الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

كونه زائدا ، ضرورة انّ الوجود الخاصّ لا يختلف باختلاف الأزمان ، وذلك ينافى الوجود الذّاتي ، فثبت المنافات بين كون البقاء زائدا والوجوب الذّاتي ولا حاجة فى إثباتها إلى قوله : لأنّ الواجب لذاته موجود لذاته ، والموجود لذاته باق لذاته فيلزم الاستدراك.

ويمكن أن يقال : حاصل الجواب تغيير الدّليل على وجه يندفع الاعتراض فلا استدراك ، بقى انّ المنافى للوجوب الذّاتي هو الافتقار إلى غير لا يكون مستندا إلى الذّات. وأمّا الافتقار إلى ما يستند إليه فلا ينافى الوجوب الذّاتي على ما حقّقه بعض المحققين والبقاء على تقدير كونه زائدا يجوز أن يكون مستندا إلى الذّات على كلا التّفسيرين ، فلا يتمّ الدّليل الأوّل.

لا يقال : يتّجه على الدّليلين انّ البقاء على تقدير كونه وجودا فى الزّمان الثّاني إنّما يلزم من كونه زائدا افتقار الواجب فى وجوده فى الزّمان الثّاني إلى الغير ، وهو لا ينافى الوجوب الذّاتي إذ الواجب لذاته على ما خرج من القسمة ما يكون ذاته مقتضيا لوجوده مطلقا ، وهذا إنّما يستلزم الاستغناء فى مطلق الوجود المقيّد. وأيضا يجوز أن يكون مطلق الوجود عين الذّات ، والوجود المقيّد زائدا عليه.

لأنّا نقول : هذا من قبيل اشتباه المفهوم بما صدق عليه ، لأنّ الكلام فيما صدق عليه البقاء ، ولا شكّ انّ ما صدق عليه وجود خاص ، والوجود الخاصّ واحد لا يختلف باختلاف الزّمان ، فلو كان زائدا يلزم افتقار الواجب لذاته فى وجوده الخاصّ إلى الغير وهو مناف للوجوب الذّاتىّ ضرورة. وأيضا قد تقرّر أنّ الوجود الخاصّ للواجب لذاته عينه فكيف يكون ما صدق عليه البقاء زائدا عليه.

الصّفة السّابعة من الصفات الثبوتية أنّه تعالى متكلّم بالإجماع أجمع المسلمون على كونه تعالى متكلما ، لكن اختلفوا فى معنى كونه متكلما وقدم الكلام وحدوثه.

فقالت الاشاعرة كما انّ كلامه تعالى يطلق على الألفاظ المنظومة المترتّبة الّتي هى حادثة ويسمّى كلاما لفظيّا ، كذلك يطلق على معنى قائم بذاته يعبّر عنه بالعبارات

١٢١

المختلفة ، وهو مغاير للعلم والقدرة وساير الصّفات المشهورة قديم مثلها ، ويسمّى كلاما نفسيّا. ومعنى كونه متكلّما أنّه متّصف بالكلام النّفسىّ.

وقالت المعتزلة والكراميّة والحنابلة كلامه تعالى من الألفاظ والحروف المنظومة المترتّبة لا غير ، لكن المعتزلة والكراميّة قالوا بحدوثها والحنابلة بقدمها حتّى أنّهم بالغوا فقالوا بقدم الجلد والغلاف ، ويلزمهم القول بقدم المجلّد والكاتب وامثالها بطريق الأولى كما لا يخفى.

ومعنى كونه متكلّما عند المعتزلة كونه موجدا للكلام وعند الكراميّة والحنابلة كونه متّصفا به ، ومنشأ الخلاف فى القدم والحدوث أنّ هاهنا قياسين متعارضين :

أحدهما أنّ كلامه تعالى صفة له ، وكلّ ما هو صفة له فهو قديم ، فكلامه قديم.

وثانيهما أنّ كلامه مركّب من حروف مترتّبة متعاقبة فى الوجود ، وكلما هو كذلك فهو حادث ، فكلامه حادث.

فاختارت الأشاعرة والحنابلة القياس الأوّل ، واضطرّوا إلى القدح فى القياس الثّاني.

فمنعت الأشاعرة صغراه بناء على أنّ كلامه تعالى ليس مركّبا من الألفاظ والحروف ، بل هو معنى قائم به. ومنعت الحنابلة كبراه.

واختارت المعتزلة والكراميّة القياس الثّاني واضطرّوا إلى القدح فى القياس الأوّل ، فمنعت المعتزلة صغراه ، بناء على أنّ كلامه ليس صفة قائمة به ، بل بجسم من الأجسام ومنعت الكراميّة كبراه ، بناء على تجويزهم قيام الحوادث بذاته كذا قالوا.

وفيه نظر ، لأنّ القياسين ليسا متعارضين على رأى الأشاعرة فانّ المراد بالكلام فى القياس الأوّل عندهم غير ما هو المراد به فى القياس الثّاني ، إذا المراد به فى الأوّل هو الكلام النّفسىّ ، وفى الثّاني الكلام اللّفظي ، فلا تعارض بينهما ، بل هم قائلون بكلا القياسين. والنزاع بينهم وبين غيرهم راجع الى إثبات الكلام النّفسىّ ونفيه على ما لا يخفى.

ولا يذهب عليك أنّه يتّجه على القياس الأوّل أنّه إن أريد بالصّفة الصّفة الموجودة منعنا الصّغرى ، وإن أريد بها مطلق الصّفة منعنا الكبرى. لأنّه وإن لم يجز

١٢٢

قيام الحوادث به تعالى لكن يجوز أن تقوم به صفات اعتبارية متجدّدة اتّفاقا مثل كونه مع زيد وبعده. وأيضا للمعتزلة أن يمنعوا كبرى القياس الأوّل بناء على أنّهم جوّزوا كون صفاته تعالى حادثة من غير أن يكون قائمة به تعالى ، حيث قالوا فى إرادته تعالى انّها حادثة قائمة بذاتها لا بذاته على ما بيّن فى محلّه.

واعلم ، ان قوله بالاجماع إشارة الى أنّ طريق إثبات الكلام هو السّمع لا العقل على ما ذهب إليه جماعة. وتقريره أنّه اتّفق جميع المسلمين على أنّه تعالى متكلّم ، بل أجمع عليه كافة المليّين من الأوّلين والآخرين بحيث صار من ضروريات الدّين.

وربّما يستدلّ عليه بقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وبانّه قد تواتر وتوارث عن الأنبياء (ع) أنّه تعالى متكلّم ، وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقّف على ثبوت صفة الكلام حتّى يلزم الدّور ، وفى كلّ منهما كلام لا يخفى على ذوى الأفهام ، على أنّ صاحب التلويح صرّح بأنّ ثبوت الشّرع موقوف على أمور منها صفة الكلام وعلى هذا لا يصحّ اثبات الكلام بالسّمع كما لا يخفى.

