الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

وقيس ، وأسد ، وهذيل ، وبكر بن وائل (١).

بل إننا نستطيع أن نعرف مدى شيوع الوأد بينهم من تعرض القرآن لهذه المسالة ، وردعه لهم عنها ، وإدانتها ، قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)(٢).

وقال أيضا : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(٣).

كما أننا نجده «صلّى الله عليه وآله» قد نص على ذلك في بيعة العقبة وقد قال محمد بن إسماعيل التيمي ـ وغيره ـ تعليقا على هذا :

خص القتل بالأولاد ؛ لأنه قتل وقطيعة رحم ؛ فالعناية بالنهي عنه آكد ؛ ولأنه كان شائعا فيهم ، وهو وأد البنات وقتل البنين ، خشية الإملاق الخ .. (٤).

ويقول البعض : «كان هذا الوأد ـ على رأي بعض الباحثين ـ في عامة قبائل العرب» يستعمله واحد ، ويتركه عشرة ، أو كان على الأقل معروفا في بعض القبائل كربيعة ، وكندة ، وتميم (٥).

المرأة في الجاهلية :

وقد كانت حياة المرأة في الجاهلية أصعب حياة ، حيث لم يكن لها عندهم قيمة أبدا ، وقد كتب الكثير عن هذا الموضوع ، ولذا فلا نرى حاجة كبيرة

__________________

(١) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ١٧٤.

(٢) الآية ١٥١ من سورة الأنعام.

(٣) الآيتان ٨ و ٩ من سورة التكوير.

(٤) فتح الباري ج ١ ص ٦١.

(٥) راجع : النظم الإسلامية ص ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

٢١

للتوسع فيه ، ويكفي أن نذكر هنا قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)(١). وسياق الآية الكريمة يشير إلى كثرة ذلك وشيوعه فيهم ، ومن ذلك نعرف أن الخضري قد حاول تكذيب القرآن ، حينما ادّعى : أن العربي قبل الإسلام كان يحترم المرأة ويجلها (٢) ، نعوذ بالله من الخذلان ، ومن وساوس الشيطان ، كما أن فيه تكذيبا للخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، الذي يقول : «والله ، إن كنّا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل ، وقسم لهن ما قسم» (٣).

شواهد عن حالة العرب في الجاهلية :

وعن حالة العرب في الجاهلية ، يكفي أن نذكر بعض ما قاله سيد الخلق بعد الرسول علي أمير المؤمنين ، فمن ذلك قوله «عليه السلام» :

«بعثه والناس ضلّال في حيرة ، وحاطبون في فتنة ، قد استهوتهم الأهواء ، واستزلتهم الكبرياء ، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء ، حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل» (٤).

وقال «عليه السلام» : «وأنتم معشر العرب على شر دين ، وفي شر دار ،

__________________

(١) الآيتان ٥٨ و ٥٩ من سورة النحل.

(٢) محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للخضري ص ١٧ و ٢.

(٣) صحيح البخاري ط سنة ١٣٠٩ : ج ٣ ص ١٣٣.

(٤) نهج البلاغة الذي بهامشه شرح الشيخ محمد عبده الخطبة ٩١. والإمامة والسياسة : ج ١ ص ١٥٤.

٢٢

تنيخون (١) بين حجارة خشن ، وحيات صم (٢) ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب (٣) ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام فيكم معصوبة» (٤).

وقال «عليه السلام» : «فالأحوال مضطربة ، والأيدي مختلفة ، والكثرة متفرقة ، في بلاء أزل ، وأطباق جهل ، من بنات موؤودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة» (٥).

وكلمات أمير المؤمنين هنا حجة دامغة على كل مكابر متعصب ، وهناك كلمات كثيرة له «عليه السلام» في هذا المجال ؛ فمن أرادها فليراجع نهج البلاغة وغيره.

ويقال : إن المغيرة بن شعبة قد قال ليزدجرد :

«.. وأما ما ذكرت من سوء الحال ، فما كان أسوأ حالا منا ، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجعلان ، والحيات ، ونرى ذلك طعامنا ، أما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل ، وأشعار الغنم ؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ، وأن يبغى بعضنا على بعض ، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية ، كراهية أن تأكل من طعامه» (٦).

__________________

(١) تنيخون : تقيمون.

(٢) الصمة : الذكر من الحيات.

(٣) الجشب : الغيظ.

