مراقد أهل البيت في القاهرة

محمّد زكي إبراهيم

مراقد أهل البيت في القاهرة

المؤلف:

محمّد زكي إبراهيم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات ورسائل العشيرة المحمّدية
المطبعة: دار نوبار للطباعة
الطبعة: ٦
الصفحات: ٢٤٠

الباب الثالث

رأس الإمام الحسين

بمشهده بالقاهرة تحقيقا مؤكدا حاسما

* آراء وأدلة وشهادة العلماء والمؤرخين المنصفين الراسخين فى العلم.

* مع معالم ومعلومات هامة ...

أولا : رأي المؤرخين وكتاب السيرة :

يجمع المؤرخون وكتّاب السيرة (سوى المتمسلفة) على أنّ جسد الحسين رضي‌الله‌عنه دفن مكان مقتله في كربلاء ، أمّا الرأس الشريف فقد طافوا به حتّى استقر ب (عسقلان) الميناء الفلسطيني ، على البحر الأبيض ، قريبا من مواني مصر وبيت المقدس.

وقد أيّد وجود الرأس الشريف ب (عسقلان) ونقله منها إلى مصر جمهور كبير من المؤرخين والرواد ، منهم : ابن ميسر ، والقلقشندي ، وعليّ بن أبي بكر الشهير بالسايح الهروي ، وابن إياس ، وسبط ابن الجوزي.

وممن ذهب إلى دفن الرأس الشريف بمشهد القاهرة المؤرخ العظيم عثمان مدوخ إذ قال : إنّ الرأس الشريف له ثلاثة مشاهد تزار : مشهد بدمشق دفن به الرأس أولا (١). ثمّ مشهد بعسقلان بلد على البحر

__________________

(١) يقول أكثر المؤرخين : إنّ مسجد الرأس بدمشق كان منزلا من المنازل التي أقام بها حملة الرأس لتخويف النّاس ولم يكن مدفنا للرأس أبدا.

٤١

الأبيض ، نقل إليه الرأس من دمشق ، ثمّ نقل إلى المشهد القاهري لمصر بين خان الخليلي والجامع الأزهر.

ويقول المقريزي : إنّ رأس الحسين رضي‌الله‌عنه نقلت من عسقلان إلى القاهرة في ٨ جمادى الآخرة عام ٥٤٨ ه‍ ، وبقيت عاما مدفونة في قصر الزمرد حتى أنشئت له خصيصا قبة هي المشهد الحالي ، وكان ذلك عام ٥٤٩ ه‍.

ثانيا : شهادة الدكتور الحسيني هاشم :

يقول فضيلة الشيخ الحسيني هاشم وكيل الأزهر وأمين عام مجمع البحوث ـ رحمه‌الله ـ تعليقا على ما دسّه النّسّاخون على كتاب الإمام السيوطي (حقيقة السنة والبدعة) ما ملخصه :

وقد أكّد استقرار الرأس بمصر أكبر عدد من المؤرخين منهم (ابن إياس) في كتابه ، و (القلقشندي) في صبح الأعشى ، و (المقريزي) الذي عقد فصلا في خططه المسمى (المواعظ والاعتبار) ص ٤٢٧ ، وص ٤٢٨ ، وص ٤٣٠ يؤكد رواية (ابن ميسر) أن الأفضل بن أمير الجيوش بدر الجمالي هو الذي حمل الرأس الشريف على صدره من عسقلان ، وسعى به ماشيا حيث وصل مصر يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ٥٤٨ هجرية ، وحلت الرأس في مثواها الحالي من القصر يوم الثلاثاء ١٠ من جمادى الآخرة سنة ٥٤٨ هجرية عند قبة باب الديلم ، حيث الضريح المعروف الآن بمسجده المبارك. وكذا (السخاوي) ـ رحمه‌الله ـ قد أثبت رواية نقل رأس الحسين إلى مصر.

٤٢

ثالثا : الرأي الرسمي لمصلحة الآثار :

تقول الأستاذة (عطيات الشطوي) المفتشة الأثرية الثقة والمشرفة المقيمة على تجديد القبة الشريفة في عصرنا :

تؤكد وثائق هيئة الآثار أنّ رأس الحسين رضي‌الله‌عنه نقل من عسقلان إلى القاهرة ـ كما يقول المقريزي ـ في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة الموافق (٣١ أغسطس سنة ١١٥٣ م) ، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم واليها ، وحضر في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخر المذكور (الموافق ٢ سبتمبر ١١٥٣ م).

