مراقد أهل البيت في القاهرة

محمّد زكي إبراهيم

مراقد أهل البيت في القاهرة

المؤلف:

محمّد زكي إبراهيم


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات ورسائل العشيرة المحمّدية
المطبعة: دار نوبار للطباعة
الطبعة: ٦
الصفحات: ٢٤٠

* من دخل مصر بعد سكينة :

وكان أول من جاء مصر بعد سكينة عمتها نفيسة (الكبرى) بنت زيد الأبلج ، بعد طلاقها من الخليفة الأموي ، ثمّ جاءت من بعدها نفيسة (الصغرى) بنت الحسن الأنور ، كما فصلنا ذلك من قبل.

وبعد هذا تتابع دخول أهل البيت إلى مصر وإقامتهم بها ، لما وجدوا من أهلها من صدق الحب ، ولبعدها عن مواطن الفتن والائتمار ، ومشاكل الأمور السياسية ، وقانا الله فتنتها.

* دعاوى أهل الباطل :

ولقد ادّعى الوضاعون ، وخصوم أهل البيت دعاوى على السيدة سكينة ، يبرأ منها الحق إلى الله ، كادعائهم شغفها بالغناء واللهو ، واختلاطها بالرجال ، وإشاعتها عقصات الشعور ، وغير ذلك مما قصد به محاولة الإساءة إلى أهل البيت ، ثمّ نقله كثير من المؤلفين بحسن النية أو سوئها ، وشاع ذلك على بعض الألسن بدون وعي ، وهو دخيل باطل فاسد مدسوس لئيم ، لا ينبغي السكوت عليه من مسلم ، لما فيه من قصد التشهير ببيت النبوة والاحتيال للوصول إلى اغتماز شخص النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالتالي تجريح رسالته المقدسة .. كيف والله تعالى يقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ،) فهل نصدق الله أم نصدق الرواة الكاذبين ، والرواة الذين يغلبهم حسن النية أو التأويل والاعتذار.

والذى لا شكّ فيه ، أنّ (سكينة النبوية) كانت أديبة ذواقة ناقدة عالمة

١٠١

بدقائق اللغة ، وخصائص الدّين ، شأن نساء أهل البيت كلهم ، وكانت ربما أجازت الشعراء والأدباء والعلماء وأجزلت لهم ، واستضافتهم وشجعتهم ، وذلك أمر مطلوب من أهل البيت عامة ، ومن حراس التراث المحمدي لغة ودينا بصفة خاصة ، وكثير مما جاء من الأخبار من هذا الجانب صحيح ومشرف.

أمّا ما زاد على ذلك من أخبار اللهو والغناء ونحوه فمن دس الباطنية ، ووضع النواصب الكذابين ، ومن إفك حساد أهل البيت ، وخصوم الإسلام ، وهو إفك يرويه فاسق عن فاسق ، وكذاب عن كذاب ، وحقود عن حقود ، تأييدا لسياسة اضطهاد أهل البيت ، وبخاصة في العصر الأموي والعباسي ، مما لا شك فيه ، والمتواتر في سيرتها أنه كان يغلب عليها الاستغراق في العبادة كما نقله ابن الصباغ ، ونسب بعض المؤرخين هذا القول إلى والدها الحسين رضي‌الله‌عنه.

* من في الضريح ومن حوله :

وقد دفن في ضريح (السيدة سكينة بنت الإمام الحسين) بمصر عند باب المشهد جماعة من السّادة ، منهم الشريف حيدرة بن ناصر ، من الفواطم السليمانية ، أبناء الإمام الحسين الأكبر من حفيده الحسين الأصغر ، وكانوا بصنهاجة المغرب.

وكان الشريف حيدرة قد جاء مصر زائرا فمات بها ، وصلّى عليه الخليفة العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي ، ودفن في باب المشهد السكيني.

١٠٢

ودفن بباب المشهد كذلك الشريف النسابة «المقيم حياته بالمشهد السكيني» السيد إبراهيم بن يحيى بن بللوه المشهدى ، ودفن معه ولده السيد حسن ، وبنت ابنه السيد حسن واسمها السيدة زينب ، وهي التي أشرنا إلى ذكرها في الكلام عن الزينبات.

ثانيا : سكينة الصغرى وسمياتها :

أمّا سكينة الصغرى فهي : بنت عليّ زين العابدين بن الإمام الحسين ، ولا خلاف بين المؤرخين في أنّها دخلت مصر ، وأنّها ماتت بها بكرا لم يدخل بها رجل.