(٤) نهج البلاغة ، شرح عبده ، الخطبة ٢٥.

(٥) نهج البلاغة ، شرح عبده ، الخطبة ١٨٧.

(٦) البداية والنهاية ج ٧ ص ٤٢ والطبري ج ٣ ص ١٨ ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٢٠ ولكلامه هذا نص آخر ذكره في الأخبار الطوال ص ١٢١.

٢٣

ولابن العاص أيضا كلام يشير إلى بعض ذلك ؛ فمن أراده فليراجعه في مصادره (١).

علوم العرب :

لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» في كلماته المتقدمة حالة العرب ، ومستواهم العلمي والثقافي ، وأنهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل ، والحيرة ، والضياع.

وهذا يكذّب كل ما يدعيه الآخرون ـ كالألوسي وغيره ـ من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم ، كعلم الطب ، والأنواء ، والقيافة ، والعيافة ، والسماء ، ونحو ذلك ..

وقال بعضهم : «خصت العرب بخصال : بالكهانة ، والقيافة ، والعيافة والنجوم ، والحساب» (٢).

فإن ما كان عندهم من ذلك هو مجرد ملاحظات بسيطة ساذجة ، مبنية على الحدس والتخمين ، متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه.

وهذا هو رأي ابن خلدون أيضا ، الذي كان يرى : أن علم الطب عندهم لا يتعدى معلومات أولية ، وملاحظات بسيطة ، لا تستحق أن تسمى علما ، ولا شبه علم.

ومثل هذا يقال عنهم في علم الأنواء والسماء ؛ فضلا عما يسمى بالقيافة ،

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٣٧ ، عن الطبراني وحياة الصحابة ج ٣ ص ٧٧٠ عن المجمع.

(٢) الموفقيات ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٢٤

والعيافة ، هذا عدا عن أن بعض هذه الأمور ، لا تستحق أن يطلق عليها اسم «علم».

ويكفي أن نذكر هنا : أنهم كانوا أميين ، لا يعرفون القراءة والكتابة أصلا ، إلا من شذ منهم ، حتى ليذكرون : أنه «صلى الله عليه وآله» أرسل رسالة إلى قبيلة بكر بن وائل ؛ فلم يجدوا قارئا لها في القبيلة كلها. وقرأها لهم رجل من بني ضبيعة فهم يسمون : بني الكاتب (١).

ويروي البلاذري : أن الإسلام قد دخل ، وفي قريش سبعة عشر رجلا فقط ، وفي الأوس والخزرج في المدينة اثنا عشر رجلا يعرفون القراءة والكتابة (٢).

وقال ابن عبد ربه : «جاء الإسلام وليس أحد يكتب بالعربية غير سبعة عشر إنسانا» ، ثم عدهم فذكر عليا «عليه السلام» أولا (٣).

ويرى ابن خلدون : أن أكثرهم كان لا يتقنها ، بل كان بدائيا ، وضعيفا فيها بشكل ملحوظ.

ويلاحظ من أسمائهم : أن أكثرهم قد تعلمها بعد ظهور الإسلام ،

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٥ ، وقال : إن رجاله رجال الصحيح ، عن أحمد ، والبزار ، وأبي يعلى ، والطبراني في الصغير ، عن أنس ، ومرثد بن ظبيان. وراجع : كشف الأستار ، عن مسند البزار ج ٢ ص ٢٦٦. والمعجم الصغير ج ١ ص ١١١.

(٢) فتوح البلدان ط أوروبا ص ٤٧١ فما بعدها ، وص ٨٠ في القسم الثالث من الطبعة التي حققها صلاح الدين المنجد ، وإن كنا نناقش في بعض من عدهم في من يكتب أو يقرأ كعمر بن الخطاب ، الذي سيأتي في قضية إسلامه : أنه لم يكن يعرف حتى القراءة.

(٣) العقد الفريد : ج ٤ ص ١٥٧.

٢٥

وذكر اسم علي «عليه السلام» يدل على ذلك.

بل ربما كانوا يعتبرون القراءة والكتابة عيبا ، فقد قال عيسى بن عمر : «قال لي ذو الرمة : إرفع هذا الحرف ، فقلت له : أتكتب؟ فقال بيده على فيه ، أي أكتم علي ؛ فإنه عندنا عيب» (١).

