مراقد أهل البيت في القاهرة

محمّد زكي إبراهيم

مراقد أهل البيت في القاهرة

المؤلف:

محمّد زكي إبراهيم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات ورسائل العشيرة المحمّدية
المطبعة: دار نوبار للطباعة
الطبعة: ٦
الصفحات: ٢٤٠

بيان حقيقة الموت

والفرق بين الموتى والأحياء

عقلا ونقلا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حمدا لله ، وصلاة وسلاما على مصطفاه ، ومن والاه في مبدأ الأمر ومنتهاه

١) مقدمة وتمهيد :

أما قبل :

فإنه إنما ينبني الخلاف بيننا وبين إخواننا (المتمسلفة) على أنّهم فهموا الموت فهما غير إسلامي ، ولو أنهم رجعوا إلى إمامهم (ابن القيم) وأخذوا عنه مذهبه في خلود الرّوح وتصرفها بعد الموت ، وأنها ثمّ تزيد ولا تنقص ، وتعمل ولا تخمل ، لما انعقد بينهم وبين النّاس خلاف.

فهم قد ظنوا الموت فناء تاما ، وعدما محضا للإنسان ، جسم محبوس في القبر يتصرف فيه الدود والبلى ، وروح محبوس فيما شاء الله من عذاب أو نعيم ، وانتهى الأمر على ذلك فلا علاقة لميت بحي ، رغم أنه يزور قبره ، ويسلم عليه ، ويحج عنه ، ويتصدق عليه ، ويحدثه بما جاء في أحاديث السّلام على الميت ، وزيارته وبره بعد موته ، وإلا كان كل هذا عبث شنيع.

٢٠١

٢) إجماع علماء المشرق والمغرب

على حياة الأرواح بالبرزخ :

والكلام في حياة الأرواح وعملها وتصرفها وارتقائها بعد الموت كلام معاد حرّره وقرّره وكرّره من القديم غطارفة العلم والمعرفة (١) ، وتوفر على تحقيقه أعلام الفحول في الدين والفلسفة ، فإن شئت فارجع إلى : ابن سينا وابن رشد وابن القيم ، وابن مسكويه والغزالي ومحيي الدين ، والقشيري وابن الحاج وابن هشام ، والقسطلاني والعسقلاني وإخوان الصفا ، والفخر الرازي والدباغ والمناوي.

وإن شئت فارجع إلى مؤلفات رجال عصرنا ، مثل : «الأرواح» للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ، و «سبيل السعادة» للأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ، و «المطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية» للأستاذ الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي.

بل إن أردت فارجع إلى ما كتبه علماء الفرنجة من ملاحدة الغرب في أوربا وأمريكا ، أولئك الذين كشف الله على أيديهم الجم الوفير من أسرار التصرف الروحي في هذا العالم الكوني ، فألّفوا من أجله مئات المجامع العلمية ، وخصصوا لخدمته عشرات المجلات الفنية (٢).

__________________

(١) وأقدم مؤلّف نعرفه تناول الرّوح وأحكامها هو كتاب (المنامات) للحافظ ابن أبي الدنيا المتوفى (سنة ٢٨١ ه‍) ، وهو مطبوع ، وله أيضا كتاب على صلة بموضوعنا هو كتاب (من عاش بعد الموت) ، وقد قام بطبعه الشيخ محمد الحافظ التجاني رحمه‌الله.

(٢) على اختلافنا معهم في كثير مما ذهبوا إليه ، وحذرنا من التلبيسات المغرضة والأكاذيب المفضوحة ، ولكن ذلك لا يمنع من استفادتنا من تجربتهم وإن كانت تعتمد على المادة في استكشاف ما وراء المادة.

٢٠٢

ثم إن شئت فاقرأ (على أطلال المذهب المادي) لفريد وجدي ، ومجموعة مؤلفات أحمد فهمي أبو الخير.

ثمّ ارجع بعد ذلك إلى كتب المناقب والأخبار والطبقات تجد هناك تطبيق ما قرره هؤلاء ، وما كشفوه ، وما علله به اليوم علماء الكيمياء والطبيعة مما لم يكن معلوما من قبل من أسرار الأثير والكهرباء والأشعة والمغناطيسية والاهتزازات والذبذبات ، وحقيقة ماوراء المادة.

