الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

وإذا أمكنت المناقشة في بعض تلك الروايات ، فإن البعض الآخر لا مجال للنقاش فيه.

ويؤيد ذلك أيضا : أن النسائي قد روى : أنه لما خطب أبو بكر وعمر فاطمة «عليها السلام» ردهما «صلى الله عليه وآله» ، وقال لهما : إنها صغيرة (١) ، فلو كان عمرها سبع عشرة سنة أو أكثر ، فلا يقال : إنها صغيرة.

ويؤيده أيضا : ما روي من أن خديجة «رحمها الله» كانت قد هجرتها نساء قريش ، فلما حملت بفاطمة «عليها السلام» كانت تحدثها من بطنها ، وتصبّرها (٢).

بقي أن نشير إلى : أن استبعاد حمل خديجة بفاطمة في السنة الخامسة من

__________________

والإحتجاج وغير ذلك ، والأنوار النعمانية ج ١ ص ٨٠ ، وفي كتب غيرهم مثل : المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ١٥٦ ، وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامشه) ، ونزل الأبرار ص ٨٨ ، والدر المنثور ج ٤ ص ١٥٣ ، وتاريخ بغداد ج ٥ ص ٨٧ ، والمناقب لابن المغازلي ص ٣٥٧ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٧٧ ، وذخائر العقبى ص ٣٦ ولسان الميزان ج ١ ص ١٣٤ واللآلي المصنوعة ج ١ ص ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ، ونقله النجفي في ملحقات إحقاق الحق ج ١٠ ص ١ ـ ١٠ عن بعض من تقدم ، وعن ميزان الإعتدال والروض الفائق ، ونزهة المجالس ، ومجمع الزوائد ، وكنز العمال ، ومنتخبه ، ومحاضرة الأوائل ، ومقتل الحسين للخوارزمي ، ومفتاح النجاة ، والمناقب لعبد الله الشافعي ، وإعراب ثلاثين سورة ، وأخبار الدول ، وستأتي بقية المصادر حين الكلام حول تاريخ الإسراء والمعراج.

(١) راجع : خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص ١١٤ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ٣٤٥ ، وتذكرة الخواص ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٢) البحار ج ٤٣ ص ٢.

٢٨١

البعثة ؛ لأن سن خديجة كان حينئذ عاليا ـ هذا الاستبعاد ـ في غير محله ؛ لما تقدم : من أن سن خديجة حينئذ كان ما بين ٤٥ حتى ٥٠ سنة بناء على عدد من الأقوال في مقدار عمرها ، ولعل من بينها ما هو الأقوى ، وإن كان المشهور خلافه.

وحتى على هذا المشهور ؛ فإن عمر خديجة حينئذ كان لا يأبى عن الحمل ، فإن القرشية يستمر حيضها إلى الستين ، كما هو مقرر في الفقه ، وهذا يعني : أن قابلية الحمل موجودة أيضا ، كما هو ظاهر.

ومما ذكرناه ، ومن قول المصباح : «والعامة تروي : أن مولدها كان قبل المبعث بخمس سنين» (١) ، نعرف : أن المسعودي قد اشتبه في نسبة القول بالتسع والعشرين إلى أكثر أهل البيت وشيعتهم (٢) ، ولعله سهو من قلمه ، أو عمد أو سهو من النساخ ، بحيث كان في الأصل تسع عشرة ، فبدل إلى تسع وعشرين.

وبعد كل ما تقدم ؛ فإنه إذا كانت فاطمة قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة ؛ فإنها تكون قد توفيت وعمرها ثمانية عشر عاما فقط ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) البحار ج ٤٣ ص ٢ وليراجع حتى ص ١٠.

(٢) التنبيه والأشراف ص ٢٥٠.

٢٨٢

القسم الثالث

من البعثة حتى الهجرة

الباب الأول : من البعثة إلى الإعلان بالدعوة

الباب الثاني : حتى وفاة أبي طالب

الباب الثالث : من وفاة أبي طالب حتى الهجرة إلى المدينة

الباب الرابع : من مكة إلى المدينة

٢٨٣
٢٨٤

الباب الأول

من البعثة إلى الإعلان بالدعوة

الفصل الأول : البعثة والمعجزة

الفصل الثاني : روايات بدء الوحي

الفصل الثالث : الدعوة في مراحلها الأولي

٢٨٥
٢٨٦

الفصل الأول :

البعثة والمعجزة

٢٨٧
٢٨٨

عمر النبي صلّى الله عليه وآله حين البعثة :

لقد بعث الله تعالى محمدا «صلى الله عليه وآله» رسولا للناس أجمعين بعد عام الفيل بأربعين عاما ، أي حينما بلغ الأربعين من عمره الشريف ، على قول أكثر أهل السير ، والعلم بالأثر ، وكان قبل ذلك يسمع الصوت ولا يرى الشخص حتى تراءى له جبرائيل وهو في سن الأربعين.

