الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن دنيات الأمور ، وكان مجاب الدعوة وترك الأصنام (١).

وقد ذكرت كتب التاريخ : أن بعض الأصنام قد كانت تماثيل لأشخاص من أهل الخير والصلاح ، فراجع كتاب الأصنام لابن الكلبي ، وسيرة ابن هشام وغير ذلك.

وعن النبي «صلى الله عليه وآله» : يا علي ، إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب ، ويقول : أنا على دين إبراهيم «عليه السلام» (٢).

وقد بلغ الذروة في إيمانه هذا بعد ولادة حفيده محمد «صلى الله عليه وآله» ، حيث سمع ورأى الكثير من العلامات الدالة علي أنه النبي الخاتم ، والأكمل والأفضل من جميع البشر ، وشهد ، وعاين الكثير من الكرامات والدلالات القطعية فيه.

وبعد كل ما تقدم نقول : إنه لا مانع من أن يكون عبد المطلب قد تلقى الأمر بذبح ولده عبد الله من الله تعالى ، ولا أقل من أنه كان يعتقد بأن له الحق في تصرف كهذا ، ونذر كهذا ولم يكن ذلك مستهجنا لدى العرف آنئذ.

أضف إلى ذلك : أنه لم يثبت عدم جواز نذر كهذا في الشرايع السابقة.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ٤ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ١ ص ٢١ ، ومسالك الحنفا ص ٤١ ، عن الملل والنحل للشهرستاني ، وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٧.

(٢) البحار : ج ٧٧ ص ٥٦.

٦١

فقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيوت الله ، وأمر الله تعالى نبيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل.

وأما تسمية أبنائه بما يشير إلى الأصنام ، فلعلها تسميات لحقتهم بعد ظهور شركهم ، وانحرافهم ، وحبهم لتلك الأصنام ، وليس لدينا تاريخ صادق ، وصريح ، وكاف .. والله العالم بالحقائق.

النسخ في قصة إبراهيم عليه السّلام :

هذا ، وقد ادعى البعض : أن قصة إبراهيم تدل على جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وأجيب عن ذلك :

أولا : إن إبراهيم «عليه السلام» لم يؤمر بالذبح الذي هو فري الأوداج ، بل أمر بالمقدمات ، فقد جاء بالتنزيل قوله تعالى : (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)(١) ولم يقل : إني ذبحتك ، ثم جاء قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٢) ؛ ليؤكد على ذلك ولو كان ما فعله بعض المأمور به ، لكان مصدقا لبعض الرؤيا (٣) فلا يصح قوله تعالى : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).

ثانيا : إن وقت الفعل حاضر ؛ فإن إبراهيم قد شرع في التنفيذ فعلا ، فالنشخ لو سلم ، فإنما هو قبل وقوع الفعل ، لا قبل حضور وقت العمل.

ونقول : إن النسخ يمكن أن يكون مع كون الأمر بداعي الامتحان أو

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.

(٢) الآية ١٠٥ من سورة الصافات.

(٣) معالم الدين : ص ٢٠٨ ، وراجع : البحار ج ١٢ ص ١٣٧ ، ومفاتيح الغيب ، ج ٢٥ ص ١٥٥.

٦٢

غيره أولا ، ثم يصدر أمر عن مصلحة واقعية ثانيا فينسخه.

البداء عند الشيعة :

ويتفرع على مسألة النسخ مسألة البداء ؛ التي هي موضع خلاف بين الشيعة وغيرهم ، وقد صارت مصدرا للافتراءات الكثيرة على الشيعة ، ونحن نشير إلى توضيح هذه المسألة بما يسمح به المجال ، فنقول :

قال آية الله الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين «رحمه الله» :

«حاصل ما تقوله الشيعة هنا : أن الله عز وجل قد ينقص من الرزق ، وقد يزيد فيه ، وكذا الأجل ، والصحة والمرض ، والسعادة والشقاوة ، والمحن والمصائب ، والإيمان والكفر ، وسائر الأشياء ، كما يقتضيه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١).

وهذا مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي وائل ، وقتادة ، وقد رواه جابر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكان كثير من السلف يدعون ، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم سعداء لا أشقياء ، وقد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة.