وقد خلط بعضهم بينها وبين عمتها سكينة الكبرى بنت الحسين ، ولكن الحق عندنا ما بيّناه هنا ، بعد التحقيق التاريخي ، المؤيد بالتواتر ، ثمّ بنقول أهل الحق من العارفين بالله ، في مقامات الكشف والشهود.

وإذا صحّ ما نقله بعضهم من أنه كان لسكينة الكبرى شقيقة سميت باسمها كعادة أهل البيت في تكرار التسمية بين الإخوة ؛ فتكون قد انحلت المشكلة بافتراض أن سكينة الثانية هي دفينة الحجاز ، وقد كانت صورة من شقيقتها ، صورة وعلما ومعاملة ، والله أعلم.

أمّا قبر سكينة الصغرى بنت زين العابدين التي نتحدث عنها ، فهو عند مقبرة (الصدفيين) ، وهم من السّادة التابعين ، وكانت لهم نحو أربعمائة قبة هناك ، ومنهم بركة مصر وفخرها الإمام (يونس بن عبد الأعلى) شيخ البخاري ومسلم ، والذي كان نائبا عن (الإمام الليث) في إدارة أمواله ، وقبور الصدفيين بجوار قبر سكينة الصغرى قريبا من

١٠٣

مشهد الإمام الليث بن سعد رضي‌الله‌عنه ، وهو معروف يزار ويتبرك به ، ويخشى عليه من الاهمال والاندثار.

أمّا سكينة المدفونة بالشام ، فهي الأخت الكبرى ل (سكينة بنت زين العابدين) دفينة مصر ، وقد وهم في شأنها بعض مؤرخي المزارات فخلط بينها وبين سميتها.

أمّا سكينة المدفونة بالمدينة فهي الأخت الصغرى ل (سكينة بنت الحسين) ، وقد تزوجت جماعة معروفين ، وماتت هناك وقبرها معروف ، وهي التي حقد عليها الأمويون فأجلوا دفنها حتّى يسوء ريحها ، ولكن الله أكرمها فأحرق النّاس حول نعشها من العود والصندل ما لم يعرف لأحد في التاريخ «فاحفظ ذلك».

* أسباب اللبس في الأسماء :

قلنا : وإنّما أحدث هذا اللبس ما تعوده أهل البيت رضي‌الله‌عنهم من تكرار الاسم الواحد في البيت الواحد مرتين وثلاث مرات ، من قبيل التبرك والتيمن ، مع الاكتفاء في التمييز بلفظ الأكبر أو الكبرى ، والأوسط أو الوسطى ، والأصغر أو الصغرى ، أو بالألقاب أحيانا نحو : الصادق والأبلج والمحض والمؤتمن ، أو بنحو قولهم : المثنى والمثلث وهكذا ، وقد مرت عليك الأمثلة فيما قدمنا ، وستمر الأمثلة فيما يأتي رضي‌الله‌عنهم جميعا.

* * *

١٠٤

الباب السابع

مشاهد الرّقيّات

* مشهد رقيّة بنت عليّ الرضا بالقاهرة.

* ضيوف بقيع مصر (مشهد رقيّة).

* قبر رقية أخت الحسين ، ورقية بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* مشهد رقية بنت عليّ الرضا بالقاهرة :

وقريبا جدا من مشهد السيدة سكينة الكبرى ، إلى الشمال الغربي منه ، يقع قبر السيّدة رقية بنت عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ بن العابدين بن الإمام الحسين رضي‌الله‌عنهم ، وكثير من النّاس يظنونه للسيدة رقية بنت عليّ أخت زينب والحسين ، وهذه دفينة دمشق ، ومشهدها معروف هناك ، ويسمى مشهد السيدة رقية بنت الرضا بالقاهرة ب (بقيع مصر) لكثرة المدفونين حولها من كبار السّلف الصالح ، الذين سوف نشير إلى بعضهم إن شاء الله.

وقد جدد هذا القبر السيدة (علم الآمرية) زوجة الخليفة المستعلي بالله الفاطمي عام (٥٢٧ ه‍) ، ثمّ جدده عبد الرحمن كتخدا ، ثمّ عمره عباس الأول وزوجته ، ونقل إلى الضريح المقصورة المطعمة بالصدف التي كانت

١٠٥

على قبر الحسين قبل عمل المقصورة النحاسية التي استبدل بها الآن المقصورة الفضية المكففة بالذهب والأحجار الكريمة ، والتي أهدتها طائفة (البهرة) إلى ضريح الحسين في خواتم القرن الرابع عشر الهجري.

