مراقد أهل البيت في القاهرة

محمّد زكي إبراهيم

مراقد أهل البيت في القاهرة

المؤلف:

محمّد زكي إبراهيم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات ورسائل العشيرة المحمّدية
المطبعة: دار نوبار للطباعة
الطبعة: ٦
الصفحات: ٢٤٠

٤) سماع الموتى في القبور :

جمهور أهل العلم والحديث والتفسير ، على إثبات سماع الموتى ، وهو قول ابن عبد البر وابن جرير وابن قتيبة وابن القيم وابن رجب ، ومن وليهم من كبار الأئمة والعلماء كالسيوطي وابن عبد الحق وابن أبي الدنيا وابن قدامة ، فهو حقيقة مؤكدة سواء كان بالروح فقط أو بالروح مع الجسم ، وهو من فوائد زيارة القبور.

وهؤلاء الأبطال والقمم إذا قالوا ، فلا يجوز أبدا أن نسمع للدهماء والأدعياء وأصحاب الهوى والمغرضين والعملاء من عبيد الدرهم والدينار ، الذين يتخذون الدين شعارا على سياسة غاية في الخطورة على الوطن والدين ، وإن وقفوا بمشاركة الجمهور في بعض الأمور. (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.)

٥) الممنوع في الزيارة :

أمّا الممنوع في الزيارة ، فأهمه ألا تطلب من المزور أن يفعل لك شيئا أو يترك ، فهو عبد ليس له من الأمر شيء ، ولكن توسل به إلى الله فيما تطلب فقد أمر الله أن نبتغي إليه الوسيلة بإطلاق .. سواء بالأعمال أو بالرجال ، وسواء بالأحياء أو بالموتى فكل ذلك وارد ثابت ، والتخصيص هنا نوع من التحكم المرفوض ..

راجع كتابنا (الإفهام والإفحام).

أمّا التبرك بمسح شيء من حجرة المزور أو تقبيلها ، فقد ثبت أن عبد الله ابن عمر رضي‌الله‌عنه وبعض الصحابة كانوا يتبركون بمسح رمانتي منبر

١٨١

النّبيّ وغيرهما من آثاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعندما دعا عمر (بلالا) لزيارة المدينة جاء من الشام إلى قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبكى وأبكى ، وجعل يمسح خديه على عتبة حجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حضور كبار الصحابة ، ولم ينكر عليه أحد.

فالتمسح إذن جائز ، وخصوصا للمغلوب على عاطفته ، ثم إن الخروج من الخلاف بترك التمسح أولى ، وحسبك التجاوب الروحي والتمسح القلبي ، والارتباط الغيبي بين الزائر والمزور.

٦) قول السلف في التقبيل ونحوه :

ومع هذا فقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب (العلل) أنه سأل والده الإمام أحمد عن الرجل يقبل القبر رجاء الثواب ، فقال أحمد : لا بأس به.

ونقل ابن زكري في الهمزية عن الطبري ، وابن أبي الضيف ، جواز تقبيل قبور الصالحين رجاء البركة والثواب.

ونقل الحافظ العراقي عن الحافظ العلائي أنه رأى في جزء قديم عليه خط ابن ناصر ، وغيره من الحفاظ أن أحمد بن حنبل أجاز تقبيل قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره.

فالقول بكفر أو شرك فاعل ذلك خطأ غليظ ، وجهل عريض ، وكل ما ذهب إليه متشددة العلماء : كراهة ذلك في ظروف خاصة ، أمّا القول بالشرك والكفر ، فتعصب وجهل ووهابية دولارية بدوية مستغلقة ؛ ولا شك أن التعصبات عند ذلك ليست من دين الله.

١٨٢

٧) التبرك بالتمسح بقبور الصالحين :

قال الحافظ العراقي : أخبرني الحافظ أبي سعيد العلائي قال : رأيت في كلام ولد أحمد بن حنبل : أن أحمد كان لا يمنع تقبيل قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تقبيل قبر غيره.

