على الاخبار عنهما صريحا أو ضمنا فى ضمن الأمر والنّهى وقبح الكذب وتنزّه الشّارع عن القبيح ، ولو لم يكن الحسن والقبح عقليّين لم تثبت المقدّمة الثّانية لانتفاء

١٥٤

ثبوت قبح الكذب حينئذ أى حين اذ لم يكن الحسن والقبح عقليّين حال كون الكذب صادرا من الشّارع ، لا عقلا إذا المفروض خلافه ، ولا شرعا لأنّه لو كان ثبوت قبح الكذب بالشّرع الّذي يتوقّف دلالته على الحسن والقبح على ثبوت قبح الكذب لزم الدّور قطعا. وأمّا بطلان اللّازم فلاستلزامه انتفاء الحسن والقبح مطلقا وهو باطل بديهة واتّفاقا.

وأجيب عنه بأنّا لا نجعل الشّرع دليل الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح والقبح عبارة عن كون الفعل متعلّق النّهى والذّمّ أقول : يمكن دفعه بأنّ الحسن والقبح لو كانا شرعيّين بالمعنى المتنازع فيه لامتنع إثباتهما والعلم بهما ، لأنّ إثباتهما على هذا التّقدير إنّما يكون بالشّرع وقد عرفت ان إثباتهما بالشّرع يستلزم الدّور فيمتنع إثباتهما حينئذ مع اتّفاق المتخاصمين على إمكان اثباتهما ، فعلى هذا يبطل كونهما شرعيين ، والمفروض انّهما ليسا عقليين فيبطلان رأسا ، هذا خلف ، على أنّ قوله : بل نجعل الحسن عبارة ... لا يوافق تحرير محلّ النّزاع كما لا يخفى. نعم هذا الدّليل أيضا إنّما يدل على رفع الإيجاب الكلّى لا على سلب الكلّى الّذي هو المطلوب ، إلّا أن ينتهى الكلام على انّه لا قائل بالفصل فيكون من الأدلّة الإلزاميّة لهم على هذا المطلب من وجهين ، مع أنّ فيه ما أشرنا إليه فى صفة الصّدق من الصّفات الثّبوتيّة فليتأمّل.

المبحث الثّاني من المباحث الستة فى انّا فاعلون بالاختيار

اعلم انّهم اختلفوا فى أفعال العباد اختلافا عظيما ، فذهب جمهور المعتزلة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة العباد فقط على سبيل الاختيار ، والفلاسفة وامام الحرمين إلى أنّ المؤثّر فيها قدرتهم فقط لكن على سبيل الإيجاب وامتناع التّخلّف. والجبريّة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط من غير قدرة لهم اصلا ، واكثر الأشاعرة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط مع مقارنة قدرتهم من غير تأثير لها والاستاد إلى تأثير مجموع القدرتين فى أصل الفعل والقاضى إلى تأثير قدرة الله تعالى فى أصل الفعل وقدرة العبد فى وصفه مثل كونه طاعة ومعصية.

١٥٥

فالمذاهب فى افعال العباد ستّة وكذا الكلام فى أفعال ساير الحيوانات على التفصيل على ما قيل ، إلّا انّه قد جرت العادة بالبحث عن أفعال العباد لعدم جريان بعض الأدلّة فى غير المكلّف.

والمختار عند اهل الحق مذهب المعتزلة وهم فرقتان : إحداهما ذهبوا إلى أنّ أنّ الحكم بكون أفعال العباد صادرة عنهم بقدرتهم واختيارهم ضرورىّ لا يحتاج إلى دليل ، وقد نبّهوا عليه بأنّ بين حركة السّاقط والنّازل فرقا ضروريا يجده كلّ عاقل من نفسه بأن الأولى اضطراريّة والثّانية اختياريّة. وأخراهما ذهبوا إلى أنّ ذلك نظرىّ ، واستدلّوا عليه بوجوه والمصنف أشار إلى الأوّل بقوله الضّرورة أى البديهة قاضية اى حاكمة بذلك أى بأنّا فاعلون بمعنى أنّ أفعال العباد صادرة عنهم بقدرتهم واختيارهم للفرق الضّرورىّ أى البديهىّ بين سقوط الإنسان من سطح قهرا أو غفلة ونزوله بالاختيار منه على الدّرج أى الدّرجات الّتي بين السّطح والأرض كما فى السّلّم.