وقد أخذ اسم رقيّة من : الترقي والسمو والترفع والعلو ، أو هو تصغير لطيف للفظ (رقية) بمعنى الدعاء والابتهال إلى الله في شأن أصحاب البلاء.

ولم يبق من المبنى الفاطمي على ضريح السيدة رقية بنت عليّ الرضا إلا الإيوان الذي به الضريح ، وما عداه فمستحدث ، وليس بالقبة إلا السيدة رقيّة وحدها ، ولكن بعضهم يقول : إن معها في القبر جثمان العالم التركي (محمد رضا) وزوجته السيدة زبيدة ، وهما اللذان استضافا السيدة رقية منذ جاءت القاهرة حتّى توفيت بمنزلها الذي أصبح ضريحا للجميع ، وليس هذا بمستبعد ، والله أعلم.

* ضيوف بقيع مصر (مشهد رقية):

وبجوار مشهد السيدة رقية : قبر السيدة (عاتكة) بنت زيد بن عمرو ابن نفيل القرشي زوجة سيدنا محمد بن أبي بكر الصديق ، الذي كان واليا على مصر تزوجها بعد الزبير بن العوام ، ودخلت معه مصر ، وماتت فيها بعد مقتله رضي‌الله‌عنه ، ويظن كثير من النّاس أنها عاتكة عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس كذلك.

وبجوارها قبر السيد عليّ الجعفري الصوفي الجليل من سلسلة أبناء جعفر الطيار أخي عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وقد ترجمه

١٠٦

الأزورقاني ، ووصفه بالصلاح والتقوى وطهارة الأنفاس ، وبعضهم يظن خطأ أنّه عليّ بن جعفر الصادق أي شقيق السيدة عائشة وحفيد الإمام عليّ زين العابدين ، وليس كذلك.

وبهذا المشهد طائفة أخرى من الأشراف والعلماء منهم : العلامة المحقق النسابة اللغوى المحدّث السيد (أبو الفيض محمد مرتضى الزبيدي) الحنفي الشريف الحسيني ، ومعه زوجته أم الفضل زبيدة التي سبقته إلى رحمة الله ، وقد أحاطت المساكن الشخصية بهذه المشاهد ، وتداخلت معها ، فأساءت إليها من كل الوجوه حتّى ابتلعت بعضها بالفعل ، وامتدت يد التغيير والتبديل والتضليل على بقية قبور المبنى الجليل ، ولا قوة إلا بالله.

* قبر رقية أخت الحسين ورقية بنت الرسول وأرض البقيع :

وأمّا قبر رقية أخت الحسين بنت الإمام عليّ ، فهو الذي بدمشق كما قدمنا ، وأمّا رقية بنت زيد الأبلج أخت السيدة نفيسة الكبرى ، فهو بالبقيع بالمدينة المنورة ، قريبا من قبر جدتها رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كانت زوج عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

وقد سويت مقابرهم بالأرض ، فلا يكاد يعرفها حتّى (المزورون) الذين يتلقفون زوّار البقيع ، فيمرون بهم على بعض الأحجار الباقية من قبور أهل البيت التي سوّاها الوهابيون بالأرض فضاعت المعالم ، خصوصا بعد توسعة أرض البقيع وشق الشوارع فيها ، واندثار قبور ساداتنا أهل البيت وكبار الصحابة ، ولا قوة إلا بالله ، وها نحن نرى يوما بعد يوم يصل

١٠٧

الاندثار إلى بقية الأحجار التي كانت علامة على القبور الكريمة ، برغم قلتها اليوم وندرتها ، حتّى لا يبقى أثر في البقيع يدل على خير ، ولله الأمر من قبل ومن بعد (١).

* * *

__________________

(١) راجع رسالة «صرخة في الله ولله إلى السادة الأماثل : رجال المملكة العربية السعودية» التي وجه فيها الإمام الرائد النداء إلى قادة السعودية ، لإنقاذ آثار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة والمدينة ، من الهدم باسم التوحيد المظلوم ، وكانت الوهابية قد هدمت كثيرا من تلك الآثار النبوية المباركة ، وما زالت تهدم كلما سنحت لهم الفرصة.