ويضيف المقريزي : فقدم به (الرأس) الأستاذ مكنون في عشارى من عشاريات الخدم ، وأنزل به إلى الكافوري (حديقة) ، ثمّ حمل في السرداب إلى قصر الزمرد ، ثم دفن في قبة الديلم بباب دهليز الخدمة (المقر الحالي).

وفي العصر الأيوبي أنشأ أبو القاسم بن يحيى بن ناصر السكري المعروف بالزرزور منارة على باب المشهد سنة ٦٣٤ ه‍ (١٢٣٦ م) ، وهي منارة مليئة بالزخارف الجصية والنقوش البديعة ، وهي تعلو الباب الأخضر ، وقد تهدم معظمها ، ولم يبق منها إلا القاعدة المربعة ، وعليها لوحتان تأسيسيتان (وقد جددت وهي موجودة الآن).

وقد احترق هذا المشهد في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة

٤٣

٦٤٠ ه‍ ، وقد قام بترميمه بعد هذا الحريق القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ، ووسعه وألحق به ساقية وميضأة ، ووقف عليه أراضي خارج الحسينية قرب الخندق (ويقول بعض بحاثة المؤرخين : إن الذي أحرق المشهد هم اليهود بمصر).

واستمرت عمليات التوسع والإضافة حتّى جاء الأمير كتخدا فقام بإصلاحات كثيرة ، ففي سنة ١١٧٥ ه‍ أعاد بناء المسجد وعمل به صهريجا وحنفية بفسحة ، وأضاف إليه إيوانين ، كما رتب للقائمين عليه مرتبات كثيرة ظل معمولا بها حتى سنة ١٢٠٦ ه‍.

ولما قدم إلى مصر السلطان عبد العزيز سنة ١٢٧٩ ه‍ ، وزار المقام الحسيني الشريف ، أمر الخديوي إسماعيل بعمارته وتشييده على أتم شكل وأحسن نظام ، وقد استغرقت هذه العملية عشر سنوات إذ تمت سنة ١٢٩٠ ه‍ ، أمّا المنارة التي في جنوب غربي المسجد فقد تمت سنة ١٢٩٥ ه‍ ، وهي غير المنارة الأيوبية التي في جنوب شرقي المسجد.

أمّا في عهد ثورة ٢٣ يوليه سنة ١٩٥٢ م فقد عنيت عناية خاصة بتجديد مسجد الحسين وزيادة مساحته وفرشه وإضاءته حتى يتسع لزائريه والمصلين به. وقد بدأت هذه التجديدات سنة ١٩٥٩ م ، وتمت سنة ١٩٦٣ م وبلغت جملة تكاليفها ٨٣ ألف جنيه.

* * *

٤٤

رابعا : دليلان آخران :

الدليل الأول :

لقد أراد الله أن يقطع حجّة القائلين بعدم وجود الرأس بالقاهرة ، وأن يسمهم على الخرطوم ، فقد عثر الباحثون بالمتحف البريطاني بلندن من سنوات [أشرنا إليها بمجلة المسلم في حينها] على نسخة خطية محفوظة من «تاريخ آمد» لابن الأورق (المتوفى عام ٥٧٢ ه‍) ، وهي مكتوبة عام (٥٦٠ ه‍) ـ أي قبل وفاة المؤرخ باثنتي عشرة سنة ـ ومسجلة بالمتحف المذكور تحت رقم (٥٨٠٣ شرقيات) ، وقد أثبت صاحب هذا التاريخ بالطريق اليقيني أن رأس الحسين قد نقل من عسقلان إلى مصر (عام ٥٤٩ ه‍) ، أي في عهد المؤرخ ، وتحت سمعه وبصره ، وبوجوده ومشاركته ضمن جمهور مصر العظيم في استقبال الرأس الشريف.

ولا نظن أن مخلوقا يتمتع بذرة من الإنصاف يماري في وجود الرأس الشريف بمصر بعد ذلك ، أو يماري في أن ظهور هذه النسخة الخطية من هذا الكتاب في هذا الوقت إنّما هو كرامة لأهل البيت جميعا ، وللحسين رضي‌الله‌عنه بخاصة ، ولو علم (ابن تيمية) وهو خصم الحسين الأخصم بذلك لتاب إلى الله من قوله (ولعلّها رأس يهودي بمصر) ، سامحه الله ، وبصّر السائرين على منهجه ، بما هو أهدى وأندى وأجدى.