وحكمة الله في كشف هذه الحقائق على أيدي غير المسلمين مفهومة في دعوتهم إلى الإسلام وإكباره في قلوبهم ، وترسيخ ما جاء به في نفوس المؤمنين.

إذن ؛ فقد فرق العلم القديم والحديث في الشرق والغرب ، بين الموحدين والمشركين والوثنيين والملحدين ، والعقلاء والمجانين ، من تقرير حياة الأرواح ، وأنّ لها عالما برزخيا راقيا ، له نظام وترتيب دقيق موقوت بالإذن الإلهي في توزيع حالات السجن والانطلاق والإحاطة.

وأن الأرواح هناك تتلاقي وتتزاور وتتذاكر ، وتتباهى وتتعلم وتتعبد ، وتحج وتعتمر وتصلّي ، لا تكليفا «على قول» ؛ بل رغبة في التزيد من التمتع بلذّة العبادة.

كما قد ثبت عقليا وشرعيا : أن هذه الأرواح تتنقل من مرتبة إلى مرتبة ، وأنها تتسامى حتّى تعمل عمل الملائكة (١) ، وأنها تتصل بهذا العالم البشري ، وتعلم منه وتعمل فيه ما شاء الله بإذنه في حدود منزلة الروح من الله تعالى.

__________________

(١) كما جاء في حديث : «رأيت جعفر في رفقة من الملائكة يبشرون أهل (بيشة بالمطر» ، ولذا سمي جعفر الطيار ، وسيأتي تخريج الحديث.

٢٠٣

٣) حديث : «إذا مات ابن آدم ...» :

ولقد ذهب جمهور من المحققين من خاصة أهل السنة إلى أن حكم التكليف منسحب إلى ما بعد الموت ، على نهج إلهي خاص يجري مع مقتضيات حياة البرزخ.

ثم قالوا : فلا يرتفع هذا التكليف حتّى يسجد أهل الأعراف السجدة التي تثقل بها موازينهم.

قالوا : فإنه إن لم يكن التكليف منسحبا إلى هذه اللحظة ما نفعت هذه السجدة في شيء قط ، وهذا ثابت في السنة الصحيحة.

أمّا احتجاج بعضهم بحديث : «إذا مات (الإنسان) ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (١) ، فهو مراد به عمله الدنيوي الحادث بوساطة الهيكل البشري ، وهذا لا ينافي أن يكون لروحه عمل آخر حتميا ، بمقتضى نصوص الآيات ومفاهيم

__________________

(١) رواه مسلم (٢ / ١٦٧ نووي) ، وأبو داود (٢ / ١٠٦) ، والترمذي ، والنسائي ، والبخاري في الأدب المفرد.

والحديث واضح الدلالة في أن المراد : عمل الإنسان لنفسه في حياته ، لا عمل غيره له ، إذ أن ما ذكر في الحديث من عمله في حياته يقينا لا محالة ، وأهل الحديث على أنّ الحصر ليس على إطلاقه ، وأن العدد لا مفهوم له ، بدليل ما رواه ابن ماجه (١ / ٨٨) ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما نشره ، وولدا صالحا تركه ، ومصحفا ورثه ، ومسجدا بناه ، وبيتا لابن السبيل بناه ، ونهرا أجراه ، وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته». ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (٢ / ٣٤٤) ، وقد نظم السيوطي ذلك ، كما سيأتي.

٢٠٤

الأحاديث الثوابت ، كما حققه السيوطي نظما (١) ، وهذا دليل على حياة الروح وانتفاعها بعمل الغير بعد الموت ، وكل هذا غير وصول ثواب عمل الأحياء له كالصّلاة والصدقة عليه والحج عنه والدعاء له ، وسداد دينه وزيارته ؛ فهو هنا منتفع بغير عمله.

* * *

٤) الخلايا الخالدة وعجب الذنب :

ولقد أثبت التشريح العلمي الحديث أن بالجسم خلايا حية بذاتها لا تتلاشى بالموت ، ولا تتحول بفعل الطبيعة ؛ فلعلّ هذه الخلايا هي إن صح ذلك الجزء الخاص من الجسم الإنساني المعروف عند بعض علماء المسلمين ب (عجب الذنب) ، وفيه قولهم بأنه أول ما يحيا من الإنسان يوم ينفخ في الصور.