ففي مكة هدّمت قبور وقباب المعلى ، وفي أولها قبة السيدة خديجة رضي‌الله‌عنها ، والبيت الذي ولد فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنزل السيدة خديجة حولوه إلى (مراحيض) ، وأزيل بيت الإمام عليّ ، ودار الأرقم ، وفي المدينة هدمت قبور البقيع ، وردمت بئر حاء ، وبئر الخاتم ، وأزيل مسجدان من المساجد السبعة التي بنيت على أرض معركة الأحزاب ، وبيت الإمامان الحسن والحسين ، كما أزيل جبل الرماة الذي كان مجاورا لأحد.

فضلا عمّا نهب من الحجرة النبوية من أثمن التحف والجواهر عند دخولهم لها ، كما ذكره مفصلا الشيخ أحمد الزيني دحلان في تاريخ البلد الحرام.

جدير بالذكر أنّ رسالة الإمام الرائد هذه قد سلمت يدا بيد إلى الملك فهد بن عبد العزيز ، على يد أخينا في الله الوزير زكي بدر ، وقد حوت هذه الرسالة فيما حوت نصوص القانون السعودي في وجوب المحافظة على الآثار. وقد طبعت مرارا.

وللسيد يوسف هاشم الرفاعي رسالة «نصيحة لعلماء نجد» في نفس الموضوع ، وقد اختصرتها وطبعت ملحقة برسالة شيخنا في الزيارة النبوية.

وأولا وآخرا : لا حول ولا قوة إلا بالله.

١٠٨

الباب الثامن

الفاطمات الطاهرات

رضي‌الله‌عنهن

* السيدة فاطمة بنت مولانا الحسين.

* استدراك حول بنت مولانا الحسين.

* فاطمات القاهرة رضي‌الله‌عنهن.

أولا : السيدة فاطمة بنت مولانا الحسين :

السيدة فاطمة بنت مولانا الإمام الحسين ، أخت السيدة سكينة النبوية ، وأمها أم إسحاق التيمية بنت طلحة بن عبد الله (على ما حققه البغدادي).

وقد كانت دخلت مصر مع عمتها السيدة زينب عام واحد وستين هجرية ، ثمّ رجعت إلى الحجاز مع أختها سكينة ؛ فتزوجت هناك وأنجبت كما سنفصله. وقد أخذ اسم فاطمة من الفطام بمعنى القطع ، فهي التي فطمها (أي قطعها) الله بالحق عن الباطل ، وقد ولدت على المشهور عام أربعين هجرية بالمدينة المنورة.

* كنيتها وزواجها وأبناؤها :

كانت أشبه النّاس بجدتها السيدة فاطمة الزهراء ، وكانت فصيحة أديبة كريمة دائمة العبادة ، وقد ضمت إليها اليتامى اللائي فقدن الآباء في

١٠٩

موقعة كربلاء وغيرها ، وكانت أحيانا تستصحبهن في رحلاتها ، وتضم إليهن أخريات وآخرين.

قالوا : وكن معها في عودتها إلى مصر ، كما عادت أختها (سكينة) حتّى ماتت ودفنت بها ، ولهذا سميت السيدة فاطمة «أم اليتامى».

تزوجت أولا من ابن عمها الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام عليّ ، وقد أعقبت منه عبد الله المحض (أي الخالص العبودية لله) ، وكان عالما شاعرا هماما ، وهو أبو (إبراهيم الجواد) المدفون رأسه بالمطرية ، وأبو (زينب) المشهورة ب (فاطمة النبوية) في العباسية.

أمّا مدفنه هو أي عبد الله المحض ، فالمشهور ـ كما قلنا ـ أنه بالقاهرة بحي عابدين ، وقد يكون في هذا نظر إذا أخذنا في الاعتبار قول من يقول بأنّه مات في سجن أبي جعفر ببغداد ، فيكون الأرجح قول من يقول : إن عبد الله الذي بمصر إنّما هو ولي صالح من نسل عبد الله المحض ، ولهذا نسب إليه أو لقب بلقبه.

ومن أبناء السيدة فاطمة غير المحض : إسماعيل الديباج ، الذي ينسب إليه آل «طباطبا» بالعراق ومصر وغيرهما ، ثم الحسن المثلث ، وقد ماتا في سجن أبي جعفر المنصور ، بعد أن أعقبا نسلا طيبا.

ثمّ تزوجت فاطمة ثانيا بعد وفاة الحسن المثنى زوجها الأول ، ب (عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان) ، فولدت له : محمدا والقاسم.

