مراقد أهل البيت في القاهرة

محمّد زكي إبراهيم

مراقد أهل البيت في القاهرة

المؤلف:

محمّد زكي إبراهيم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات ورسائل العشيرة المحمّدية
المطبعة: دار نوبار للطباعة
الطبعة: ٦
الصفحات: ٢٤٠

ومن الوفاء ـ بهذه المناسبة ـ أن نذكر أخانا في الله المرحوم السيد (عبد المقصود سالم) ، وكان من أولياء الله ، علّمه الله ، وكان أميا ففقهه الله ، ووفقه للدعوة إليه ، فأسس (جماعة تلاوة القرآن الكريم) واتخذ السبيل الأثري الواقع أمام مسجد السيدة الشمالي مقرا لجمعيته المباركة القائمة على خدمة القراء ، والبر بالفقراء ، في رحاب المسجد الزينبي رحمه‌الله رحمة شاملة ، وأيد وارثه المبارك السيد (محمد عبد العليم) حتى يتم رسالته بفضل الله.

قال الإمام الرائد :

لا تطلبوا (آل النبي)

بشرق أرض أو بغرب

وذروا الجميع وأقلبوا

نحوي .. فمسكنهم بقلبي

٨١

الزينبات العلويات الثلاث

* زينب الكبرى أيضا :

تسمى السيدة زينب بنت عليّ أخت الحسين دفينة مصر (زينب الكبرى) ، فقد كان من عادة أهل البيت تكرار أسماء أبناء وبنات جدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده ، في أبناء البيت الواحد ، فتجد مثلا : عليّا الأكبر أخا عليّ الأصغر الملقب بزين العابدين ، ونجد الحسن المثنى والمثلث والحسن السبط ، وهكذا تجد مثلا زيدا وعونا الأصغر والأكبر ، ونجد مثلا : زينب الصغرى والوسطى والكبرى ، وفاطمة الصغرى والكبرى والوسطى.

وكان ذوات الاسم الواحد يتوفين ويدفنّ في أماكن متفرقة من بلاد المسلمين ، حين شتتهن الدولة الأموية والعباسية .. ومن هنا حصل اللبس الكبير الذي وقع فيه كثير من المؤرخين ، في تحديد مشاهد أهل البيت ، ولو أنهم لا حظوا ذلك أعني تكرار الاسم الواحد في البيت الواحد لا نحل المشكل الذي لا نزال نعانيه ، ويختفي خلفه خصوم أهل البيت.

* * *

* زينب الوسطى :

أمّا سيدتنا (زينب الوسطى) أخت زينب الكبرى ، فقد كانت تنادي وتكنى باسم خالتها (أم كلثوم) ، كما سميت باسم خالتها (زينب) عند ما ولدت في السنة التاسعة من الهجرة ، وقد تزوجها أمير المؤمنين عمر ،

٨٢

وهي دون العاشرة ، فولدت له زيدا الأكبر ورقية ، حتى استشهد عمر ، ثم تزوجت من ابن عمها (عون بن جعفر) ؛ فلما استشهد تزوجها أخوه (محمد بن جعفر) ، الذي مات في موقعة صفين ، ولم تلبث أن توفيت (زينب الوسطى) هذه المعروفة ب (أم كلثوم) هي وابنها (زيد) في وقت واحد ، وصلّى عليهما (عبد الله بن عمر) ودفنت مع ابنها زيد بالبقيع بالمدينة (فلاحظ ذلك).

* زينب الصغرى :

أمّا القبر المعروف باسم (زينب بنت عليّ) في قرية (راوية) بدمشق فهو قبر زينب الصغرى (١) أخت الوسطى والكبرى ، وإليه أشار ابن الحوراني في كتابه عن (أماكن الزيارات) ، والموصلي في (المعارف) .. وبهذا يزول اللبس كله إن شاء الله تعالى.