وفي حديث أبي هريرة : تعربوا يا بني فروخ ، فإن العرب قد أعرضت ، أي عن العلم (٢).

هذا ، مع أن قريشا كانت أعظم قبيلة شأنا وخطرا ونفوذا في الحجاز كله ، ومع أن التجارة تتطلب مثل ذلك عادة ، وكان الأوس والخزرج أيضا في المرتبة الثانية بعد قريش ، تحضرا ونفوذا في الحجاز.

فإذا كان مستواهم الثقافي هو هذا ، فمن الطبيعي ان يصير لليهود عموما وللنصارى ـ ولو بصورة أضعف ـ هيمنة فكرية كبيرة ، وأن ينظر إليهم العرب نظرة التلميذ إلى معلمه ، ولربما نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

هذا ، ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا : أن أمية العرب كانت هي السر في قوة الحافظة عندهم ، ولكنها عادت إلى الضعف التدريجي ، حسب نسبة اعتمادهم على الكتابة في العصور المتأخرة ، إبتداء من عصر التدوين.

ولسوف نشير إن شاء الله تعالى في غزوة بدر من هذا الكتاب ، إلى مدى الأهمية التي أولاها الإسلام لمحو الأمية ، حتى لقد ورد أنه «صلى الله عليه وآله» قد جعل فداء الأسير في غزوة بدر تعليم عشرة من أطفال المسلمين

__________________

(١) الشعر والشعراء لابن قتيبة ص ٣٣٤ ، والتراتيب الإدارية : ج ٢ ص ٢٤٨.

(٢) مشكل الآثار : ج ٣ ص ٥٦.

٢٦

القراءة والكتابة كما سيأتي ، وقد كانت بدر أدق مرحلة يمر بها الإسلام والمسلمون في دعوتهم إلى الله ، وحربهم مع المشركين.

وخلاصة القول : إن جهل العرب كان هو الحاكم المطلق ، ولا نلاحظ أية ظاهرة للنبوغ فيهم قبل الإسلام ، بل على العكس من ذلك ، يمكن ملاحظة الكثير مما كان يزيدهم إمعانا في الجهل والحيرة والضياع.

ميزات وخصائص :

لقد امتاز العرب قبل الإسلام ببعض الصفات التي تمدحهم الناس بها وأثنوا عليهم لأجلها ، وهي صفات قليلة بالنسبة إلى ما يقابلها من صفات وعادات ذميمة.

ولكننا إذا دققنا النظر فيها فإننا لا نجد فيها ما يوجب مدحا بل ربما كانت في كثير من الأحيان موجبة لعكس ذلك تماما ؛ لأن ما يعطي للشيء قيمته الحقيقية من أي نوع كانت هو دوافعه ومنطلقاته ، وأهدافه ، ونحن لا نجد في تلك الأمور المنسوبة إلى العرب ما يبرر تمدحهم من أجلها ؛ لا من حيث المنطلقات والدوافع ، ولا من حيث الأهداف والغايات ، كما سنرى.

ولكن حين جاء الإسلام ، وتغيرت تلك الدوافع والأهداف ، أصبحت تلك الصفات ذات قيمة ، وصاروا يستحقون عليها التكريم والتقدير.

من امتيازات العرب :

لقد امتاز العرب بالصفات التالية :

١ ـ بالكرم وحسن الضيافة ـ وهذا هو الأمر الوحيد الذي احتج به أبو سفيان على صحة دينه!! حيث قال لكعب بن الأشرف : «أديننا أحب إلى

٢٧

الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك ، وأقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء (١) ، ونسقي اللبن على الماء ، ونطعم ما هبت الشمال ، فقال له ابن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا (!!) (٢).

ولكن ذلك في الحقيقة وإن كان في نفسه حسنا ، ولكنه لا يعبر عن حسن فاعلي ، بحيث يعد فضيلة للعرب ، إلا إذا كان بذلهم للمال نابعا من إيمانهم بمثل أعلى ، يدفعهم إلى البذل والعطاء ، وهو رضى الله سبحانه وتعالى ، أو كان نابعا من عاطفة إنسانية ، مصدرها رؤية حاجة الآخرين ، والتفاعل معها ، بحيث يندفع إلى العطاء والبذل من دون سؤال أو تحريك.