وأجيب عنه بأنّ الفرق الضّرورىّ بين الأفعال الاختياريّة وغير الاختياريّة إنّما هو بأن الأولى مقارنة للقدرة والاختيار ، والأخرى غير مقارنة ، لا بأنّ القدرة مؤثّرة فى إحداهما دون الأخرى.

اقول : فيه أنّ من أنصف من نفسه علم الفرق بينهما بأن القدرة مؤثّرة فى الأولى دون الأخرى ، ومنع ذلك مكابرة غير مسموعة. نعم يتّجه انّ الضّرورىّ هو الفرق بينهما بتأثير القدرة فى الاختياريّة دون غيرها ، وأمّا استقلال تأثير قدرة العبد فيها بالاختيار وهو المطلوب هاهنا على ما عرفت فليس بضرورىّ بل هو ممكن لا بدّ له من دليل ، لجواز أن يكون المؤثّر مجموع القدرتين كما هو مذهب الاستاد ، أو يكون المؤثّر قدرة العبد فقط على سبيل الإيجاب كما هو مذهب الفلاسفة. اللهم إلّا أن يقال المقصود هاهنا بيان مدخليّة قدرة العبد فى الجملة فى بعض أفعاله ردّ المذهب الأشاعرة والجبريّة لا بيان خصوص مذهب الحقّ وفيه ما فيه.

واعلم إنّ القول بتأثير قدرة العبد فقط فى أفعاله الاختياريّة على ما هو مذهب اهل الحقّ

١٥٦

وغيرهم ينافى ما تقرّر عندهم انّ قدرة الله تعالى شاملة لجميع الممكنات على ما سبق بيانه ، لأنّ الأفعال الاختياريّة ممكنات قطعا إلّا أن يقال المراد بتأثير قدرة العبد فيها تأثيرها فى وجودها بالفعل بانضمام الإرادة ، والمراد بشمول قدرته تعالى للممكنات تأثيرها فى صحّة وجودها وعدمها كما مرّت الإشارة إليه ، فلا منافاة. وأشار إلى بعض وجوه الفرقة الثانية بقوله : ولامتنع وهو جزاء لشرط محذوف أى لو لم يكن أفعالنا صادرة عنّا باختيارنا لامتنع تكليفنا بشيء من الأفعال ، ضرورة أنّ تكليف العبد بما لا يكون مستقلّا فى إيجاده بالقدرة والاختيار غير معقول ، وإذا امتنع التّكليف فلا عصيان ولا طاعة ، بل لا ثواب ولا عقاب ، ولا فائدة فى بعثة الأنبياء واللّوازم كلها باطلة إجماعا فكذا الملزوم.

وأجيب عنه بأنّ تكليف العباد باعتبار أنّ لهم قدرة على الأفعال فيصرفون قدرتهم إليها وإن لم يكن لقدرتهم تأثير فيها ، بل يؤثّر قدرة الله فيها عقيب صرفهم القدرة إليها ، فمدار الطّاعة والعصيان والثّواب والعقاب وبعثة الأنبياء على ذلك الصّرف ، وهذا هو المسمّى بالكسب الواقع من العبد فى مقابلة الخلق الواقع من الله تعالى.

أقول : هذا ليس بشيء ، إذ من البيّن المكشوف أنّه لا يكفى فى التّكليف مجرّد تحقّق القدرة ، بل لا بدّ أن يكون لها تأثير فى المكلّف به ، لأنّ صرف القدرة الّتي ليس من شأنها التأثير سيّما مع العلم بعدم تأثيرها كما فى الأفعال الاختياريّة الصّادرة عن بعض المخالفين لا يصلح أن يتعلّق به التّكليف وفروعه قطعا ، على أنّ صرف القدرة إن كان فعلا اختياريّا فلا فايدة للعدول عن اصل الفعل إليه بل الكلام فيه كالكلام فى ذلك ، وإن لم يكن اختياريا لم يصحّ جعل التّكليف باعتباره ، ضرورة أنّ التّكليف لغير الفعل الاختياري غير معقول ، مع أنّه على هذا يلزم الجبر لأنّ ما عدا الأفعال الاختياريّة مقدور الله تعالى فقط بالاتّفاق ، ومن ثمّ اشتهر أنّه لا معنى لحال البهشمى وكسب الأشعرى.