الدليل الثاني :

معروف أنّ الدولة الفاطمية بمصر كانت محل تناظر وتنافس بالغ ومخاصمة مع الدولة العبّاسية بالعراق ، وكانت كل دولة منها تتسقط

٤٥

للأخرى مواقع الزلل ، ومواطن الأخطاء للتشهير بها ، وإضعاف مركزها ، وبخاصة في مثل هذه الموضوعات التي يتأثر بها الجماهير ، مهما كان الخلاف بينهم في أبناء علي ، وأبناء العبّاس ، فكان صمت العباسيين وغيرهم (دولة وشعبا) على هذا الحدث الخطير أكبر دليل على صحة وجود الرأس بعسقلان ، ثمّ على صحة نقلها من عسقلان إلى مصر.

وقد غاب هذا الدليل عن المتحدّثين على كثرتهم في هذا الجانب رغم أنّه دليل قاطع حاسم.

* * *

خامسا : شهود عدول مع وجود الرأس الشريف بالقاهرة :

نقل في أواخر (بحر الأنساب) ما ملخصه (بتصرف) أنّ العلامة الشبراوي (شيخ الأزهر لوقته) ألّف كتابا أسماه (الإتحاف) أثبت فيه وجود الرأس بمقره المعروف بالقاهرة يقينا .. وذكر أن ممن أثبتوا ذلك السّادة الأعلام :

(١) الإمام المحدّث الحافظ زكي الدين المنذري.

(٢) الإمام المحدّث الحافظ ابن دحية.

(٣) الإمام المحدث الحافظ نجم الدين الغيطي.

(٤) الإمام مجد الدين بن عثمان.

(٥) الإمام محمد بن بشير.

(٦) القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر.

٤٦

(٧) القاضي عبد الرحيم.

(٨) كما أكد هذا الشيخ عبد الله الرفاعي المخزومي في مؤلفه.

(٩) والشيخ ابن النحوي في مؤلفه.

(١٠) والشيخ القرشي في مؤلفه.

(١١) والشيخ الشبلنجي في مؤلفه.

(١٢) والشيخ حسن العدوي في مؤلفه.

(١٣) والشيخ الشعراني في أكثر من مؤلف.

(١٤) والشيخ المناوي في مؤلفه.

(١٥) والشيخ الصبان في مؤلفه.

(١٦) والشيخ الأجهوري في مؤلفه.

(١٧) كما أكده الشيخ أبو المواهب التونسي.

(١٨) الشيخ أبو الحسن التمار.

(١٩) الشيخ شمس الدين البكري.

(٢٠) الشيخ كريم الدين الخلوتي.

وجماهير الصوفية على اختلاف المراتب والأسماء والمشارب والأوطان ، مما يرفع الحكم إلى درجة التواتر ؛ لعدم التسليم بتواطؤ كل هؤلاء على الكذب أو على الجهل والغفلة والتعصب ، بالإضافة إلى كبار المؤرخين الذين أسلفنا ذكرهم.

٤٧

وتم الإجماع على أن الرأس الطاهر وصل إلى القاهرة من عسقلان في (يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة خمسمائة وتسع وأربعين) فحمله الأمير (سيف المملكة مكين) والقاضي (ابن مسكين) إلى السرداب الخليفي العظيم بقصر الزمرد ، فحفظ مؤقتا بالسرداب من عاشر جمادى الآخرة في خلافة (الفائز الفاطمي) على يد وزيره (الصالح طلائع بن رزيك) ، حتّى بنى القبر الحالي والقبة عند باب (الديلم) ، الواقع وقتئذ في الجنوب الشرقي من القصر الكبير ، والمعروف الآن بالباب الأخضر ، فحمل الرأس الشريف من السرداب العظيم إلى هذا القبر ، ودفن به في الثلاثاء الأخير من ربيع الآخر على المشهور من العام التالي ، وهو موعد الذكرى السنوية الكبرى بمصر للإمام الحسين رضي‌الله‌عنه.