وفي كتاب «العلل» لعبد الله بن أحمد ، أن والده كان لا يرى بأسا بتقبيل قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسح منبره تبركا.

وهذا يحيى بن سعيد شيخ الإمام مالك عندما أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر النبوي فمسحه .. ونقل ابن زكري في شرح همزيته عن المحب الطبري وابن أبي الضيف وغيرهم جواز تقبيل قبور الصالحين ؛ لشدة الإيمان ورسوخه في قلوب المسلمين ، بتمام الوحدانية والتقديس.

ونحن هنا لا نجيز ذلك إلا للمغلوب على أمره كما حدث مع بلال ، أو للعالم الذي لا يخشى عليه الوقوع فيما لا يجوز أو نحو ذلك .. أمّا الجاهل فيعذر ويعلّم ، ولكن لا يرمى جزافا بالشرك والكفر وعظائم الكبائر.

ولا نستطيع أن نحسن الظن بكل أدعياء السلفية بعد أن كررنا اختبارهم ، فاستيقنا أن إبليس لا يعادل ظفر أحدهم لؤما وخبثا ونفاقا وبذاءة ونذالة ، في الوطنية والديانة والولاء للدين ، والانتماء للوطن ، والله من ورائهم محيط.

٨) واجبات الزيارة :

أمّا واجب الزيارة ؛ فالخشوع والأدب ، وتذكر الموت والاحترام الباطني ، والعبرة ، والسلام على الميت ، والدعاء له ، والصدقة عليه ،

١٨٣

وقراءة القرآن عنده ، وأن يصان القبر ، وينظف مكانه ، ولا تترك زيارته أو ينسى أو يهمل بلا عذر .. ثمّ إياك إياك أن يشغلك زخرف الضريح وصورته وزينته عن التوجه القلبي التام إلى روح المزور ، بل اجعل هذه الزخارف وسيلة وتمهيدا لما وراءها من أسرار الأرواح وفضل الزيارة ، فإن روح المزور معك مدة زيارتك ، فإنك تلقي عليه‌السلام ويرد عليك ويعرفك ، وينتفع بصدقتك ودعائك وقراءتك له بالنص الثابت من الآثار الصادقة عن الرسول والسلف.

بل حاول التخلص من العلائق أو الحجب البشرية ، عسى الله أن يكرمك فيتجلى عليك فترى (المزور) بقلبك ، وهو يستأنس بك ، كما يستأنس الحي بالحي ، وربما رأيت إذا غلبت عليك الحال ، ما لا ينبغي أن يقال. والله أعلم.

٩) الزيارة الشرعية للقبور :

والزيارة الشرعية : إذا جئت القبر أن تعتبر وتتأدب وتتمثل روح صاحب القبر واستقبله قائلا ما علمنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«السّلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، السّلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر ، نسأل الله لنا ولكم العافية .. اللهم رب هذه الأجساد البالية ، والعظام النخرة ، والأرواح الباقية ، التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة ، أدخل عليها روحا منك وسلاما منا ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر اللهمّ لنا ولهم»

جاء ذلك مفرقا في الأحاديث الثابتة ، ولا خلاف عليه.

١٨٤

١٠) ما يقرأ عند الزيارة :

ثم تجلس بخشوع فتقرأ ب (فاتحة الكتاب) كما رواه الطبراني والبيهقي ، ثم بأول البقرة ، ثم بآية الكرسي ، ثم بآخر البقرة كما رواه البيهقي وغيره ، ويجوز قراءة البقرة كلها كما نقله الخرائطي ، ثم تقرأ بعد هذا سورة يس كما رواه أبو داود واختاره الصنعاني وغيره ، ثم تقرأ بالإخلاص أحد عشر مرة كما رواه الدار قطني ، ثم تقرأ بالمعوذات كما نقل عن الإمام أحمد ، ثم تقرأ بما شئت أو تكتفي بما شئت من ذلك ، فلك الخيار.