١١٠

* روايتها للحديث :

وقد روت فاطمة رضي‌الله‌عنها بعض أحاديث جدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبيها الحسين ، وعن عمتها زينب بنت عليّ ، وعن عبد الله بن عبّاس ، وعن بلال بن رباح ، وغيرهم ، وعنها روى أبناؤها رضي‌الله‌عنهم.

* وفاتها وقبرها :

وقد توفيت عام (١١٠ ه‍) ، وفي قدومها إلى مصر بعد كبرها ودفنها بها خلاف ، وقد حقّق شيخ الإسلام الأجهوري ـ مؤيدا بخطط الشهاب الأوحدي ـ قدومها إلى مصر ووفاتها بها ، ودفنها في سفح المقطم ، وهو الأشهر المعتمد. وقد جدد قبرها رضي‌الله‌عنها جماعة من أواخرهم عبد الرحمن كتخدا وعباس حلمي الثاني.

وعندئذ يكون قبر فاطمة النبوية بالمدينة ، وقبر فاطمة النبوية بالخليل بالشام من قبور الحفيدات أو الشريفات الطاهرات اللواتي يحملن اسم (فاطمة) من أهل البيت.

ويقول بعضهم : إن العكس جائز أيضا لوجود كنية (أم سلمة) على رخامة قبر السيدة فاطمة بسفح المقطم ، وليست هذه الكنية من كنى بنت الحسين ، فكنيتها (أم اليتامى) ، ومعنى هذا أن أم سلمة فاطمة النبوية الموجود قبرها بسفح المقطم ليست بنت الحسين مباشرة بل هي حفيدته ، غير أن الرّوحانية والمدد والتواتر والبركة والتجربة ترجح الأول ، وهو المعتمد عند أكثر المؤرخين ، وعندئذ تكون كنية (أم سلمة) كنية ثانية مع كنية (أم اليتامى) لبنت الحسين رضي‌الله‌عنها بالقاهرة.

١١١

ثانيا : استدراك حول الفاطمات :

في كلامنا عن مشهد فاطمة النبوية بنت الحسين بسفح المقطم رجحنا أن هذا المشهد لها ، ولكنّا لم نقطع بذلك ، ثمّ بعد أن طبعنا هذا الرأي رأيت في نومي بعد ظهر يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من رجب الحرام سنة ١٣٦٢ ه‍ ـ والرؤيا أمانة ـ كأنني أزور ضريحها رضي‌الله‌عنها ، فوجدت باب المقصورة النحاسي مفتوحا ، فدخلت إلى ما بين المقصورة والتابوت ، وفي الركن الشرقي الجنوبي رأيت كأنّ إحدى فتيات العشيرة المحمدية المعروفات بالجمال والتقى ، واسمها (فاطمة) ، تجلس في هذا الركن ، وهي تلبس البياض كأنّها في صلاة ، فدهشت وسألتها : ماذا جاء بك إلى هنا؟ قالت : وهل تعرفني؟ قلت : وهل أنسى فاطمة ابنتي؟ قالت : لا ، أنا فاطمة ابنة الحسين!!.

ثمّ مضت أيام وأتاني أخي في الله السيد أبو التقى أحمد خليل رحمه‌الله بنماذج هذه الرسالة ، لأعيد مراجعتها ، فاستبقيتها لليوم الثاني ، وفي ليلة الجمعة آخر شهر المحرم سنة ١٣٦٣ ه‍ رأيت كأنني أزور مباني الإدارة الجديدة الملحقة بالمشهد الحسيني ومعي بعض الأحبة ، وقد أصعدوني لأشاهد القاعة الكبرى في الطابق الثاني ، وإذا بهذه القاعة كأنها قاعة الأمير يشبك بالجمالية ، وقد فرشت بأروع وأبدع أنواع البسط والطنافس والمقاعد ، وفي صدرها فتاة تجلس على ما يشبه العرش ، وقد لبست البياض كذلك كأنّها في صلاة ، وظننت أنّها الدكتورة (فاطمة) ابنة شقيقي السيد وهبي ، ولكنها تبدو مشغولة فذهبت إليها ، وهممت أن

١١٢

أربت بيدي على كتفها ، وأنا أقول : ما لك يا فاطمة يا بنتي؟ فإذا بها تمسك يدي قبل أن تمسها ، وتقول : ألم أقل لك أنا فاطمة بنت الحسين!!.

ولما كنت رأيتها في المنام مرتين في صورة فتاة ، تذكرت قوله تعالى عن أهل الجنة : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً).

