الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

سافر إلى الشام ، وحمل معه منها الصنم المسمى ب «هبل» ووضعه على الكعبة ، وكان أول صنم وضع عليها ، ثم أتبعه بغيره ، وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي :

يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة

شتى بمكة حول البيت أنصابا

وكان للبيت ربا واحدا أبدا

فقد جعلت له في الناس أربابا

قالوا : «وكان قوله ـ أي عمرو بن لحي ـ فيهم كالشرع المتبع ؛ لشرفه فيهم ، ومحلته عندهم ، وكرمه عليهم» (١).

فشاعت عبادة الأصنام بين العرب ، وأصبحت كل قبيلة تضع لها صنما على الكعبة ، تختلف إليه من جميع الأقطار ، حتى صار بها أكثر من (٣٠٠) صنم ، أو تنصبه في الموضع المناسب لها ، فإذا أرادوا الحج وقفوا عند الصنم ، وصلوا عنده ، ثم يلبون حتى يصلوا إلى مكة (٢).

واتخذ أهل كل دار صنما يعبدونه في دارهم ، فإذا أراد الرجل سفرا تمسح به حين يركب ، وإذا قدم تمسح به أول ما يصل قبل أن يصل إلى أهله.

وكان ذلك هو حجة من قال : إن العرب لم تكن تعبد الأصنام قبل عمرو بن لحي (٣).

وثمة رأي آخر يقول : إن بني إسماعيل كانوا لا يفارقون مكة حتى

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٢ ص ١٨٧ والسيرة الحلبية : ج ١ ص ١٠ و ١١ ، وراجع :

الأصنام ص ٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٥٥.

(٣) راجع : السيرة الحلبية : ج ١ ص ١٠ و ١١.

٤١

كثروا ، وضاقت بهم مكة ، ووقعت بينهم الحروب والعداوات ، وأخرج بعضهم بعضا ، فاضطروا إلى التفرق في البلاد ، وما من أحد منهم إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم ؛ فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به ، كطوافهم بالكعبة ، حتى أدى بهم ذلك إلى عبادة تلك الحجارة ، ثم جاء من بعدهم ؛ فنسوا ما كان عليه آباؤهم من دين إسماعيل ، فعبدوا الأوثان (١) وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها ، من تعظيم البيت والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف على عرفة ومزدلفة ، وإهداء البدن ، والإهلال بالحج والعمرة ، مع إدخالهم فيه ما ليس منه (٢).

ونحن نرجح أن هذا الأخير هو سر عبادتهم للأوثان ، وأما عمرو بن لحي ، فالظاهر أنه أول من وضع الأصنام على الكعبة ، أو حولها ، وتبعه غيره ، وربما يشهد لذلك أن مجيئه بالصنم من الشام لا بد أن يسبقه ـ بحسب العادة ـ نوع قبول للأصنام ، وتعظيم لها.

هذا ، إن لم نقل : إنه يعني : أنه كان يعبد الأصنام قبل أن يذهب إلى الشام.

وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى ما كان للكعبة من مكانة لدى الإنسان العربي ، فضلا عن غيره ، سواء في الوقت الذي كان يعبد فيه الأوثان ويعظمها ، أو في تلك الظروف التي بدأ يشعر فيها بعض الناس بسخافة

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ١٨٨ ، والمستطرف ج ٢ ص ٧٥ عن ابن إسحاق ، والأصنام ص ٦ وغير ذلك.

(٢) الأصنام : ص ٦.

٤٢

عبادة الأوثان ، وعدم معقوليتها.

وبالنسبة للمراد من الصنم فإنهم يقولون : «إذا كان معمولا من خشب أو ذهب ، أو من فضة صورة إنسان ، فهو صنم ، وإذا كان من حجارة فهو وثن» (١).

ولاية الكعبة :

كانت ولاية الكعبة أولا في يد ولد إسماعيل ، ثم خرجت من يدهم إلى أخوالهم الجرهميين (٢) ويقال : ثم إلى العماليق ، ثم عادت إلى جرهم ، ثم لما كثر ولد إسماعيل ؛ وأصبحوا ذوي قوة ومنعة ، حاربوا الجرهميين بقيادة كبير خزاعة ، وانتزعوا منهم ولاية البيت ، واستمرت في الخزاعيين إلى أن أخرجها منهم قصي بن كلاب ، الجد الرابع للنبي «صلى الله عليه وآله».