* * *

سادسا : قول فصل في الموضوع :

تحقيق علمي حاسم

لأختنا في الله الدكتورة الأثرية الحاجة سعاد ماهر

عميدة كلية الآثار (سابقا)

وفي كتاب (أولياء الله الصالحون) للعلامة الأثرية المحققة الدكتورة سعاد ماهر تحدثت بإفاضة عن موضوع الرأس الشريف ، فجمعت بين العلم والمنطق والعقل والعاطفة.

٤٨

وبعد أن فندت الروايات التي تقول بدفن الرأس بعيدا عن القاهرة أفردت بداية من صحيفة (٣٧٤) من الكتاب المذكور هذا التحقيق العظيم ، الذي تقول فيه ما نصه :

ولكن ما السبب في اختيار مدينة عسقلان بالذات لكي تكون مقرا للرأس؟ وهي مدينة لم تحدثنا كتب التاريخ بأنّها كانت مركزا من مراكز الشيعة (مثلا) .. اللهم إلا إذا أريد أن يكون الرأس في مكان قريب من (بيت المقدس) من جهة ، وقريب من (الساحل) من جهة إخراجها من (المشرق) ، حيث لاقى الشيعة الشيء الكثير من اضطهاد الأمويين أولا ، ثمّ العباسيين ثانيا ، ليمكن نقلها في يسر إلى (شمال أفريقيا وبلاد المغرب مثلا) حيث اتجه عدد عظيم من الشيعة!!!.

ومهما يكن من أمر فقد بات في حكم المؤكد أنه لم يكن في القرن الخامس الهجري وجود للرأس في دمشق ؛ بل كان في مدينة عسقلان للأسباب الآتية :

أولا : يؤيد وجود الرأس بعسقلان في العصر الفاطمي نص تاريخي منقوش على منبر (المشهد) الذي أعاد بناءه بدر الجمالي وأكمله ابنه الأفضل في عصر الخليفة المستنصر.

ولما نقل الرأس إلى مصر ، نقل المنبر إلى المشهد الخليلي بالقدس ، والمنبر ما زال موجودا حتى الآن هناك.

أمّا النص الكتابي فقد جاء فيه : «الحمد لله وحده لا شريك له ، محمّد رسول الله ، عليّ ولي الله ، صلى الله عليهما وعلى ذريتهما

٤٩

الطاهرة ، سبحان من أقام لموالينا الأئمة مشهدا ، مجدا رفع راية ، وأظهر معجزا بين كل وقت وآية ، وكان من معجزاته تعالى إظهار رأس مولانا الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلّى الله عليه وعلى جده وأبيه وأهل بيتهم ، بموضع بعسقلان كان الظالمون ستروه فيه ، وإظهاره الآن شرفا لأوليائه الميامين ، وانشراح صدور شيعته المؤمنين ، ورزق الله فتى مولانا وسيدنا معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلّى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين».

ثانيا : جاء في المقريزي (١ / ٤٠٨) أنّ المؤرخ ابن المأمون ذكر في حوادث سنة ٥١٦ ه‍ أن الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله أمر بإهداء قنديل من ذهب وآخر من فضة إلى مشهد الحسين ، وأهدى إليه الوزير المأمون قنديلا ذهبيا له سلسلة فضية.

ثالثا : لو كان الرأس موجودا في مكان آخر غير عسقلان ، سواء في الشام أو خارجها ، لما عزّ على خلفاء الدولة الفاطمية الوصول إليه ، وهم كما نعلم من الشيعة الإسماعيلية ، وقوتهم الدينية تعتمد في أكثر ما تعتمد على نسبهم لفاطمة الزهراء .. أمّا قوتهم السياسية فقد فاقت الدولة العبّاسية ، إذ امتدت الدولة الفاطمية من مصر وبلاد الشام والحجاز واليمن شرقا إلى شمال أفريقيا وبلاد المغرب غربا ، بل إنّه حدث في عهد الخليفة المستنصر أن نادى البساسيرى أحد كبار الشيعة بسقوط الدولة العباسية في بغداد والبصرة وواسط وجميع الأعمال ، وذكر اسم الخليفة المستنصر الفاطمي على منابرها في خطبة الجمعة ، وفي هذا أكبر شاهد على تلك القوة.