وقيل : بل كان عمره «صلى الله عليه وآله» حين بعثته اثنين ، وقيل : ثلاثا ، وقيل : خمسا وأربعين سنة (١).

وربما لا يكون بين هذه الأقوال منافاة إذا كان القائلون بها يأخذ بعضهم ، وبعضهم الآخر لا يأخذ السنوات الأولى ، وهي فترة الدعوة الاختيارية ، أو فقل : السرية بنظر الاعتبار والتي قد اختلف في مقدارها من ثلاث إلى خمس سنوات (٢).

__________________

(١) راجع في ذلك كلا أو بعضا : سيرة مغلطاي ص ١٤ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٢٤ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٢ و ٤٣ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤ ، وفي الطبري ج ٢ ص ٤٢ رواية تفيد : أن عمره «صلى الله عليه وآله» كان حينئذ عشرين سنة ، وهي رواية لا يرتاب أحد في بطلانها وراجع مشاهير علماء الأمصار ص ٣.

(٢) البحار ج ١٨ ص ١٧٧ و ١٩٤ عن إكمال الدين ص ١٩٧ والتمهيد في علوم ـ

٢٨٩

أو لعل بعضهم لم يكن يرى أن النبي «صلى الله عليه وآله» مرسل في تلك الفترة إلى الناس كافة ، أو أنه كان مكلفا بدعوة الأقربين فقط.

كما أن ذلك لعله هو سبب الاختلاف الظاهري في مدة بقاء النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة داعيا إلى الله فيها قبل الهجرة ، حيث قال بعضهم إنه : «صلى الله عليه وآله» بقي عشر سنين ، وقال آخرون : ثلاث عشرة سنة.

تاريخ البعثة ، وكيفية نزول القرآن :

والمروي عن أهل البيت «عليهم السلام» ـ وأهل البيت أدرى بما فيه وأقرب إلى معرفة شؤون النبي «صلى الله عليه وآله» الخاصة ـ : أن بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وهذا هو المشهور ، بل ادعى المجلسي الإجماع عليه عند الشيعة ، وروي عن غيرهم أيضا (١).

وقيل : إنه «صلى الله عليه وآله» بعث في شهر رمضان المبارك ، واختلفوا في أي يوم منه (٢) وقيل في شهر ربيع الأول ، واختلف أيضا في أي يوم منه (٣).

__________________

ـ القرآن ج ١ ص ٨١ ـ ٨٢ وراجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٩ وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٨٠ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٤٣.

(١) راجع السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٣٨ عن أبي هريرة ، وسيرة مغلطاي ص ١٤ عن كتاب العتقي عن الحسين ، ومنتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج ٣ ص ٣٦٢ ، ومناقب ابن شهر آشوب ج ١ ص ١٧٣ والبحار ج ١٨ ص ٢٠٤ و ١٩٠.

(٢) راجع : تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٤ وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٥٦ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٢ ـ ٢٣ ط صادر والبداية والنهاية ج ٣ ص ٦.

(٣) المواهب اللدنية ج ١ ص ٣٩ ، وسيرة مغلطاي ص ١٤ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٢ والتنبيه والإشراف ص ١٩٨ ، ومروج الذهب ج ٢ ص ٢٨٧ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٣٨.

٢٩٠

واستدل القائلون : بأنه «صلى الله عليه وآله» قد بعث في شهر رمضان المبارك ، وليس في رجب بأن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما بعث بالقرآن ، والقرآن قد أنزل في شهر رمضان ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) ، وقال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٢).

ثم إن هنا إشكالا آخر لا بد من الإشارة إليه ، وحاصله :

أن الآيتين المتقدمتين ، وإن كانتا تدلان على نزول القرآن دفعة واحدة على أحد الاحتمالين في معنى الآيتين ، إلا أن قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)(٣) يدل على نزول القرآن متفرقا ، لأنه عبّر فيها ب (نزل) ، الدال على النزول التدريجي ، وفيما تقدم عبر بأنزل ، الدال على النزول الدفعي ثم هو يقول فيها : (فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ)(٤).

يضاف إلى ذلك قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(٥) حيث دلت الآية على نزول القرآن تدريجا.

وأيضا ، يجب أن لا ننسى هنا : أن بعض الآيات مرتبط بحوادث آنية ، مقيدة بالزمان ، كقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها)(٦)

__________________

(١) الآية الأولى من سورة القدر.

(٢) الآية ١٨٥ من سورة البقرة.

(٣) الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.

(٤) الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.

(٥) الآية ٣٢ من سورة الفرقان.

(٦) الآية الأولى من سورة المجادلة.

٢٩١

وكاعتراض الكفار الآنف على رسول الله «صلى الله عليه وآله» وغير ذلك.