وكانت الولاية بيد حليل الخزاعي أبي زوجة قصي ، فجعل الولاية بعد موته لابنته ، التي كانت تحت قصي ، ولكنه جعل مفتاح البيت مع رجل يقال له أبو غبشان فيقال : إن قصيا إشتراه منه بزق خمر ؛ وبذلك يضرب المثل «أخسر من صفقة أبي غبشان» ، وقال في ذلك بعضهم :

أبو غبشان أظلم من قصي

وأظلم من بني فهر خزاعة

فلا تلحوا قصيا في شراه

ولوموا شيخكم إذ كان باعه (٣)

__________________

(١) الأصنام : ص ٥٣.

(٢) يقال : إن زوجة إسماعيل كانت جرهمية. وهم في الأصل يمنيون قحطانيون ، لا من عدنان.

(٣) راجع تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٣٩ و ٢٤٠.

٤٣

ومن أجل ذلك فقد جرت بين قريش وخزاعة حرب كان النصر فيها لقريش ، وهم أولاد فهر بن مالك (١) ، هكذا يقولون.

ولكن ذلك ليس هو الرأي النهائي هنا ؛ إذ أننا نرى البعض الآخر يقول :

إن قصيا قد استعاد البيت من خزاعة بعد حروب جرت بينه وبينهم ، ثم تحاكموا إلى عمرو بن عوف ، فحكم لقصي (٢).

وثمة قول آخر يفيد : أن حليلا أوصى عند موته بولاية البيت لصهره قصي ، وهذا ما تزعمه خزاعة (٣).

وهناك أقوال أخرى ، مثل أن حليلا الخزاعي أوصى بالولاية لابنته زوجة قصي ، وهي أعطتها لزوجها.

وإذا كانت خزاعة تزعم ذلك فما هو المبرر لحربها ، إلا الحسد له ، والبغي عليه؟!. والظاهر أن حليلا قد أوصى إليه به فحاربته خزاعة حسدا وبغيا (٤) ، ثم تحاكموا إلى يعمر بن عوف ، فحكم له.

وحكم يعمر بن عوف له يقرّب وصية حليل بالولاية إليه ، وكان يعمر قد اطلع على هذه الوصية ، إن لم يكن لقصي حجج أخرى في المقام جعلت

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٢ ص ٢١٠ ، وغيره.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٤٠ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٠٧ عن ابن إسحاق.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٣٩ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٠٥ عن ابن إسحاق.

(٤) راجع السيرة الحلبية : ج ١ ص ٨ ، وتاريخ الخميس : ج ١ ص ١٥٥ ، وتاريخ الأمم والملوك : ج ٢ ص ١٦.

٤٤

الحكم يكون في صالحه (١).

وعلى كل حال ، فقد جدد قصي بناء البيت في القرن الثاني قبل الهجرة (٢) وبنى إلى جانب الكعبة دار الندوة ، التي كانت تجتمع فيها قريش للحكومة ، والقضاء ، والشورى (٣) وهذا من مآثره الجليلة ، الدالة على درايته وحكمته ، وبعد نظره.

مكانة قريش :

وواضح : أن سدانة قريش للبيت العتيق ، وهو الذي يعظمه الكثيرون ، ثم اتصال نسبها بإسماعيل وإبراهيم «عليهما السلام» ، والعربي بطبعه يحترم نسبا كهذا ، انطلاقا من اهتمامه بالأنساب ، وإذعانه لها على أنها مصدر شرف وسؤدد ، ولا سيما بملاحظة تعرض العربي للغارات والسبي الأمر الذي يجعل لديه حساسية خاصة تجاه هذا الأمر.

وأيضا ، لأن قريشا كانت أقرب إلى الحنيفية من غيرها ، وشعائر الحج إنما هي من بقاياها كما هو معلوم ، والحنيفية هي الدين الذي يحترمه العربي ويقدسه ويعنو له ، إن كل ذلك ، وغيره من أمور قد أكسب قريشا شرفا ، ومنحها مكانة ، ونفوذا وخطرا ، وأصبح الناس عامة ينظرون إلى قريش نظرة فيها الكثير من الاحترام والتقديس والإكبار.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٩ ، وراجع : تاريخ الأمم والملوك : ج ٢ ص ١٧.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ١٩.

(٣) راجع : السيرة الحلبية : ج ١ ص ١٢ و ١٥ ، وراجع : تاريخ الخميس : ج ١ ص ١٥٥ ، وتاريخ الأمم والملوك : ج ٢ ص ١٨ ـ ١٩.

٤٥

والشواهد على هذا كثيرة ، ويكفي أن نذكر قول قصي لقريش : «قد حضر الحج ، وقد سمعت العرب ما صنعتم ، وهم لكم معظمون» (١).