ثمّ تسأل الله ببركة ما قرأته للمزور وللمؤمنين عفوا ومغفرة ورحمة وتوسعة ورفع درجات ، ثم تدعو الله أن يجعل ثواب ما قرأته لروحه وأرواح موتى المسلمين.

ثم تسأل الله القبول والتوفيق للطاعة والموت على الإيمان ، لك ولمرشدك وإخوانك في الله والمسلمين ، متوسلا إلى الله بما يحب وبمن يحب وببركة الفاتحة (وتقرأها).

ثمّ تعود فتسأل الله ببركة ما سعيت إلى الزيارة لوجهه الكريم ، وببركة ما قرأت ودعوت ، وببركة المزور إن كان من الصالحين ، وببركة أولياء الله ، من الإنس والجن جميعا ، أن يقضي الله حاجتك ، وتسميها ، وتتضرع حتّى تحس الإجابة والاطمئنان.

١١) شد الرحال إلى قبور الصالحين :

بعض النّاس يمنع شد الرحال إلى زيارة مقابر الصالحين في الأقاليم

١٨٥

مثلا ؛ لحديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، والمرجو أن ترجع إلى شرحنا لهذا الحديث في كتابنا (أصول الوصول) ، وشرحنا له في كتابنا (الإفهام والإفحام) (١).

وهنا نقول عند التسليم بصحة الحديث : أن الممنوع بالنص هو زيارة (المساجد) لا (القبور) ، وحتّى المساجد ففي منع شد الرحال إليها تفاصيل ؛ فقد كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه والصحابة يشدون الرحال من المدينة إلى (مسجد قباء) ، وكان خارج المدينة المنورة ، وكان أبو هريرة راوي الحديث يشد الرحال إلى (الطور) للزيارة ، كما فصلناه في بعض ما كتبناه قبلا.

والخلاصة : أنه لم يرد منع صريح أو غير صريح عن السفر لزيارة القبور حتّى في أبعد الأماكن ، بشرطها الشرعي (وخصوصا قبور الصالحين) أينما كانت .. والحمد لله.

١٢) حكم نقل الأحكام وشرك المؤمنين

والصّلاة في المساجد ذات الأضرحة :

(١)

إنّ نقل أحكام الحلال والحرام ، إلى أحكام الكفر والإيمان تحكم ليس من حق أحد ، وهو كذلك لون من التعمية والتدليس العلمي ..

__________________

(١) وقد أفرد شيخنا رحمه‌الله لحديث شد الرحال بحثا استوفى فيه شرحه ومعناه في كتابه عن الزيارة النبوية.

١٨٦

وقد وقع اتفاق الأمة على أن المسلم إن عمل عملا أو قال قولا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها ، ثم هو يحتمل الإيمان من وجه واحد فقد وجب الأخذ بهذا الوجه الإيماني الوحيد ، فضلا من الله ونعمة ، وعلما صحيحا ، موثقا أكيدا.

(٢)

أمّا قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ،) فالمراد إما أنهم منافقون يظهرون الإيمان ويخفون الشرك ، وإما أنهم يجمعون مع الإيمان بالله الإيمان بما كانوا عليه من عبادة الأوثان ، تلفيقا بين الأمرين ، وانتفاعا ـ في رأيهم ـ بالناحيتين ، كما قال القرآن على ألسنتهم : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ.)

وليس كذلك أحد من المسلمين بحمد الله ، فلا يجوز إطلاقا تطبيق آية نزلت في أعداء الله على أوليائه ، فذلك كما قال البخاري وغيره كان شأن (الخوارج) وأمثالهم ممن يستحلون دماء المسلمين ويلتمسون لذلك أدنى شبهة أو تأويل.