وأمّا ما استدلّ به بعض المحقّقين من أنّ عموميّة القدرة يدلّ على ثبوت الكلام ففيه نظر ، لأنّ عموم قدرة الله تعالى بجميع الممكنات على تقدير تسليمه إنّما يدلّ على مقدوريّة الكلام لا على كونه متكلّما بالفعل وهو المطلوب.

ومنهم من تصدّى لاتمام الدّليل بضمّ مقدّمات فقال : لمّا ثبت أنّ قدرته تعالى عامّة شاملة لجميع الممكنات ، وخلق الألفاظ الدّالة على المعانى ممكن ثبت صحّة اتّصافه بالتّكلّم بمعنى خلق تلك الألفاظ. ولا شكّ أنّ عدم التّكلّم ممّن يصحّ اتّصافه به نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه ، وإن نوقش فى كونه نقصا سيّما إذا كان مع القدرة على التّكلّم كما فى السّكوت ولا خفاء فى انّ المتكلّم أكمل من غير المتكلّم ، ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، فثبت أنّه متكلّم بمعنى أنّه خالق للألفاظ الدّالة على المعانى وهو المطلوب.

اقول : فيه أنّه لو سلّم إمكان خلق الألفاظ من الله تعالى وكون المخلوق خالقها ، فلا نسلّم المتكلّم أكمل من غيره كما فى القيام والقعود وأمثالهما فليتأمّل.

١٢٣

وإذا تمهّد هذه المقدّمات فنقول :

الحقّ المختار عند الفرقة النّاجية مذهب المعتزلة وإلى هذا اشار بقوله : والمراد بالكلام المستند الى الله تعالى فى الشّرع الحروف لا معانيها كما هو المشهور عند الأشاعرة المسموعة لا المتخيّلة كما اختاره بعض المحقّقين فى تحقيق كلام الأشعرى وسيجيء بيانه. المنتظمة اى المرتّبة ترتيبا يدلّ على الحدوث لا كما زعمت الحنابلة من أنّ الحروف المسموعة قديمة ومعنى أنّه يوجد الكلام فى جسم من الأجسام كشجرة موسى (ع) او الملك او النّبي (ع) لا كما زعمت الأشاعرة من أنّ معنى كونه تعالى متكلّما بالكلام النفسي ، ولا كما زعمت الحنابلة والكراميّة من أن معنى كونه تعالى متكلّما أنّه متّصف بالكلام مع كونه عندهم عبارة عن تلك الحروف المسموعة المنظومة.

أمّا بيان أنّ كلامه تعالى تلك الحروف المذكورة الحادثة فمن وجوه :

منها أنّه علم بالضّرورة من الدّين أنّ كلام الله تعالى هو هذا المؤلّف المنتظم من الحروف المسموعة بحيث لا ينصرف الذّهن منه إلّا إليه.

ومنها أنّ كلامه تعالى لو كان أزليّا لزم الكذب فى أخباره الماضويّة كقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) و (قالَ مُوسى) وغيرهما.

ومنها أنّ كلامه تعالى يشتمل على أمر ونهى ونحوهما ، فلو كان أزليّا لزم الأمر بلا مأمور والنّهى بلا منهىّ وذلك سفه.

وأجيب عن الأوّل بأنّه لا نزاع فى إطلاق كلام الله على هذا المؤلّف الحادث وهو المتعارف عند عامّة القرّاء والفقهاء والاصوليّين ، إلّا انّه كما يطلق على هذا يطلق على المعنى النّفسىّ القائم بذاته تعالى وهو أزليّ ، وفيه ان النّفسانىّ غير معقول ، وسيأتى تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وعن الثّاني والثّالث بأنّ كلامه تعالى لم يتّصف فى الأزل بالماضى والحال والاستقبال والأمر والنّهى وغيرهما ، بل إنّما يتّصف بها فيما لا يزال بحسب التعلّقات.

١٢٤

وحاصله انّ المتّصف بها هو الكلام اللّفظى لا النّفسى المتعلّق به. وفيه انّ اتّصاف الكلام اللّفظى بتلك الصّفات يستلزم اتّصاف الكلام النّفسى الّذي هو مدلول كلام اللّفظي كما لا يخفى ، على أنّ المدّعى حدوث الكلام اللّفظى وأمّا انتفاء الكلام النّفسىّ فبنا على أنّ النّفسانى غير معقول. وأمّا انّ معنى كونه تعالى متكلّما كونه موجدا للكلام لا كونه متّصفا به فلامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

وتفسير الأشاعرة لكلام الله تعالى بالمعنى القائم بذاته تعالى المسمّى بالكلام النّفسى غير معقول ، أى غير متصوّر لأنّه غير العلم والقدرة والإرادة وساير الصّفات المشهورة ، وغير هذا الصّفات غير متصور ، فالكلام النّفسى غير متصوّر وما لا يكون متصورا لا يصحّ اثباته ، كذا قالوا.

وفيه انّ الكلام النّفسى وإن كان غير متصور بالكنه وبخصوصه لكنّه متصور بوجه ما ، والتّصور بوجه ما كاف فى الإثبات ، على انّ المطلوب نفى الثّبوت لا نفى الإثبات ، اللهم إلّا أن يقال المراد ما لا يكون متصورا بوجه ما لا يكون إثباته على تقدير وقوعه صحيحا صادقا لعدم ثبوته فى الواقع بناء على امتناع المجهول المطلق.

ويحتمل أن يكون قوله : غير معقول بمعنى باطل كما هو المتبادر عرفا. ووجهه أنّ الأشاعرة فسّروا الكلام النّفسىّ بالمعنى القائم بالنّفس الّذي هو المدلول الكلام. اللّفظى ، ومغاير للصّفات المشهورة ، ولا شكّ انّ ذلك المدلول مركّب من ذوات وصفات يمتنع قيامها بذاته تعالى ، فقيامه به باطل قطعا.

واعلم انّ لصاحب المواقف رسالة مفردة فى تحقيق الكلام النفسى ، محصّلها أنّ لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللّفظ ، وتارة على معنى القائم بالغير ، والأشعرى لمّا قال الكلام هو المعنى النّفسىّ توهّم الأصحاب أنّ مراده مدلول اللّفظ وهو القديم عنده ، وهو الّذي فهموه منه له مفاسد كثيرة كعدم إكفار من أنكر كلامه ما بين دفّتى المصحف مع انه علم من الدّين ضرورة انّه كلام الله تعالى حقيقة ، وكعدم المعارضة والتّحدّى بكلامه الحقيقى إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطّن فى الأحكام الدّينيّة ، فوجب حمل كلام

١٢٥

الشّيخ على أنّه اراد بالمعنى القائم بالغير فيكون الكلام النّفسىّ عنده أمرا شاملا للّفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى.