وقول أبي طالب حين تزويج خديجة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه» (٢).

وعليه ، فإنه إذا كانت قريش من نسل إسماعيل ، وتحترم دين الحنيفية.

وإذا كانت مكة تعتبر حتى من العرب ، أهل الحرب والغارة ، حرما يأمن من لجأ إليه ، وقد يلتقي العربي فيها بقاتل ولده ، أو أبيه ؛ فلا يؤذيه ، ولا يستطيع أن يثأر منه.

وإذا كان تقديس مكة قد بلغ عندهم هذا الحد ؛ فإن من الطبيعي أن يكون لسادة مكة نصيب وافر من هذا التقديس ، وأن يتميزوا على سائر الناس باحترام خاص ، أضف إلى ذلك سدانتهم للبيت الذي تفد إليه العرب من جميع الأقطار والانحاء.

وإذا كانت قريش وخصوصا الهاشميون ترى : أن شرفها ، وسؤددها ، ومجدها ، وحتى اقتصادها ، مرتبط بالبيت ومتصل به اتصالا وثيقا ؛ فمن الطبيعي أن تدرك أن انتهاك حرمته ليس من مصلحتها ، لأن ذلك يقلل من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٣٩.

(٢) ستأتي بعض المصادر لذلك إن شاء الله تعالى حين الكلام عن زواج النبي «صلى الله عليه وآله» بخديجة «عليها السلام».

٤٦

تقديس البيت ، ومن احترام سدنته ويفقدهم ـ من ثم ـ أعز وأغلى ما لديهم.

ومن هنا فإنه وإن كان في قريش جماعات شريرة ، لا ترجع إلى دين ، وهم أصحاب حلف الأحلاف «لعقة الدم» ، لكن قد كان في مقابلهم رجال أشراف كرام لا يرضون بما يصدر من أولئك ، ويحاولون إرجاع الحق إلى نصابه ما أمكنهم ذلك ، ومن هنا كانت المبادرة إلى عقد حلف المطيبين ، وبعده حلف الفضول ، الذي ينص على أن ترد كل مظلمة إلى صاحبها ، لا فرق بين قرشي وغيره ، وعلى التأسي بالمعاش (١).

أنا ابن الذبيحين :

ويذكرون هنا : أنه حين لقي عبد المطلب ـ وهو يحفر زمزم ـ من قريش ما لقي : من مخاصمتها إياه في شأن تلك البئر ، وشدتها عليه ، حلف لئن ولد له عشرة نفر لينحرن أحدهم ، فلما ولدوا له دعاهم إلى الوفاء لله بالنذر ؛ فأجابوه ، فضرب القداح فخرجت على ولده عبد الله أصغر بني أبيه ، على حد تعبير ابن هشام.

ونقول :

الصحيح : بني أمه ، وإلا ، فإن الحمزة والعباس كانا أصغر منه.

إلا أن يقال : إنهما لم يكونا قد ولدا بعد.

والظاهر : أن المقصود بالعشرة : ما يشمل أولاد أولاده. وقد ذكروا : أنه كان للحرث بن عبد المطلب ولدان ؛ هما أبو سفيان ونوفل ، بل ذكر

__________________

(١) سيأتي الحديث عن ذلك مفصلا في فصل : من الميلاد إلى البعثة.

٤٧

بعضهم : أن أعمامه «صلى الله عليه وآله» كانوا اثني عشر ، بل قيل : ثلاثة عشر ، وأن عبد الله ثالث عشرهم ، وعليه فلا إشكال ، لأن الحمزة والعباس كانا من أم أخرى كما أشرنا إليه (١).

كما إننا نشك في قولهم : إن ضرب القداح كان عند هبل ، وأراد التنفيذ عند إساف ونائلة ؛ لأن عبد المطلب كان على دين الحنيفية كما سيأتي عن قريب ، ولم يكن يحترم الأصنام آنئذ ، ومهما يكن من أمر فقد أراد عبد المطلب ذبح ولده عبد الله ، فأطاعه ولده ؛ فمنعوه من ذلك ؛ فضربت القداح عليه ، وعلى عشرة من الإبل ـ مقدار دية رجل ـ من جديد فخرجت عليه ، فزادها عشرة ، وضربت القداح فخرجت عليه ، وهكذا إلى أن بلغت مئة ؛ فخرجت على الإبل فنحرت.

ولذلك يقال : إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يقول : أنا ابن الذبيحين ، أي إسماعيل ، وعبد الله (٢).

من هو الذبيح؟!

