الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

الوساوس حارسا ، ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابسا ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرسا ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجرا ، ولما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشرا ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه ، وزواجر أمثاله إلخ» (١).

المحكم والمتشابه :

هذا وقد أشير إلى وجود المحكم والمتشابه في القرآن في قوله تعالى :

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ)(٢).

هذا ، مع العلم بأن الله تعالى لا يريد أن ينزل لعباده كتابا فيه الألغاز والأحاجي ، بل هو كما قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٣). وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٤).

إذن ، فلا بد أن يراد بالمتشابه معنى ينسجم مع واقع القرآن وأهدافه ، ولعل التأمل فيما قدمناه يسهل علينا فهم المراد منه ، ولأجل إيضاح ذلك نقول :

إن المتشابه هو الكلام الذي لا ينبئ ظاهره عن المراد ، بل يحتمل من لم يكن راسخا في العلم فيه وجوها من المعاني ، التي لا يكون بعضها منسجما

__________________

(١) الصحيفة السجادية ص ١٣٦ الدعاء عند ختم القرآن.

(٢) الآية ٧ من سورة آل عمران.

(٣) الآية ٢٩ من سورة ص.

(٤) الآية ٢ من سورة يوسف.

٣٢١

مع أهداف ومبادئ المتكلم ، ولكن لو دقق في اللفظ وفي خصوصياته ، وجمع بين بعضها البعض لأمكنه إدراك عدم إمكان تحملها لذلك المعنى الفاسد.

ولأجل ذلك ، نجد الذين في قلوبهم زيغ يحاولون انتهاز الفرصة للتشبث بهذا النوع من الآيات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وعطف اتجاهه ؛ ليلائم أهواءهم ، ومن أجل الطعن في القرآن والإسلام (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ)(١) ، لأنهم يردون المتشابه إلى المحكم الذي يبين أهداف ومرامي الله تعالى ، ويوجه التعبير في المتشابهات ليفيد المعنى المقصود ، ويبين بعض ما خفي من وجوهه وخصوصياته.

لابد من وجود المتشابه في القرآن :

وينقل الرازي : أن من الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، إذ كيف يكون مرجعا للناس في كل عصر ، مع وفرة دواعي الاختلاف فيه ؛ حيث يجد كل صاحب مذهب فيه مأربه ؛ فإن هذا لا يصدر عن الحكيم (٢).

ولعل ما ذكرناه فيما تقدم يكفي في الإجابة عن هذه الترهات. ونزيد هنا ما ذكره العلامة الطباطبائي ، فإنه قال ما حاصله :

إنه كان لا محيص عن وقوع التشابه في القرآن ، لأنه كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم ، مع سمو معناه ، وعمق مغزاه ، في مقابل

__________________

(١) الآية ٨٣ من سورة النساء.

(٢) تفسير الرازي ج ٧ ص ١٧١.

٣٢٢

انحطاطهم في المستوى الفكري والثقافي.

وقد جاء القرآن بمفاهيم جديدة ، كانت غريبة عن نوعية أفكار ومفاهيم المجتمع البشري آنذاك ، ولا سيما في جزيرة العرب ، البعيدة عن الثقافة والمعرفة ، في حين التزامه في التعبير عن تلك المقاصد العالية بنفس الأساليب التي كانت معروفة في ذلك العهد ، الأمر الذي ضاق بتلك الألفاظ التي كانت موضوعة للتعبير عن معان محسوسة ، أو قريبة من الحس ، ومحدودة في نطاق ضيق ، تتناسب مع ذهنية العربي وثقافته والتعبير عن معان مبتذلة ـ لقد ضاق الأمر بتلك الألفاظ ـ عن أن تحيط بتلك المفاهيم الرحبة الآفاق ، البعيدة الأغوار ، وجاء استعمال تلك الألفاظ للتعبير عن هذه المقاصد العالية غريبا عن المألوف العام ، وعن ذهنية الإنسان العادي.