هذا كله عدا عن أن التاريخ المتواتر يشهد بأن نزول القرآن كان تدريجا ، في مدة ثلاث وعشرين سنة ، وهي مدة الدعوة.

وقد أجيب عن إشكال التنافي بين ما دل على النزول الدفعي والنزول التدريجي ؛ بأن النزول الدفعي كان إلى البيت المعمور ؛ حسبما نطقت به الروايات الكثيرة ، ثم صار ينزل تدريجا على الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» (١).

وإذن ، فليكن نزوله الدفعي كان في ليلة القدر ونزوله التدريجي قد بدأ في السابع والعشرين من شهر رجب ، ويرتفع الإشكال بذلك.

وجواب آخر ، يعتمد على القول بأن القرآن قد نزل أولا دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، لكنه لم يؤمر بتبليغه ، ثم صار ينزل تدريجا بحسب المناسبات.

وربما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد التي لا مجال لها (٢).

ورأي ثالث يقول : إن بدء نزول القرآن كان بعد البعثة بثلاث سنوات ، أي بعد انتهاء الفترة السرية للدعوة ، كما ورد في عدد من الروايات ، ونص عليه بعضهم (٣) ، وعلى هذا فلا يبقى تناف بين بعثته «صلى الله عليه وآله» في

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ٢ ص ١٥.

(٢) راجع : تفسير الميزان ج ٢ ص ١٨ وتفسير الصافي ج ١ المقدمة التاسعة ، وتاريخ القرآن للزنجاني ص ١٠.

(٣) راجع : التمهيد في علوم القرآن ج ١ ص ٨٢ ـ ٨٣ عن الكافي ج ٢ ص ٤٦٠ ، وتفسير العياشي ج ١ ص ٨٠ والاعتقادات للصدوق ص ١٠١ ، والبحار ج ١٨ ص ٢٥٣ ، ـ

٢٩٢

شهر رجب ، وبين نزول القرآن في شهر رمضان المبارك (١).

أما نحن فنقول :

أولا : قال الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(٢) فاستعمل التنزيل وأريد به النزول جملة واحدة ؛ فقولهم : «تستعمل نزل في خصوص التدريجي» لا يصح.

إلا أن يقال : إن المراد التنزيل التدريجي للقرآن كله ، من سماء إلى سماء ، أو من مرتبة إلى مرتبة ، حتى وصل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ولكن هذا خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلا بدليل.

وقد يقال : إن الدليل موجود ، وهو الروايات التي تقول :

نزل إلى البيت المعمور ، ثم إلى السماء الدنيا ، ثم على قلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ)(٣).

ثانيا : إن تتبع الآيات القرآنية يعطي عدم ثبوت الفرق المذكور بين : «الإنزال» و «التنزيل» مثلا قد ورد في القرآن قوله تعالى : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ

__________________

ـ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦١٠ والإتقان ج ١ ص ٣٩ وتفسير شبر ص ٣٥٠ ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٣٤.

(١) التمهيد ج ١ ص ٨١ و ٨٣.

(٢) الآية ٣٢ من سورة الفرقان.

(٣) الآية ١٩٣ من سورة الشعراء.

٢٩٣

حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ)(١) مع أن الكتاب المقروء إنما ينزل دفعة واحدة ، ويمكن أن يجاب عنه بما قدمناه آنفا.

كما ويلاحظ : أنه يستعمل كلمة «نزّل» تارة ، وكلمة «أنزل» (مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(٢).

ومثل ذلك كثير ، لا مجال لنا لتتبعه فعلا ، وكله يدل على عدم صحة هذا الفرق بين هاتين الصيغتين وقد أشار إلى هذا الجواب بعض المحققين أيضا (٣).

غير أننا نقول في جوابه : إن هناك حيثيتين لنزول الماء من السماء.

فإذا لوحظت حيثية نزوله متفرقا على شكل مطر فإنه يعبر بكلمة نزل ، الدالة على التدرج.

وإذا لوحظ مجموع ما نزل من ماء طاهر عبر بأنزل ، حيث لا يريد الإلماح إلى طريقة النزول ، بل المراد الحديث عن النازل ..

ثالثا : قولهم : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد بعث بالقرآن غير مسلم ، ولتكن الروايات الواردة عن أهل البيت ، والقائلة بأنه «صلى الله عليه وآله» قد بعث في شهر رجب موجبة لوهن قولهم هذا.

فإن البعثة تتحقق بنزول جبرئيل ببلاغ عن الله تعالى ، سواء أكان البلاغ آية ، أم كان أوامر من أي نوع كانت.

__________________

(١) الآية ٩٣ من سورة الإسراء.

(٢) الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) هو العلامة السيد مهدي الروحاني رحمه الله.