* وزينبات أخريات مباركات :

وهناك من أهل البيت زينبات مباركات (غير زينبات الإمام عليّ) منهن :

(١) السيدة (زينب بنت سيدي يحيى المتوج بالأنوار) ، وهو أخو السيدة نفيسة بنت سيدي حسن الأنور ، وقد وهبت زينب نفسها لخدمة عمتها السيدة نفيسة بنت الحسن رضي‌الله‌عنها ، وضريحها بقرافة الإمام الشافعيّ ، بجوار ضريح عمر بن الفارض ، جدده عميد أسرة

__________________

(١) في (أخبار الزينبات) للعبيدلي : أمها أم ولد ، تزوجت ابن عمها محمد بن عقيل ؛ فولدت له : القاسم وعبد الله وعبد الرحمن ، أعقب منهم عبد الله.

٨٣

المناسترلي وضمه إلى قبور أسرته ، وقد ماتت ولم تعقب ، وقبرها معروف بالبركة ، وكان الخليفة (الظافر الفاطمي) يأتي لزيارته ماشيا ، وتبعه كثير من السادة وأصحاب القلوب.

(٢) ومنهن السيدة (زينب الحنفية) (١) بنت أحمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن محمد بن الحنفية ، وهو من ذرية الإمام عليّ ، من زوجته الحنفية ، وضريحها بقرافة (باب النصر) ، يحسبه الناس خطأ مزارا للسيدة زينب الكبرى ، وفيه يستجاب الدعاء ، وهو الآن لسوء الحظ مهمل يكاد يخفيه الدمار ، فيا ليت أحد أثرياء المسلمين يجدده.

(٣) ومنهن السيدة (زينب بنت سيدي عبد الله المحض) ، وهي المشهورة ب (فاطمة النبوية) بالعباسية ، بالقاهرة ، ويطلق اسمها على شارع كبير هناك فيما حوالى قسم شرطة الوايلي الآن ، كما يجري على الألسنة ، وهي أخت سيدي إبراهيم الجواد ، المدفون رأسه الشريف بمسجده (بشارع البرنس) بالمطرية ، وأبوهما سيدي عبد الله الكامل المشهور بالمحض ، وضريحه (على المشهور) بشارع الشيخ عبد الله بحيّ عابدين الآن ، كما يجري على بعض الألسنة ، وعبد الله المحض هو : ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام عليّ .. وقيل : بل المدفون بمصر عبد الله الوليّ الصالح من نسب عبد الله المحض ، ولهذا نسب الضريح إليه ، وهذا أقرب إلى الواقع ، فلعبد الله المحض قصة مؤلمة معروفة.

__________________

(١) دخلت مصر هي وأخ لها يدعى محمدا (سنة ٢١٢ ه‍) ، أو (سنة ٢١٣ ه‍).

٨٤

(٤) ومنهن : الشريفة المباركة (زينب بنت حسن بن إبراهيم بن بللوه) النسابة من نسل إسماعيل المثلث بن أحمد بن إسماعيل المثنى بن محمد بن إسماعيل الإمام بن مولانا جعفر الصادق ، وهي من أهل القرن السابع ، وقد دفنت مع جدها إبراهيم عند باب المشهد السكيني بالقاهرة مع السادة الذين دفنوا هناك.

(٥) ومنهن : السيدة (زينب الإدريسية) بنت محمد بن عليّ بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن إدريس بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى ابن الحسن السبط بن الإمام عليّ ، وقبرها معروف بالقرافة النفيسية عند قبر السيد الشريف حيدرة ، ويتبرك الناس بالاستشفاع بها ، ودعاء الله عند قبرها ، الذي يكاد يهمل وينسى ويضيع فيما ضاع من قبور أهل البيت.

(٦) ومنهن : السيدة زينب (الكلثمية) من ذرية القاسم الطيب بن محمد المأمون ، وهم يعرفون بالكلثميين ، وأمها : (أم الذرية) فاطمة بنت موسى الكاظم ، وقبرها معروف يزار تبركا بقرافة الإمام الليث رضي‌الله‌عنه ، يكاد يندثر وينسى.