وقد يكون الدافع أيضا إبعاد العار ، والتحرز من هجاء الشعراء ، وحتى لا يسير ذكرهم في البلاد في اللؤم والخسة ، ولا تتعرض أعراضهم وكراماتهم للمساس بها ، أو أملا بحسن الذكر ، وطيب الأحدوثة ؛ أو طمعا بزعامة قبيلة أو منافسة قرين.

وقد قلنا : إن بعض ذلك وإن كان حسنا في نفسه ، ولكنه لكي يعبر عن حسن فاعلي لدى من صدر عنه ، يحتاج إلى الربط بمثل أعلى ، أو بمعنى إنساني ، أو إيماني يوصل إلى رضا الله سبحانه.

بل إنك قد تجد في بعض الموارد ما يجعل من الدافع للممارسة في مستوى الجريمة بحق الإنسانية ، فإن التاريخ يروي لنا :

__________________

(١) الجذور : النياق المذبوحة ـ البعير الأكوم : الضخم السنام.

(٢) البداية والنهاية : ج ٤ ص ٦ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج ٣ ص ١١. ومصادر ذلك كثيرة ستأتي في أول غزوة الخندق إن شاء الله.

٢٨

أن زيد الخيل حين يطلب منه البعض عطاء ، قد وعده بالعطاء بعد أن يشن الغارة ، فلما شن الغارة على بني نمير بالملح وأصاب مائة بعير ، أعطاه إياها (١).

مع أن شن الغارة معناه التسبب بقتل الرجال وحتى الأطفال والنساء والشيوخ الذين قد تسحقهم حوافر الخيل ، ثم سبي من يبقى منهم على قيد الحياة ، والاستيلاء على أموالهم ، وهدر كراماتهم.

وزيد الخيل هو من رجال العرب المعروفين ، ويضارع حاتم الطائي في الشهرة والسؤدد.

هذا ، ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن عجز البدوي تجاه قوى الطبيعة القاسية ، التي تستولي على الصحراء ، من شأنه أن يولد فيه الشعور بضرورة الالتزام بأمر الضيافة ، وضرورة البذل ، إذ لا يمكنه حمل قوته في أسفاره الشاقة والطويلة التي قد تمتد عشرات الأيام ، وهو مضطر إلى السفر بين حين وآخر بحثا عن الماء والكلأ ، ولغير ذلك من أمور.

٢ ـ عصبيتهم للقبيلة وللعشيرة ، وهذه في الحقيقة صفة ذميمة ، إذ إنهم يرون أن النصر لا بد أن يكون لذوي قرابتهم ، ولابن قبيلتهم ، وأن العون لا بد أن يمحض له ، ظالما كان أو مظلوما.

وقد نعى القرآن عليهم ذلك ، وعبر عنها ب (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ)(٢) ، لأنها مبنية على الجهل ، وعدم التثبت.

وقد تقدم ما يشير إلى سر نشوء ذلك فيهم ، فلا نعيد.

__________________

(١) الأغاني (ط دار إحياء التراث العربي بيروت) : ج ١٧ ص ٢٥٥.

(٢) الآية ٢٦ من سورة الفتح.

٢٩

٣ ـ الشجاعة : وهي وإن كانت صفة حسنة في نفسها ، ولكنها إنما تفيد في اعتبارها فضيلة في الشخص بملاحظة الأهداف والموارد التي يستعملها فيها ، فإذا استعملت في مورد حسن كالذب عن الحرمات ، والجهاد في سبيل الله ، والمستضعفين ؛ فإن صاحبها يستحق لأجلها مدحا ، وإلا فذما ، ولهذا فليس هناك أشجع من الأسد ، ولكن ذلك لا يعتبر فضيلة له.

ولعل مما يساعد على نشوء الشجاعة لدى الإنسان العربي هو بيئته وحياته في الصحراء ، بلا حواجز وموانع طبيعية أو غيرها ، ومواجهتهم الخطر المستمر من الحيوان ، ومن بني الإنسان على حد سواء ، يشعر كل فرد منهم : أنه مسؤول عن حماية نفسه ، والدفاع عنها بنفسه ، ولا يرد عنه إلا يده وسيفه ، ما دام أنه في كل حين عرضة للغزو ، والنهب ، والسلب ، وأخذ الثارات منه.

هذا بالإضافة إلى أنه لا يأكل في كثير من الأحيان إلا من سيفه ويده ، وإلا فإنه هو نفسه يكون عرضة لأن يؤكل ، فمن لم يكن شجاعا فاتكا أكل ، أو على الأقل لم يستطع أن يأكل ، فكأنهم يتعاملون بمنطق : إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب.