(٣)

وأكرر أنه ليس من حق فرد ولا جماعة ، مهما بلغ شأنه أو شأنها ، أن تخرج مسلما من حظيرة أهل القبلة بخطيئة أو معصية ، حتّى لو ارتكب الكبائر كلها ، فهو معصوم العقيدة والدم بقول : «لا إلا الله» كما ثبت في صحيح الأحاديث ، راجع كتابنا (أهل القبلة).

ثم إن «حق لا إله إلا الله» الذي جاء في الاستثناء في بعض روايات

١٨٧

الحديث هو ألا يتعمد العبد أن يستحل محارم الله جحودا أو محاربة لله ، وذلك بحمد الله لم ولن يأتي من مسلم وإن زنى وإن سرق ، بل وإن قتل ، ونستغفر الله ونتوب إليه (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.)

(٤)

هذا ، وقد بشرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أمته لن تشرك بالله شيئا ، فلن تعبد شمسا ولا قمرا ولا وثنا ، ولكنها قد تقع في الشرك الخفي ، وهو الرياء .. أفبعد كل هذا يقول قائل ببطلان أو تحريم الصّلاة في المساجد الملحقة بالقبور؟!.

وقد قررنا وأقمنا الدليل القاطع على أنّها (سنة صحابية) مؤكدة ، أمرنا رسول الله جازما حازما ، أن نعمل بها ، وأن نعض عليها بالنواجذ في حديثه الصحيح القاطع.

فقد دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيت عائشة رضي‌الله‌عنها ، وله باب على المسجد ، ولم يغلق الصحابة الباب ، ولا منعوا الزيارة منه ، ثمّ أقرهم جميع التابعين وأئمة المذاهب الأربعة ، ومن كانوا قبل الأربعة ، وإلا فقد بطلت صلاة كل هذه الملايين من المسلمين الحجاج والعمار والزوار ، مدة ألف عام ونصف ألف.

فليتق الله الجهلة والحمقى والفتانون من المتملسفة ، والمتعصبة ، وأمثالهم ؛ فالمصلي بالمسجد يقول : (الله أكبر) في كل تحركات صلاته فهو موّحد ، فكيف يحكم ببطلان صلاته ، وقد ثبت أن الإمام مالك رضي‌الله‌عنه كان يصلي وسط القبور ، وكان الإمام عليّ كرم الله وجهه يتوسد القبور كذلك.

١٨٨

أمّا ما فهمه هؤلاء من بعض الأحاديث فمؤول ، أو يحمل مفهوما غيره مفهومهم المذكور هذا : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ.)

قل : (صَدَقَ اللهُ) العظيم.

١٣) فتاوى السابقين من أئمة الفقه

في القباب والبناء على القبور (١) :

١ ـ قال ابن حزم في تصنيفه (المحلى) :

فإن بني على القبر بيت أو قائم لم يكره ذلك.

٢ ـ وقال ابن مفلح تلميذ ابن تيمية في كتابه (الفروع من فقه الحنابلة) : لا بأس بقبة وبيت لأن الدفن كذلك مأذون فيه ، وهو قول ابن القصار وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب في شرح المختصر.

٣ ـ وأفتى الحافظ السيوطي باستحباب البناء على قبور الأولياء والصّالحين ، ولو كانت في الأرض المحبسة (أي الموقوفة) ، وقد ذكر ذلك في بحثه : (بذل المجهود) ، ووافقه جماعة من فقهاء الشّافعية وغيرهم.

٤ ـ قال الفقيه البرماوي : نقلا عن الشيخ الرحماني : «نعم قبور الصّالحين يجوز بناؤها ولو بقبة لإحياء الزيارة والتبرك لقول الإمام الحلبي : «ولو في أرض مسبلة».

__________________

(١) هذا الفصل ملخص من كتاب (التبصير في البناء على القبور) للأخ الدكتور محمد الفاتح أحمد مرزوق القائم بفرع العشيرة المحمدية بمركز ببا.