٥٠

رابعا : ما ذكره عثمان مدوخ في كتاب (العدل الشاهد) من العثور بالقرب من باب الفراديس على طاق مسدود بحجر عليه كتابة تفيد أنه مشهد الحسين فلما رفع الحجر وجدت الفجوة خالية من الدفن ، مما يؤيد نقل الرأس منها.

خامسا : جاء في المقريزي (٢ / ١٧١) : «وبنى طلائع مسجدا لها (يعني الرأس) خارج باب زويلة من جهة الدرب الأحمر ، وهو المعروف بجامع الصالح طلائع ، فغسلها في المسجد المذكور على ألواح من خشب» يقال : أنها لا زالت موجودة بهذا المسجد.

فممّا لا شك فيه أنه قد أحضرت إلى القاهرة رأس الإمام الحسين ، وليس من مستغرب أن تكون قد غسلت في مسجد الصالح طلائع ، ويؤيد هذه الرواية ما كشفت عنه الحفائر التي أجريت سنة (١٩٤٥) ، من وجود مبان بجوار الجهة الشرقية للواجهة البحرية لجامع الصالح طلائع ، عليها كتابات أثرية منها (أدخلوها بسلام آمنين) ، ومثل هذه العبارة تكتب عادة على مداخل المدافن ، ولذلك فإنّه من المرجح أن تكون هذه الكتابات من بقايا المشهد الذي بناه الصالح طلائع مجاورا لمسجده لكي يدفن فيه رأس الحسين (كما ذكر ابن دقاق).

سادسا : جاء في كتاب (العدل الشاهد في تحقيق المشاهد) : «أن المرحوم عبد الرحمن كتخدا القزدغلي ، لما أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الشريف (سنة ١١٧٥ ه‍) ، قيل له : إن هذا المشهد لم يثبت فيه دفن ، فأراد تحقيق ذلك فكشف المشهد الشريف بمحضر من النّاس ، ونزل

٥١

فيه (الأستاذ الجوهري الشّافعي والأستاذ الشيخ الملّوي المالكي) ، وكانا من كبار العلماء العاملين ، وشاهدا ما بداخل البرزخ ، ثم ظهرا بما شاهداه ، وهو كرسي من الخشب الساج ، عليه طشت من ذهب ، فوقه ستارة من الحرير الأخضر ، تحتها كيس من الحرير الأخضر الرقيق ، داخله الرأس الشريف ، فانبنى على إخبارهم تحقيق هذا المشهد ، وبني المسجد والمشهد ، وأوقف عليه أوقافا يصرف على المسجد من ريعها».

* * *

هذا ، ولا أجد في هذا المقام خيرا من العبارة التي جاءت في المقريزي أختم بها موضوع الرأس الشريف : «ولحفظة الآثار وأصحاب الحديث ونقلة الأخبار ، ما إذا طولع وقف منه على السطور ، وعلم منه ما هو غير المشهور ، وإنما هذه البركات مشاهدة مرئية ، وهي بصحة الدعوى ملية ، والعمل بالنية».

أو كما قال ابن الجوزي : «ففي أي مكان كان رأس الحسين أو جسده فهو ساكن في القلوب والضمائر ، قاطن في الأسرار والخواطر» (انتهى).

نقول : وبعد هذا التحقيق العلمي الحاسم (وما قدمناه قبله) لم يبق وجه للملاحاة والجدل حول هذا الموضوع ، ويجب العلم بأنّه ليس من أمهات العقائد حتّى تتاجر به (هيئات المنتفعين بالدعوة الوهابية) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، والحسين هو الحسين ، أمس واليوم وغدا ، إلى يوم القيامة ، ولينطح الصخر من أراد أن يدمر رأس نفسه.

* * *

٥٢

سابعا : معالم ومعلومات :

١) الرأس والمشهد والقبة :

يقول المقريزي : نقلت رأس الحسين رضي‌الله‌عنه من عسقلان إلى القاهرة في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (الموافق ٣١ أغسطس سنة ١١٥٣ م) ، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم واليها ، وحضر في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخر المذكور (الموافق ٢ سبتمبر سنة ١١٥٣ م).

ويضيف المقريزي : «فقدم به (الرأس) الأستاذ مكنون في عشارى من عشاريات الخدمة ، وأنزل به إلى الكافوري (حديقة) ، ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرد ، ثم دفن في قبة الديلم بباب دهليز الخدمة».