وبعد فهل يمدح الذئب على فتكه بفريسته ، وتمزيقه لها؟! إلا إذا كان هذا الفتك من منطلق الدفاع عن المثل أو القيم ، أو عن الضعيف الذي يحتاج إلى الناصر ، أو ما إلى ذلك.

٤ ـ النجدة والإقدام : ولا يختلف الكلام في ذلك عن الكلام في الشجاعة ، إلا أننا نشير هنا إلى أن ما يشجع على ذلك هو اطمئنان العربي إلى أنه غير مسؤول عما يعمل ، بل هو منصور من قبل قبيلته على كل حال ، ظالما

٣٠

كان أو مظلوما.

يضاف إلى ذلك : أن حياة البادية والغزو المفاجئ ، وعمليات الاغتيال ثأرا ، وغير ذلك من أخطار كانت تتهددهم باستمرار ، كل ذلك يستدعي سرعة الإقدام ، ومباشرة العمل فورا ، وكل ذلك يشير إلى أن الإقدام بلا تروّ ولا تريث ؛ لا بد أن يصبح هو الصفة المميزة لهم ، والطاغية على تصرفاتهم.

على أن قدرتهم على الانتقام فورا من شأنها أن تجعل فيهم حساسية متناهية وانفعالا سريعا ؛ ولذا قل أن تجد فيهم حليما ، إلا من بعض المسنين ، أو أصحاب الهمم العالية ، أو الجبناء ، الذين يتخذون الحلم وسيلة لتغطية انهزاميتهم.

٥ ـ الأنفة والعزة ، والاعتداد بالنفس ، والنزوع إلى الحرية ، وقوة الإرادة والفصاحة ، وقوة البيان ؛ والجوار.

وهي أمور حسنة في نفسها ، ولعل منشأها بالإضافة إلى ما تقدم ، هو عدم تعرضهم لهيمنة سلطة مركزية ، وعدم خضوعهم للنظام والقانون ، ولا للإذلال والقهر ، مما من شأنه أن يعطيهم حرية في التصرف ، والحركة ، والقول ، وما إلى ذلك.

٦ ـ وأخيرا ، فإن من صفاتهم الوفاء بالعهد : وهو أمر حسن في نفسه ، إلا أن يكون عهدا مضرا بالمجتمع.

وهذا الوفاء أيضا مما يلجأ إليه الإنسان العربي ، لا لأنه يرى أنه ذا قيمة ، بل لأنه يحتاج إليه لمواجهة مشاكل الحياة ، ذات الطابع الخاص الذي أشرنا إلى بعض ملامحه ..

٣١

وأما حلف الفضول ، الذي هو أشرف حلف في العرب ، فمصدره في الحقيقة بنو هاشم ، وكذا حلف عبد المطلب مع خزاعة ، فلا يعبر هذان الحلفان عن خلقيات سائر العرب.

وقد اتضح من كل ما تقدم : أن كل تلك الصفات إنما تكون جديرة بأن تعتبر فضائل أخلاقية ، وصفات إنسانية ، حينما تصدر عن خلق فاضل ، وإنسانية كريمة ، أو عن تقوى وشعور ديني ، وإلا فقد تكون على العكس من ذلك ، إذا عبرت عما يناقض ذلك وينافيه.

الإسلام وتلك الصفات :

لقد حاول الإسلام أن يضع تلك الصفات في خطها الصحيح ، وأن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانية ، وعواطف صافية وحقيقية ، وفضائل أخلاقية ، وبالأخص من إحساس ديني صحيح ، وليستفيد منها ـ من ثم ـ في بناء الأمة على أسس صحيحة وسليمة.

أما ما كان منها لا يصلح لذلك ، فقد كان يهتم بالقضاء عليه ، واستئصاله بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، كلما سنحت له الفرصة ، وواتاه الظرف.

فمثلا ، نلاحظ : أنه قد حاول أن يجعل المنطلق للكرم ، وبذل المال ، هو العاطفة الإنسانية ، والشعور بحاجة الآخرين ، كما يظهر من كثير من النصوص ، هذا بالإضافة إلى طلب الأجر والمغفرة من الله تعالى ، وذلك هو صريح قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً)(١) بل لقد تعدى ذلك

__________________

(١) الآيتان ٨ و ٩ من سورة الإنسان.