(٧) السيدة زينب بنت هاشم بن الحسين بن محمد بن الحسين بن عليّ بن محمد بن عليّ بن إسماعيل بن الأعرج بن جعفر الصادق ، قبرها في الزقاق الضيق ، بجوار قبر أبيها وأخيها ، قال السخاوي : وقبرها معروف ونسبها مكتوب عليه ، وتاريخ وفاتها (سنة خمس وأربعمائة).

قلت : ولا يكاد يعرف قبرها الآن ، ولا قوة إلّا بالله.

٨٥

(٨) زينب بنت موسى الكاظم : ذكرها العبيدلي النسابة ، وقال : إنها هاجرت إلى مصر ، مع زوج أختها القاسم بن محمد بن جعفر الصادق ، وقد اندثر قبرها.

وحسبنا ذكر هؤلاء (الزينبات) الشهيرات المدفونات بمصر ، وإن كانت قبورهن اليوم لسوء الحظ في سبيلها إلى الاندثار ، بل اندثر بعضها ، ولا قوة إلا بالله.

* ألقاب وكنى :

وقد كان أهل البيت جميعا يرجعون إلى رأي (أم هاشم) زينب الكبرى ، ولهذا سميت (صاحبة الشورى).

ولما جاءت مصر كان الوالي ورجاله يعقدون جلساتهم بدارها وتحت رياستها ، فسميت (رئيسة الديوان) .. وكان إليها يرجع آل البيت في أمورهم فسميت (عقيلة بني هاشم) ، وعرف أولادها ب (بني العقيلة).

وكانت دارها مأوى لكل ضعيف ومريض ومحتاج فسميت (أم العواجز) وكان لها مع الله جانب عظيم ، فظلت في الحياة وبعد الممات مهوى الأفئدة ، ومناط الاستشفاع والبركة ، ولهذا جعلت الجماهير أسماءها وألقابها وكناها إشارات ورموزا إلى بعض المعاني الروحية والغيبية.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). وليلهث الثرى بعد ذلك كل (ناصبي) حقود ، وكل ذي غل على أهل البيت والذين آمنوا.

٨٦

* دولة الأرواح :

وليس من شأننا هنا أن نتعرض لعقائد النّاس في رتبة ساداتنا آل البيت من العالم الثاني ، ودولة الأرواح ، فأمر ذلك إلى الله ..

وإنّما يكفينا من الناس حسن النية وسلامة الاعتقاد ، وما بقي من أمور الكشف والشهود والأذواق والمواجيد فليس هذا مقام البحث فيه ، أو الحكم عليه ، ومادام الأمر لا يتعارض مع أصول الشريعة ، ولا يجر إلى مفسدة ، فلا موجب قط للحملة عليه ، فإن أمامنا ما هو أولى يقينا بالجهاد والجهود فيما نرى من المفاسد السافرة والشرك الصريح.

وحسبنا هذا عن (الزينبات) ؛ ثم لنتكلم الآن عن (النفيستين) عليهما الرضا.

قال الإمام الرائد :

بنفسي آل طه ، من حباهم

إلهي في الحياة وفي الممات

فلو لا أنّهم خير البرايا

لما صلّى عليهم في الصلاة

أليس همو وإن قصّرت أهلي

وآبائي الكرام وأمهاتي

أحبهموا ، وأفنى في هواهم

ولا أخشى الذين أو اللواتي

٨٧

الباب الخامس

النفيستان المباركتان

٨٨

الباب الخامس

النفيستان المباركتان

* أولا : السيدة نفيسة الصغرى.

* ثانيا : السيدة نفيسة الكبرى.