ويقول البعض : إن المراد بالذبيحين هابيل ، وعبد الله .. على اعتبار أن المراد بالذبيح هو إسحاق ، كما جاء في بعض الروايات (٣) ، ولإجماع أهل

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣٨ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٨.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٨ وراجع المواهب اللدنية ج ١ ص ١٧ والسيرة النبوية لدحلان ط دار المعرفة ج ١ ص ١٦.

(٣) راجع ابن إسحاق ، والسهيلي وبه جزم ابن سلام الجمحي في كتاب طبقات الشعراء ص ١٠٧ ، وحكاه عن : عمر ، والعباس ، وابن مسعود ، ومسروق ،

٤٨

الكتاب على ذلك (١) على اعتبار أن العرب تجعل العم أبا (٢).

وهذا لا يصح ؛ أما :

أولا : فإنه «صلى الله عليه وآله» ليس من ولد هابيل إجماعا ، إلا أن يقال : إن العم بمنزلة الأب.

ويرده :

ألف : أن أبوة الذبيح الآخر في قوله : أنا ابن الذبيحين ؛ لا بد أن لا تختلف عن أبوة عبد الله له ، لأنه ذكرهما في كلام واحد ، فإرادة هذا المجاز البعيد في أحدهما ؛ والحقيقة في الآخر غير معقول ، حتى لو جوزنا استعمال اللفظ المشترك

__________________

وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، ومقاتل وعبيد الله بن عمر ، وأبي ميسرة ، وزيد بن أسلم ، وعبد الله بن شقيق ، والزهري ، والقاسم ، وابن أبي بردة ، ومكحول ، وعثمان ، والسدي ، والحسن وقتادة ، من السلف وغيره قالوا بذلك. كل ذلك في : البداية والنهاية ج ١ ص ٥٩ ، والبحار : ج ١٢ ص ١٣٢ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٩٥ وراجع ص ١٣٩ ومفاتيح الغيب : ج ٢٥ ص ١٥٣ ، ولكنه ذكر معهم عليا «عليه السلام» وابن عباس ، ونحن نجلهما عن الالتزام بأمر يخالف القرآن. بل إنه هو نفسه قد ذكر عنهما أنهما قالا : إسماعيل ، ونجد في الكافي : ج ٤ ص ٢٠٦ و ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ط الآخندي ، وكذا في ج ١ ص ١١٧ ط الإسلامية ، وعنه في البحار : ج ١٢ ص ١٣٥ ما يدل على أن الذبيح هو إسحاق ، ولكن في ص ٢٠٥ ـ ٢٠٩ ج ٤ من الكافي ما يدل على التردد في ذلك ، حيث ذكر ما معناه : أن إبراهيم قد حج بأهله ، فالذي كان مع إبراهيم من أهله كان هو الذبيح ، وقد أشارت بعض الأخبار إلى أن إسحاق قد تمنى الذبح أيضا.

(١) البحار : ج ١٢ ص ١٣٤.

(٢) المواهب اللدنية ج ١ ص ١٧.

٤٩

في أكثر من معنى ، كما هو الصحيح ، بدليل وجود التورية في كلام العرب.

ب : إن الذي بمنزلة الأب ـ لو سلم أنه عرفا كذلك ـ إنما هو العم القريب ، لا العم الذي يأتي بعد عشرات الآباء والأجداد.

ثانيا : كون الذبيح هو إسحاق لا يصح. وذلك لما يلي :

ألف : إنه قد ذكر في سورة الصافات قضية الذبح ، ثم عقبها بالبشارة بإسحاق فقال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(١) مما يشعر بأن إسحاق قد ولد بعد قضية الذبح ؛ لأن هذه بشارة بالميلاد بقرينة قوله تعالى في آية أخرى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٢) ولو كان الذبح لإسحاق لم يحسن الإتيان باسمه ، بل كان المناسب إيراد ضميره ، وتكون البشارة بنبوته مكافأة على صبره على الذبح ، وليست بشارة به نفسه كما هو ظاهر الآية.

وقد روي الاستدلال بالآيات عن الإمام الصادق «عليه السلام» ، وعن محمد بن كعب القرظي أيضا (٣).

ويشير إلى هذا أيضا : الترتيب الذي جاء على لسان إبراهيم «عليه السلام» حيث قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)(٤).

كما أن الله قد ذكر إسماعيل وإسحاق في القرآن معا في ست آيات ، وفي

__________________

(١) الآية ١١٢ من سورة الصافات.

(٢) الآية ٧١ من سورة هود.