ويكون المعنى إن صح على الوجهين : إن هذه الذرات الخالدة هي أساس التكوين الثاني ، وبذوره التي تتداعى إليها بقية أجزاء الجسم بطريقة الجذب المغناطيسي ، أو غيره.

وقد تدلّ له صحاح أحاديث البعث التي نبهت على أن الجسم يومئذ

__________________

(١) قال السيوطي رحمه‌الله :

إذا مات ابن آدم ليس يجري

عليه من فعال غير عشر

علوم بشها ، ودعاء نجل

وغرس النخل والصدقات تجري

وراثة مصحف ، ورباط ثغر

وحفر البئر أو إجراء نهر

وبيت للغريب بناه يأوي

إليه ، أو بناء محل ذكر

وتعليم لقرآن كريم

فخذها من أحاديث بحصر

٢٠٥

ينبت من الأرض كما تنبت الزروع بعد أن تمطره السماء ماء الحياة ، ونكون بذلك قد حصلنا على دليل علمي جديد على عدم فناء جميع ذرات الجسم بالموت.

وإذا صحّ هذا الكشف كانت هذه الذرات كذلك هي أساس العذاب والنعيم الجسماني في القبر لصلته الخاصة بالرّوح ، وتعلقها بها على صورة تقربها من عقولنا ، صورة اتصال الشمس بالأرض ، فإننا نحس حرارتها في شدتها ولينها ، وندرك حركاتها في فلكها ، ونتأثر أو يتأثر الكون بانتقالاتها في بروجها ، مع انفصالها عنها تمام الانفصال.

٥) مسألة إحياء ليلة الأربعين :

فهذا تقريب أمر اتصال الرّوح بالجسد في نعيمهما وعذابهما ، على القول باشتراكهما معا في ذلك ، خصوصا في الأيام الأولى بعد الوفاة ، حين يكون نوع تعلق الرّوح بالجسم على أشده.

وهذا مجمل الأثر النبوي القائل بأن خاصة رجال الله لا يبقون في قبورهم بعد أربعين ، ثم هم قيام عند ربهم ، فهذه هي أقصى مدة شرعية لشدة نوع تعلق الرّوح بالجسد عند الصّالحين بعد الموت. وهي عند غيرهم كذلك غالبا بدليل الأثر القائل بتكرار السؤال في القبر ، أحيانا إلى أربعين يوما ، ولا يعتبر ذلك سببا في التشبه بغير المسلمين في إحياء ليلة الأربعين للموتى ؛ فهذا لم يرد عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عن صالح السلف ، وإنما هي اجتهادات مجردة ، ليس منها ليلة الأربعين.

٢٠٦

وأكثر ما جاء من أحاديث هذا الباب فيه نظر ، وهذا لا يمنع القول بأن هذين الخبرين هما أساس اهتمام أكثر أهل الموتى من المسلمين عادة ببذل الصّدقات وكثرة الاستغفار والترحم عليه في هذه المدة ، والاهتمام كذلك بالإكثار من ذلك وإن لم يأت به نص أكيد ، ولعل من أسبابه ما قد جاء من أن السؤال في القبر قد يتكرر إلى أربعين يوما بحسب عمل كل إنسان.

٦) من افترسه الوحش أو اكله السمك :

وحين نقول ذلك فيستشكل علينا بعضهم بحال من افترسه الوحش أو أكله السمك مثلا ولا قبر له؟!.

فإنا نستطيع أن نقول : إن الرّوح صورة تامة للجسد ، كما هو مذهب مالك وبقية المحققين ، فأمام كل ذرة من الروح ذرة من الجسد تخدمها وتعمل فيها عملها ، ومهما توزعت ذرات الجسم في البر والبحر والمشرق والمغرب والمكشوف والمحجوب ؛ فلكل منها علاقتها المستقلة بما يقابلها من جزئيات الروح ، وإليها يصل أثر النعيم أو الجحيم من هذا الجزء المقابل لها على ما قدمنا.

فلا موجب إذن للاعتصام بمذهب عنصر النعيم والعذاب على الرّوح وحدها ؛ فالجزاء على الرّوح والجسد جميعا ، لاشتراكهما معا في كسب مقتضى الجزاء ، والله يفعل ما يشاء.