٣٢

وتخطاه إلى تمدح الإيثار على النفس ، حتى في موقع الخصاصة والحاجة الملحة ، فقال تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ)(١).

أما العصبيات القبلية ، فقد حاول أن يوجهها وجهة بناءة ويقضي على كل عناصر الشر والانحراف فيها ، فدعا إلى بر الوالدين ، وإلى صلة الرحم ، وجعل ذلك من الواجبات ، حينما يكون سببا في تلاحم وربط المجتمع بعضه ببعض.

ولكنه أدان كل تعصب لغير الحق ، وندد به ، وعاقب عليه ، واعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة ، كما هو صريح بعض النصوص التي سنشير إليها في السيرة النبوية ، إن شاء الله تعالى.

وكذلك فإنه قد حاول أن يوجه الشدة والقسوة إلى حيث تكون في صالح الدين والإنسان ، ومثمرة للحق والخير ، ومن سبل الحفاظ عليهما.

والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جدا ، ويكفي أن نشير إلى قوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٢) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)(٣) و (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(٤).

والآيات والروايات في هذا المجال كثيرة جدا ، فهو يريد الشدة في دفع

__________________

(١) الآية ٩ من سورة الحشر.

(٢) الآية ٢٩ من سورة الفتح.

(٣) الآية ٧٣ من سورة التوبة.

(٤) الآية ١٢٣ من سورة التوبة.

٣٣

الظلم والانحراف ، والحفاظ على الحق ، وأن لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم ، ويريد أن تتحول هذه الشدة إلى رحمة وحنان وسلام فيما بين المؤمنين أنفسهم.

وهكذا يقال بالنسبة إلى سائر الصفات المتقدمة ، فإن من يراجع النصوص القرآنية ، والأحاديث الواردة عن النبي «صلى الله عليه وآله» وعن آله المعصومين «عليهم السلام» ، لا يبقى لديه أدنى شبهة فيما ذكرناه من أن الإسلام قد صب كل اهتمامه على توجيه الصفات الحسنة ، والتصرف في دوافعها وأهدافها ، وجعلها تصب في مصلحة الدين والأمة ، والقضاء على الصفات الذميمة ، التي تقضي على سعادة البشر ، وتهدم بناء الحق الشامخ.

ولسوف يأتي في الفصل الثالث ، حين الكلام عن العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام وانتصاره ، أن هذه المميزات والخصائص قد أدت دورا هاما في ذلك ، فإلى هناك.

متى كان بناء مكة؟!

لا نستطيع أن نحدد بدقة تاريخ بناء مكة ، واتساعها حتى صارت جديرة باسم : «أم القرى».

وقد يقال : إن بدء بنائها كان قبل بناء إبراهيم «عليه السلام» للبيت ، حسبما تشير إليه بعض الروايات ، بل ويدل عليه قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً)(١).

وعليه ، فما يحاول البعض إثباته ، من أن قصيا هو أول من بنى مكة ،

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.

٣٤

وكان البيت وحيدا في الصحراء ، وكان الناس يتركونه ليلا ، ويعودون إليه نهارا ، بدليل أن قصيا سمي «مجمعا» ؛ لأنه جمع القبائل حول البيت : لا يصح ، بل هو لا يدل أيضا ؛ لأن تاريخ مكة قبل قصي خير شاهد على أنها كانت آهلة بالسكان ، معمورة ، ومعروفة ومشهورة ، نعم ربما يكون قصي قد نظم سكن القبائل في مكة بالشكل المناسب.

ومهما يكن من أمر ، فإن تحديد ذلك لا يهمنا كثيرا الآن ، وما يهمنا هو التعرف على المكانة الدينية لمكة ، ومدى ارتباط قبائل العرب ، بل وغيرهم بها ، والحديث عن ذلك لا ينفصل عن الحديث عن البيت العتيق ، الذي تختضنه مكة ، ثم عن قريش التي كان لها شرف خدمة ذلك البيت ، فنقول :

ألف : بناء الكعبة :

الكعبة هي أول بيت وضع للناس ببكة ، مباركا ، وهدى للعالمين ، كما هو صريح القرآن (١) ، والمعروف المشهور هو : أن واضعه هو شيخ الأنبياء إبراهيم «عليه السلام».