(٣) راجع : الميزان ج ١٧ ص ١٥٥ والبداية والنهاية ج ١ ص ١٦١ و ١٥٩.

(٤) الآية ٣٩ من سورة إبراهيم.

٥٠

كلها يقدم ذكر إسماعيل على إسحاق.

وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه :

ب ـ ولو أغمضنا النظر عن ذلك فإننا نقول :

إن من غير المعقول أن يبشر الله تعالى نبيه بغلام سيكبر ، ويكون نبيا ويتزوج ، ويولد له ولد اسمه يعقوب ثم يأمره بذبح ذلك الولد الكبير والنبي نفسه ، فإنه لا يرتاب حينئذ بأن الأمر بالذبح ليس حقيقيا وإنما هو صوري وهذا يفقد قضية الذبح كل قيمتها ، فلاحظ قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا)(١) وقوله : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)(٢).

إلا أن يدعى : أن النبوة والبشارة بيعقوب ليست داخلة في البشارة الأولى.

ولكن ذلك خلاف الظاهر ، والذين يصرون على أن الذبيح هو إسحاق لا يقولون بالبداء ليمكنهم التشبث به في الإجابة هنا.

أو يدعى : أن الذبح قد يكون بعد أن ولد له يعقوب.

ويرده : أنهم يقولون : إن قضية الذبح قد حصلت حينما كان عمره ثلاث عشرة سنة (٣).

ج ـ وقد روي : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أوضح أن كونه

__________________

(١) الآية ١١٢ من سورة الصافات.

(٢) الآية ٧١ من سورة هود.

(٣) راجع : الدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١٦١.

٥١

ابن الذبيحين إنما هو بنذر عبد المطلب ، وبذبح إسماعيل «عليه السلام» (١).

د ـ وأخيرا .. فقد أنكر أبو عمرو بن العلاء أن يكون إسحاق هو الذبيح ، على اعتبار أن الذبح كان بمكة ، وإسماعيل هو الذي كان بمكة وبنى البيت مع والده ، وكذا قال ابن القيم (٢).

خلاصة وبيان :

ونستخلص مما تقدم : أنه قد كان هناك بشارتان :

إحداهما بولادة إسماعيل «عليه السلام» ، فولد ، ثم أمر بذبحه ، وجرى ما جرى ، ثم جاءت البشارة الأخرى بولادة إسحاق بملاحظة :

أن أمه لم تكن ولدت ، رغم أنها كان قد كبر سنها فبشرها الله بذلك ـ كما ذكرته سورة هود ـ فتعجبت : أن تلد وهي في هذا السن.

وعدم ذكر إسماعيل في سورة الصافات ، والاكتفاء بذكر إسحاق ويعقوب لعله يشير إلى ذلك أيضا على اعتبار أن الأمر بالنسبة لإسماعيل كان قد مضى وانقضى.

أهل الكتاب هم الداء الدوي :

وبعد هذا .. فإن السؤال الذي يلح في طلب الإجابة عليه هو :

من أين جاء هذا الأمر الغريب : أن الذبيح هو إسحاق؟

__________________

(١) البحار ج ١٢ ص ١٣٢ ومفاتيح الغيب ج ٢٥ ص ١٥٣.

(٢) المصدران السابقان ومجمع البيان ج ٨ ص ٤٥٣ والدر المنثور للعاملي ج ١ ص ١٦١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٦ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٩٥.

٥٢

والجواب : هو ما قاله ابن كثير وغيره :

«إنما أخذوه ـ والله أعلم ـ من كعب الأحبار ، أو من صحف أهل الكتاب ، وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم ، حتى نترك من أجله ظاهر الكتاب» (١) فاليهود إذن قد أرادوا ترويج عقيدتهم بين المسلمين ، وتخصيص هذه الفضيلة بجدهم إسحاق حسب زعمهم.

ولكن اليهود أنفسهم قد فاتهم : أن التوراة المتداولة نفسها متناقضة في هذا الأمر ؛ فإنها في حين تقول :

«خذ ابنك ، وحيدك ، الذي تحبه إسحاق ، واذهب إلى أرض المريا ، وأصعده هناك محرقة على إلخ ..» (٢).

فقد عبرت هنا بكلمة : «وحيدك» الدالة على أن إسحاق هو أكبر ولد إبراهيم ، ولكنها تعود فتكذب نفسها ، وتنص على أن إسحاق لم يكن وحيدا وإنما ولد وعمر إسماعيل أربع عشرة سنة (٣).