وورد في السنن الكثيرة : أن الصدقة على وجهها ، وبر الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر إلخ ..» (٢).

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

(٢) أجوبة موسى جار الله ص ٨٦ ـ ٨٧. وقد ذكر مصادر ما أشار اليه ثمة ؛ فراجع. ونظير ذلك ما قاله المجلسي أيضا ، فراجع : سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢ ، وقد أوضحه أيضا بصورة جيدة.

٦٣

نعم ، هذا هو البداء الذي تعتقد به الشيعة تبعا لأئمتهم «عليهم السلام».

وأما البداء بمعنى ظهور رأي جديد له تعالى بعد أن لم يكن يعلم به أولا ، أو بمعنى أن يعمل تعالى عملا ثم يندم عليه ، حيث ظهر له أن المصلحة كانت في خلاف ذلك ، أما البداء بهذا المعنى فهو محال على الله ، ولم يقل به الشيعة أبدا ، كيف؟! وهم أتباع أمير المؤمنين علي «عليه السلام» منشئ نهج البلاغة المشحون بالمعاني التي يعجز العقل البشري عن إدراكها ؛ علي الذي تعلم الناس منه ومن أبنائه المعصومين تنزيه الله تعالى عن كل نقص ، وأخذوا عنه أدق المعارف حول الله وصفاته سبحانه وتعالى ..

وقد نقل عن الصادق «عليه السلام» قوله : من زعم أن الله يبدو له في شيء ، ولم يعلمه أمس ، فابرؤوا منه (١).

وعنه «عليه السلام» : من زعم أن الله بدا له في شيء بداء ندامة ؛ فهو عندنا كافر بالله العظيم (٢).

التوضيح والتطبيق :

وتوضيح ذلك : أن الله عز وجل يقدر لزيد من الناس مثلا رزقا معينا ، أو عمرا معينا ، بحسب ما تقتضيه طبيعته وسجيته ، واستعداده الذاتي وفقا للسنن التي أودعها في مخلوقاته لتجري بها الأمور ، ولكنه يعلم أنه سوف

__________________

(١) البحار : ج ٤ ص ١١١ ، والاعتقادات للصدوق ، باب الاعتقاد بالبداء ، وميزان الحكمة ج ١ ص ٣٨٩.

(٢) الاعتقادات للصدوق رحمه الله ـ باب الاعتقاد بالبداء ، وراجع : هامش البحار : ج ٤ ص ١٢٥.

٦٤

يتصدق فيكون ذلك سببا في زيادة رزقه المقدر له أولا بقطع النظر عن هذه الصدقة ، أو سوف يبر بوالديه فيزيد عمره لذلك كذلك ، والله يعلم بذلك كله من أول الأمر.

وقد تقتضي المصلحة أن يطلع الله نبيه «صلى الله عليه وآله» على المقتضي لوجود شيء ، من دون أن يطلعه على ما سوف يجد في المستقبل له من الموانع ، أو ما سوف يفقده من شرائط ، فيخبر النبي «صلى الله عليه وآله» الناس عنه على تلك الصفة.

ثم بعد ذلك يطلع تعالى النبي «صلى الله عليه وآله» على أنه يوجد مانع ، أو أن المقتضيي يحتاج إلى توفر شرائط ومناخات معينة مفقودة فعلا ، مع علم الله سبحانه بكل ذلك أولا وآخرا ؛ فإن لله علما اختص به ، وعلما يطلع عليه نبيه أو يثبته في لوح المحو والإثبات ، وقد أشار إلى هذين العلمين ، في قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١) فمثلا ، لو بنينا بيتا ، وكان بحسب طبعه صالحا للبقاء مئة سنة مثلا ، ولكنه ربما ترد عليه عواصف ، أو زلازل ، أو سيول ، أو نحوها ؛ تمنع من بقائه هذه المدة ، ويتلاشى في مدة عشر سنوات مثلا.

فلو أخبرنا الناس : أن هذا البيت يبقى مئة سنة ، مع علمنا بأنه سيتلاشى بسبب سيل يأتي من الناحية الفلانية ، يصل إليه بعد عشرة أيام ، ثم أخبرنا ثانيا : بأن البيت سيهدم بعد عشرة أيام ، فإن كلا من الخبرين يكون صحيحا .. وقد يترتب على إخبارنا الأول مصلحة هامة لا غنى عن تحققها في موطنها.