ولكننا نجد في كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» ما يدل على أن البيت قد كان من لدن آدم أبي البشر «عليه السلام» ، أما إبراهيم فهو رافع قواعده ومشيد بنيانه وأركانه.

قال «عليه السلام» : «ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم ، صلوات الله عليه ، وإلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام ، (الذي جعله للناس قياما).

__________________

(١) راجع : الآية ٩٦ من سورة آل عمران.

٣٥

ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا ، وأقل نتائق الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الأودية قطرا ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ولا حافر ، ولا ظلف.

ثم أمر آدم وولده : أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوى إليه الأفئدة من مفاوز سحيقة إلخ ..» (١).

ويدل على ذلك أيضا : روايات وردت من طرق الخاصة وغيرهم ؛ فمن أرادها فليراجعها في مظانها (٢).

ولعل ظاهر القرآن لا يأبى عن هذا أيضا ؛ حيث جاء التعبير فيه عن تجديد بناء إبراهيم للبيت بقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)(٣) وهذا لا ينافي أن تكون الأسس والقواعد قد وضعت قبل ذلك ، وإبراهيم هو الذي رفع هذه القواعد ، وشيد على تلكم الأسس ، وهذا موضوع يحتاج إلى بحث وتحقيق ، نسأل الله أن يوفقنا لمعالجته في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

ب : دعاء إبراهيم عليه السّلام :

ومهما يكن من أمر ، فإن إبراهيم «عليه السلام» قد لاحظ :

أن البيت الذي اختبر الله الناس به قد وضع في بقعة تكون الحياة فيها

__________________

(١) نهج البلاغة بشرح عبده ، الخطبة المعروفة بالقاصعة رقم ١٨٧.

(٢) راجع على سبيل المثال : تفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٢٦ ـ ١٢٩ ، والطبري ، والدر المنثور ، وشرح النهج ، وأخبار مكة للأزرقي : ج ١ ص ٣ ـ ٣٠ ، وتفسير البرهان :

ج ١ ص ٣٠٠ وغير ذلك.

(٣) الآية ١٢٧ من سورة البقرة.

٣٦

صعبة وشاقة ، كما يظهر من كلمات الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» المتقدمة ؛ ولذلك فقد دعا ربه فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١).

ولقد استجيبت دعوة إبراهيم «عليه السلام» ، وأصبحت مكة قبلة الآملين ، ومهوى أفئدة الصفوة من العالمين.

ج : تقديس الكعبة :

لقد كانت الكعبة مقدسة ومعظمة عند جميع الأمم ، فيذكر العلامة الطباطبائي قدس سره :

أن الهنود يعتقدون : أن روح سيفا ، وهو الأقنوم الثالث عندهم قد حلت في الحجر الأسود ، حينما زار هو وزوجته بلاد الحجاز.

والصابئة من الفرس والكلدانيون يعدون الكعبة أحد البيوت السبعة المعظمة (٢) ، وربما قيل : إنها بيت زحل لقدم عهدها ، وطول بقائها ..

واليهود أيضا كانوا يعظمونها ، ويدّعون أنهم يعبدون الله فيها على دين إبراهيم «عليه السلام».

ويقولون : إنه كان فيها تماثيل وصور ، منها تمثال إبراهيم وإسماعيل ،

__________________

(١) الآية ٣٧ من سورة إبراهيم.

(٢) البيوت السبعة هي : الكعبة ، ومارس : على رأس جبل بأصفهان. وهندوستان :

ببلاد الهند. ونوبهار : بمدينة بلخ. وبيت غمدان : بمدينة صنعاء. وكاوسان :

بمدينة فرغانة من خراسان ، وبيت بأعالي بلاد الصين.

٣٧

وبأيديهما الأزلام ، وأن فيها صورتا العذراء والمسيح ، ويشهد على ذلك تعظيم النصارى لأمرها كاليهود.

وكانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم ، وتعدها بيتا لله تعالى ، وكانوا يحجون إليها من كل جهة (١) ..

وستأتي كلمات أبي طالب حول هذا الأمر حين الكلام عن زواج النبي «صلى الله عليه وآله» بخديجة أم المؤمنين «عليها السلام» وقد حكى الله سبحانه هذا الأمر حينما قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)(٢).