بل لقد ذكر ابن كثير : أنه لا خلاف بين أهل الملل : أن إسماعيل أول

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١ ص ١٦١ و ١٥٩ وراجع السيرة الحلبية ج ١ ص ٣٨ عن ابن تيمية.

(٢) سفر التكوين : الإصحاح ٢٢ ، الفقرة ١ ـ ٣٣ ولتراجع سائر فقرات الإصحاح أيضا.

(٣) سفر التكوين الإصحاح ١٦ الفقرة ١٥ ـ ١٦ نص على أن عمر إبراهيم حين ولادة إسماعيل ٨٦ سنة ، وفي سفر التكوين الإصحاح ١٧ والإصحاح ١٨ نص على أنه ولد له إسماعيل وهو ابن ٩٩ ، أو مئة سنة ، وراجع : البداية والنهاية ج ١ ص ١٥٣ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ص ٣٨.

٥٣

ولد إبراهيم وبكره (١).

وقد اعترف أحد مسلمة أهل الكتاب بأن اليهود يعلمون : أن الذبيح هو إسماعيل ، ولكنهم يصرون على خلافه حسدا منهم للعرب (٢).

ملاحظات هامة :

الأولى : أن إبراهيم قد رزق ولده إسماعيل الوحيد في شيخوخته ، كما أشار إليه القرآن ، وطبيعي أن يكون تعلقه بهذا الولد أشد ، وحبه له أعظم.

ونلاحظ أيضا : أن أمر الله تعالى له بذبحه قد كان وولده في أروع أيام حياته ، وفي السن التي يزداد تعلق والديه به فيه ، وحبهما له ؛ حيث تمتزج المحبة بالعاطفة ، والرأفة بالإعجاب ..

وأيضا ، لقد رزقه الله ولدا هو في أعلى درجات الكمال الإنساني ، عقلا ودراية وسلوكا ، واستقامة ، إلى غير ذلك من فضائل وكمالات إنسانية فاضلة ، وهذا أيضا أدعى إلى التعلق به ، وازدياد المحبة له.

وبعدما تقدم فإننا نجد : أن الله سبحانه يكلف هذا الأب بذبح طفل كهذا بيده ، وإذا كان التخلي عن طفل كهذا في ظروف كهذه هو من أصعب الأمور ، فكيف إذا كان يجب أن يتم هذا التخلي بيد نفس ذلك الأب؟! ..

ويلبي إبراهيم ، ويستجيب إلى أمر الله ، دون أن يسأل عن السبب ، ودون أن يبرمه أمر كهذا ، وحتى دون أن يتحير في ذلك ؛ لأنه واثق بحسن

__________________

(١) البداية والنهاية ج ١ ص ١٥٧ ، وراجع : البحار : ج ١٢ ص ١٣٤.

(٢) البحار : ج ١٢ ص ١٣٤ ، ومجمع البيان : ج ٨ ص ٤٥٣ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ص ٣٨ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٩٥ ـ ٩٦ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٨.

٥٤

ما يختاره له ربه ، وبصلاح ما يأمره به.

الثانية : يستجيب إبراهيم «عليه السلام» لهذا الأمر ، ولكنه لا يندفع إلى تنفيذه بسرعة ، لكي يريح أعصابه ، لأن هذا الأمر قد يخفي وراءه شيئا من الضعف والوهن ، بل هو يخبر ولده بالأمر ، ويطلب منه أن يتخذ هو نفسه أيضا القرار الحاسم في الاستسلام لذلك أو عدمه وذلك يدل على ثقته بحسن اختيار ولده ، رغم صغر سنه ، ويدل على أنه كان يحترم فيه كبر عقله ، وسداد رأيه ، ولا يعتبره طفلا لا يمكن أن توكل إليه أية مسؤولية.

وطبيعي أيضا : أن يكون التفات إسماعيل لذلك ، وأن يتخذ هو نفسه القرار منه بقوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١). مما يزيد في آلام أبيه.

وإسماعيل .. الذي أراد أبوه أن ينيله أجر الطاعة ، ويتذوق حلاوة التسليم ، لم يكن منه إلا التسليم لأمر الله سبحانه ، والانصياع له بثقة ورضا ، ولكنه لا يعتبر هذا التسليم والرضا شجاعة وبطولة منه ، وإنما يعتبره خضوعا لمشيئة الله تعالى ويرى : أن صبره مستمد منه ، ومنته إليه ؛ ولذلك عبر الله تعالى عن حالتهما هذه بقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما) ؛ فهما قد أسلما لله تعالى ، وليس لغيره من الشهوات ، ولا للغرائز ، ولم تقيدهما القيود المادية ، ولا الدنيوية في شيء (٢).