وما يقال من أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة ، فجوابه انّ ذلك التّرتّب إنّما هو فى التّلفّظ لعدم مساعدة الآلة ، فالحادث هو التّلفّظ دون الملفوظ انتهى. وقال بعض المحقّقين فى شرح المواقف هذا الحمل لكلام الشيخ ممّا اختاره محمّد الشّهرستانى فى كتابه المسمى بنهاية الاقدام ولا شبهة فى أنّه أقرب إلى الأحكام الظّاهرية المنسوبة الى قواعد الملّة وفيه نظر:

أمّا أوّلا ، فلانّ اشتراك كلام الله تعالى بين اللّفظى والنّفسى يدفع تلك المفاسد قطعا.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه إن اراد بقيام ذلك الأمر الشّامل للّفظ والمعنى جميعا بذاته تعالى قيامه باعتبار صورة العلميّة به تعالى كالفاظ القرآن بالنسبة إلى الحافظ فهو راجع إلى صفة العلم ، مع أنّهم اتّفقوا على أنّ كلامه تعالى مغاير للعلم والإرادة وساير الصّفات المشهورة ، على أنّه لا اختصاص للقيام باعتبار صورة العلميّة بكلام الله تعالى بل كلام البشر أيضا قائم به تعالى بهذا الاعتبار وكذا ساير الموجودات. وإن اراد قيامه به باعتبار صورته الخارجيّة فمن البيّن المكشوف انّ الملفوظ حادث كالتّلفّظ ، والفرق بينهما فى ذلك خارج عن طور العقل على ما لا يخفى.

الصّفة الثّامنة من الصّفات الثّبوتيّة أنّه تعالى صادق فى جميع أخباره

. اتّفق المسلمون على أنّ كلامه تعالى صادق ، والكذب فيه محال ، وهما يطلقان تارة على ما هو صفة الكلام وتارة على ما هو صفة للمتكلّم. فالصدق على الأوّل عند الجمهور وهو المذهب المنصور كون الخبر بحيث يكون حكمه مطابقا للواقع ويقابله الكذب بمعنى خبر لا يكون حكمه مطابقا للواقع. والصّدق على الثّاني هو الإخبار عن الشّيء على ما هو عليه فى نفس الأمر ويقابله الكذب بمعنى الإخبار عن الشّيء لا على ما هو عليه فى نفس الأمر. والدّليل على ذلك انّه لو لم يكن كلامه الخبرى صادقا لكان كاذبا بالانحصار

١٢٦

الخبر فيهما على التحقيق ، لكن اللّازم باطل ، لأنّ الكذب قبيح بالضّرورة والقبيح محال عليه تعالى كما سيجيء بيانه فالملزوم مثله. وأيضا اللّازم باطل لأنّ الله تعالى منزّه عنه أى عن الكذب لاستحالة النّقص عليه أى لأنّ الكذب نقص بديهة ، والنّقص محال عليه بالإجماع. وفى بعض النّسخ ولاستحالة النّقص عليه بالواو وحينئذ يكون قوله : والله تعالى منزّه عنه اى عن القبيح من الدّليل الأوّل وهى أحسن كما لا يخفى.

واعلم انّ الدّليل الأوّل من الأدلّة المعتزلة ، والثّاني من أدلّة الأشاعرة ، وفيه انّ المطلب يقينىّ ، والدّليل المستند إلى الإجماع لا يفيد اليقين إلّا إذا كان الإجماع مقطوعا به وهو فيما نحن فيه ممنوع. على أنّ الإجماع المقطوع به لا يلزم أن يفيد اليقين على رأيهم ، وأيضا الإجماع عندهم إنّما يكون حجّه لاستناده إلى النّص ، ودلالة النّص موقوفة على صدق كلام الله تعالى ، فإثبات صدق كلامه تعالى بما يستند إلى النّصّ يستلزم الدّور.

وما قال صاحب المواقف من أنّ صدق النّبيّ (ص) لا يتوقّف على صدق كلامه تعالى بل على تصديق المعجزة وهو تصديق فعلىّ منه تعالى لا قوليّ على ما بيّن فى محلّه منظور فيه ، لأنّ المعجزة إنّما يدلّ على صدق النّبي فى دعوى النّبوّة وكونه رسول الله ، وأمّا صدقه فى ساير الاحكام فالظّاهر من كلامه انّه لاستدعاء الرّسالة أن يكون أحكامه من عند الله فيتوقّف على صدق كلامه تعالى ، كيف وقد حكم هذا القائل بأن الدّليل الأوّل مبنىّ على كون الحسن والقبح عقليّين ، مع أنّه لو لم يتوقّف صدق كلام النّبيّ (ص) على صدق كلام الله تعالى لتمّ ذلك الدّليل على تقدير كون الحسن والقبح شرعيّين أيضا. والحقّ أنّه ليس الدّليل الأوّل مبنيّا على كون الحسن والقبح عقليّين ، ولا الدّليل الثّاني مستلزما للدّور كما لا يخفى.

وأمّا ما أورده على الدّليل الثّاني من أنّه إنّما يدلّ على صدق الكلام النّفسىّ دون اللّفظىّ مع أنّ المقصود الأهمّ إثبات صدقه ، وذلك لأنّ النّقص فى كلام اللّفظى معناه القبح فى ايجاده وخلقه ، وحاصله القبح العقلى وهم لا يقولون به ، فلا يصحّ منهم إثبات صدق

١٢٧

الكلام اللّفظى بلزوم النّقص.

فأقول : يمكن دفعه بأنّه إذا ثبت صدق الكلام النّفسى بأىّ دليل كان يلزم صدق الكلام اللّفظى قطعا ، بناء على أنّ الكلام النفسي هو مدلول الكلام اللّفظى ، ولا شكّ انّ صدق الدّال وكذبه راجعان إلى صدق المدلول وكذبه. فالفرق فى ذلك بين الأدلّة الدّالة على صدق الكلام النّفسىّ مما وقع من بعض المحقّقين ليس على ما ينبغى.

تأمّل فى هذا المقام حتى ينكشف المرام فإنّه من مزالّ أقدام الأفهام.