سيقول علماء النفس : إنّ هذا أثر من حركة العقل الباطن ، ولكني أقرر (وأنا على معرفة كاملة بعلم النفس الحديث) أنّه ليس كذلك ، وإنّما هو أثر روحي عميق الجذور ، ضارب إلى حقائق مساتير ما وراء المنظور ، وهو من الرؤيا الصّادقة بإذن الله.

وعليه أعود فأقرر بالقطع : إنّ عالم البرزخ محيط ، وأنّ مشهدها بالقاهرة هو لجدتنا فاطمة النبوية بنت الحسين ، وإن اختلف معي بعض النّاس أو كلهم ، ثمّ ما المانع من أن يكون ل (فاطمة) مشهدان ، أحدهما حقيقي والآخر تذكاري؟. ألا ترى كيف نقيم المساجد في مصر ونسميها بأسماء لم يدخل أصحابها مصر أبدا ، والله رب نيات وقلوب.

ثالثا : فاطمات القاهرة :

وبعد هذا يأتي من الفاطمات النبويات بالقاهرة كل من السيدات :

١ ـ فاطمة النبوية بنت محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، وقبرها ب (منطقة الخليفة) مشهور يزار.

٢ ـ فاطمة النبوية بنت أحمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر

١١٣

الصادق ، وقبرها ب (درب سعادة بباب الخلق) ، ذكر المقريزي دخولها مصر ، ومشهدها مقصود بالزيارة وطلب البركة ، وعليه رغم تواضعه نور النبوة ، وهي بنت عم فاطمة بنت محمد بن إسماعيل ، ويخشى على قبرها الاندثار ، كما اندثر كثير من قبور آل البيت مما يؤسف ويؤذي ويهم.

٣ ـ السيدة فاطمة النبوية العيناء ابنة القاسم بن محمد بن جعفر الصادق ، وسميت ب (العيناء) لحسن عيونها وشدة شبهها بجدتها فاطمة الزهراء ، ويؤثر عنها كرامات ومناقب شتى.

وقد نقل إلى قبرها المعروف شرقي قبر الشّافعي عدد من الأشراف الحسنيين والكلاثمة ، وقبرها يستجاب عنده الدعاء بإذن الله ، وعنده تفيض البركات والأمداد ، وهذا القبر لسوء الحظ في طريقه إلى النسيان والتلاشي ، ككثير غيره من مشاهد وقبور أهل البيت وكبار الأولياء.

٤ ـ السيدة فاطمة المحضية ، واسمها زينب بنت عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام عليّ ، وشهرتها فاطمة على ما ذكره القلعاوي في (مشاهد الصفا) ، وقبرها ب (العباسية) في شارع معروف باسمها هناك.

٥ ، ٦ ـ السيدتان فاطمة الصغرى ، وفاطمة الكبرى ، ذكر السخاوي أن قبرهما كان بحري قبر العارف أبي بكر الأدفوي بسفح المقطم ، ومعها جماعة من الأشراف رضي‌الله‌عنهم ، وقد اندثرت هذه القبور جميعا أو تكاد ، فلا يعرفها الآن إلا نادر من المعمّرين.

١١٤

الباب التاسع

الآمنتان والقارئتان

وعائشة والرءوس الثلاثة

* السيدة آمنة بنت موسى الكاظم.

* السيدة آمنة بنت عبد الله بن الحسين.

* القارئتان الأختان (ثناء وسناء).

من صاحبات الأسماء المتماثلة فيما نذكر من شهيرات أهل البيت بالقاهرة :

أولا : الآمنتان :

١ ـ السيدة آمنة بنت موسى الكاظم بن جعفر الصادق ، أخت عليّ الرضا أبو رقية ، وقبرها قرب قبر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني الصاحبيين بقرافة قريش شرقي قبر الإمام الشّافعي ، ولا يكاد يعرف الآن.

٢ ـ السيدة آمنة بنت عبد الله بن الحسن بن عبد الله ، من ذرية القاسم القرشي ، ومدفنها في حوش طباطبا ، بقرافة الإمام الليث قريبا من مشهد الشقيقين الشريفين (الحسن والمحسن) ابنا القاسم بن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنهم جميعا.

١١٥

وهذه المقابر كلها لا يكاد يعرفها الآن إلا المتخصصون فهي في طريق الاندثار ، إلا أن يتداركها الله ، فهو على كل شيء قدير.