أولا : السيدة نفيسة الصغرى :

مولاتنا السيدة نفيسة الصغرى بنت سيدي حسن الأنور (ويشتهر بالأكبر كذلك) ، وهو ابن زيد الأبلج ، ابن مولانا الإمام الحسن السبط ، ابن مولانا الإمام عليّ ، من مولاتنا فاطمة الزهراء البتول ، بضعة سيدنا ومولانا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومشهدها الآن بالقاهرة الباهرة في جنوبها الشرقي بسفح المقطم ، على يمين كوبري السيدة عائشة الحديدي في جنوب غربي القلعة ، بمنطقة تعرف تاريخيا بدرب السباع (بين منطقة القطائع والعسكر) التي كانت تعرف بكوم الجارح ، وقد أزالت البلدية ما حول المشهد من مبان ومقابر وغيرها ، وجعلت له ميدانا فسيحا رائعا ، وجددت بعض المباني من حوله ، وزينت الميدان بالنافورات والزروع.

ولم يجمع المؤرخون على شيء إجماعهم على أنّ السيدة نفيسة بنت الحسن مدفونة بمشهدها بمصر ، والدولة الآن بصدد توسيع مسجدها الشريف.

٨٩

وقد أخذ اسم نفيسة من النفاسة ورفعة الشأن والشرف ، وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحب الأسماء الجميلة ، ويغير بعض أسماء الصحابة بما هو أجمل وأكمل.

* ولادتها وزواجها وأولادها :

وقد ولدت رضي‌الله‌عنها بمكة في النصف الأول من ربيع الأول سنة مائة وخمس وأربعين من الهجرة ، وقضت صباها ب (المدينة) ، ملازمة القبر النبوي في أغلب الأوقات ، إذ كان والدها أميرا على المدينة للخليفة المنصور ، وقد أدركت طائفة من نساء الصحابة والتابعين وتلقت عنهن ، وحجت ثلاثين حجة ، أكثرها وهي تمشي على أقدامها ، وكانت تحفظ القرآن الكريم وتفسره ، وتفقّه به الرجال والنساء ، صوّامة قوّامة سخية غاية السخاء ، ولها كرامات لا تحصى كعمتها (زينب بنت عليّ) رضي‌الله‌عنهما.

وتزوجت في العشر الأولى من رجب سنة (١٦١) من أحد بني عمومتها ، السيد إسحاق المؤتمن (شقيق السيدة عائشة دفينة مصر) ، وهو ابن السيد جعفر الصادق بن السيد محمد الباقر بن السيد عليّ زين العابدين ابن مولانا الإمام الحسين رضي‌الله‌عنهم جميعا ، ورزقت منه ب (القاسم ، وأم كلثوم).

ولما ترك الإمام الحسن الأنور والد السيدة نفيسة ولاية المدينة خلفه عليها زوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق واليا للعباسيين ؛ فهي بنت أمير وزوجة أمير ، من أهل البيت.

٩٠

* نزولها إلى مصر ومنازلها فيها :

وفي العشر الأواخر من رمضان سنة (١٩٣ هجرية) نزلت مصر مع زوجها وأبيها وابنها وبنتها ، لزيارة من كان بمصر من آل البيت ، بعد أن زارت بيت المقدس وقبر الخليل ، واستقبلها أهل مصر عند العريش أعظم الاستقبال حتّى إذا دخلت مصر أنزلها السيد (جمال الدين عبد الله الجصاص) ، كبير تجار مصر ، في داره الفاخرة ، ثمّ انتقلت إلى دار (أم هانىء) بجهة المراغة المشهورة الآن بالقرافة ، وهناك كان إكرام الله لها بأن شفى من ماء وضوئها الفتاة المقعدة بنت أبي السرايا أيوب بن صابر اليهودي ، فأسلم أهلوها ومن كان معهم.

وحاول أبو السرايا نقل السيدة نفيسة إلى داره في درب الكروبيين ، وكان لهذه القصة دويّ هائل في أهل مصر ، فلازموا دارها ليل نهار بالمئات ، يلتمسون البركات ، وينتظرون الدعوات.