١٢٨

الفصل الثّالث

من الفصول السبعة

فى

صفاته السّلبيّة

وقد يسمّى بصفات الجلال ، كما انّ الثبوتيّة تسمّى بصفات الكمال ، وهى أى الصّفات السّلبيّة كثيرة جدّا ، لكن المذكورة منها هاهنا صفات سبع :

الصّفة الأولى منها أنّه تعالى ليس بمركّب لا من الأجزاء الخارجيّة ولا من الأجزاء الذّهنيّة وإلّا ، أى لأنّه لو كان مركبا لكان مفتقرا إلى أجزائه أى كلّ واحد من أجزائه ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. وأمّا بيان الملازمة فلأنّ كلّ مركّب موجود مفتقر إلى كلّ واحد من أجزائه بالضّرورة ، وأمّا بطلان اللّازم فلأنّ المفتقر إلى الجزء مفتقر إلى الغير ، والمفتقر إلى الغير مطلقا سواء كان ذلك الغير جزء أو خارجا ممكن ضرورة أنّ الوجوب الذّاتي ينافى الافتقار إلى الغير ، وقد ثبت أنّه واجب الوجود لذاته ، هذا خلف. وما قيل فى تقرير هذا الدّليل من أنّه تعالى لو كان مركّبا لزم الانقلاب ليس على ما لا ينبغى كما لا يخفى.

ثمّ فى هذا الدّليل نظر ، لأنّه إن أراد من الافتقار الافتقار فى الوجود الخارجى ، فلا نسلّم أنّه تعالى لو كان مركّبا من الاجزاء الذّهنية لكان مفتقرا فى الوجود الخارجى إلى الغير ، وإن أراد الافتقار فى شيء من الوجودين مطلقا ، فلا نسلّم أنّ المفتقر إلى الغير

١٢٩

فى الوجود الذّهنى ممكن ، لأنّ الوجوب الذّاتي لا ينافى الافتقار إلى الغير فى الوجود الذّهنىّ. نعم يلزم إمكانه بحسب الوجود الذّهنىّ لكنّه ليس خلاف المفروض ، ضرورة أنّ الوجوب الذّاتىّ باعتبار الوجود الخارجى لا ينافى الإمكان باعتبار الوجود الذّهنى.

وبالجملة هذا الدّليل إنّما يدلّ على نفى التّركيب من الأجزاء الخارجيّة ، والمطلوب على ما تقرّر نفى التّركيب مطلقا ، فلا يتمّ التّقريب ، إلّا أن يقال المدّعى هاهنا نفى التّركيب من الأجزاء الخارجيّة فتدبّر.

الصّفة الثّانية من الصّفات السّلبيّة أنّه تعالى ليس بجسم ولا عرض الجسم عند الحكماء وبعض المتكلّمين هو الجوهر القابل للأبعاد الثّلاثة ، وعند بعضهم هو الجوهر المركّب من جزءين فصاعدا ، والجوهر عندهم هو الحادث المتحيّز لذاته ، والعرض هو الحالّ فى المتحيّز لذاته ، وإلّا أى إن كان جسما او عرضا لافتقر إلى المكان واللّازم باطل ، فالملزوم مثله ، أمّا الملازمة فلأنّ كلّ جسم متمكّن ، أى متحيّز لما عرفت سابقا ، وكلّ متمكّن محتاج إلى المكان اى الحيّز ، وهو عند المتكلّمين الفراغ الموهوم الّذي يشغله الجوهر ، فيكون كلّ جسم مفتقر إلى المكان ، وكذا كلّ عرض حالّ فى المتمكّن مفتقر إليه ، والمفتقر إلى المفتقر إلى الشّيء مفتقر إلى ذلك الشّيء ، فيكون كلّ عرض مفتقر إلى المكان ، فثبت انّه تعالى لو كان جسما أو عرضا لكان مفتقرا إلى المكان. وأمّا بطلان اللّازم فلانّ الافتقار إلى الغير يستلزم الإمكان ، هذا خلف.

وفيه نظر ، لأنّه إن أراد بالافتقار إليه فى الوجود فالملازمة ممنوع ، لأنّ المتمكن إنّما يفتقر إلى المكان فى تمكّنه لا فى وجوده ، وإن أراد الافتقار فى التّمكن ، فالملازمة مسلّمة ، لكن بطلان اللّازم ممنوع ، إذ الافتقار فى التّمكّن لا يستلزم الإمكان المنافى للوجوب الذّاتي كما لا يخفى.

أقول يتّجه أيضا أنّه لو صحّ ذلك الدّليل لزم أن يكون الله تعالى مع العالم مثلا ، وهو باطل بديهة واتّفاقا ، وذلك لأنّه تعالى لو كان مع العالم لافتقر إلى العالم ، واللّازم باطل فالملزوم مثله ، وما هو جوابنا فهو جوابكم.

١٣٠

وأيضا العرض على ما فسّره المتكلّمون هو الحالّ فى المتمكّن ، ولا نسلّم انّ كلّ حالّ فى شيء مفتقر إليه فى الوجود ، لجواز أن يكون المحلّ مفتقر إلى الحالّ فيه كما فى الصّورة الجسميّة الحالّة فى الهيولى المفتقرة إليها فى الوجود على راى الفلاسفة ، وهذا وإن لم يقل به المتكلّمون لكنّه كاف فى إيراد المنع على دليلهم. وأمّا على ما فسّره الفلاسفة ، وهو الحالّ فى الموضوع ، اى المحلّ المقوّم لما حلّ فيه فهو لا يستلزم المكان فضلا عن الافتقار إليه ، إذ الموضوع أعمّ من أن يكون متمكّنا أولا ، اللهم إلّا أن يفسّر العرض هاهنا بالحالّ فى المتمكّن المفتقر إليه وسيجيء زيادة تحقيق لهذا المقام ، على أنّه لو تمّ افتقار العرض إلى محلّه المتمكّن لكفى فى نفى العرضيّة فلا حاجة إلى بيان افتقاره إلى المكان فتأمّل جدّا.

وأيضا لو كان الله تعالى جسما أو عرضا لامتنع انفكاكه عن الحوادث واللّازم باطل فالملزوم مثله. أمّا الملازمة فلأنّ كلّ جسم وعرض يمتنع انفكاكه عن الحركة والسّكون كما مرّ بيانه ، وأمّا بطلان اللّازم فلأنّ كلّما يمتنع انفكاكه عن الحوادث فهو حادث وقد مرّ بيانه أيضا ، فيكون الله تعالى على تقدير امتناع انفكاكه عن الحوادث حادثا وهو محال ، لأنّه قد ثبت قدمه فيما سبق ، هذا خلف. أو لأنّه قد ثبت وجوبه الذّاتي والحدوث يستلزم الإمكان ، هذا خلف. ويمكن الاستدلال على نفس الجسميّة والعرضيّة على رأى المتكلّمين بأنّهما قسمان للحادث عندهم فيكونان حادثين قطعا.

ولا يجوز أن يكون البارى تعالى فى محلّ أى لا يمكن حلوله فى شيء أصلا وإلّا أى وإن أمكن حلوله فى شيء لا فتقر إليه أى لا لأمكن افتقاره تعالى فى وجوده إلى ذلك الشّيء ، وامكان افتقاره فى الوجود إلى العير باطل كافتقاره فيه إليه ، ضرورة انّ امكان المحال محال أيضا ، أو المعنى إن حلّ البارى تعالى فى شيء لافتقر إليه ، لكن افتقاره إليه محال قطعا ، فيكون حلوله فى شيء محالا ، وهذا معنى عدم امكان حلوله فى شيء.