ولذلك فإن إبراهيم وولده هما ممن يكون الله أحب إليه من كل شيء مما

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.

(٢) لقد أشار في كتاب : في ظلال القرآن إلى بعض ما ذكرناه أيضا.

٥٥

نصت عليه الآية الكريمة التي تقول :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(١).

الثالثة : إن من الواضح : أن ذبح إسماعيل ، وإراقة دمه لم يكن هو المقصود النهائي له تعالى ؛ وذلك لقوله تعالى لإبراهيم «عليه السلام» : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٢) ، وإنما كان المقصود هو البلاء والامتحان لإبراهيم وولده «عليهما السلام» ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(٣).

وحكمة هذا البلاء هي : أن يزيد في تزكية وتصفية نفس إسماعيل ، في مراحل إعداده لتحمل مسؤولية النبوة ، وقيادة الأمة ، وكذلك فإن في ذلك تزكية وتصفية وامتحانا لنفس إبراهيم «عليه السلام» ولربما يكون ذلك من الكلمات اللواتي استحق إبراهيم بإتمامهن أن يجعله الله للناس إماما.

قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٤) ، وكانت قضية الذبح هي البلاء المبين كما نصت عليه الآية الكريمة.

__________________

(١) الآية ٢٤ من سورة التوبة.

(٢) الآية ١٠٥ من سورة الصافات.

(٣) الآية ١٠٦ من سورة الصافات.

(٤) الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

٥٦

وقد رأيت بعد أن كتبت هذا : أن العلامة الطباطبائي يذكر : أن البعض قد تنبه لذلك كالطباطبائي نفسه ، واستدل له ، بقوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) إذ لا معنى لقوله هذا إن لم يكن له ذرية بالفعل ، كما إنه لم يكن يعلم ، ولا يظن : أنه سيكون له ولد قبل تبشير الملائكة له بذلك ، وإبراهيم لا يتفوه بما لا علم له به ، ولا يظنه ، ولا يحتمله ، ولا يخطر له على بال ، وهو بهذه السن المتقدمة ، ولو كان ذلك قبل ولادة إسماعيل لكان اللازم أن يقول : «ومن ذريتي إن رزقتني ذرية» (١).

وقد أورد البعض على الفقرة الأولى بإمكان أن يكون هذا الطلب من إبراهيم قد حصل بعد تبشير الملائكة له بالذرية ، فنزلها في كلامه منزلة الأمر الحاصل والمحقق.

وبعد ، فإن حكم هذا البلاء ، هو أن يضرب بذلك المثل الأعلى للأجيال ، في التضحية في سبيل المبدأ الحق ، ولا يكتفى بمجرد رفع الشعارات ، والإعلان عن المواقف كلاميا فقط ، فبإبراهيم وإسماعيل ينبغي أن يكونا القدوة لكل مؤمن ومؤمنة.

كما إن في إخراج فضائلهما من عالم القوة إلى عالم الفعل ، وإظهارها للناس والتعريف بها تشجيع للفضائل الكامنة في غيرهم ، وتحريك لها لتقوم بمحاولة الظهور على الصعيد العملي ، أي إن في ذلك هزة عاطفية مؤثرة في كل من يملك عاطفة جياشة ؛ تستطيع أن تستثير الفضائل الكامنة في نفس الإنسان ؛ لتكون واقعا حيا وملموسا ، ولتقود عملية التغيير الشاملة في حياة

__________________

(١) راجع : الميزان ج ١ ص ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٥٧

الإنسان ، ومستقبله بشكل عام.

هذا ومن غير البعيد : أن يكون المجتمع الذي عاش فيه إبراهيم وإسماعيل ، قد طغت عليه المادية ؛ فأراد الله تعالى تحويل هذا الاتجاه بصورة عملية ، دون الاقتصار على إسداء النصائح ، والتوجيهات.

ولعل المتأمل في هذه القضية يكتشف الكثير ، مما لم نذكره ، أو لم نشر إليه ، والله هو الموفق والمسدد.

الرابعة : ويبقى أن نشير هنا : إلى أن من المقطوع به : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يفتخر بقوله هنا : أنا ابن الذبيحين ، وإنما لعله يريد من قوله هذا : أن يوجه الأنظار للاستفادة من هذين الحدثين الهامين جدا.

وأيضا يريد أن يفهم الآخرين : أنه شخصيا ليس غريبا عن هذا الجو ، وأنه إذا كان أولئك قد بلغوا هذه المكانة في القرب من الله ، والتفاني في سبيله والتسليم له ، فلا يجب أن يتوقع منه موقف آخر ، يختلف عن هذا ، أو يقل عنه.