وهنا أزمع زوجها العودة بها إلى الحجاز ، فاستمسك أهل مصر بوجودها بينهم ، ورأت في المنام جدها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمرها بالإقامة في مصر ، فوهبها (عبد الله بن السري بن الحكم) والي مصر داره الكبرى بدرب السباع ، وهي الدار التي كانت لأبي جعفر خالد ابن هارون السلمي من قبل ، وحدد لزيارتها يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع ، مراعاة لصحتها ، وتمكينا لها من عبادتها ، وكانت تخدمها (زينب بنت أخيها يحيى المتوج) حتّى انتقلت إلى الرفيق الأعلى.

٩١

* بعض مآثرها :

وكان أهل مصر ربما شكوا إليها انحراف الوالي فوعظته وحذرته ، وذكرته بعذاب الله وحقوق النّاس ، فما تزال به حتّى يفىء إلى أمر الله.

وكانت مستجابة الدعاء ، فما دعت لأحد إلا استجاب الله له.

وكانت على شيء من طب العيون ، تجمع فيه بين الطب المعتاد والطب الرّوحي ، فيشفي الله قصادها ، ولهذا كان يهرع مرضى العيون إلى مشهدها بعد وفاتها التماسا للشفاء ، وكان من كراماتها أن أقامت الحكومة إلى جوار مشهدها مستشفى لأمراض العيون عرف باسمها ، ولكن الحكومة عادت فنقلته إلى مكان آخر ثمّ غيرت اسمه مع الأسف الشديد.

* نفيسة والشّافعي :

وكان لها دخل كبير في حضور الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشّافعي رضي‌الله‌عنه إلى مصر ، ولهذا كان رضي‌الله‌عنه يكثر زيارتها والتلقي عنها ، وفي صحبته عبد الله بن الحكم رضي‌الله‌عنه ، وكان يصلي بها في مسجد بيتها ، وخصوصا تراويح رمضان ، وكانت تقدره رضي‌الله‌عنه ، وتمده بما يكفيه ويعينه على أداء رسالته العلمية الكبرى.

ولما مات الشّافعي رضي‌الله‌عنه في رجب سنة (٢٠٤ ه‍) حملوه إلى دارها فصلّت عليه مأمومة بالإمام أبي يعقوب البويطي ، ودعت له وشهدت فيه خير شهادة (١) ، وقد حزنت على وفاته حزنا كبيرا.

__________________

(١) قالت عنه عبارتها العجيبة المشهورة : «رحم الله الشّافعي فقد كان يحسن الوضوء» ، وهي شهادة تدلّ على فقه السيدة نفيسة رضي‌الله‌عنها التي أطلقوا عليها لفقهها (نفيسة العلم والمعرفة).

٩٢

* وفاتها ودفنها :

وبعد وفاة الشّافعي بدأت السّيّدة نفيسة تعد نفسها للقاء مولاها ، فحفرت قبرها بيدها تباعا في حجرتها بمنزلها الذي أهداه إليها والي مصر عبد الله بن السري بن الحكم بدرب السباع ، وهو الذي أصبح فيما بعد مشهدها ومسجدها الحالي ، وكانت تصلي في قبرها الذي حفرته بيدها في حجرتها ، وقرأت فيه عشرات الختمات من القرآن تبركا واستشفاعا ، بعد أن بناه خير البنائين ، تسابقا لمرضاتها ليرضى عنهم الله تعالى.

وفي يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان سنة (٢٠٨ ه‍) اشتد مرضها. قالوا : وكانت تقرأ سورة الأنعام ، حتّى إذا وصلت قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فاضت روحها إلى الرفيق الأعلى راضية مرضية (١).