والدّليل على أنّ الحلول يستلزم الافتقار إلى المحلّ أنّ المعقول من الحلول هو الحصول على سبيل التّبعيّة ، وهو يستلزم الافتقار إلى المحلّ هذا خلاصة ما قيل.

اقول : فيه نظر ، لأنّا لا نسلّم أنّ الحلول هو الحصول على سبيل التّبعيّة ، سواء أريد

١٣١

به التّبعيّة فى الوجود أو التّبعيّة فى التّحيّز بمعنى أن يكون المحلّ واسطة فى عروض التّحيّز له على ما قيل ، بل الحلول هو الاختصاص الناعت بالمنعوت ليتأوّل حلول الصّفات فى ذات الواجب على رأى الاشاعرة ، على أنّ استلزام التّبعيّة فى التّحيّز للافتقار إلى المحلّ غير مسلّم ، ألا يرى أنّ صاحب المواقف جعل الاستدلال بكون الحلول هو الحصول على سبيل التّبعيّة مقابلا للاستدلال باستلزامه الافتقار إلى المحلّ ، وبالجملة كون الحلول مستلزما للافتقار إلى المحلّ ممنوع كما فى حلول الصّورة فى الهيولى على راى الحكيم ، نعم الحلول بمعنى التّبعيّة فى التّحيّز يستلزم الافتقار إلى الحيّز بناء على ما ادّعوا من أنّ التّحيّز يستلزم الافتقار إلى الحيّز ، وسيجيء الكلام فيه تفصيلا.

واعلم انّه قد نقل عن بعض المتصوفة أنّه تعالى يحلّ فى العارفين وعن النّصارى انّه حلّ فى عيسى (ع) ، فإن أرادوا بالحلول المعنى المذكور فلا شكّ فى بطلانه لما عرفت ، وإن أرادوا معنى آخر فليبين أوّلا حتى نتكلّم عليه ثانيا. وأمّا ما نقل عن الإنجيل مما يدلّ على أنّ عيسى (ع) عبّر عن الله تعالى بالأب وصرّح بحلوله فيه فى جواب يوحنا وهو واحد من الحواريين ، فعلى تقدير صحّته وعدم تحريفه محمول على أنّه من قبيل المتشابهات وهى كثيرة فى الكتب الالهيّة ، ويردها العلماء بالتّأويل إلى ما علم صحّته بالدّليل ، فيجوز أن يكون المراد من الحلول الاختصاص واللّطف ومن الأب المبدأ كما انّ القدماء كانوا يسمّون المبادى بالآباء.

وقد نقل عن بعض غلاة الشيعة أنّه تعالى حلّ فى الأئمة المعصومين (ع) ، بناء على أنّ الظهور الرّوحاني فى صورة الجسمانى ممكن كظهور جبرئيل فى صورة دحية الكلبى ، فلا يبعد أن يظهر الله تعالى فى صورة بعض الكاملين كامير المؤمنين (ع) وعترته الطّاهرين ، لأنّهم أكمل الخلق وأشرفهم ، وأنت تعلم أنّ الظهور غير الحلول وأنّ جبرئيل لم يحلّ فى دحية الكلبى بل ظهر بصورته ، فالظّاهر أنّهم أرادوا بالحلول الظهور.

ولا يجوز أن يكون فى جهة كالعلو والسّفل وغيرهما. وهى إمّا حدود وأطراف الأمكنة ، أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء وإلّا أى وإن كان الله تعالى

١٣٢

فى جهة افتقر إليها لأن كلّ ما هو فى جهة يفتقر إليها ضرورة ، فيلزم افتقار الواجب بالذّات إلى الغير وهو ينافى الوجوب الذّاتي قطعا.

اقول : فيه نظر ، لأنّ ما يكون فى جهة إنّما يفتقر إليها فى كونه فيها لا فى وجوده ، وما ينافى الوجوب الذّاتي إنّما هو الافتقار إلى الغير فى الوجود لا غير ، على أنّه لو صحّ هذا الدّليل لزم امتناع اتّصافه تعالى بالصّفات النسبيّة مثل كونه رازقا وخالقا إلى غير ذلك كما أشرنا إليه.

وقد خالف فيه المشبّهة واتّفقوا على أنّه تعالى فى جهة الفوق ، لكن اختلفوا فى كونه فى الجهة مثل كون الأجسام فيها أولا ، والأوّل باطل لما عرفت ، والنّزاع فى الثّاني راجع إلى اطلاق اللفظ دون المعنى ، ومستندهم فى ذلك الظّواهر السّمعيّة وهى متأوّلة قطعا على ما فصّل فى محلّه. ولا يصحّ أى لا يمكن طارية عليه اللّذة والألم أى لا يصحّ طريانها.

اعلم انّ الظّاهر المشهور عند المتكلّمين أنّ اللّذة والألم مطلقا من الكيفيّات النّفسانيّة ، وتصوّرهما على وجه تميّزهما عمّا عداهما بديهى لا يحتاج إلى تعريف ، فإنّ الإحساس الوجدانىّ بجزئياتهما قد أفاد العلم بمفهومهما على وجه يتأتّى تحصيل مثله بطريق الاكتساب كما فى ساير المحسوسات على ما لا يخفى على ذوى انصاف ، وانّه يمتنع اتّصافه تعالى بمطلق اللّذة والألم وهو المتبادر من عبارة الكتاب لأنّهما من الكيفيّات المختصّة بذوات الأنفس ، والله تعالى منزّه عن النّفس. ولكونهما تابعين للمزاج المستلزم للتّركيب ، لان السّبب القريب للّذّة اعتدال المزاج والألم سوءه على ما هو المختار عند المحقّقين. ويبتنى عليه قوله لامتناع طريان المزاج عليه تعالى وهذا لأنّ المزاج كيفيّة متشابهة حاصلة للمركّبات العنصريّة بسبب انكسار الكيفيّات المتضادّة لأسطقساتها المتفاعلة عند امتزاجها وتماسّها ، إمّا بأن تخلع تلك الأسطقسات كيفيّاتها المتعدّدة وتلبس كيفيّة واحدة حقيقة على ما هو مذهب الأطباء ، أو ينكسر تلك الكيفيّات عن صورتها ويتقارب بحيث تصير كيفيّة واحدة ملتئمة من تلك الكيفيّات المنكسرة

١٣٣

على ما هو مذهب الحكماء فالمزاج على المذهبين يستلزم التّركيب ، وقد ثبت امتناع التّركيب عليه تعالى ، فيلزم امتناع اتّصافه تعالى بالمزاج وتوابعه من اللذّة والألم وغيرهما ، وللمناقشة فى الدّليلين مجال واسع على ما لا يخفى.