ثانيا : القارئتان :

الأختان الشريفتان (ثناء وسناء) من أحفاد الإمام جعفر الصادق ، كانتا تقرآن القرآن في فراغهما ، تقرأ أحداهما جزءا من الختمة الشريفة وتستمع إليها الأخرى ، حتّى إذا انتهت هذه بدأت الثانية فواصلت القراءة ، واستمعت إليها أختها .. وهكذا ، فلما ماتت إحداهما جعلت الأخرى تقرأ ختمتها عند قبرها أو رأسها .. قالوا : حتّى إذا أتمتها ماتت أيضا ودفنت مع أختها.

وقبرهما في الحوش المعروف الآن ب (سيدي ريحان) بصحراء السيوطي تجاه قبة (سودون العجمي) بسفح المقطم ، جنوب شرقي مسجد السيدة عائشة رضي‌الله‌عنها ، وفيه بركة كبرى ، ودعاء مستجاب.

ثالثا : الرءوس الثلاثة المباركة :

وقد شرف الله مصر بأن جعلها مقرا ، لثلاثة من الرءوس الشريفة ، للكبار من سادة أهل البيت ، وهي حسب تواريخ دخولها مصر.

أولها : رأس الإمام زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين ، وإليه ينسب المذهب الزيدي باليمن ، وجثته مثّل بها ، ولا يعرف للجثة مدفن على التحقيق ، ومشهد رأسه هو المعروف باسم أبيه (سيدي عليّ زين العابدين) في الحي المعروف باسمه خلف حيّ السيدة زينب رضي‌الله‌عنها بالقاهرة.

١١٦

أمّا سيدي عليّ زين العابدين نفسه فالمشهور أنّه لم يدفن بمصر بل بالمدينة المنورة ، ولا شكّ أنّ في هذا المشهد بمصر بركة الولد والوالد بفضل الله تعالى.

ثانيها : رأس سيدي إبراهيم الجواد بن عبد الله المحض ، الملقب بالكامل أيضا ، ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن عليّ ، وهو أخو محمد الملقب ب (النفس الزكية) ، قتله المنصور عام (١٤٥ ه‍) ، وطافوا برأسه حتّى وصلوا به إلى مصر ، فنصبوه في الجامع العتيق (جامع عمرو بن العاص) في ذي الحجة سنة ١٤٥ ه‍ ، فسرقه المصريون ، ودفنوه خارج القاهرة في ذلك الوقت (أطراف القاهرة الآن) ، وقد أقيمت زاوية صغيرة على المشهد الذي دفنت فيه الرأس ، تحولت الآن إلى مسجد باق بالمطرية حتّى الآن يسمى بجامع السيد إبراهيم ، ويطلق عليه خطأ (جامع إبراهيم الدسوقي) ، وجامع (إبراهيم بن زيد) ، وكان يسمّى عند العامة فيما مضى (مسجد التبرير) ، وهو خطأ كما ذكر السخاوي وغيره ، والصواب : (مسجد تبر) ، وتبر أحد كبار الأمراء في حكومة (كافور الإخشيدي) هو الذي بنى هذا المسجد.

وذكر المقريزي في خططه : أن مسجد (تبر) خارج القاهرة عرف قديما بالبئر والجميزة ، والبئر والجميزة كانتا بجوار المسجد ، ويقال : إن عيسى عليه‌السلام اغتسل من هذه البئر ، حينما جاء مع أمه طفلا إلى مصر هربا من الروم.

١١٧

وتسميه العامة خطأ أيضا بمسجد التبن ، والمسجد قريب من المطرية ، وتعرف منطقته بمنطقة (السواح) حاليا.

ويعاني المسجد الآن من الإهمال ، واليوم الوحيد الذي يزدحم فيه النّاس هو يوم الاحتفال بمولده في نهاية شهر رجب من كل عام حيث تقام به حلقة ذكر ، ويقدّم الطعام للفقراء ، وقد قام بعض التجار مؤخرا بعمل قاعدة للضريح ، وبناء مقصورة من (الألوميتال) بعد أن وصل المكان إلى حال سيىء ، وبعض أهل الخير يمولون عملية لترميم (واجهة المسجد) ، وإعادة بناء دار مناسبات ومصلى للسيدات في مبنى جديد ملاصق للضريح.

وجدير بالذكر أنّ الإمام أبا حنيفة النعمان رضي‌الله‌عنه قد أيّد إبراهيم في ثورته هذه على المنصور ، كما قام الإمام مالك بتأييد أخيه محمد الملقب بالنفس الزكية ، ولا يعرف لجثة إبراهيم بن عبد الله المحض مكان محقق رضي‌الله‌عنه ، وفي مشهده نور وبركة ومدد.