* بعض أحبائها :

وكان ممن يتبرك بزيارته لها : مولانا أبو الفيض ذو النون المصري ، والإمام أبو الحسن الدّينوري ، وأبو عليّ الروزباري ، وأبو بكر الدّقّاق ، وأبان الواسطي ، والإمام إسماعيل المزني الشّافعي ، والإمام أبو يعقوب البويطي الشّافعي ، والفقيه عبد الله بن وهب القرشي المالكي ، والإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي ، وأبو نصر سراج الدين المغافري ، والفقيه أبو بكر الحداد ، والإمام أبو الحجاج الأشبيلي ، والإمام يوسف بن يعقوب الهروي ، والمحدّث الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي ، والإمام أبو

__________________

(١) فتكون السيدة نفيسة رضي‌الله‌عنها قد مكثت في مصر نحو (١٥ عاما) رحمها الله ، وكان المتقدمون يبدءون زيارات أهل البيت والصالحين بزيارتها.

٩٣

عبد الله القضاعي ، والإمام أبو زكريا السخاوي ، والفقيه الإمام أحمد بن زروق المالكي الصوفي ، وشيخ قراء مصر الإمام ورش المقرىء ، والإمام المحدث الحافظ الشيرازي ، والحافظ أبو طاهر السلفي ، وأبو الحسن الموصلي .. إلى مئات من سادات السادات ، وأئمة الأئمة في علوم الدين والدنيا ، مما يدل على رفعة قدرها ، وعلو مقامها.

وقد جرّب كبار أصحاب القلوب التوسل إلى الله بها ، ودعاءه تعالى عند قبرها ؛ فاستجاب لهم ربهم ، ولا يزال سبحانه يستجيب لرواد هذا المشهد الحبيب ، وهم دائما صفوة الصفوة ، وخصوصا رجالات الشرطة والقضاء والوزارء ، بالإضافة إلى الجماهير الغفيرة من مصر والبلاد الإسلامية.

* * *

تاريخ مشهدها :

وقد أنشأ قبرها أمير مصر عبد الله بن السري بن الحكم ، ثمّ جدده الخليفة المستنصر بالله الفاطمي ، ثمّ بنى قبته الخليفة الحافظ لدين الله الفاطمي ، كما بنى الحافظ لكبار الفاطميين في جوار المشهد مقبرة (دخلت في المسجد الحالي عند توسعته).

ثمّ جدد المشهد الملك الناصر محمد بن قلاوون ، وهو الذي أنشأ المسجد بجوار المشهد ، وأسند نظارته إلى الخليفة المعتضد بالله بن المستكفي بالله العباسي من سلالة خلفاء بني العباس الذين هاجروا إلى مصر من العراق بعد أن دخلها المغول .. وبعدها جددهما (أي المسجد والمشهد) الأمير عبد الرحمن كتخدا ، ووقف عليه (٤٥٠) فدانا ، وعددا كبيرا من الحوانيت

٩٤

والعقارات المختلفة .. ثمّ جدده على وضعه الحالي الخديوي عباس حلمي الثاني ، ثمّ جددته الحكومة وأعلنت أنها ستوسعه.

* أبوها وأخوتها وأبناؤها :

وللسيدة نفيسة عشرة إخوة من أبيها الحسن الأنور ، وأمهم أم سلمة زينب بنت الحسن المثنى بن مولانا الحسن الإمام السبط بن الإمام عليّ. أمّا هي رضي‌الله‌عنها فمن أم وحدها غير أمهم أم سلمة رضي‌الله‌عنها.

وقد مات في مصر أبوها سيدي حسن الأنور المشهور أيضا بالأكبر ، وقبره معروف بحيّ (مصر القديمة) ، ودفن معه في مشهده ابنه زيد أخو نفيسة ، كما دفن بمصر أيضا أخوها يحيى المتوج ، وقبره معروف عند الإمام الليث في جوار مدفن سيدي يحيى (الملقب بالشبيه بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهو المشهور ب (يحيى الحسيني) ، وكان السلطان أحمد ابن طولون قد استقدمه من الحجاز تبركا به ، فانتفع أهل مصر بطهارة أنفاسه ودعوته الطاهرة إلى الله حتّى توفاه الله ، وهذه القبور لسوء الحظ مهجورة ويخشى اندثارها.