وقال الحكماء اللّذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافر من حيث هو منافر ، وكلّ منهما حسّى إن كان إدراكا بالحسّ ، وعقلىّ إن لم يكن ادراكا به ، فهم يثبتون له تعالى اللّذة العقليّة ، لأن من أدرك كمالا فى ذاته التذّ به ضرورة ، ولا شكّ انّ كمالاته تعالى أجلّ الكمالات ، وإدراكه أقوى الإدراكات ، فوجب أن يكون لذّته أقوى اللّذات ، ولذا قالوا أجلّ مبتهج هو المبدأ الأوّل بذاته ، وينفون عنه اللّذة الحسّية لكونها من توابع المزاج ، والألم مطلقا لأنّه تعالى منزّه عن أن يكون شيء منافرا ومنافيا له ، إذ الشيء لا يكون منافيا لمبدئه ، ووافقهم بعض المحقّقين منّا.

وفيه نظر ، أمّا أوّلا فلأنّا لا نسلّم أنّ اللّذة نفس الإدراك بل هى مسبّبة عنه ، ولو سلّم ذلك فلا نسلّم أنّها مطلق الإدراك ، بل هى الإدراك النّفسانىّ دون ادراكه تعالى لكونهما مختلفين قطعا.

وأيضا لا نسلّم أنّ الشيء لا يكون منافيا لمبدئه بوجه ما ، لجواز أن يكون المعلول منافيا للعلّة من بعض الوجوه كبعض أفعال العباد بالنّظر إليه تعالى وهو علّة لها ولو بواسطة فليتأمّل.

فقد بان من ذلك البيان أنّ امتناع مطلق الألم عليه تعالى متّفق عليه بين العقلاء ، وأمّا امتناع مطلق اللّذّة فمختلف فيه بين جمهور المتكلّمين والحكماء ، فالقول بأنّ نفى مطلق اللّذّة عنه تعالى من المتكلّمين يحتمل أن يكون لعدم ورود الشّرع بذلك ، فإنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة ليس من الأدب إطلاق شيء منها عليها إلّا بإذن الشّارع غير ظاهر كما لا يخفى.

ولا يتّحد أى لا يمكن اتّحاده تعالى بغيره الاتّحاد الحقيقى أن يصير شيء بعينه شيئا آخر من غير أن يزول عنه شيء أو ينضمّ إليه. وقد يطلق الاتّحاد بطريق المجاز

١٣٤

على معنيين آخرين : أحدهما أن يصير شيء ما شيئا آخر بطريق الاستحالة فى ذاته أو صفته الحقيقيّة كما يقال صار الماء هواء أو صار الأسود أبيض وثانيهما أن يصير شيء بانضمام شيء آخر إليه حقيقة واحدة بحيث يكون المجموع شخصا واحدا حقيقيّا كما يقال : صار التّراب طينا والكلّ محال فى حقّه تعالى. أمّا الأوّل ، فلامتناعه فى الواجب والممكن مطلقا وقد ادّعوا أنّه ممّا يحكم به بديهة العقل ، وما يذكر فى توضيحه إنّما هو من قبيل التّنبيهات فالمناقشة لا يجدى كثير نفع. وأمّا الثّاني ، فلأنّ الاستحالة الذّاتيّة تستلزم انتفاء الذّات ، وهو ينافى الوجوب الذّاتي قطعا. والاستحالة الوصفيّة تستلزم تبدّل الصّفة الحقيقيّة وهو مستلزم للنّقص فى ذاته تعالى مع كونه منزّها عن ذلك إجماعا. وأمّا الثّالث ، فلأنّه إن لم يكن شيء من الواجب وما انضمّ إليه حالّا فى الآخر امتنع أن يتحصّل منهما حقيقة واحدة بالضّرورة ، وإن كان أحدهما حالّا فى آخر ، فإن كان الواجب حالّا يلزم احتياجه إلى الغير وهو محال ، وإن كان الآخر حالّا فيه لكان الحالّ عرضا ضرورة استغناء المحلّ لكونه واجبا ، ولا يحصل من العرض ومحلّه حقيقة واحدة حقيقيّة بل ماهيّة اعتباريّة.

اقول : فيه نظر ، أمّا أوّلا ، فلأنّا لا نسلّم أنّ تبدّل صفته الحقيقيّة يستلزم النّقص فى ذاته وسيجيء تفصيله. وأمّا ثانيا ، فلأنّا لا نسلّم أنّه لو لم يكن احدهما حالّا فى الآخر امتنع أن يتحصّل منهما حقيقة واحدة حقيقيّة ، ولو سلّم فيجوز أن يكون الواجب حالّا ولا يلزم احتياجه فى الوجود إلى الغير ، إذا الحلول لا يستلزم احتياج الحالّ إلى المحلّ فى الوجود على ما قالوا فى حلول الصّورة والهيولى ، ولو سلّم فيجوز أن يكون الحالّ عرضا ، والحكم بأنّه لا يتحصّل من العرض ومحلّه حقيقة واحدة حقيقيّة ممنوع على ما قالوا فى السّرير انّه مركّب من القطع الخشبيّة والهيئة الاجتماعيّة الّتي هى عرض هذا. والظاهر أنّ المراد من الاتّحاد هاهنا هو الاتحاد الحقيقى ومعنى قوله لامتناع الاتّحاد مطلقا أنّ الاتّحاد الحقيقى محال فى كلّ موجود سواء كان واجبا أو ممكنا كما يشهد به البديهة ، فيلزم امتناعه فى حقّه تعالى بطريق الأولى ، وحمل الاتّحاد على الأعمّ من المعنى الحقيقىّ والمعنيين

١٣٥

المجازيين ، وجعل قوله : مطلقا إشارة الى هذا التّعميم كما وقع فى بعض الشروح تكلّف لا يخلو عن تعسّف.

وربما ينسب الى النّصارى القائلين بحلوله فى المسيح القول باتّحاده تعالى به والى بعض المتصوفة القائلين بحلوله تعالى فى العارفين القول باتّحاده تعالى بهم ، بناء على أنّ كلام هاتين الفرقتين مضطرب بين الحلول والاتّحاد ، والكلام معهم فى الاتحاد كالكلام معهم فى الحلول. فليتأمّل.

وانت تعلم أنّه لا يظهر وجه مناسب لجمع المصنّف عدة من الصّفات وعدّها صفة واحده من الصّفات السّلبيّة كما لا يخفى.