١٨٩

٥ ـ قال الشيخ عبد القادر الفاسي : «ولم يزل النّاس يبنون على مقابر الصّالحين والأئمة شرقا وغربا كما هو معلوم ، وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ، ودفع مفسدة المشي والحفر ، والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها (أي عدم خفاء أثرها).

٦ ـ والشيخ المسناوي في (مسائله) ، سئل عن البناء على قبر الرجل والمرأة ممن ترجى بركتهما في الحياة وبعد الموت فأجاب : «إن البناء على قبور الصالحين بقصد التبرك والتمييز وحفظ الحرمة جائز بل مطلوب ، لما ذكره بعض المحققيين أن فيه جلب مصلحة الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر أو المشي ، إذ لو لا البناء لاندرست (أي اختفت) قبورهم فتبطل زيارتهم ، وزيارة القبور مطلوبة شرعا.

٧ ـ وفي كتاب نوادر الأصول للحكيم الترمذي : أنّ السيدة فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها كانت تأتي قبر سيد الشهداء حمزة رضي‌الله‌عنه في كل عام فترمه (أي تصلح ما تهدم منه) ، حتّى لا يزول أثره فيخفى على زائره.

٨ ـ وفي فتاوى العلامة ابن قداح قوله : «إذا جعل على قبر من أهل الخير علامة فهو حسن كالبناء الخاص».

٩ ـ وفي شرح التوربشتي على كتاب المصابيح قوله : «وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء والمشايخ الصالحين ، يزورها النّاس ليستريحوا إليها بالجلوس في البناء لتلاوة القرآن ؛ فتكون مثل الرباطات والمساجد».

١٠ ـ وللعلامة عليّ بن أحمد الحداد في مؤلفه (مصباح الظلام) قوله : «من قال بتكفير البلد (أي أهله) الذي فيه قباب وأن القباب كالأصنام ،

١٩٠

فهو تكفير للأولين المتقدمين والمتأخرين من الأكابر والعلماء والصالحين ، وفي ذلك مخالفة للإجماع السكوتي على من سبق من الأنبياء والصالحين).

١١ ـ قال تلميذ ابن تيمية الفقيه العلم ابن مفلح الحنبلي في مؤلفه (الفصول) : «الحظيرة على قبر إن كان في ملك ميت فعل وليه ما شاء ، وإن كان في أرض مسبلة كره كراهة تنزيه لا تحريم ؛ للتضييق على ما وقفت عليه».

١٢ ـ والإمام البخاري أشار إلى أن الصلاة إذا لم تكن إلى القبر لا بأس بها ، وإلى أن معنى اتخاذ القبور مساجد إنما هو الصلاة عليها أو الصلاة إليها تعظيما للقبر أو لصاحبه.

وأشار البخاري إلى أن اتخاذ المسجد على القبر منه مكروه ومنه غير مكروه ، وروى في صحيحه على وجه الجزم والثقة : أن فاطمة بنت الحسين بن عليّ نصبت قبة على قبر زوجها الحسن بن الحسن بن عليّ ، وأقامت فيها سنة ، تقيم فيها فرائض الصلوات ونوافل العبادات ، وكان ذلك في عصر فقه على مرأى من العلماء ولم ينكر عليها أحد.

١٣ ـ الفقيه المحقق ابن عابدين في حاشيته أجاز البناء على القبور مستدلا بما نقله عن (جامع الفتاوى) في الأحكام بنصه القائل : «ولا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء».

١٤ ـ ومن علماء المالكية ابن حمدون ، قال على شرحه منظومة ابن عاشر (٢ / ٧) : «البناء على القبر بقصد تعظيم من يعظم شرعا جائز».

١٥ ـ قال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرحه صحيح الإمام البخاري ما نصه : «إن المنع من ذلك حال خشية أن يصنع بالقبر كما صنع

١٩١

أولئك الذين لعنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا إذا أمن ذلك فلا امتناع».