والمهم في المسألة على الرأيين : إثبات أن هناك روحا حية ذات إدراك وبقاء وعلاقة بوجه من الوجوه بالجسد حيث يكون ، غير أنه لا بأس من فضل إشارة إلى ما يختص بأجساد خاصة أهل الله كالأنبياء والأولياء ، فقد

٢٠٧

ثبت في العقائد من صحيح الأحاديث مؤيدا بالوقائع التاريخية أن أجسامهم لا تبلى (١) ، طردا لقانون خرق العادة معهم في الحياتين ، وقد جاء القرآن في ذلك بدليل قاطع عند الكلام على نبيّ الله سليمان قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(٢) أي أن الجن مع سعة علمهم وتمام إدراكهم لم يستطيعوا التمييز بين حالتي الموت والحياة في نبيّ الله سليمان لعدم تغير حال جسمه بعد الموت.

وقد أشهد الله عباده في الدنيا صورة إعادة الروح والبدن إلى ما كانا عليه قبل الموت في قصة : (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ ،) وهم طائفة من بني إسرائيل هربوا من الطّاعون ، ونسوا الله فأماتهم سبحانه ثمّ أحياهم بدعوة نبيهم «حزقيل».

وكرر الله تعالى ذلك بصورة أخرى في قصة «العزيز» (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.)

__________________

(١) أورد ابن القيم رحمه‌الله في كتابه «الروح» جملة كبيرة من الآثار والوقائع على ذلك ، فمن شاء فليراجعه.

(٢) تأمل الدقة في قوله تعالى : (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ،) لا جسده ، والجسد محفوظ لا يبلى للأنبياء والأولياء.

٢٠٨

ثم كرر الله هذا أيضا على يد نبيه إبراهيم في قصة أربعة الطير حيث ذبحها وجعلها أشلاء ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ثم دعاهن فأتينه سعيا بإذن الله ليطمئن قلبه.

ولا ننسى بهذه المناسبة أن الأرواح في الدنيا تشعر بالعذاب أو النعيم تبعا للجسم لأن الجسم مسلط عليها في هذه الدار ، وعلى العكس من ذلك يعذب الجسم وينعم في الدار الثانية تبعا للروح ، حيث تكون هي المسلطة عليه (١).

٧) الأجسام والأرواح والبرزخ :

فليس من غرضنا هنا إلا أن نثبت حياة الأرواح ، وإنما جاء ذكر الأجسام عرضا واستطرادا ، فالنتيجة العلمية القطعية لما قدمنا ، والنتيجة الاعتقادية اليقينية كذلك ، في جميع الأديان السماوية ، أن النّاس في الدنيا والآخرة كما هم في البرزخ أحياء حياة كاملة ، لها مقوماتها وآثارها ، وما الموت إلا انتقال من حال إلى حال خير منها (لمن صلح) ، واستبدال دار بدار أوسع وأكرم ، إذ ما من دين سماوي إلا قام على دعامتين :

الأولى : التوحيد ، ومقتضياته من العبادة والرياضة والأخلاق.

الثانية : الحياة بعد الموت ، مع ما فيها من الجزاء ومقتضيات ذلك وأسبابه.

__________________

(١) وفي الحديث : «ما من عبد يمر بقبر عبد فيلقي عليه‌السلام إلا رد عليه‌السلام وعرفه» (تأمل!!).

٢٠٩

٨) نصوص الكتاب والسنة

على حياة البرزخ وأسرار عالمه :

قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ،) ولا مخصص قطعي الدلالة ، ولا مقتضى لقصر الحكم البرزخي على المجاهدين بالسيف وحدهم طمعا في فضل الله ورحمته ، وسبيل الله : كل ما أمر به ونهى عنه ، ومنه جهاد النفس ، فما جرى على روح فهو يجري على غيرها ، مع اختلاف الحال والجزاء بما يناسب كل روح لاشتراك الحقيقة الروحية ومقتضاها بين الجميع.