ويضيف ابن عبد الظاهر : «إن طلائع بن رزيك بنى جامعه خارج زويلة ليدفنه (أي الرأس) به ، ويفوز بهذا الفخار ، فغلبه أهل القصر على ذلك ، وقالوا : لا يكون ذلك إلّا عندنا ، فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له ونقلوا الرخام إليه ، وكان ذلك في خلافة (الفائز) على يد (طلائع) في سنة تسع وأربعين وخمسمائة».

ويفهم من هذين النصين أن الرأس بقي عاما مدفونا في قصر الزمرد ، حتى أنشئت له خصيصا قبة (هي المشهد الحالي) وذلك سنة ٥٤٩ ه‍.

قالوا : ولما جاءت الدولة الأيوبية جعل صلاح الدين بالمشهد حلقة تدريس وفقهاء ، وفوضها للفقيه البهاء الدمشقي ، وما كان ليفعل ذلك لو لا تأكده من وجود الرأس الشريف في هذا المكان.

٥٣

ولما تولى الوزارة معين الدين حسين ابن شيخ الشيوخ ابن حمويه في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب بنى إيوانا للتدريس ، وبيوتا للفقهاء في مكان المسجد الحالي بجوار المشهد ، ثمّ توالت التجديدات والصيانات والإصلاحات والتوسعات بهذا الحرم المصري ، ولا زالت تتوالى حتى اليوم وغدا بإذن الله.

٢) وصف القبة المباركة :

وقد كتب ابن جبير وصفا شاملا دقيقا للقبة والمدرسة جاء فيه :

«فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وهو في تابوت من فضة مدفون تحت الأرض ، قد بني عليه بنيان جميل ، يقصر الوصف عنه ، ولا يحيط الإدراك به ، مجلل بأنواع الديباج ، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا أبيض ، ومنه ما هو دون ذلك ، قد وضع أكثره في أتوار فضة خالصة ومذهبة ، وعلقت عليه قناديل فضة ، وحفّ أعلاه كله بأمثال (التفافيح) ذهبا في مصنع شبيه الروضة ، يقيد الأبصار حسنا وجمالا ، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مما لا يتخيله المتخيلون ، والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثلها في التأنق والغرابة ، وحيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة ، وعلى يمين هذه الروضة المذكورة وشمالها ، وهما على تلك الصفة بعينها ، والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع».

* * *

٥٤

٣) القبة في عصرها الحديث :

وفي عصرنا هذا اهتمت الدولة بكل هيئات الاختصاص فيها بتجديد هذه القبة المباركة على أحدث الفنون التكنولوجية ، فحقنت الحوائط واستبدلت بالقبة القديمة قبة عظيمة ، صبتها من معدن خاص لا يقبل الصدأ ، ولا التغير ، قامت بصنعه الشركات الألمانية بالمواصفات التي طلبت منها ، كما قامت بإعادة النقوش والرخام الداخلي على ما كان عليه ، حفظا للصورة الأثرية المباركة ، وقد شاركت جماعة (البهرة الهندية) بفرش الضريح بأرقى أنواع المرمر الشفاف.

وقد حضر افتتاح الزيارة بالقبة الجديدة وزراء الدولة وكبار علمائها ، ورجال مجلسي الشعب والشورى ، وقد تحدّث السيد وزير الأوقاف وقتئذ فضيلة الدكتور الأحمدي أبو النور أستاذ الدراسات العليا بالأزهر ، كما تحدّث كبار رجال الدولة ، بينما كان الميدان والطرقات من حول المسجد مليئة بأفراد الشعب من كل الطبقات يهللون ويكبرون.

* * *

٤) أضرحة القبة الشريفة :

وقد أبلغني الأخ المرحوم الشيخ (عرفة الكبير شيخ المسجد الحسيني السابق) وهو والد الأخ الشيخ محمد عرفة الشيخ الحالي للمسجد الحسيني ، وكان رحمه‌الله رجلا مهذبا صالحا ثقة ترجى بركاته ، أبلغني أنّه عرف من سابقيه عند تجديد المسجد الحسيني بأمر السلطان الخليفة عبد العزيز خان في زيارته لمصر ، وتخليد ذكرى هذه الزيارة بتسمية

٥٥

(شارع عبد العزيز) الممتد بين ميدان العتبة الخضراء وميدان الجمهورية (عابدين).