١٤) خاتم المرسلين يصلي بقبور مرسلين :

روى الإمام ابن حبان في صحيحه ، وصححه بسنده عن محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لما أسري بي إلى بيت المقدس ، مرّبي جبريل إلى قبر ابراهيم عليهما‌السلام فقال : انزل هنا ، صلّ ركعتين ؛ فإنّ هاهنا قبر أبيك إبراهيم عليه‌السلام ، ثمّ مرّبي إلى بيت لحم ، فقال : انزل صل هاهنا ركعتين ؛ فإنّ هاهنا ولد أخوك عيسى عليه‌السلام» (١).

__________________

(١) الحديث المذكور ليس في صحيح ابن حبان ، وإنما أورده ابن حبان في كتابه (المجروحين) (ج ١ ص ١٩٦ ، ١٩٧) ، وقال : «هذا شيىء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع ، فكيف بالبزل ـ الرجال الكمل ـ في هذا الشأن». وقال عن بكر بن زياد الباهلي أحد رواة الحديث : «شيخ دجال يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه».

قال الحافظ الذهبى في الميزان (٢ / ٦١) بعد أن أورد كلام ابن حبان : «صدق ابن حبان». وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (٢ / ٥٠): «والموضوع منه من قوله «ثم أتي بي الصخرة» ، وأمّا باقيه فقد جاء في طرق أخري فيها الصّلاة في بيت لحم وردت من حديث شداد بن أوس».

والحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات (١ / ١٦٢) ، والسيوطي في اللآلىء المصنوعة (١ / ١٣) ، وابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (١ / ١٣٧) ، ومحمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي في فضائل بيت المقدس (١ / ٥٨).

وعلى هذا يكون جعل الحديث صحيحا ، وفي صحيح ابن حبان ، من الوهم الذي وقع فيه صاحب كتاب التبصير ، وسبحان من له الكمال.

١٩٢

هذا هو الهدي النبوي الصحيح الصريح يجيز الصلاة في الأماكن التي ضمت قبور الأنبياء وتابعيهم من الصالحين.

١٥) مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

دفن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع الصحابة أخذا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المكان الذي قبض فيه ، وهو بيته الملحق بالمسجد ، والذي دخل في المسجد ، ثمّ دفن معه (أبو بكر وعمر) رضي‌الله‌عنهما ، وكان كبار الصحابة أحياء ، وتم كل هذا بإجماعهم ، وهم أعرف النّاس بدين الله ، فلم ينكر واحد منهم أن يدفن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرة عائشة رضي‌الله‌عنها ، وهي مفتوحة الباب على المسجد ، ولا طلب أحدهم إغلاق باب الحجرة التي بها هذه القبور بعد دفن أحد الصحابيين ، واحدا بعد واحد ، بجوار قبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الملاصق تماما للمسجد ، ولا أن ينقل رفات (أبي بكر وعمر) إلى مكان آخر ، وإذن فقد أصبح وجود قبر مستقل في جوار مسجد (أي مسجد في أي مكان) ، وللقبر باب على هذا المسجد (سنة صحابية إجماعية ثابتة).

١٦) في المسجد الحرام :

إلى جوار الكعبة المشرفة عشرات من قبور الأنبياء ، نقلا عما رواه الإمام المحدث أبو داود في سننه التي شرحها كبار علماء السبكية [وغيرهم] ، جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «ما بين زمزم والحطيم تسعون نبيا موتى».

١٩٣

لقد جاء في عدة أحاديث وأخبار أن من الأنبياء المدفونين بين بئر زمزم ومقام إبراهيم : نوحا وهودا وصالحا وشعيبا ، ولو كان وجود قبورهم منكورا ، لأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفاتهم ودفنهم خارج المسجد الحرام.