فالشهداء ومن والاهم عند ربهم يرزقون ، والأشقياء ومن جاراهم عنده كذلك يؤاخذون ، وفيهم قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، أي في البرزخ بدليل قوله بعد ذلك : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، وعليه قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وقد استقصى الاستدلال عقلا ونقلا في هذا المقام ، إمام السنة «الفخر الرازي» رضي‌الله‌عنه في تفسير : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وتفسير : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) وتفسير : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ،) وغير ذلك.

ووافقه كل من وليه من ثقات المفسرين إلى الألوسي ومن بعده ، كما تكفل الغزالي والمناوي وابن القيم وغيرهم بتبيين حقائق عذاب البرزخ

٢١٠

ونعيمه بالآيات والأحاديث ، فليراجع. وقد أثبتوا جميعا تصرف الأرواح الصّالحة بعد الموت بإذن الله ، أي استخدامه تعالى إياها فيما شاء على ما جرى في علمه القديم ، حتّى استأهلت أن تكون من (المدبرات أمرا) مع الملائكة ، واستحقت شرف الإقسام بها في كتابه العزيز.

٩) إطلاق لفظ الروح ومعناه والإسراء :

قال بعض شيوخنا : إننا إذا لم نشأ أن نلتزم القول بأن الروح في بعض الآيات هو «جبريل» أو غيره من الملائكة ، جاز لنا والله أعلم أن نقول : إنّ الروح في مثل قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) هي أرواح خاصة رجال الله المقربين ، وكثيرا ما تجد أن السياق ومفاهيم صحاح الآثار على ترجيح القول بذلك في بعض الآيات التي ذكرت فيها الروح والملائكة.

أمّا أحاديث المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياة البرزخ ، فشيء جم لمزيد وفير ، حسبك منها حديث الإسراء في المتن والسند ، وقد رواه بألفاظه وطرقه جميع رجال الحديث (١) ؛ وأثبتوا فيه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى إماما بأرواح الأنبياء مجتمعة لتكريمه في المسجد الأقصى ، وناب عنهم جده إبراهيم عليه‌السلام في خطبة التشريف بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورد عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبته بما هو منصوص في مظانه من الكتب.

__________________

(١) وأخذوا به فيما عدا الشيخ عبد الجليل عيسى ، وقلة نادرة من سابقيه ولا حقيه غفر الله لهم ، وقد استوفى أحاديث الإسراء تخريجا الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله في شرحه على مسند الإمام أحمد.

٢١١

ثمّ التقى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عروجه إلى السموات العلى بأرواح من شاء الله من الأنبياء يتعبدون ، وكان له معهم حديث منصوص ، كما حدث بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين موسى في شأن الصلوات الخمس ، وكما رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرواح أمته في صورة الأسودة (١) أى الجماعات المختلفة ، ولو لم يكن في الموضوع إلا هذا الحديث مضافا إلى الآيات السوابق لكان أساسا لا ينقض لتحقيق القول بحياة الموتى في البرزخ ، وعملها فيه.

١٠) أدلة أخرى على حياة البرزخ :

ثمّ : ألا ترى كيف شرع لنا أن ننادي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاتنا أثناء السّلام عليه في التشهد نداء الأحياء الحاضرين ، نقول : «السّلام عليك أيها النّبيّ ورحمة الله وبركاته» ، ثمّ نوجه السّلام بعد ذلك إلينا وإلى عباد الله الصالحين أحياء وأمواتا جميعا إطلاقا.

كما أمرنا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نخاطب الموتى كذلك خطاب الأحياء الحاضرين إذا نحن زرناهم فنلقي عليهم‌السلام وندعوا لهم ، ونبلغهم أننا سنلحق بهم ، تذكيرا لنا وتأنيسا لهم ، أي أننا نحدثهم في قبورهم حديث من يزور بيوت الأحياء من إخوانه ، كل ذلك ثابت في حديث (مسلم) من طريق سليمان بن بريدة ومن طريق عائشة ، وأخرجه الترمذي من طريق ابن عبّاس ، كما أخرجه أصحاب السنن والمسانيد والجوامع والمستدركات ، وما ذلك إلا لكي يتأكد في قلوبنا تمام الإيمان بحياة البرزخ الرّوحية بعد الموت.

__________________

(١) الأسودة بوزن (أمثلة) جمع سواد بمعنى الجموع والطوائف.