قال : «كان الضريح الطاهر ينزل الزوار إليه بعدد من السلالم ، فأنشأ المهندسون سقفا عظيما على مستوى أراضي المسجد فوق القبر فتكونت فوق القبر غرفة وضع فيها مقصورة صغرى ، وبعض التحف القيمة على سبيل التذكار ، ونقلت المقصورة الخشبية الكبرى إلى أعلى ، وأبلغني أنه رأى هذه الغرفة ، ثم نقلت المقصورة الخشبية الكبرى إلى ضريح (السيدة رقية بنت عليّ الرضا) في منطقة السيدة نفيسة ، ولا تزال إلى الآن ، واستبدل بها المقصورة النحاسية التي ظلت شارة جليلة على الضريح ، حتى أهدى سلطان البهرة المقصورة الفضية الموجودة الآن على القبر ، وهي مكفتة بالذهب ومزينة بالأحجار الكريمة ، وقد قبلتها مصر بمطلق الإعزاز وبالغ التكريم لصاحب القبر العظيم ، ولكن على الزائر ألا ينشغل أبدا بهذه المظاهر ، وأن يتخطّاها إلى التزام الحكمة الشرعية في الزيارة بشروطها المقررة عند فقهاء الإسلام وعند أهل الله الصالحين ؛ فهذه المظاهر من دلائل المحبة ، كما ميّز سيدنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر عثمان بن مظعون دون بقية قبور الأصحاب بحجر كبير ليتعرف به عليه ، حبا فيه ، ولكل زمان أحكامه ومقتضياته المتغيرة القابلة لمختلف أحكام الشرع فيما عدا الفرائض والعبادات ، والحمد لله رب العالمين.

* * *

٥٦

٥) البناء الحالي للمسجد :

ولما قدم مصر السلطان عبد العزيز سنة ١٢٧٩ ه‍ ، وزار المقام الحسيني الشريف أمر الخديو إسماعيل بعمارته وتشييده على أتم وأحسن نظام ، وقد استغرقت هذه العملية بإشراف راتب باشا عشر سنوات إذ تمت سنة ١٢٩٠ ه‍ ، وقد أسهب على مبارك في خططه في وصف المسجد ، وهو البناء الحالي ، وما بذله الخديو إسماعيل الذي فتح بجوار المشهد (سنة ١٢٩٥ ه‍ / سنة ١٨٧٨ م) شارع السكة الجديدة من آخر الموسكي شرقا حتّى وصل إلى تلول البرقية المعروفة ب (الدرّاسة) الآن ، و (الموسكي) نسبة إلى (موسك) أحد كبار الدولة الأيوبية الذي أنشأ هذا الشارع ، وقد انتقد علي مبارك سوء التصرف الهندسي الذي قام على أساسه المسجد والواجهة والنوافذ والأبواب ، أشد الانتقاد ، وتابعه كثيرون ، فإنها دون ما كان يرجى لهذا المشهد العظيم.

* * *

٦) قاعة المخلفات النبوية :

وقد أنشئت للمخلفات النبوية قاعة خاصة جنوبي المرقد الحسيني الشريف ، بنيت على أحسن طراز ، وزيّنت أفخر زينة ، وللقاعة الشريفة بابان : أحدهما إلى المسجد ، والآخر يؤدي إلى القبة.

وقد كتب على جدران الغرفة من الداخل على الرخام : البسملة وسورة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

٥٧

وبعد ذلك النص الآتي : «ذكر ما هو محفوظ بهذه الخزانة المباركة من آثار المصطفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثار خلفائه رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، تشمل هذه الخزانة من الآثار النبوية على قطعة من قميصه الشريف ، ومكحلة ، ومرود ، وقطعة من القضيب ، وشعرتين من اللحية الشريفة ، وبها أيضا مصحفان كريمان بالخط الكوفي ، أحدهما بخط سيدنا عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، والآخر بخط سيدنا الإمام عليّ كرم الله وجهه ، وهكذا كتب».

وكانت هذه المخلفات بجامع أثر النبيّ بمصر القديمة قبل نقلها إلى هذه القاعة ، بعد التأكد من صحة نسبها إلى سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقلها من مكان إلى مكان.