ويوجد بهذه المنطقة في شارع الخليفة قبر سيدي محمد الأصغر الشهير ب (محمد الأنور) بن زيد الأصغر بن الحسن الأكبر بن زيد الأكبر المعروف بالجواد بن الحسن بن عليّ رضي‌الله‌عنهم.

ف (محمد الأنور) على هذا هو ابن أخي السيدة نفيسة بنت الحسن الأكبر ، ويظن بعضهم خطأ أنّه عمها ، وليس كذلك.

أمّا زوجها إسحاق ، فكان قد حضر لزيارتها كعادته ، فإذا حضوره

٩٥

هذه المرة يصادف (من إكرام الله لها) يوم وفاتها ، فتولى بنفسه جميع شئونها كوصيتها ، وترك جسدها الشريف وديعة عند أهل مصر كطلبهم ، ثمّ استصحب ابنها وابنتها (القاسم وأم كلثوم) معه إلى الحجاز رضي‌الله‌عنهم جميعا.

* * *

من شعر السيدة نفيسة قولها :

في أمور تكون ، أو لا تكون

سهرت أعين ، ونامت عيون

والذي قد كفاك ما كان

بالأمس سيكفيك في غد ما يكون

قالوا : ولما حضرتها الوفاة جاء الطبيب ، فنظرت إلى من حولها وقالت :

أبعدوا عنّي طبيبي

ودعوني وحبيبي

زاد بي شوقي إليه

وهيامي ونحيبي

رضي‌الله‌عنها وعن جميع أهل البيت.

هذه هي مولاتنا السيدة نفيسة الصغرى ، أشهر آل البيت بعد مولاتنا السيدة زينب بنت عليّ رضي‌الله‌عنهما وعمن يحبهما.

٩٦

ثانيا : السيّدة نفيسة الكبرى :

أمّا السيّدة نفيسة (الكبرى) فهي مولاتنا السيّدة : نفيسة بنت الإمام زيد الأبلج بن مولانا الإمام الحسن السبط بن مولانا الإمام عليّ.

* فهي عمة نفيسة (الصغرى) ، لأنّها أخت والدها سيدي حسن الأنور بن زيد الأبلج ، كما أنها شقيقة سيدتنا رقية بنت زيد رضي‌الله‌عنها ، وأمها : لبابة بنت عبد الله بن العبّاس رضي‌الله‌عنها ، عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* وكانت نفيسة الكبرى زوجة للخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي ، وكانت قد جاءت مصر معه حين كان واليا على مصر ، قبل أن يتولى الخلافة.

* ولما تولى الخلافة بالشام اختلفت نفيسة معه على حقوق الله عليه لعباده فطلقها ، فرحلت إلى مصر عند ابنة عمها سيدتنا سكينة بنت الإمام الحسين ، قبل مجىء السيدة نفيسة الصغرى بوقت طويل ، واستفاضت شهرة صلاحها وتقواها وعلمها وعبادتها وبركاتها فأمّها أهل مصر ، وتبركوا بها كعادتهم مع كافة آل البيت.

* وكان عبد الله بن عبد الملك بن مروان أخو مطلقها ، هو والي مصر حينئذ فوهبها دارا في شمال مصر القديمة الشرقي ، والمعروف أنّ هذه الدار التي وهبت لنفيسة الكبرى ، وكانت مجاورة أو ملحقة بدار أم هانىء التي نزلت فيها نفيسة الصغرى فيما بعد ، بالمراغة ، ثم اشتهرت بمعبد السيدة نفيسة حتّى الآن.