ومن ثم ، فقد قصرت أفهامهم عن إدراك حقائقها ودقائقها ، ولا سيما حين رأوا :

أن القرآن يستعمل في التعبير عن مقاصده صنوف المجاز ، والاستعارات ، والتشبيهات ، والكنايات ، ودقائق الإشارات ، واستعمل مختلف خصائص اللغة العربية ، سواء منها ما يتعلق بالمفردات ، أو بالهيئات التركيبية ؛ ليمكن إخضاع تلك المعاني السامية للقوالب اللفظية المحدودة والمألوفة.

وكان ذلك سببا في تقريب تلك المعاني إلى أفهام العامة ، من حيث أنه أخضعها للقوالب اللفظية ، المأنوسة والمألوفة لديهم ، وسببا في بعدها ، من حيث عدم قدرة تلك القوالب اللفظية على استيعاب معان لم تكن هي

٣٢٣

مستعدة للتعبير عن مثلها (١) ، إلا بالتوسل بلطائف الإشارات والكنايات ، ودقائق الخصائص اللفظية للتعبير عنها ، حسبما أشرنا إليه من قبل ، فصعب على الإنسان العادي إدراك تلك المقاصد العالية ، واشتبه عليه الأمر ؛ فكان لا بد له من الاستعانة بالراسخين في العلم ، الذين اختصهم الله بفضله وكرمه لإيضاح مقاصده وأهدافه ومراميه ، ممن كانوا على مستوى رفيع من عمق الفهم ، وسلامة التفكير ، ونفذت بصيرتهم إلى الحقائق الراهنة ، فنالوها ، وهم أئمة أهل البيت الأطهار «عليهم السلام».

التأويل :

لقد أشير إلى التأويل في القرآن الكريم ، وأن ثمة من يعرف هذا التأويل ، وهم الراسخون في العلم ، وإن كانوا يعترفون بعجزهم عن إدراك كل الملابسات التي يمكن أن تكتنف هذا المعنى المقصود ، إلا إذا أوقفهم الله تعالى على ذلك.

قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)(٢).

وقد رأينا : أن بعض الفئات الضالة تحاول الاستفادة من موضوع التأويل بما يخدم أهدافها الهدامة ، ومذاهبها الضالة ، فجاؤوا بالتأويلات

__________________

(١) راجع : التمهيد في علوم القرآن ج ٣ ص ١٩ ـ ٢٢ والميزان للعلامة الطباطبائي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٢ وعن تفسير المنار ج ٣ ص ١٧٠ وقد نقلنا كلامهم بتصرف ، فليلاحظ ذلك.

(٢) الآية ٧ من سورة آل عمران.

٣٢٤

التي تضحك الثكلى ، حتى إنك لتجد بعض الأحزاب المنحرفة من الذين يعتنقون الماركسية ، ويتظاهرون بالإسلام ، يحاولون تفسير الإسلام والقرآن بحيث ينسجم مع الماركسية التي تناقضه أساسا ، فيقولون ـ مثلا ـ في قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)(١).

ـ يقولون ـ : إن المراد بهذا اليوم ليس هو يوم القيامة ، وإنما المراد به اليوم الذي تتحقق فيه الاشتراكية ، ويزول النظام الطبقي ، وتنتفي فيه الملكية الشخصية (٢).

بل قالوا : إن المقصود بالمعاد في الإسلام والقرآن ، هو القضاء على النظام الطبقي في المجتمع ليس إلا ، إلى غير ذلك من ترهات بعيدة عن روح الإسلام والقرآن ، جاء بها هؤلاء وغيرهم من الفئات الضالة.

والحقيقة هي : أن هذا ليس هو التأويل الذي أشار إليه القرآن ، وإنما هو التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه بشدة من قبل المعصومين «عليهم السلام» ، وهذا بعينه هو اتباع ما تشابه من القرآن ، ابتغاء الفتنة ، وابتغاء تأويله.