__________________

(١) الآية ٣٩ من سورة الرعد.

٦٥

وقد يكون من هذا القبيل ما نجده يذكر في علامات الإمام صاحب الزمان «عليه السلام» حيث قد نص الأئمة «عليهم السلام» على أن بعضها : من المحتوم ، وسكتوا عن البعض الآخر ؛ فلربما يتحقق الجميع ، ولربما تفقد بعض الشرائط لبعضها أو توجد بعض الموانع عن تحقق بعضها ، ويكون المخبر إنما أخبر عن السير الطبيعي للأمور بغض النظر عن العوارض والطوارئ ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا دراسة في علامات الظهور ، فراجع الفصل الثاني منه.

ويمكن أن تكون قضية إبراهيم وإسماعيل الذبيح من هذا القبيل أيضا ، حيث إنه تعالى ـ لمصلحة يراها ، كالامتحان والابتلاء ، وغير ذلك مما تقدم ـ قد أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده ثم فدى ذلك الذبيح بذبح عظيم.

وقد أخبر تعالى : إبراهيم بأنه قد صدق الرؤيا.

ولعل قضية إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» ، كانت من هذا القبيل ، فقد اقتضت المصلحة أن تتوجه الأنظار نحو إسماعيل هذا ، من أجل حفظ نفس الإمام الحق من الأخطار ، ثم يموت إسماعيل ، ويظهر أن الإمام الحقيقي هو أخوه موسى «عليه السلام».

إشكال .. وجوابه :

الإشكال : أن كلمة «بدا» معناها : ظهر «وليس أظهر». و «بدا لله» لا بد أن يكون معناه ظهر له الأمر وعلم به بعد أن كان يجهله ، وذلك محال عليه تعالى كما قلتم ، فكيف يمكن توجيه قوله «عليه السلام» : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل» وغير ذلك من كلمات عبرت ب «بدا له» أو «بدا لله»؟!.

٦٦

والجواب : أن قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) ، ثم اعتبار قضية إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام» وصرف القتل عنه مرتين بسبب دعاء أبيه «عليه السلام» من البداء ، حيث روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله : ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل (١) ـ إن ذلك يشير إلى أن كلمة بدا لم تستعمل في معنى الإظهار أو الظهور.

وإنما استعملت بمعنى : تحقيق وتجسّد ما علم في عالم الكون والوجود ، نظير كلمة : (علم) في قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(٢).

وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ)(٣).

وقوله سبحانه : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)(٤).

والمقصود : ليتحقق معلومنا ، ويتجسد في عالم الوجود ، هذا بالنسبة للتعبير ب «علم».

وكلمة بدا ، أيضا كذلك ، فبدا له ، أي تحقق ما علمه في الخارج وعلى

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٦٢.

(٢) الآية ١٢ من سورة الكهف.

(٣) الآية ٣١ من سورة محمد.

(٤) الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

٦٧

صفحة الكون ، ولعل قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا)(١) ، قد استعمل في هذا المعنى أيضا : أي تحقق ذلك وتجسد في الخارج.

ولعل هذا المعنى أقرب من حمل «بدا» على معنى : أظهر للغير ، لأن هذا المعنى لا يناسب التعدية باللام لنفس الذات الإلهية ، فلا يصح أن يقال : بدا لله ، ويكون المعنى : أظهر للغير ، بل هذا غلط ظاهر.

اليهود ، والبداء :

وبعد ، فلو أننا لم نقل بالبداء ، لكنا مثل اليهود الذين نعى الله عليهم اعتقادهم الفاسد ، حيث أنكروا البداء.

وقالوا : إن الله قدر الأرزاق والأشياء منذ الأزل ، ولا تغيير ولا تبديل فيما قدر ، فقد «جف القلم».

وقد قال تعالى مقبحا قولهم هذا :

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(٢).

وقال الشهرستاني عن اليهود : «ولم يجيزوا النسخ أصلا ، قالوا : فلا يكون بعده شريعة أصلا ؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله تعالى» (٣).