وإذن ، فإن آمالهم في أن يقف موقف المساوم ـ في يوم ما ـ إنما هي سراب في سراب ؛ فإن القضية قضية مبدأ وعقيدة ، وليست قضية مصالح شخصية ، كما يتخيلون.

وقد أثبتت الوقائع صحة ذلك ؛ حيث كان «صلى الله عليه وآله» يقدم أهل بيته في الحروب ، وقد ضحى بكل غال ونفيس في سبيل هذا الدين.

الخامسة : إن نذر عبد المطلب هذا ربما يقال فيه : إنه غير جائز ؛ إذ كيف جاز له التصرف في شخصية غيره إلى هذا الحد؟! وهل يمكن أن يعتقد أحد بوجوب الوفاء بنذر كهذا ، يكون الضحية فيه نفس محترمة أخرى ، حتى ولو كانت ولدا مثل عبد الله بن عبد المطلب؟!.

٥٨

والجواب : إنه قد يقال : إن عبد المطلب قد سار في إيمانه سيرا تكامليا (١) كما أشار إليه الحلبي حيث قال : ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام ، ووحد الله سبحانه (٢).

وقد يقال : إن هذا يعطي التفسير لتسميته في أول أمره أبناءه ب «عبد مناف» ومناف اسم صنم ، و «عبد العزى» والعزى كذلك «راجع الهامش ما قبل السابق» ، ولكنه يترقى ويتقدم حتى يبلغ به الأمر حدا من التسليم والإيمان بالله ، أن أرعب بإيمانه هذا أبرهة صاحب الفيل ، كما يذكره المؤرخون.

وقد أشبه في هذا الأمر نبي الله إبراهيم «عليه السلام» فإن إبراهيم كان ـ بلا شك ـ موحدا لإحساسه الوجداني والفطري بوجود إله واحد ، قادر ، عالم ، حكيم إلخ .. ولكنه بعد أن بلغ سن الرشد أراد أن يجسد هذا الإيمان الوجداني بالدليل والبرهان ؛ على صفحة الوجود ، على قاعدة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(٣) وكانت النتيجة هي ما حكاه الله

__________________

(١) وهذا لا ينافي ما سيأتي إن شاء الله ، من أن جميع آباء النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا مؤمنين موحدين ؛ إذ قد يقال : إن المهم هو وصولهم جميعا إلى درجة الإيمان ولو بصورة تكاملية وتدريجية.

بل قد يقال : إنه لم يثبت أنه «عليه السلام» هو الذي سمى أبناءه بعبد العزى ، وعبد مناف. ولعلها أسماء قد لحقتهم بعد أن كبروا ، وظهر شركهم بالله ، واهتمامهم بالعزى ، وبغيرها من الأصنام.

(٢) السيرة الحلبية : ج ١ ص ٤ ، والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ١ ص ٢١.

(٣) الآية ٢٦٠ من سورة البقرة.

٥٩

بقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١).

هذا إن قلنا : إن كلام إبراهيم «عليه السلام» كان على سبيل الحقيقة وليس على سبيل الاستدراج ، مع أن الروايات قد أكدت أنه قد كان على سبيل الاستدراج لقومه ليقيم عليهم الحجة.

بل إن القرآن نفسه قد صرح بذلك ، حيث عقب هذه الآيات بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ)(٢) ولهذا البحث مجال آخر.

وعلى كل حال ، فإن الصحيح هو : أن عبد المطلب كان مؤمنا ، معتقدا بالله الواحد القادر ، الحكيم الخ .. استنادا إلى حكم الفطرة والوجدان ، لكنه كان يريد أن يجسد هذا الإيمان ، أو يريد أن يستدرج غيره للإيمان بما آمن هو به ، بعد إبطال احتمال أن يكون لهذه الأصنام أي شأن أو شفاعة.

بل إن الأحاديث قد دلت على أنه كان هو وآباؤه ، من الأنبياء «صلى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطيبين الطاهرين» ، هذا بالنسبة لإيمانه.

أما بالنسبة لسلوكه ومواقفه ، فإنهم يقولون عنه : إنه كان يقطع يد السارق ، ويمنع من طواف العراة ، ويوفي بالنذر ، ويؤمن بالمعاد ، ويحرم الزنى ، والخمر ، ونكاح المحارم ، وكان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ،

__________________

(١) الآيات من ٧٦ ـ ٧٨ من سورة الأنعام.

(٢) الآية ٨٣ من سورة الأنعام.

٦٠