أما التأويل الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، الذين هم أهل البيت «عليهم السلام» ، حسب نص الروايات (٣) ، فهو معرفة ما يؤول

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة إبراهيم.

(٢) راجع كتاب : توحيد عاشوري (فارسي).

(٣) راجع تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢ ، وتفسير البرهان : ج ١ ص ٢٧٠.

٣٢٥

إليه الأمر ، بحسب ما تضمنه الكلام من إشارات ودلالات ؛ كقوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ)(١).

وبعبارة أخرى : التأويل هو الكشف عن المرامي والمعاني التي يشير إليها اللفظ ، بما له من خصوصيات في مفرداته ، وهيئاته التركيبية ، وبعد مقايسته بغيره وملاحظة مدى انسجام ذلك المعنى مع مبادئ وأهداف المتكلم نفسه.

وإذا ما أريد الوصول إلى واقع المعنى من الآيات القرآنية بما له من خصوصيات وأحوال ؛ فلا بد من الرجوع إلى من يتمكن بما أوتي من معارف وعلوم ، حتى أصبح من الراسخين في العلم ، للكشف عن المعاني القرآنية الدقيقة ، التي يخفى على غير الراسخين كيفية تحمل اللفظ لها ، وإن كان بالنسبة إليهم ربما يكون من البديهات ، فيرجعون ذلك المتشابه إلى ذلك المحكم.

ومن هنا تبرز الحاجة المستمرة إلى هؤلاء الراسخين في العلم ، الذين ورد في الروايات أنهم ـ بالذات ـ أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فالتأويل هو الكشف عما تؤول إليه المعاني ، بواسطة معرفة سائر خصوصياتها ومراميها.

الحروف المقطعة في القرآن :

وقد كثر الحديث عن الحروف المقطعة الواردة في فواتح السور القرآنية ، وتعددت وتشعبت الأقوال في ذلك ، حتى عد المفسرون ما يقرب

__________________

(١) الآية ١٠٠ من سورة.

٣٢٦

من عشرين قولا حول المراد منها ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه.

٢ ـ هي أسماء للسور التي وقعت في أوائلها.

٣ ـ إنها أسماء لمجموع القرآن.

٤ ـ إنها أسماء لله سبحانه ف «ألم» معناها : أنا الله العالم و «ألمر» معناها : أنا الله أعلم وأرى. وهكذا.

٥ ـ إنها أسماء لله مقطعة لو أحسن تأليفها لعلم اسم الله الأعظم ، ف (ألر ، وحم ، ون). تصير : الرحمن. وهكذا.

٦ ـ إن هذه الحروف شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وأصول لغات الأمم .. وقد أقسم الله تعالى بهذه الحروف.

٧ ـ إنها إشارات إلى آلائه ، سبحانه ، وبلائه ، ومدة الأقوام وأعمارهم وآجالهم! (١).

٨ ـ إنها إشارة إلى بقاء هذه الأمة بحسب حساب الجمل.

٩ ـ إنها تسكيت للكفار الذين تواصوا فيما بينهم أن : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)(٢) ؛ فكانوا إذا سمعوا هذه الحروف استغربوها ، وتفكروا فيها ، فيقرع القرآن مسامعهم.

١٠ ـ إنها للإشارة إلى معان في السورة ؛ فكلمة «ن» إشارة إلى ما تشتمل

__________________

(١) هناك رواية تشير إلى شيء من ذلك أيضا ، فراجع : المحاسن للبرقي ص ٢٧٠ والبحار ج ٩٢ ص ٩٠.

(٢) الآية ٢٦ من سورة فصلت.

٣٢٧

عليه السورة من النصر الموعود وكلمة «ق» إشارة إلى القرآن ، أو إلى القهر (١).

إلى غير ذلك من أقوال لا مجال لتتبعها.