لا يقال : يلزم الجبر على تقدير تأثير قدرة العبد أيضا ، ضرورة أنّ قدرة العبد وإرادته مقدورتان مخلوقتان لله تعالى فقط اتّفاقا.

لأنّا نقول : نعم لكن تأثيرهما وصرفهما إلى الفعل من العبد وقدرته فليتأمّل فى هذا

١٥٧

المقام فإنّه من غوامض علم الكلام. ثمّ يتّجه على هذا الدّليل مثل ما يتّجه على الدّليل الأوّل فلا تغفل.

ومن أوهام الأشاعرة فى ردّ هذا الدّليل نقضا أو معارضة أنّ الله تعالى عالم بأفعال العباد وجودا وعدما ، ولا شكّ انّ ما تعلّق علمه تعالى بوجوده فهو واجب الصّدور عنهم ، وما تعلّق علمه بعدمه فهو ممتنع الصّدور عنهم ، فيبطل اختيارهم فى أفعالهم قطعا ، اذ لا قدرة على الواجب والممتنع وعلى هذا يبطل التّكليف وما يتفرّع عليه لابتنائهما على القدرة والاختيار بالاستقلال على ما يقتضيه ذلك الدّليل فما لزمنا فى مسئلة خلق الأعمال فقد لزمكم فى مسئلة علم الله تعالى بالأشياء. واستصعبوا هذا الأشكال حتّى قال بعض أئمّتهم لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، ولا يذهب عليك أنّه ليس بشيء لأنّ العلم تابع للمعلوم دون العكس ، فلا يدخل لعلمه تعالى فى وجوب الفعل وامتناعه على أنّ وجوب الفعل أو امتناعه لغيره لا ينافى تعلّق القدرة كما مرّ فى بحث العلم.

وأيضا لو تمّ ذلك لزم أن لا يكون الله فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله أيضا وجودا وعدما ، على أنّه يلزم حينئذ بطلان مذهبهم أيضا وهو أنّ للعباد اختيارا فى افعالهم بلا تاثير له فيها وذلك لأنّهم قائلون بعموم علمه تعالى على ما لا يخفى.

وأيضا لو لم يكن أفعالنا صادرة عنّا باختيارنا لامتنع تعذيبنا على شيء من الأفعال لقبح أن يخلق الله تعالى الفعل ثمّ يعذّبنا عليه أى لقبح تعذيبه على ما خلقه فينا بالضّرورة ، ولا شكّ أنّه تعالى منزّه عن القبائح كما سيجيء ، واللّازم باطل إجماعا فالملزوم مثله. وأنت تعلم أنّ هذا الدّليل قريب إلى الدليل السّابق ومثله فى الأبحاث المذكورة فيه كما لا يخفى وأنّ قوله : لقبح عطف على ما يفهم من فحوى الكلام على ما مرّ شرحه غير مرّة فلا تغفل.

وأيضا أفعال العباد صادرة عنهم باختيارهم للسّمع أى للادلّة السّمعيّة الدّالة على ذلك كقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وقوله تعالى :

١٥٨

(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وقوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وقوله تعالى : (الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) الى غير ذلك مما لا يعدّ ولا يحصى لدلالتها بحسب الظّاهر على ما هو المطلوب وفيه ما فيه فليتدبّر.

ثمّ هذه النّصوص معارضة بأمثالها كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وقوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) وغير ذلك. وأنت تعلم أنّ ظواهر النّصوص إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا فى المطالب اليقينيّة ، بل وجب الرّجوع إلى غيرها من الدّلائل القطعيّة ، لكن ما أوردنا من الأدلّة العقليّة القطعيّة ترجّح ما يوافقها من الأدلّة السّمعيّة ، كما انّ هذه الادلّة السّمعيّة يؤيّد تلك الأدلّة العقليّة.