* * *

١٧) حجر إسماعيل :

حجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) كنف نبي الله إسماعيل ، حيث مثواه الأخير عليه‌السلام ، ومثوى جثمان أمه هاجر عليها الرضوان بالحطيم (بناء يواجه الميزاب من خارج الكعبة) تحت جدار الكعبة المشرفة ، وعلى هذين القبرين المكرمين بناء على شكل نصف دائرة تقريبا ، يبلغ ارتفاعه ١٣٠ سم وعرضه ١٥٠ سم تقريبا يبعد عن الكعبة بنحو متر ونصف من كل جهة ، وهذا الحجر من الكعبة.

وفي حجر اسماعيل تسن الصّلاة ويستحب الدعاء ، فعند الأحناف يصلي الطائف بالبيت بعد الأشواط السبعة ركعتين بالحجر تحت الميزاب ، فإن صلاهما خارج الحرم أساء (صفحة ٣١٧ من الفقه على المذاهب الأربعة ط الشعب) ، وعند الشّافعية يصلي الطائف بعد طوافه مباشرة ركعتين خلف المقام ، ثم بالحجر وهي سنة مطلوبة (صفحة ٣٦٥) ، وكذلك عند الحنابلة.

١٩٤

١٨) مصلّى مقام إبراهيم :

قال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١).

قال الإمام الرازي في التفسير الكبير (المجلد الأول صفحة ٤٠٢ وما بعدها) : ذكروا أقوالا في أن مقام إبراهيم أي شيء هو :

الأول : أنه موضع الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه‌السلام ، وهل هو الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم ، حتّى غسلت رأسه ، فغاصت رجله فيه ، فجعله الله من معجزاته ، أم هو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم وهو يبني الكعبة لما ارتفع البنيان.

ثمّ ذكر الحافظ الرازي ثلاثة أقوال أخرى ، وعقب عليها بقوله : واتفق المحققون على أن القول الأول المذكور هنا أولى أي أحق ، واستدل على ذلك بستة أدلة.

ثم قال الرازي : وذكروا في المراد بقوله تعالى : (مُصَلًّى) وجوها منها : الدعاء ، والثاني : قبلة ، والثالث : أن يصلوا الصلاة المشروعة العملية عنده ، وهذا قول أهل التحقيق ؛ لأن لفظ الصّلاة إذا أطلق يفهم منه الصلاة بركوع وسجود ، وقد ثبت فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلاته عنده بعد تلاوته هذه الآية.

والصّلاة عند مقام إبراهيم عند موضع تشرّف بالنّبيّ أبي الأنبياء إبراهيم مشروعة ومطلوبة عند الشّافعية فرضا عند الطواف الفرض ، وسنة عند طواف التطوع ، وحكم صلاة الركعتين عند المقام مختلف عند الأحناف ، فليرجع في ذلك إلى مراجع فقه العبادات المقارن.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٥.

١٩٥

١٩) في المسجد الأقصى قبور :

رسول الله الخاتم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس ، ولذلك أقطع الصحابي تميما الداري أرضا بجواره أي ملكه أرضا تحقيقا لوعد الله بالفتح وهو يعلم أن بالخليل قبور إبراهيم واسحاق ويعقوب عليهم‌السلام.

نعم ، وفي بيت المقدس قبور الأنبياء : داود وسليمان ويوسف وموسى ، وقد أمر موسى بنقل رفات يوسف من قبره بمصر إلى بلد الخليل إبراهيم عليهم‌السلام. وعلى قبر داود ذاته بناء في المسجد الأقصى.

ولم يأمر عمر عند فتحه لبيت المقدس بهدم هذه الأبنية والمشاهد ، ولم يأمر الصحابة من بعده بهدمها.

٢٠) في مسجد الخيف :

في صحيح أبي داود وغيره أن بمسجد الخيف عشرات من قبور الصّالحين ، وقد صلّى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والتابعون والسلف دون نكير إلى اليوم حتّى ما شاء الله.

٢١) مسجد فاطمة ومسجد خديجة :

أشرنا سابقا إلى قبر السيدة فاطمة بنت أسد ، أم الإمام عليّ رضي‌الله‌عنه ، وكيف دعا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها به ، ثم بنى عليه مسجد.