ولعل آخر ما يمكن أن يعتبر رأيا في هذا المجال .. هو ما ذكره بعض المتأخرين ، واعتبر بمثابة «إعجاز مدهش جديد للقرآن الكريم يكتشفه عالم مصري» ، وهو : أن هذه الحروف المقطعة تدخل كعنصر هام وحاسم في موضوع الإعجاز العددي للقرآن ..

ونحن لا نريد أن نسيء الظن فيما يتعلق بهذا الرأي ، على اعتبار أنه يعتمد الرقم (١٩) ، ويتخذه محورا في مجمل استنتاجاته ، وهو الرقم المقدس عند طائفة البهائية الضالة ..

كما أننا لا نريد المبالغة في التشاؤم إلى حد أن نعتبر أن ذلك يهدف إلى صرف الأنظار عن دقائق المعاني القرآنية الباهرة إلى الاهتمام بالظواهر والقوالب اللفظية.

لا .. لا نريد ذلك .. فإننا نأمل أن يكون ثمة قدر كبير من حسن النية ، وسمو الهدف.

وإنما نريد أن نؤكد على أن بعض الباحثين (٢) قد تتبع هذه النظرية بالبحث والتمحيص ، حتى خرج بنتيجة حاسمة ، مفادها : الجزم بخطأ هذه النظرية ، وذلك لعدم صحة الأرقام التي قدمتها ، واعتبرتها أساسا صالحا

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١٨ ص ٦ ، ٧.

(٢) هو العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني.

٣٢٨

للتدليل على قيمتها العلمية ، فقد قال هذا المحقق الذي رمز لنفسه ب «أبو محمد» : قولهم : كلمة «اسم» تتكرر ١٩ مرة بالضبط.

أقول : ذكر في المعجم المفهرس عدد ١٩ تحت كلمة اسم وذكر أن كلمة «بسم» تكررت ثلاث مرات في قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها)(١) ، (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)(٢). و (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ)(٣).

وذكر كلمة «اسمه».

وقال : إنها تكررت خمس مرات.

وقولهم : إن كلمة «الرحيم» تتكرر ١١٤ مرة نقول : بل تتكرر ١١٥ مرة بالضبط.

وقالوا : إن حرف «ن» قد تكرر في سورة القلم ١٣٣ أي أنه حاصل ١٩ ضرب ٧.

ونقول : بل يتكرر ١٢٩ مرة فقط ، ولو كررنا المشددات مثل أن فإن المجموع يصير أكثر من ذلك بكثير.

وقالوا : إن حرف «ص» يتكرر في كل من : سورة الأعراف التي أولها «ألمص» وسورة «ص» ، وسورة «مريم» التي أولها «كهيعص» ١٥٣ أي أنه حاصل ١٩ ضرب ٨.

ونقول : إن عدد الصادات في سورة الأعراف هو ٩٠ صادا ، ولعله قد

__________________

(١) الآية ٤١ من سورة هود.

(٢) الآية ١ من سورة الحمد.

(٣) الآية ٣٠ من سورة النمل.

٣٢٩

اشتبه علي واحد أو اثنان ، وفي سورة «مريم» ٢٤ «كذلك» وفي سورة «ص» ٢٧ مرة فليس المجموع ١٥٣ ولا في كل واحدة منها ١٥٣ أيضا (١).

أما العلامة الطباطبائي قدس سره ، فقد أورد على الأقوال التي سلفت باستثناء هذا الأخير ، حيث لم يذكره «قدس سره» .. بأن :

دعوى كون الحروف المقطعة من المتشابهات لا يصح ، وذلك لأن التشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها ، وليست الحروف المقطعة من هذا القبيل.

وأما سائر الأقوال ، فإنما هي تصويرات لا تتعدى الاحتمال ، ولا دليل يدل على شيء منها ، وأما الروايات التي ربما يستظهر منها بعض التأييد لبعض تلك الأقوال ، فقد ردها «رحمه الله» بضعف السند تارة ولضعف الدلالة أخرى ، حيث لا يوجد فيها تقرير من النبي «صلى الله عليه وآله» لما فهمه الآخرون منها أو لأن مفاد الرواية أن هذه الحروف من قبيل الرمز لمعان تكرر بيانها ، ولا حاجة لاستعمال الرمز في التعبير عنها.