فالاعتقاد بالبداء : ضرورة إسلامية وعقيدية ، ومن لوازم ومقتضيات تنزيه

__________________

(١) الآية ٤٨ من سورة الزمر.

(٢) الآية ٦٤ من سورة المائدة.

(٣) الملل والنحل : ج ١ ص ٢١١.

٦٨

الله وتوحيده ، وهو كذلك منسجم مع مفاد الآيات القرآنية ، والأحاديث الشريفة.

وعن الإمامين الصادق والباقر «عليهما السلام» ، قال : ما عبد الله تعالى بشيء مثل البداء (١).

هذا .. وقد أورد المجلسي «رحمه الله» للبداء حكما جليلة ، وفوائد جميلة : فليراجعها من أراد (٢).

__________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٦٢.

٦٩
٧٠

الفصل الثاني :

بحوث تسبق السيرة

٧١
٧٢

البحث الأول

إيمان آباء النبي صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السّلام :

قالوا : إن كلمة الإمامية قد اتفقت على أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» ، من آدم إلى عبد الله كلهم مؤمنون موحدون (١) ، بل ويضيف المجلسي قوله :

«.. بل كانوا من الصديقين ، إما أنبياء مرسلين ، أو أوصياء معصومين ، ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام ، لتقية ، أو لمصلحة دينية» (٢).

ويضيف الصدوق هنا : أن أم النبي «صلى الله عليه وآله» آمنة بنت وهب كانت مسلمة أيضا (٣).

ومعنى ذلك : هو أنه ليس في آباء الرسول «صلى الله عليه وآله» إلا الاستقامة على جادة الحق ، والخير والبركة ، وهذا هو ما ورثه الرسول

__________________

(١) راجع : أوائل المقالات ص ١٢ ، وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ ، وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٣ ط دار الكتب العلمية بطهران وفي طبعة أخرى ج ٤ ص ١٠٣ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ ، ومجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، وليراجع البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) البحار ج ١٥ ص ١١٧.

(٣) نفس المصدر.

٧٣

عنهم ، ويتأكد بذلك طهارته «صلى الله عليه وآله» من الأرجاس ، والرذائل ، حتى ما يكون عن طريق الوراثة ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، وهو ما أثبته العلم الحديث أيضا ، حيث لم يبق ثمة أية شبهة في تأثير عامل الوراثة في تكوين شخصية الإنسان ، وفي خصاله ومزاياه.

قال أبو حيان الأندلسي : «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا مؤمنين» (١).

أما غير الإمامية ، فذهب أكثرهم إلى كفر والدي النبي وغيرهما من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، وذهب بعضهم إلى إيمانهم.

وممن صرح بإيمان عبد المطلب ، وغيره من آبائه «صلى الله عليه وآله» ، المسعودي ، واليعقوبي ، وهو ظاهر كلام الماوردي ، والرازي في كتابه أسرار التنزيل ، والسنوسي ، والتلمساني محشي الشفاء ، والسيوطي ، وقد ألف هذا الأخير عدة رسائل لإثبات ذلك (٢).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

(٢) رسائل السيوطي ، هي التالية :

١ ـ مسالك الحنفا

٢ ـ الدرج المنيفة في الآباء الشريفة

٣ ـ المقامة السندسية في النسبة المصطفوية

٤ ـ التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجنة

٥ ـ السبل الجلية في الآباء العلية

٦ ـ نشر العلمين المنيفين في إثبات عدم وضع حديث إحياء أبويه «صلى الله عليه وآله» وإسلامهما على يديه «صلى الله عليه وآله».

٧٤

وفي المقابل قد ألف بعضهم رسائل لإثبات كفرهم ، مثل إبراهيم الحلبي ، وعلي القاري الذي فصّل ذلك في شرح الفقه الأكبر ، واتهموا السيوطي بأنه متساهل ، لا عبرة بكلامه ، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد.

وسيأتي في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى ما يشير إلى السبب في الإصرار على كفر آباء النبي «صلى الله عليه وآله» وأعمامه.

بعض الأدلة على إيمانهم :

وقد قال الإمامية :

إن ثمة روايات كثيرة تدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» ، بالإضافة إلى إجماع الطائفة المحقة ، ومستند ذلك هو الأخبار ، والإحاطة بجميعها متعسر ، إن لم يكن متعذرا (١). وهذا هو الدليل المعتمد.