ومسجد السيدة خديجة أولى أمهات المؤمنين بالحجون قائم حتّى الآن.

١٩٦

٢٢) مسجد على قبر الصحابي أبي بصير :

قال العلامة ابن عبد البر في مؤلفه (الاستيعاب) في ترجمة الصحابي المجاهد أبي بصير ما نصه : «ولأبي بصير رضي‌الله‌عنه قصة عجيبة ذكرها المؤرخ ابن اسحاق وغيره من أصحاب السير ، ورواها المحدّث عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية صلح الحديبية ، فقد جاء أبو بصير بعد صلح الحديبية وشروطه ، من مكة وهو مسمل أي مصابة عينيه ، فأرسلت قريش في طلبه رجلين ، فقالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلما» ، فدفع رسول الله أبا بصير إليهما ، فخرجا به حتّى بلغا ذا الحليفة (موضع ماء بينه وبين المدينة خمسة أميال ، وهو ميقات حجاج المدينة ، بعيد عن مكة كثيرا) ، فنزلوا يأكلون ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : «إني أرى سيفك هذا جيدا ، فقال الرجل : نعم والله إنه لجيد ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه أبو بصير به ، وفرّ الرجل الآخر حتّى أتى المدينة ، فلما انتهى إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قتل صاحبي ، ثم جاء أبو بصير ، فقال : يا رسول الله ، قد والله وفيت ذمتك ، وقد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويل مّه من رجل مسعر حرب» أي مشعلها ، فعلم أبو بصير أنه سيرده إليهم وفاء لشرط المعاهدة فخرج حتّى أتى سيف البحر وسيف البحر بكسر السين ساحل البحر الأحمر فلحقه الصحابي أبو جندل بن سهيل بن عمرو فارا من تضييق قريش على المؤمنين حتّى اجتمعت به وبأبي بصير كتيبة من الفدائيين تعترض قوافل قريش ، عندئذ أرسلت قريش تناشد النّبيّ

١٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقسم عليه بالرحم وصلات القرابة وتستعطفه وتستجيره من هذه الفئة الفدائية المقاومة ..

وكان أبو بصير إمام أصحابه في الصلاة ، ويكثر من قوله :

أجل : هو الله العلي الأكبر

من ينصر الله فسوف ينصر

فلمّا قدم عليه أبو جندل صار إمامهم ، واجتمع إلى أبي جندل قوم كثيرون مؤمنون من قبائل بني غفار وأسلم وجهينة حتّى بلغوا ثلاثمائة رجل.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كتب لأبي جندل وأبي بصير رسالة ليقدما عليه ومن معهما من الرجال ... وبعد أيام استغرقتها رحلة الرسالة تلقى أبو جندل الرسالة بينما أبو بصير يجود بأنفاسه الأخيرة ، وكتاب رسول الله يقرأ عليه ، فدفنه أبو جندل مكانه وصلّى عليه والرجال المنتصرون بعد ظلم ، وبنى أبو جندل على قبره مسجدا.

٢٣) مسجد أصحاب الكهف :

أصحاب الكهف ليسوا بأنبياء ولا مرسلين ولكنهم شباب مؤمنون قال فيهم ربنا : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً.)

لما أظهر الله آيتهم اختلف النّاس في صور تكريمهم وحفظ قبورهم للتذكير بهم ، فقال فريق : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) وفريق آخر (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.)

١٩٨

١٩٩

* بيان حقيقة الموت

* الفرق بين الموتى والأحياء

* حياة الأرواح بالبرزخ

* حديث «إذا مات ابن آدم ..»

* الخلايا الخالدة وعجب الذنب

* من افترسه الوحش أو أكله السمك

* الأجسام والأرواح والبرزخ

* أسرار عالم البرزخ

* معنى الروح والإسراء

* أدلة حياة البرزخ

* انطلاق الروح فى أيام معينة

* وظيفة الجسم والروح

٢٠٠