ثالثها : رأس الإمام الحسين رضي‌الله‌عنه ، وجثته في كربلاء بالعراق ، ورأسه في حرم مشهده الأشهر بالقاهرة على التحقيق التاريخي والروحاني الأكيد عند أصدق المؤرخين ، ولا عبرة أبدا بأقوال المنكرين (راجع ما كتبناه في أول هذا الكتاب).

أمّا المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بعسقلان بالشام ، فهو الذي كان به الرأس قبل نقله إلى مصر ، وأمّا المشهد المنسوب إليه أيضا بسوريا ، فهو من المنازل التي أنزلوا الرأس بها وهي تطوف البلاد ، وهكذا بنيت

١١٨

على هذه المنازل عدة مساجد باسم الإمام الحسين ؛ فهي من المساجد التذكارية التي تقام بأسماء الأولياء تبركا أو لسبب آخر غير دفنهم بها.

* رأس محمد بن أبي بكر :

ونذكر بهذه المناسبة رأس محمد بن أبي بكر الصّدّيق فإنّه في القاهرة بلا خلاف ، والترجيح أنّه بمشهده المعروف بشارع باب الوداع بمصر القديمة ، وتنسب إليه عدة مشاهد أخرى بالقاهرة ، لعلها الأماكن التي كان يخفى فيها الرأس حتّى ينقل من مكان إلى مكان ، وما ينسب إليه من المشاهد بالأقاليم ، فلعلها لغيره من الصّالحين المتشابهين معه في الاسم ، أو كانت كذلك من أمكنة إخفاء الرأس ، أو للتبرك بالاسم أو للذكرى ، كالمشهد المنسوب إليه بمنطقة (حيضان الموصلي) بحي الباطنية خلف الأزهر ، ومشهد (ميت دمسيس) بالدقهلية ، رحمه‌الله وغفر لنا وله ولمن كانوا معه أو كانوا عليه.

رابعا : مرقد السيدة عائشة بنت جعفر بالقاهرة :

ولما لم يبق من شهيرات أهل البيت بمصر من لم نشر إليه فيما نظن إلا عائشة ، لانفرادها في القاهرة باسمها ، فقد تعيّن علينا أن نقرر أنّها السيدة عائشة بنت جعفر الصادق أخت يحيى المؤتمن زوج السيدة نفيسة وأمير المدينة المنورة رضي‌الله‌عنه ، وأخت الإمام موسى الكاظم متفق على دخولها مصر ، مع إدريس بن عبد الله المحض ، بعد موقعة (فخ) التي استشهد بها جماعة من أهل البيت بالعراق.

١١٩

وكانت عائشة رضي‌الله‌عنها زوجا لأمير المدينة أيضا ، عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وتوفيت بمصر عام (١٤٥ ه‍) كما جاء في (مشاهد الصفا) و (تحفة الأحباب) ، وقد أكّد أحمد زكي باشا وجودها في مقرها هذا بمصر ، ولا التفات إلى من يقول إنّها جاءت إلى مصر طفلة وتوفيت وهي طفلة ، فهذا جهل كبير وخلط وتغرير أو حقد سلفي مغير.

ومشهدها معروف بميدان القلعة في طريق الإمام الشّافعي ، وكانت كبقية العترة عابدة مجاهدة من أهل الله ، يؤثر عنها من الكرامات والمناقب شيء كبير ، وقبرها مقصود يدعى الله تعالى فيه ، ويتوسل بها إليه ، جدده عبد الرحمن كتخدا بعد تجديد صلاح الدين له ، ثمّ جددته الدولة في عصرنا تجديدا شاملا رائعا ، ونقلت له أحجار مسجد (أولاد عنان) الذي بني مكانه الآن (مسجد الفتح) بميدان محطة مصر المشهور ب (ميدان رمسيس).

كما نقلت الدولة إلى مسجدها الجديد المقصورة النحاسية التي كانت على قبر السيدة زينب بنت عليّ قبل إهداء المقصورة الفضية الموجودة الآن على قبرها من طائفة (البهرة) أحفاد الفاطميين بالهند ، فأصبح المسجد والمرقد عظيمين لائقين بمقامها الشريف ؛ فهي ابنة أمير ، وأخت أمير ، وزوج أمير ، رضي‌الله‌عنها.

* * *

١٢٠