ثم استظهر «رحمه الله» : أن هذه الحروف هي رمز بين الله سبحانه وبين رسوله ، خفي عنا ، لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا ، حيث وجد «رحمه الله» تشابها في سياق وفي مضامين السور التي اشتركت حروف معينة في فواتحها ، كالطواسين والحواميم ، والميمات والراءات ونحو ذلك.

__________________

(١) راجع مجلة المنطلق اللبنانية سنة ١٣٩٩ ه‍ العدد الخامس ص ٨٢.

٣٣٠

ونقول :

إننا لا نستطيع الموافقة على ما ذكره رحمه الله تعالى ، فإن القرآن ليس كتاب ألغاز ، أو أحاج ، وإنما أنزله الله تعالى :

(هُدىً لِلنَّاسِ)(١).

(لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ)(٢).

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(٣).

(قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٤).

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٥).

وقد لاحظ بعض المحققين : أن تعقيب هذه الأحرف بأن هذا الكتاب «مبين» وواضح ، و «أنه قرآن عربي لقوم يعلمون» ، أو «لعلكم تعقلون» لا يناسب كون تلك الألفاظ رموزا ، أو من قبيل الألغاز والأحاجي ، قال تعالى في سورة يوسف :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦).

ومهما يكن من أمر ، فإن لدينا من الشواهد والدلائل ما يكفي لإعطاء

__________________

(١) الآية ١٨٥ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٣٨ من سورة ص.

(٣) الآية ١٩٩ من سورة الشعراء.

(٤) الآية ٢ من سورة يوسف.

(٥) الآية ٣ من سورة فصلت.

(٦) الآيتان ١ و ٢ من سورة يوسف.

٣٣١

فكرة عن المراد من هذه الحروف ، ونستطيع بيان ذلك في ضمن النقاط التالية :

١ ـ إننا في نفس الوقت الذي نعتبر فيه أن ما سنذهب إليه ليس هو المقصود النهائي من هذه الأحرف ، فإننا نؤكد على أننا لا نستبعد إرادة سائر المعاني ، مما ذكر أو لم يذكر منها ، إذا دلّ الدليل على إرادتها أيضا ، فإن للقرآن ظهرا وبطنا ، ولعل لاختلاف الأزمنة ، وتقدم الفكر والعلم ، تأثيرا في فهم الكثير من المعاني الأخرى ، التي يمكن أن تكون هذه الأحرف مشيرة إليها ، أو دالة عليها ، بنحو من أنحاء الإشارة والدلالة.

٢ ـ إننا نلاحظ : أننا لم نجد في التاريخ ما يشير إلى أن أيا من الصحابة أو من غيرهم من المشركين أو من أعداء الإسلام قد تصدى للسؤال أو الاستفهام عن معاني هذه الأحرف ، وعما ترمي إليه ..

ولو سلمنا جدلا أن سكوت الصحابة يمكن أن يكون ناشئا عن إيمانهم العميق ، وعن وصولهم إلى درجة التسليم والخضوع لكل ما يأتي به النبي «صلى الله عليه وآله» نتيجة لما رأوه من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة ـ رغم أن ذلك لا ينطبق على كثيرين غيرهم .. ورغم عدم منافاة ذلك للسؤال الاستفهامي عن أمر كهذا ـ فإننا لا نستطيع أن نفسر سكوت المشركين وغيرهم من أعداء الإسلام عن أمر كهذا ، وهم في موقع التحدي والمجابهة ، ويحاولون التشبث ولو بالطحلب للطعن في الإسلام والنبوة والقرآن ، فسكوتهم هذا ـ والحالة هذه ـ لا يعني إلا أنهم قد فهموا منها معنى قريبا إلى أذهانهم ، وأن ذلك المعنى الذي فهموه كان يكفي للإجابة عما يمكن أن يراود أذهانهم من تساؤلات ..