الصّفة الثّالثة من الصفات السّلبية أنّه تعالى ليس محلّا للحوادث أى يمتنع أن يقوم به حادث ، خلافا للكراميّة فإنّهم يجوّزون قيّام الحوادث به تعالى كالإرادة والكلام كما مرّت إليه الإشارة ، وللمجوس فإنّهم يجوّزون قيام كلّ صفة حادثه من صفات الكمال به تعالى. وأمّا قيام الصّفات الاعتباريّة المتجدّدة به تعالى مثل كونه مع العالم بعد ما لم يكن معه ، وكونه رازقا لزيد فى حياته غير رازق له بعد مماته فجائز اتّفاقا.

واحتجّوا على ذلك بوجوه أورد المصنّف وجهين منها وأشار إلى أحدهما بقوله : لامتناع انفعاله عن غيره وتقريره أنّه لو قام به حادث لكان منفعلا ومتأثّرا عن غيره واللّازم باطل فالملزوم مثله. أمّا الملازمة ، فلأنّ الحادث لا بدّ له من علّة ، ولا يجوز أن يكون علّته عين الذّات أو شيئا من لوازم الذّات وإلّا لزم قدم الحادث لقدم علّته فيلزم أن يكون علّته أمرا منفصلا عن الذّات فيكون الذّات متأثّرا عنه. وأمّا بطلان اللّازم فلأنّ تأثّره تعالى عن غيره يستلزم احتياجه فى صفته الكمالية إلى الغير وهو محال.

وفيه نظر ، أمّا أوّلا فلأنّه يجوز أن يكون علّة ذلك الحادث عين الذّات إمّا بطريق الاختيار بأن يكون الذّات مقتضيا له بانضمام الإرادة على ما هو رأى المتكلّمين

١٣٦

كما فى ساير الحوادث. وإمّا بطريق الإيجاب بأن يكون ذلك الحادث مسبوقا بحادث آخر هو أيضا من صفات الكمال له تعالى ، وذلك الأمر مسبوقا أيضا بحادث آخر كذلك لا إلى نهاية على ما هو رأى الحكماء كما قالوا فى حركات الأفلاك ، وعلى هذا لا يلزم تأثّره تعالى عن غيره بل إنّما يلزم احتياجه فى صفاته الكماليّة إلى صفات كماليّة أخرى ، ولا استحالة فيه.

لا يقال : لو تسلسلت الحوادث فى ذاته تعالى يلزم أن لا يكون خاليا عن الحوادث ، وما لا يكون خاليا عن الحوادث حادث وإلا يلزم قدم الحادث فيلزم حدوث الواجب لذاته ، فلا بدّ من الانتهاء إلى صفة حادثة يكون مستندة إلى أمر منفصل عن الذّات فيلزم تأثّره عن الغير واحتياجه إليه فى صفته الكماليّة.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ كلّما لا يخلو عن الحادث حادث ، وقد مرّ الكلام فيه تفصيلا.

لا يقال : التّسلسل فى الحوادث المتعاقبة باطل على رأى المتكلّمين وبرهان التّطبيق والتضايف وغيرهما فيتمّ الاحتجاج على رأيهم.

لانّا نقول : قد استدلّ الحكماء أيضا بهذا الدّليل حتى قيل هو المعتمد عليه عندهم فى إثبات ذلك المطلوب ويرد الإشكال عليهم قطعا ، لأنّ التّسلسل فى الأمور المتعاقبة فى الوجود جائز عندهم على ما مرّ غير مرة.

وأمّا ثانيا ، فلأنّا لا نسلّم أنّ كلّ صفة قائمة به تعالى صفة الكمال ، ولو سلّم فلا نسلّم أنّ احتياجه تعالى إلى الغير فى صفته الكمالية محال ، إنما المحال احتياجه إلى الغير فى وجوده وهو غير لازم ، اللهم إلّا أن يتمسّك بالإجماع وفيه ما فيه ، وأمّا فى بعض الشروح من انّ الانفعال يستلزم المادّة ، والواجب لذاته يمتنع ان يكون ماديّا ففيه ما لا يخفى.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ هذا الدّليل لو تمّ يدلّ على امتناع اتّصافه تعالى بالصّفات الاعتبارية المتجدّدة أيضا ، وقد عرفت أنّه جائز بالاتّفاق ، وأشار إلى الوجه الثّاني بقوله وامتناع النّقص عليه أى لامتناع طريان النّقص وجريانه عليه تعالى. وتقريره ، انّه لو قام به تعالى حادث لكان ناقصا قبل قيام ذلك الحادث به ، واللّازم باطل

١٣٧

والملزوم مثله. أمّا الملازمة فلأنّ جميع صفاته صفات الكمال ، فلو كان شيء منها حادثا لكان الذّات خاليا عنه قبل حدوثه ، والخلوّ عن صفة الكمال نقص. وأمّا بطلان اللّازم فلإجماع على تنزيهه تعالى عن النّقص.

وفيه أيضا نظر من وجوه : الأوّل ، انّا لا نسلّم أنّ جميع صفاته تعالى صفات الكمال ، لجواز أن يكون له صفة لا كمال فى وجوده ولا نقص فى عدمه ، الثّاني ، انّا لا نسلّم انّ الخلوّ عن صفة الكمال نقص ، لجواز ان يكون صفة كماليّة موقوفة على حدوث صفة كماليّة أخرى وانتفائه ، وهى على حدوث صفة كماليّة أخرى وانتفائه لا إلى نهاية كما قالوا فى حركات الأفلاك ، فلا يكون خلّوه تعالى عن صفته الكماليّة الحادثة نقصا بل هو عين الكمال حيث يتوقّف عليه اتّصافه بصفة كماليّة أخرى ، بل استمرار كمالات غير متناهية له.

ويمكن دفعه بأنّ مثل هذا التّسلسل باطل ببرهان التّطبيق والتّضايف وغيرهما على رأى المتكلّمين وهذا الدّليل مبنى على رأيهم لابتنائه على الاجماع والحكماء لا يقولون به كما لا يخفى. الثّالث ، أنّ دعوى الإجماع على تنزيهه تعالى عن النّقص ممنوعة لا بدّ له من دليل قطعى ، على أنّ الإجماع لا يفيد على رأى الأشاعرة فلا يتمّ الاحتجاج به على المطلب اليقينى على رأيهم. الرّابع ، أنّ هذا الدّليل أيضا منقوض بالصّفات الاعتباريّة المتجدّدة له تعالى ، وما هو جوابنا فهو جوابكم.

الصّفة الرّابعة من الصّفات السّلبيّة أنّه يستحيل عليه الرّؤية البصريّة أى يمتنع طريان الكون مرئيا مبصرا عليه تعالى على أن يكون الرّؤية بالمعنى المبنىّ للمفعول ، وهذا مذهب المعتزلة والحكماء ، وخالفهم الأشاعرة والمجسّمة والكراميّة.