وقد استدلوا على ذلك أيضا :

١ ـ بقوله «صلى الله عليه وآله» : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ، حتى أخرجني في عالمكم ، ولم يدنسني بدنس الجاهلية» (٢).

__________________

(١) ذكر طائفة منها العلامة المجلسي رحمه الله في البحار : ج ١٥ ، والسيوطي في رسائله المشار إليها ، فراجع رسالة السبل الجلية : ص ١٠ فما بعدها ، وراجع أيضا : السيرة الحلبية ، وغير ذلك وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ فما بعدها.

(٢) مجمع البيان ج ٤ ص ٣٢٢ ، والبحار ج ١٥ ص ١١٧ و ١١٨ وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ١٧٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٠ ، والدر المنثور ج ٥ ص ٩٨ ، وسيرة دحلان ج ١ ص ١٨ وتصحيح الاعتقاد ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٥

ولو كان في آبائه ، أو أمهاته «صلى الله عليه وآله» كافر ، لم يصفهم كلهم بالطهارة ، مع أن الله تعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(١)(٢).

إلا أن يكون المقصود هو الطهارة من العهر ، أو من الأرجاس والرذائل ، وهو لا يلازم الكفر.

ويرد عليه : أنه تخصيص بلا مخصص ، ولا شاهد ، بل إن قوله :

«ولم يدنسني بدنس الجاهلية» شامل بإطلاقه لكل دنس ، والكفر من جملة هذه الأدناس.

٢ ـ واستدلوا على ذلك أيضا بقوله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(٣).

لما روي عن ابن عباس ، وأبي جعفر ، وأبي عبد الله «عليهما السلام» : أنه «صلى الله عليه وآله» لم يزل ينقل من صلب نبي إلى نبي ، ولا يجب أن يكونوا أنبياء مبعوثين فلعل أكثرهم كان نبيا لنفسه أو لبيته ..

ويمكن المناقشة في ذلك أيضا : بأن الآية تقول : إنه تعالى يراه حال عبادته وسجوده ؛ فهو «صلى الله عليه وآله» في جملة الساجدين الموجودين فعلا ، وغيرهم.

لا أنه يراه وهو يتقلب في أصلاب الأنبياء. لكن الرواية بينت المراد ، أو

__________________

(١) الآية ٢٨ من سورة التوبة.

(٢) راجع : المصادر المتقدمة.

(٣) الشعراء ٢١٨ ـ ٢١٩ وراجع تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٤ و ٢٣٥ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٤٧.

٧٦

طبقت الآية على المورد ، فلا بد من الأخذ بها ، وقد يقال :

ولو ثبتت الرواية ، فيمكن القول بأنها لا تدل على استغراق ذلك لجميع آبائه ؛ فلعله يرى تقلبه في أصلاب الأنبياء من آبائه ، كما يرى تقلبه في أصلاب غير الأنبياء.

ويجاب عن هذا : بأن كلمة لم يزل ينقلني ظاهرة في استغراق هذا النقل إلى أصلاب أناس موصوفين بالنبوّة جميعا.

فإن قلت : إن من الصعب جدا إثبات نبوة كل واحد من آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم «عليه السلام».

فإننا نقول : إن هذا لا يعني عدم ثبوت ذلك بهذه الروايات وأمثالها ..

وأما أدلة غير الإمامية فقد استقصاها السيوطي في رسائله المشار إليها ، ولكن استعراضها والاستقصاء فيها نقضا وإبراما يحتاج إلى وقت طويل ، وتأليف مستقل.

٣ ـ ويمكن أن يستدل على إيمان آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى إبراهيم بقوله تعالى ، حكاية لقول إبراهيم وإسماعيل :

(وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا)(١) ، مع قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(٢).

أي في عقب إبراهيم ، فيدل على أنه لا بد أن تبقى كلمة الله في ذرية إبراهيم ، ولو في واحد واحد ، على سبيل التسلسل المستمر فيبقى أناس

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٨ من سورة الزخرف.