فالكعبة إذن ، كانت مقدسة عند جميع الأمم والطوائف ، وبالأخص عند العرب ، وظلت على ذلك مددا متطاولة في العصر الجاهلي ، ويزيد ذلك قوة ورسوخا : أن العربي كان يعتبرها مصدر عزته ، وموضع أمله ، وكيف لا تكون كذلك ، وهو يرى أن الأمم الأخرى تنظر إليه ـ لأجلها ـ بعين الحسد والشنآن ، وتعمل على انتزاع هذا الشرف منه ، أو على التقليل من خطره وأهميته ، حتى لقد :

١ ـ أقام الغساسنة بيتا في الحيرة في مقابلها (٣).

٢ ـ وفي نجران أيضا : أقيمت كعبة أخرى لتضاهي كعبة مكة ، يقول

__________________

(١) راجع الميزان ج ٣ ص ٣٦١ و ٣٦٢ ، وما ذكره يحتاج إلى تحقيق ، وإثبات بالأدلة والشواهد.

(٢) الآية ٦٧ من سورة العنكبوت.

(٣) حياة محمد لمحمد حسنين هيكل ص ٦٣. وراجع : الأصنام ص ٤٥.

٣٨

الأعشى : يخاطب ناقته :

وكعبة نجران حتم عليك

حتى تناخي بأعتابها

وكعبة نجران هذه يقال : إنها بيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي ، على بناء الكعبة ، وعظموها مضاهاة للكعبة ، وسموها : كعبة نجران (١).

٣ ـ وفي الشام كانت الكعبة الشامية (٢).

٤ ـ وفي اليمن الكعبة اليمانية (٣).

وكان رجل من جهينة قال لقومه : هلم نبني بيتا نضاهي به الكعبة ، ونعظمه ، حتى نستميل به كثيرا من العرب ، فأعظموا ذلك وأبوا عليه (٤).

ويكفي أن نذكر : أن أبرهة بن الأشرم أقام في اليمن بيتا ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، والحج إليه.

وكتب إلى ملك الحبشة : «إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها أحد قط ، ولست تاركا العرب حتى أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه» (٥).

ورغم أنه زخرفه وفرشه بأفخر ما يقدر عليه ، إلا أن ذلك لم ينفع في صرف الناس حتى اليمنيين عن الكعبة إليه ، فضلا عن أن يصرف غيرهم

__________________

(١) معجم البلدان لياقوت الحموي ج ٥ ص ٢٦٨. وراجع : الأصنام ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) البداية والنهاية ج ٢ ص ١٩٢.

(٣) البداية والنهاية ج ٢ ص ١٩٢.

(٤) الأصنام : ص ٤٥.

(٥) الأصنام : ص ٤٧.

٣٩

أو أهل مكة عن كعبتهم ، واستمر الناس ، وأهل اليمن على الحج إلى مكة.

وبعد أن تغوط أحد بني كنانة في كنيسة أبرهة ، غضب ، واندفع إلى مكة في عام الفيل وقال لعبد المطلب : إنه لا يقصد إلا هدم البيت.

فأجابه : إن للبيت ربا سيمنعه ، وجرى ما جرى لأبرهة وجيشه وأنزل الله في ذلك :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(١).

٥ ـ ويقولون : إن تبع بن حسان كان قبل ذلك قد حاول أن يهدم البيت ويحول حجارته إلى اليمن ، فيبني بها بيتا هناك تعظمه العرب ، فدفع الله عن البيت شره وكيده (٢).

الأصنام ، والكعبة :

ويقولون : إن عمرو بن لحيّ ، كبير خزاعة ، عندما كان يتولى أمر البيت ،

__________________

(١) سورة الفيل راجع في هذه القضية البحار : ج ١٥ ص ١٤٠ و ١٣٦ و ١٣١ و ٧٢ و ٦٩ و ٦٦ ، وأمالي الطوسي : ص ٧٨ ـ ٧٩ ، وأنساب الأشراف : ج ١ ص ٦٨ ، وتاريخ ابن الوردي : ج ١ ص ١٢٧ ، والسيرة النبوية لابن كثير : ج ١ ص ٣٤ ، والسيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٥١ ، والبداية والنهاية : ج ٢ ص ١٧٢ ، وتاريخ الخميس : ج ١ ص ١٨٩ ، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية) : ج ١ ص ٣١ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ص ٥٩ ـ ٦١.

(٢) ثمرات الأوراق ص ٢٨٧ وراجع : تاريخ الخميس : ج ١ ص ١٩١.

٤٠