وتحرير محلّ النّزاع أنّا إذا علمنا الشّمس علما جليّا ثمّ أبصرناها ثم اغمضنا العين يحصل ثلاث مراتب من الانكشاف متفاوتة فى الجلاء ، فالحالة الثالثة أقوى وأجلى من الحالة الأولى ، والثّانية من كلتا الحالتين ، كما يشهد به الوجدان. فمحل النّزاع هو الحالة الثّانية وهى المراد من الرّؤية فى هذا المقام ، فمنعها المعتزلة والحكماء فى البارى تعالى مطلقا ، وجوّزها الأشاعرة فى الدّنيا والآخرة عقلا ، وحكموا بوقوعها فى الآخرة سمعا ، لكن من

١٣٨

غير مقابلة ومواجهة وقرب وبعد وانطباع صورة من المرئىّ فى الباصرة أو خروج شعاع منها إليها كما هو حكم الرّؤية البصريّة فى غيره تعالى. وأمّا المجسّمة والكراميّة فهم يوافقون الأشاعرة فى تجويز أصل الرّؤية ، ويخالفونهم فى كيفياتها ، فانّهم يجوّزون الرؤية فيه بطريق المواجهة والمقابلة بناء على أنّ الضّرورة قاضية بامتناع الرّؤية البصريّة بدونها ، كما يبتنى عليه مذهب المعتزلة والحكماء. والظّاهر أنّ جمهورهم سيما القائلين بجسميّته تعالى حقيقة على صورة إنسان ـ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ـ يجوّزون الرّؤية فيه بطريق انطباع الصّورة فى الباصرة ، أو خروج الشّعاع منها. فالقول بأنّه لا نزاع للنافين فى جواز الرّؤية بمعنى الانكشاف العلمى ، ولا للمثبتين فى امتناع الرّؤية بانطباق الصّورة فى الباصرة ، أو خروج الشّعاع منها ، بل النّزاع إنّما هو الانكشاف التّام الّذي يحصل لغيره تعالى عند الإبصار كما وقع من بعض المحقّقين ليس بظاهر.

واذا تمهّد هذا فنقول : المختار عند أهل الحق مذهب المعتزلة والحكماء. والدليل العقلىّ على ذلك أنّه لو كان البارى تعالى مرئيّا بالبصر لكان فى جهة ، واللّازم باطل فالملزوم مثله. أمّا الملازمة فهى لأنّ كلّ مرئىّ بالبصر فهو ذو جهة ومكان. وإنّما قلنا كلّ مرئىّ فهو ذو جهة ومكان ، لأنّه أى كل مرئىّ إمّا أن يكون مقابلا للرائى كما فى رؤية الأجسام والأعراض ، أو فى حكم المقابل كما فى رؤية العكس فى المرآة إذ لا مقابل هاهنا حقيقة بل حكما بالضّرورة أى اشتراط الرؤية البصريّة بالمقابلة ، أو ما فى حكمها ممّا يحكم به العقل بالبديهة وإنكارها مكابرة غير مسموعة.

فيقول الأشاعرة بأنّ الرّؤية البصريّة جائزة فيه تعالى من غير مقابلة أو ما فى حكمها كقولهم بأنّه يجوز رؤية أعمى الصّين بقّة اندلس كلام واه وقع من محض التعنّت والعناد كما هود أبهم ، وإذا كان كلّ مرئىّ بالبصر مقابلا للرائى أو فى حكم المقابل ، ومن البيّن أنّ كلّما هو مقابل أو فى حكم المقابل ذو جهة فكلّ مرئىّ بالبصر ذو جهة. وأمّا بطلان اللازم فلأنّه تعالى إذا كان ذا جهة فيكون جسما لأنّ كلّ ذى جهة جسم وهو أى كونه تعالى جسما محال. وكما بيّن فى الصّفة الثّانية من الصّفات السّلبيّة. ويحتمل أن يكون الضّمير

١٣٩

فى قوله فيكون راجعا إلى كلّ مرئى بالبصر. وتقرير الدّليل هكذا : لو كان البارى تعالى مرئيّا بالبصر لكان جسما وهو محال لما تقدّم ، والملازمة لأنّه لو كان مرئيّا بالبصر لكان ذا جهة وكل ذى جهة جسم. وإنّما قلنا كلّ مرئىّ بالبصر ذو جهة لأنّه مقابل الخ. ويتّجه على التّقريرين أنّه لا حاجة فى إثبات المطلوب أى التعرّض لكونه تعالى جسما ، بل يكفى التعرّض لكونه ذا جهة لأنّه كما ثبت امتناع الأوّل ثبت امتناع الثّاني بلا تفاوت ، على أنّ قولنا كلّ ذى جهة جسم ممنوع كما لا يخفى.

اللهم إلّا أن يقال المراد من الجسم أعمّ من الجسم والجسمانيّ ، والتّعرّض للجسميّة تعريض للاشاعرة بأنّهم من المجسّمة فى الحقيقة. ولك ان تجعل قوله فيكون جسما من تتمّة قوله لانه إمّا مقابل ... وقوله وهو محال اشارة إلى بطلان اللّازم فى أصل الدّليل.

وتقريره أن يقال : لو كان البارى تعالى مرئيّا بالبصر لكان ذا جهة وهو محال لما تقدّم ، والملازمة ، لأنّ كلّ مرئىّ بالبصر ذو جهة لأنّه مقابل أو ما فى حكمه ، وكلّما هو كذلك جسم فيكون كلّ مرئىّ بالبصر جسما ، وكلّ جسم ذو جهة فكلّ مرئىّ بالبصر ذو جهة.

وفيه ما لا يخفى مع أنّ قولنا كلّما هو مقابل أو ما فى حكمه جسم بظاهره ممنوع فليتأمّل.

ويقرب من هذا الدّليل ما قيل أنّ الرّؤية البصريّة يستلزم خروج الشّعاع من الباصرة إلى المرئىّ ، أو انطباع صورة المرئىّ فيها على اختلاف المذهبين ، واللّازم بقسميّة محال فيه تعالى ضرورة فكذا الملزوم تأمّل.

ومن الادلّة السّمعية على هذا المطلوب ما أشار إليه بقوله ـ ولقوله تعالى لموسى (ع) (لَنْ تَرانِي) حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) والحال أنّ كلمة لن النّافية موضوعة للتّأبيد أى لتأبيد نفى الفعل الّذي هو مدخولها بالنّقل عن أهل اللّغة ، فتدلّ الآية على نفى رؤية موسى (ع) له تعالى أبدا ، وإذا لم يره موسى (ع) أبدا لم يره غيره إجماعا.

واعترض بأنّا لا نسلّم أنّ كلمة لن للتأبيد مطلقا ، بل هى لتأكيد النّفى فى

١٤٠