٣٣٢

٣ ـ إننا نجد : أن هذه الحروف قد وردت في تسع وعشرين سورة ، ستة وعشرون منها نزلت في مكة ، وثلاث منها نزلت في المدينة.

وحتى هذه السور التي نزلت في المدينة يلاحظ : أن اثنتين منها قد نزلتا في أوائل الهجرة ، حيث كان الوضع الديني والإيماني فيها لا يختلف كثيرا عنه في مكة ، ولا سيما مع وجود اليهود وشبهاتهم ومؤامراتهم إلى جانب المشركين فيها.

وواحدة منها وهي سورة الرعد قد نزلت بعد أن كثر الداخلون في الإسلام رغبا أو رهبا ، وكثر المنافقون حتى ليرجع ابن أبي بثلث الجيش في غزوة أحد ..

وأصبح اليهود وغيرهم ممن وترهم الإسلام يهتمون بالكيد للإسلام من الداخل ، بعد أن عجزوا عن مقاومته عسكريا وفكريا ، وعقائديا بشكل سافر ..

فجاءت سورة الرعد لتكرر التحدي بهذه المعجزة : القرآن ، كأسلوب أمثل لبعث عمق عقيدي وإيماني جديد في المسلمين ، ومواجهة غيرهم بالواقع الذي لا يجدون لمواجهته سبيلا إلا بالتسليم والبخوع والانقياد له.

وهذا ما يفسر لنا السر في أننا نجد أسلوب وأجواء سورة الرعد لا تختلف كثيرا عن أجواء وأسلوب غيرها من السور المكية ، وأن هنالك توافقا فيما بينها في إدانة وضرب كل أساليب التضليل أو التزوير ، والصدود عن الحق ..

ونستطيع بعد كل ما تقدم أن نصل إلى النتيجة التالية ، وهي :

أن ورود هذه الحروف في خصوص السور المكية ، وفي ثلاث سور

٣٣٣

نزلت في أجواء لا تختلف كثيرا عن أجواء مكة ليدل دلالة قاطعة على أنها إنما جاءت في مقام التحدي للمشركين ، ولأعداء الإسلام .. وأن عدم اعتراض هؤلاء ، أو حتى عدم سؤالهم ، وكذلك عدم سؤال أي من الصحابة المؤمنين عن معاني هذه الحروف إنما يشير إلى أنهم إنما فهموا منها معاني قريبة إلى أذهانهم ، كافية للإجابة على ما ربما يختلج في نفوسهم من أسئلة حولها.

وليس ذلك إلا ما ذكرنا من التحدي بهذا القرآن ، المركب من أمثال هذه الحروف التي هي تحت اختيار الجميع ، مع أنه يعجز عن مجاراته والإتيان بمثله وحتى بسورة من مثله.

٤ ـ إننا إذا راجعنا الآيات التي وقعت بعد هذه الحروف ، فإننا نجد :

ألف : أن جميع السور التي وقعت الحروف المقطعة في فواتحها باستثناء سورتين أو ثلاث نجد الآيات التي وقعت بعد هذه الحروف تتحدث عن الكتاب وآياته ، أو القلم أو القرآن ، ونحو ذلك كقوله تعالى :

(المص ، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف].

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم].

(حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف].

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود].

(حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان].

٣٣٤

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص].

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [القلم].

وحتى تلك السور الاثنتان أو الثلاث فإنه يمكن أن يكون في تلك القصة ، أو الإخبارات الغيبية أو الحكم التي تذكر بعد هذه الحروف ، من الإعجاز ما يكفي لأن يجعل تركيبها من أمثال تلك الحروف المذكورة ، وعجز الجن والإنس عن الإتيان بمثلها كافيا عن التصريح في ذلك ..