البحث الثالث فى استحالة طريان القبح وهو ما يذمّ فاعله عند العقل على ما عرفت ويندرج فيه الإخلال بالواجب ، ضرورة أنّه يوجب استحقاق فاعله للذّم عند العقل عليه تعالى.

قد اجتمعت الأمّة على انّه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الواجب ، لكن الأشاعرة من جهة أنّه لا قبيح منه ولا واجب عليه ، ولذلك أسندوا خلق جميع الأفعال إليه تعالى سواء كانت حسنة أو قبيحة ، والمعتزلة من جهة أنّه يترك القبيح ويفعل الواجب ، وهذا الخلاف مبنىّ على الخلاف فى أنّ الحسن والقبح عقليّان أو شرعيّان.

والمختار عند أهل الحق مذهب المعتزلة. وقد استدلّوا عليه بأنّ الممكن لا يوجد إلّا عند وجود المقتضى وارتفاع الموانع فيمتنع وجوده عند ارتفاع المقتضى أو وجود المانع قطعا ، والقبيح بالنّسبة إليه تعالى لا مقتضى له اصلا وله مانع دائما ، فيستحيل عليه تعالى ضرورة وذلك لأنّ له تعالى صارفا أى مانعا عن فعل القبيح وهو القبح وعلمه تعالى به ولا داعى اى مقتضى له تعالى إليه لأنّه اى الداعى له تعالى إلى فعل القبيح إمّا داعى الحاجة اى داع هو حاجته تعالى إليه الممتنعة عليه تعالى

١٥٩

أى الحاجة الممتنعة طريانها عليه تعالى. وفيه اشارة الى بطلان هذا الشّقّ ، أى لا يجوز أن يكون ذلك الدّاعى حاجته تعالى إلى فعل القبيح لامتناع الحاجة عليه تعالى على ما سبق بيانه أو داعى الحكمة أى داع هو حكمته تعالى وعلمه بمصالح الأمور وهو أى داعى الحكمة أيضا منفىّ أى منتف هنا أى فى فعل القبيح ، ضرورة أنّه لا حكمة فى القبائح ، وفيه نظر فانظر ولأنّه لو جاز صدوره أى القبيح منه تعالى لامتنع إثبات النّبوّات أى النّبوّة وما يتفرّع عليها ، إذ يجوز حينئذ تصديق الكاذب فى دعوى النّبوّة منه تعالى مع كونه قبيحا فتبطل دلالة المعجزة عليها ، واللّازم باطل اتفاقا فالملزوم مثله ، واذا استحال عليه تعالى فعل القبيح مطلقا فحينئذ أى حين إذا كان الفعل مستحيلا عليه تعالى يستحيل عليه إرادة القبيح لأنّها قبيحة.

وفى هذا التّفريع تصريح بالرّدّ على الأشاعرة حيث ذهبوا الى أنّ القبيح كالحسن بإرادته تعالى ، بناء على أنّ إرادة القبيح منه كخلقه ليست قبيحة ، وفيه من المكابرة والعناد ما لا يخفى.

البحث الرابع فى أنّه تعالى يفعل أى يقع منه الفعل لغرض وباعث على ذلك الفعل وهو العلّة الغائية.

اختلفوا فى أنّ افعال الله تعالى هل هى معلّلة بالأغراض أولا؟ فذهبت المعتزلة إلى أنّه يجب تعليل أفعاله تعالى بالأغراض والعلل الغائية ، والأشاعرة إلى أنّه لا يجوز تعليل أفعاله بشيء منها ، وقال جماعة لا يجب ذلك لكن افعاله معللة بها تفضّلا وإحسانا ، والمختار عند أهل الحقّ مذهب المعتزلة وذلك لدلالة القرآن عليه أى على أنّه تعالى يفعل لغرض كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وغيره من الآيات الدّالة على تعليل أفعاله بالأغراض بحسب الظّاهر. وأنت تعلم انّ العدول عن الظّاهر فى الأدلّة النّقليّة غير قادح فى الاستدلال بها على ما لا يخفى. نعم يتّجه أنّ تلك الادلّة إنّما تدلّ على وقوع تعليل أفعاله تعالى فى الجملة بالأغراض لا على وجوب تعلّقها بها مطلقا وهو المذهب فتدبّر.

١٦٠