٢١٢

وقد ثبت ثبوتا يقينيا من طرق شتى : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغب الأمة في الصّلاة عليه ، وأخبر أنّ الصّلاة تبلغه حيثما كان المصلّي عليه (١) ، ومقتضى هذا أن تكون حياته في برزخه وقبره حياة عملية إحاطية جامعة ، ليست مجرد تعطل وانتظار ليوم النشور.

وروى النسائي وأحمد ومسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حياة موسى في قبره قائما يصلي (٢).

وروى البيهقي وأبو ليلى في مسنده ، من حديث أنس رضي‌الله‌عنه ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» (٣).

قال ابن النجار : «أي بأذان وإقامة».

وعليه ما رواه السيوطي في الجامع الصغير وحسنه.

قال العزيزي : وتمامه عند مخرجه الطبراني وهو في هذا المعنى.

قال الزرقاني في المواهب والقسطلاني والرملي وعليش وغيرهم : إن

__________________

(١) أخرج أبو داود في سننه (٤٨٤٢) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٣٦٧) ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم». وله شواهد.

(٢) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد والبيهقي وأبو يعلى وابن حبان. وانظر كتاب حياة الأنبياء للإمام البيهقى.

(٣) رواه البيهقي في «حياة الأنبياء» ، وابن عدي في «الكامل» ، والبزار ، وأبو نعيم في «تاريخ أصفهان» ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» ، وأبو يعلى ، وصححه المناوي ، وقال عنه الكتاني في «نظم المتناثر» : متواتر.

٢١٣

الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون (١) ويصومون ويحجون ويعتمرون ويستكثرون من الصالحات نافلة غير مفروضة ، ويثابون على ذلك طردا لقانون العدل الإلهي ، والله لا يضيع أجر المحسنين.

وقد سبق تكرير تقرير أن ما ثبت للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد ثبت كذلك للموتى (إلا عند ورود الخصوصية) .. وقد نقل علماؤنا موافقة السلف لجميع ذلك ، ومنهم : ابن عباس وقتادة والحسن وعمر بن عبيد ، حتّى واصل بن عطاء المعتزلي وأتباعه ، والجبائي ومن وليهم ، وجمهرة المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين بلا خلاف .. ولم ينقل مطلقا عن فرقة إسلامية مهما انفردت بمذهب وعقيدة أنها أنكرت حياة البرزخ وأسرار عالمه العظيم.

١١) مزيد من الأحاديث :

وقد روى البخاري ومسلم «أن الميت إذا دفن ، وتولى عنه أصحابه ، يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه».

وإذا قيل : إن هذا يكون قبل السؤال.

قلنا : ويكون كذلك بعده لصريح الآيات النازلة في فرعون بسورة غافر ، ثم لتحقيق الوعد بحصول النعيم أو العذاب في الخبر الثابت القائل : «القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النّار» ، ولتصديق

__________________

(١) روى الحافظ الدارمي في سننه ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : «لمّا كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا ، ولم يقم ، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد ، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها من قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

٢١٤

الحديث الصحيح من شقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجريدة ووضعها على القبر رجاء التخفيف عن صاحبيه اللذين كانا يعذبان.

ومن توصية الصحابة أن يقف المشيعون على القبر مسافة نحر جزور ، لعل ذلك أن يخفف عنه.

وجاء في الصحيحين وغيرهما بألفاظ شتى ، عن أبي طلحة رضي‌الله‌عنه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتلى المشركين في بدر فألقوا في قليب (وهو بئر غير مبنية) فجاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوقف عليهم وناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؛ فإنّي وجدت ما وعدني ربي حقا» ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ ؛ فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لي منهم». وهذا الحديث الصحيح قد فصل الأمر بما لا يحتاج إلى تفصيل.

وخرّج السيوطي عن ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور» ، عن عائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها ، أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتّى يقوم».

وخرّج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة ، وروى مثله ابن عبد البر رضي‌الله‌عنه ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مرّ الرجل بقبر يعرفه فسلّم عليه رد عليه‌السلام وعرفه ، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلّم عليه رد عليه‌السلام».

قال الحافظ السيوطي : أخرج الحارث بن أسامة في مسنده عن جابر

٢١٥

رضي‌الله‌عنه ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أحسنوا أكفان موتاكم أي ألزموا بها السنّة فإنّهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم».