وبمناسبة تجديد القبة أهدى رجال (البهرة) الهنديون للباب الفاصل بين القبة الشريفة وحجرة المخلفات بابا جديدا مغلفا بالذهب الخالص ، ومكفّتا بالفضة والأحجار الكريمة ، تقديرا منهم للآثار النبوية والرأس الشريف.

* * *

٧) واجهة المسجد وجهود العشيرة المحمدية :

منذ أكثر من أربعين عاما و (العشيرة المحمدية) ـ كما هو مسجل بمجلتها (المسلم) ـ تدعو وتجاهد وتكافح عمليا في سبيل وصل ميداني الحسين والأزهر ومسجديهما ، وإزالة جميع المباني بينهما حتّى يكون هناك ميدان مناسب لإنشاء واجهة عظيمة للمشهد الحسيني تتناسب

٥٨

ومنزلته في القلوب ، ومع توالي الإلحاح استجابت بعض الجهات المسئولة إلى ما استطاعت ، حتّى قررت وزارة الأوقاف إقامة واجهة جديدة تتقدم الواجهة القديمة بحيث تليق بمنزلة صاحب المقام ، وجعلت طول هذه الواجهة (٤٥) مترا وعرضها (٨) أمتار ، وروعي في الواجهة الجديدة أن تكون أقصر من القديمة ، حتّى تظهر شرفات الواجهة القديمة ، وقد صممت هذه الواجهة بحيث جاءت آية في الدقة والإبداع ، وتتكون الواجهة من حائط تزخرفه سبعة عقود مدببة ، يرتكز كل منها على عمودين من الرخام ، ويحيط بهذه العقود شريط من الزخارف الجصية البديعة ، ويستعمل ثلاث من هذه العقود كأبواب ، أما الأربعة الباقية فهي نوافذ ، وستكون النوافذ مملوءة بالبرنز المخرم ، وكذا النصف العلوي من الأبواب ، وستتدلى من الحوائط المحصورة بين العقود مشكاوات بديعة التصميم ، ويعلو كل منها دائرة من الزخارف الجصية في توازن وتماثل محكم .. وستقام مئذنة في الطرف الجنوبي الشرقي مماثلة للمئذنة الموجودة في الطرف الجنوبي الغربي ومن نفس الطراز ، (مجاورة للمئذنة الأيوبية الموجودة الآن).

ثمّ حالت الظروف المالية الطارئة دون سرعة التنفيذ حتّى تبرع أحد كبار المحبين بمبلغ نصف مليون جنيه لتحقيق هذا الحلم الجميل بحق ، وبدأت إحدى الشركات الكبرى عملها فعلا ، ثمّ تصدّى لها بعض المسئولين بأسباب غير مقنعة إطلاقا ، فأوقف العمل وحطم الأمل ، ولكن الله غالب على أمره ، وسوف يتحقق الأمل بإذن الله يوما من الأيام ،

٥٩

والذي أوقف العمل أحد كبار ثورة يوليو ، ولا شك أنه حسن النية ، و (ما شاء الله كان).

* * *

٨) وصف القبة الحسينية بعد التجديد :

أولا : التجديد والهدايا :

أعمال الإصلاح والترميم التي تمت في عصرنا (١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م) للقبة الحسينية بعد أن تصدعت القبة القديمة وأزيلت ، وحقنت الجدران بآخر ما عرفه العلم الحديث من مواد التقوية هذه الأعمال تعتبر من أكبر الأعمال المعمارية العظيمة ، والتي انتهت بعد طول معاينات ومناقشات ومقترحات فنية مختلفة ، استغرقت أكثر من عام كامل بين هيئات الاختصاص.

وقد سبق أن نقلنا وصف القبة القديمة ، وهنا ننقل ملخصا لوصف القبة الجديدة خدمة للتاريخ ، يضاف ذلك إلى هدية طائفة (البهرة) في المناسبات ، وقد سبق لهم أن أهدوا المشهد الحسيني هذا الضريح الكبير الفضي الفاخر ، المكفت بالذهب الخالص ذو الأحجار الكريمة ، كما سبق أن أهدوا المشهد الزينبي هذا الضريح النادر والقبة الداخلية الرائعة ، وكلها من الفضة والذهب المرصع بالأحجار الكريمة.

ثانيا : البهرة والهدية الجديدة :

وهؤلاء السّادة البهرة من أحفاد رجال الدولة الفاطمية الذين هاجروا

٦٠