٩٧

* وقد دفنت في هذه الدار (أو ذلك المعبد) مولاتنا السيدة نفيسة الكبرى ، وهي التي يزورها النّاس إذ يزورون هذا المكان باسم المعبد ، ولا يكاد جمهورهم يفرق بين النفيستين والمشهدين ، بل لعل أغلب النّاس لا يعرف أن بمصر نفيسة صغرى ونفيسة كبرى ، رضي‌الله‌عنهما وأرضاهما ، وأرضى أهل البيت جميعا ، ثمّ نتكلم الآن عن السكينات الطاهرات بإذن الله تعالى.

* * *

قال الإمام الشافعي :

إذا في مجلس نذكر عليّا

وسبطيه وفاطمة الزكيه

يقال : تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث الناصبيه

برئت إلى المهيمن من أناس

يرون الرفض حبّ الفاطميه

٩٨

الباب السادس

السكينات الكريمات

أولا : السيدة سكينة الكبرى بنت الإمام الحسين.

ثانيا : السيدة سكينة الصغرى وسمياتها.

أولا : سكينة الكبرى بنت الإمام الحسين :

السيدة سكينة بنت الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه ، واسمها الأصلي (آمنة) ، أمها (الرباب) بنت امرىء القيس الكندي ملك (بني كلب) ، ولدت عام (٤٧ ه‍) ، وهي أول من دخل مصر من أبناء الإمام عليّ رضي‌الله‌عنه ، كما نقله جماعة منهم ابن الزيات وابن زولاق مؤرخ مصر المحقق في القرن الرابع ، وينطق اسمها المشهور (بضم السين وفتح الكاف) تصغيرا على وزن (بثينة) ، وقد أخذ اسم (سكينة) من الهدوء والأمن والاستقرار والرضا ، وقد جمعت في دمها بين آثار النبوة من أبيها الحسين ، وبين جلال الملوكية العربية من أمها الرباب.

* سبب دخولها مصر :

وكان سبب دخولها مصر ، أن خطبها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أمير مصر كما ذكره (ابن خلكان) ، وكانت قد عادت من الحجاز الذي ذهبت إليه بعدما أدخلت مصر مع عمتها السيدة زينب ، وكان من سياسة الأمويين بعد مقتل الحسين ، محاولة التخفيف من وقع الحادث عند

٩٩

النّاس ، بالتقرب إلى أهل البيت بالزواج منهم ، وإسناد بعض الإمارات والمناصب إلى من يأمنونه من أهل البيت.

وبينما سكينة في طريقها إلى مصر ، إذ بلغها شناعة بغي الأصبغ وجوره وفجوره ، فأقسمت ألا تكون له زوجة أبدا ، واستجاب الله لها ، فما إن وصلت منية الأصبغ في مصر ، حتّى كان قد مات الأصبغ قبل أن يراها ، وكانت قبل ذلك قد تزوجت بابن عمها عبد الله بن الحسن بن عليّ رضي‌الله‌عنه.

وهكذا انتقلت من (منية الأصبغ) إلى دارها ، التي بقيت بها إلى أن ماتت ، ثمّ أصبحت هذه الدار لها مشهدا ومسجدا إلى اليوم ، وقد جدده عبد الرحمن كتخدا ، ثمّ جددته وزارة الأوقاف ، قريبا من مشهد السّيّدة نفيسة ، ومشهد السّيّدة رقية بنت عليّ الرضا رضي‌الله‌عنهما. وهذا هو الملاحظ في كثير من أهل البيت والسّادة الأولياء ، فإنّهم كثيرا ما تكون بيوتهم في حياتهم هي مدافنهم بعد مماتهم ، ولله في ذلك حكمة.

وقد جاء عن والدها الإمام الحسين قوله :

لعمرك إنّني لأحبّ دارا

تكون بها سكينة والرّباب

أحبّهما وأنفق جلّ مالي

وليس لعاتب عندى عتاب

فقد كان رضي‌الله‌عنه يحبها ويحب أمها الرباب كل الحب ؛ لما كانتا عليه من جمال وكمال.

* * *

١٠٠