وبه أخذ صاحب كنز الأسرار ومن بعده.

١٢) ومزيد أيضا من الأحاديث :

وفي الأربعين الطائية عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا» ، وهذا بالطبع والجبلة من حيث أن الروح لا تزال تحتفظ بجميع خصائصها واتجاهاتها.

وروى الديلمى عن عائشة رضي‌الله‌عنها ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» (١).

قلت : وهذا بالطبع يقتضى أنه يسرّه في قبره ما يسرّه في بيته ، فهو إذن في برزخه يعلم فيرضى أو يغضب ، ويؤيده ما في فتح الباري ، وحسنه ابن حجر وغيره ، قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبلى فيستعبر له صواحبه ، فيا عباد الله لا تعذبوا أمواتكم».

وفي هذا الحديث تقرير صريح لاتصال الميت بالحي وتأثره بحالته حزنا

__________________

(١) وروى أحمد في مسنده بإسناد صححه الحافظ في فتح الباري (٣ / ١٧٨) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال له : «لا تؤذ صاحب القبر» ، وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار (١ / ٢٩٦) من حديث ابن عمرو ابن حزم بلفظ : رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قبر ؛ فقال : «انزل عن القبر ، لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك».

٢١٦

وفرحا ، ويؤيده دعاء أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه الذي يقول فيه : «اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أعمل عملا تخزي به أخوالي» (١).

وروى ابن عدي ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد أن قتل سيدنا جعفر رضي‌الله‌عنه : «عرفت جعفرا في رفقة من الملائكة يبشرون أهل بيشة بالمطر» (٢) ، وبيشة بلد باليمن.

ومقتضى هذا الخبر : أن من الأرواح ما يرتقي بإذن الله حتّى يبلغ رتبة الملائكة فيعمل عملهم ، كما تقرر ذلك في تفسير قوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ،) وهو ليس ببعيد ، فمن قبل ارتقى إبليس ، وهو من الجن ، حتّى صار مع الملائكة ؛ فارتقاء الأرواح في البرزخ أولى وأجدر ، لا محالة ، عدلا وفضلا من الغفور الرحيم.

وروى ابن المبارك عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تعرض

__________________

(١) الأثر أورده ابن القيم في كتاب : (الروح) ، وابن رجب في (أهوال القبور) ، والسيوطي في غير كتاب له ، وعزوه إلى ابن أبي الدنيا ، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب (المنامات) بسنده إلى بلال بن أبي الدرداء ، قال : كنت أسمع أبا الدرداء ، وهو ساجد يقول : «اللهمّ إنّي أعوذ بك أن يمقتني خالي ابن رواحة إذا لقيته» ، وعن أبي الدرداء : «إن أعمالكم تعرض على موتاكم ؛ فيسرّون ، ويساؤون».

(٢) رواه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (٥ / ٢٤٣) عن علىّ باللفظ المذكور ، ورواه الطبري في تاريخه (٢ / ١٥١) : عن عبد الله بن أبي بكر ولفظه : لما أتي رسول الله مصاب جعفر قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة له جناحان مختضب القوادم بالدم يريدون بيشة أرضا ظاهرا). وأورده السيوطي في الجامع الصغير ، ورمز له بالضعف (فيض القدير ٤ / ٣١٤).

٢١٧

أعمالكم على الموتى ، فإن رأوا حسنا استبشروا ، وإن رأوا سوء قالوا : اللهمّ راجع بهم» (١) أي أنهم يجعلون من أنفسهم وسائل إلى الله ، مستشفعين في شئون الأحياء ممن يهمهم أمرهم.

وهو شبيه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم ؛ حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ومماتي خير لكم تعرض على أعمالكم ، فما كان من خير حمدت الله وما كان من شر استغفرت لكم» (٢) ، هذا الحديث أورده في الجامع الصغير عن أنس ، ورواه الحارث بن أسامة في مسنده من حديث أنس أيضا ، ورواه ابن سعد في طبقاته عن بكر بن عبد الله المزني مرسلا ، ورجاله ثقات ، قال الحافظ العراقي : ورواه البزار من حديث ابن مسعود ، ورجاله رجال الصحيح إلا واحدا أخرج له مسلم ووثقه ابن معين ... إلخ.