٧٧

منهم على الفطرة ، يعبدون الله تعالى حتى تقوم الساعة ، ولعل ذلك استجابة منه تعالى لدعاء إبراهيم «عليه السلام» الذي قال :

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(١) وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)(٢).

وواضح أنه : لو أنه تعالى قد استجاب لإبراهيم في جميع ذريته لما كان أبو لهب من أعظم المشركين ، وأشدهم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وهذا ما يفسر الإتيان بمن التبعيضية في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).

ولا يصح القول : بأنه كما خرج أبو لهب فلعل بعض آباء النبي «صلى الله عليه وآله» قد خرج أيضا.

وذلك لأن كلمة (باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) تفيد الاتصال ، والاستمرار من دون انقطاع ، أما خروج أبي لهب فهو لا يقطع هذا الاتصال.

إستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه :

وقد اعترض على القائلين بإيمان جميع آبائه «صلى الله عليه وآله» إلى آدم ، بأن القرآن الكريم ينص على كفر آزر أبي إبراهيم ، قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(٣).

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.

(٢) الآية ٤ من سورة إبراهيم.

(٣) الآية ١١٤ من سورة التوبة.

٧٨

وأجابوا :

أولا : إن ابن حجر يدعي إجماع المؤرخين على أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وإنما كان عمه ، أو جده لأمه ، على اختلاف النقل (١) وإسم أبيه الحقيقي : تارخ (٢) ، وإنما أطلق عليه لفظ الأب توسعا ، وتجوزا. وهذا كقوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(٣) ، ثم عد فيهم إسماعيل مقدما له على أبيه الحقيقي إسحاق ، مع أن إسماعيل ليس من آبائه ؛ ولكنه عمه.

وقد ذكر بعض العلماء : أن اسم «آزر» لم يذكر في القرآن إلا مرة واحدة في أول الأمر ، ثم لم يتكرر اسمه في غير ذلك المورد ، تنبيها على أن المراد بالأب : «آزر».

ثانيا : إن استغفار إبراهيم لأبيه قد كان في أول عهده وفي شبابه ، مع أننا نجد أن إبراهيم حين شيخوخته ، وبعد أن رزق أولادا ، وبلغ من الكبر عتيا يستغفر لوالديه ، قال تعالى حكاية عنه : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤).

__________________

(١) راجع : السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٣٧ ، وراجع : الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠.

(٢) الدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ١٦٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٣٥ و ٢٣٦.

(٣) الآية ١٣٣ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٤١ من سورة إبراهيم.

٧٩

قال هذا بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق حسب نص الآيات الشريفة (١) ، مع أن الآية تفيد : أن الاستغفار الأول قد تبعه التبرّؤ مباشرة.

ولكن من الواضح : أن بين الوالد والأب فرقا ، فإن الأب يطلق على المربي ، وعلى العم والجد ، أما «الوالد» فإنما يخص الوالد بلا واسطة ، فالاستغفار الثاني إنما كان للوالد ، أما الأول فكان للأب.

ثالثا : إنه يمكن أن يكون ذلك الذي استغفر له ، وتبرأ منه ، قد عاد إلى الإيمان ، فعاد هو إلى الاستغفار له.

هذا ، ولكن بعض الأعلام (٢) يرى : أن إجماع المؤرخين على أن أبا إبراهيم ليس «آزر» منشؤه التوراة ، التي تذكر أن اسم أبي إبراهيم هو : «تارخ» ، ثم ذكر أن من الممكن أن يكون نفس والد إبراهيم قد كان مشركا يجادله في الإيمان بالله ، فوعده بالاستغفار له ، ووفى بوعده ، ثم عاد فآمن بعد ذلك فكان يدعو له بعد ذلك أيضا حتى في أواخر حياته هو كما أسلفنا.

وهذا الاحتمال وإن كان واردا من حيث لا ملزم لحمل الأب في القرآن والوالد على المجاز.

إلا أنه ينافي الإجماع والأخبار ؛ فلا محيص عن الالتزام بما ذكرناه آنفا من أن المراد بالأب هو العم والمربي ، لا الوالد على الحقيقة ، مع عدم قبولنا منه قوله : إن استعمال الأب في العم المربي ، يكون مجازا.

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ١٢ ص ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) هو العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني.

٨٠