ب : إننا نجد أن الآيات التي وقعت بعد الأحرف المقطعة قد صدّرت باسم الإشارة ليكون خبرا عن الحروف المقطعة ، لأنه إشارة لما قبله.

ولا يصح أن يكون إشارة لما بعده لأن ما بعده ليس الألف ليكون بدلا أو عطف بيان له .. وذلك مثل قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف].

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [الحجر].

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس].

وكذلك الحال بالنسبة لسورة الرعد ، والحجر وغيرهما من السور.

أما مثل قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة] فالكتاب بدل أو عطف بيان.

ج : ما هو من قبيل قوله تعالى :

(حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت]. فإن قوله تنزيل خبر لقوله : (حم) كما قاله الفراء ،

٣٣٥

وكما هو الظاهر ..

وجعل كتاب خبرا لتنزيل ، لا يستسيغه الذوق السليم ، ولا ينسجم مع المعنى المقصود ، ولا سيما مع تنوين كلمة تنزيل وتنكيرها ، وكذلك الحال في قوله تعالى :

(الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة].

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [المؤمن / غافر].

وكذا الحال فيما ورد في أول سورة الجاثية والأحقاف ..

وقد أعرب المفسرون وغيرهم هذه الموارد على أن كلمة «تنزيل» خبر لمبتدأ محذوف ، أو نحو ذلك مع أن إعرابها على النحو الذي ذكرناه هو الأنسب والأظهر ، وإن كان إعرابهم لا ينافي ما ذكرناه أيضا ، فإن تقدير كلمة «هو» ، أو كلمة : «هذا» المقدرة مبتدأ ظاهرها الإشارة إلى ما قبلها أيضا ..

د : قوله تعالى :

(حم ، عسق ، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى].

فإن قوله : «كذلك» يشار بها في القرآن عادة إلى ما قبلها ، أي كتلك الحروف التي سبقت يوحي إليك الله تعالى ، أي إن آيات الله هي من جنس هذه الأحرف.

ه : وبعد ، فلقد جاء في رواية عن الإمام العسكري صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : سحر مبين تقوّله.

٣٣٦

فقال الله : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها «ألف ، لام ، ميم» وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم.

ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(١)» (٢).

وضعف هذه الرواية لا يضر ما دامت مؤيدة بما قدمناه من الشواهد والدلائل ..

هذا على الرغم من أننا نجد في كلام المجلسي ما يشير إلى إمكان الاعتماد على روايات تفسير العسكري .. مع أننا لا نجد ما يبرر الوضع والجعل في أمر كهذا ..

آخر ما نقوله حول الحروف المقطعة :

وأخيرا .. فإنه يمكن أن تكون في القصة التي تذكر بعد هذه الحروف المقطعة ، أو في الحكم ، أو التنبؤات من الإعجاز ما يكفي لأن يجعل تركبها من الحروف المذكورة في بداية السورة ، وعجز الغير عن الإتيان بمثلها كافيا في ذلك.

__________________

(١) الآية ٨٨ من سورة الإسراء.

(٢) معاني الأخبار ص ٢٢ ، وتفسير البرهان ج ١ ص ٥٤ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٤٣ والبحار ج ٩٢ ص ٣٧٧ وتفسير الميزان ج ١٨ ص ١٦.

٣٣٧

ومع كل ما قدمناه ، فإننا نعود ونؤكد على أن ما ذكرناه ليس هو كل المراد من هذه الحروف ، فقد تكون لها إشارات ومرام أخرى تضاف إلى ما ذكرناه ، ولا مانع من صحة كثير من الاحتمالات التي ذكرت في معانيها ، ولربما يكون لاختلاف الأزمنة تأثير في فهم هذه المعاني ، كما أشرنا إليه حين الكلام حول أن للقرآن ظهرا وبطنا.

٣٣٨

الفهارس

١ ـ الفهرس الإجمالي

٢ ـ الفهرس التفصيلي

٣٣٩
٣٤٠