قلنا : وهو بعد هذا معتضد بما في بابه من الحديث لفظا ومعنى ، وهو بذلك مع تعدد طرقه قد أخذ فعلا درجة الحسن الصريح والقوة في الحكم الأخير ، ولا اعتبار إطلاقا لمن لم يعجبه هذا الحديث الشريف.

١٣) ومزيد ثالث من الأحاديث :

وأخرج الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما

__________________

(١) رواه ابن المبارك في (الزهد) موقوفا عن أبي أيوب رضي‌الله‌عنه بسند حسن ، وأورده مرفوعا من طريق سلام الطويل ، ورواه ابن أبي الدنيا في (المنامات).

(٢) استوفى شيخنا الإمام الرائد تخريج وشرح هذا الحديث في كتابه «الإفهام والإفحام ، قضايا الوسيلة والقبور» فراجعه.

٢١٨

قال : ضرب بعض أصحاب النّبيّ خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتّى ختمها ؛ فأتى الصحابيّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هي المانعة ، هي المنجية ، تنجيه من عذاب القبر».

قال صاحب المشارق : قد صحّ في الأحاديث وروايات الثقات العينية أن الأموات يقرءون القرآن في قبورهم إذا كانوا من أهله في الدنيا ، ومن مات محبا له ولم يتم حفظه ربما سخر الله له من تمم حفظه له.

نقول : ومثل ذلك قد جاء عن طالب العلم ، فهو في حكم صاحب القرآن ، ويكون قرآنه وعلمه مما يتنعم به هناك ، وفي الحديث دلالة كبرى على أنّ حياة البرزخ حياة سمو وارتقاء وعمل ، لا حياة حبس وعطلة وخمود.

وعلى الجملة ؛ فقد روى أبو نعيم وغيره كما نقل الشعراني وآخرون عن سعيد بن جبير : أن الأموات تأتيهم أخبار الأحياء فيسرون بها أو يحزنون لها ، وإنهم ليسألون الروح القادم عن أهليهم وذويهم كما يسأل الحبيب عن حبيبه.

قلنا : وهذا على التحقيق شأن الأرواح المقيدة التي لم يؤذن لها في الانطلاق لقصور عملها وقلة زادها ، ومع ذلك لا يحرمها الله فضل العلم بما يهمها من حال أهلها «فضلا منه ونعمة».

٢١٩

١٤) انطلاق الأرواح من عصر الخميس إلى السبت :

وقد نقل الإمام السيوطي في كتاب البشرى : قال اليافعي ما معناه : إنّ جميع الأرواح (أي المؤمنة والكافرة والطائعة والعاصية) يؤذن لها فتنطلق ما شاء الله خصوصا من عصر الخميس إلى صبح السبت.

قلت : وهو من قول : القرطبي ، والضحاك ، ومحمد بن واسع ، والأمير ، وغيرهم (١) ..

ونقل عن أسئلة الداودي : أنها تنطلق كذلك يوم الإثنين ، لكرامته على الله.

نقول : أمّا كيف تنطلق أرواح الكفار والعصاة ؛ فلعلّ أن لهم من الحسنات العامة في الحياة الدنيا ما يقتضي التخفيف عنهم بعض الشيء بهذا الانطلاق ، فضلا من الله وعدلا كالمخترعين لمصالح البشرية من الأديان الأخرى وعلمائهم في الطب والهندسة والكيمياء والصيدلة ، أو يكون عمل خيرا ـ بشكل ما ـ يعلمه الله.

وفي تذكرة القرطبي : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن عمه أبي طالب فقال : «هو في ضحضاح من النّار» أي أنّه يعذب عذابا خفيفا لسابقة حسناته في خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛

__________________

(١) ويرى آخرون أن أرواح المؤمنين هي التي يؤذن لها في الانطلاق فقط ، وأمّا أرواح الكافرين ، فهي محبوسة في سجين ، مشغولة بما هي فيه من عذاب ، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك والسيوطي وابن القيم ، ورواه الطبراني في مراسيل عمرو بن حبيب ، ورواه ابن المبارك في الزهد عن سلمان الفارسي ، ورواه ابن أبي الدنيا عن الإمام عليّ كرم الله وجهه.

٢٢٠