٢٩٤

رابعا : يقول الشيخ المفيد «رحمه الله» : إن روايات نزول القرآن إلى البيت المعمور لا مجال لإثباتها من طريق أهل البيت «عليهم السلام» ، ولا إلى الاطمينان إلى صحتها (١).

وأما نزول القرآن أولا دفعة واحدة على قلبه «صلى الله عليه وآله» ، فإن إثباته مشكل ، ولا يمكن المصير إليه إلا بحجة.

ولكن عدم القدرة على إثبات ذلك بصورة قاطعة لا يعني أنه غير واقع أصلا ، وهذا كاف في زوال الإشكال ، ولزوم القبول بما ورد عن أهل البيت «عليهم السلام» من أن البعثة كانت في شهر رجب ، فلعل للقرآن نزولات متعددة ، باختلاف ما يقتضي ذلك.

خامسا : حديث نزول القرآن بعد البعثة بثلاث سنوات ، استنادا إلى ما ورد من أن القرآن قد نزل خلال عشرين سنة ، لا يمكن الاطمينان إليه ، إذ يمكن أن يكون ذلك قد جاء على نحو التقريب والتسامح ، ولم يرد في مقام التحديد الدقيق ـ ومن عادة الناس :

أن يسقطوا الزائد القليل ، أو أن يضيفوه في إخباراتهم ، وليس في ذلك أخبار بخلاف الواقع ؛ لأن المقصود هو الإخبار بما هو قريب من الحد ، لا بالحد نفسه ، مع إدراك السامع لذلك ، والتفاته إليه.

نعم ، يمكن أن تكون معاني القرآن وحقائقه قد نزلت على قلبه الشريف لكي يستفيد منها الرسول «صلى الله عليه وآله» في نيل مقامات القرب منه تعالى.

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد ص ٥٨.

٢٩٥

والنتيجة هي : أنه لا مانع من أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد بعث وصار رسولا في شهر رجب ، كما أخبر به أهل البيت «عليهم السلام» وهيئ ليتلقى الوحي القرآني.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(١) ، ثم بدأ نزول القرآن عليه تدريجا في شهر رمضان المبارك.

كما أنه لا مانع من أن تكون حقائق القرآن ومعانيه قد نزلت عليه «صلى الله عليه وآله» دفعة واحدة ، ثم صار ينزل عليه تدريجا.

ويؤيد هذا الاحتمال الأخير رواية رواها المفضل عن الإمام الصادق «عليه السلام» تفيد ذلك فلتراجع (٢) ويؤيده أيضا :

ما ورد من أنه كان له ملك يسدده ، ويأمره بمحاسن الأخلاق ، وأن الملك كان يتراءى له ، قبل أن ينزل عليه القرآن (٣) وأن جبرئيل قد لقيه إلخ ..

ويرى بعض المحققين (٤) : أنه يمكن الجمع بين الآيات ، بأن يقال :

إن شروع نزول القرآن كان في ليلة مباركة ، هي ليلة القدر من شهر

__________________

(١) الآية ٥ من سورة المزمل.

(٢) البحار ج ٩٢ ص ٣٨.

(٣) التمهيد في علوم القرآن ج ١ ص ٨٣ ويحتمل أيضا : أن يكون القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر دفعة ، لكنه لم يؤمر بتبليغه ، ثم صار ينزل عليه تدريجا لأجل التبليغ في المناسبات المقتضية لذلك.

(٤) هو العلامة السيد مهدي الروحاني (رحمه الله) ..

٢٩٦

رمضان ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) ، (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(٢). وكان أول ما نزل حسب روايات أهل البيت «عليهم السلام» ، (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(٣).

لا يصح الاستدلال بهذه الآيات : على أن القرآن نزل أولا دفعة إلى البيت المعمور أو على قلب النبي ، ثم صار ينزل تدريجا طيلة أيام البعثة ، وذلك إعتمادا على قرينة الحال ، وهي رؤية الناس نزوله تدريجا.

نعم ، لا يصح هذا الاستدلال ، لإمكان أن يكون المراد بالإنزال والتنزيل واحد ، وهو بدء النزول ، فإنه إذا شرع نزول المطر في اليوم الفلاني ، واستمر لعدة أيام ، فيصح أن يقال مثلا :

سافرت يوم أمطرت السماء ، أي في اليوم الأول من بدء نزوله ، وكذلك الحال بالنسبة للقرآن ، فإنه إذا بدأ نزوله في شهر رمضان ، في ليلة القدر ، فيصح أن يقال مجازا مع وجود القرينة ، وهي النزول التدريجي : نزل القرآن في شهر رمضان ، ويكون المراد أنه قد بدأ نزوله التدريجي فيه.

وقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) محتف بقرينة حالية ؛ يعلمها كل أحد ، وهي نزول خصوص أول سورة «إقرأ» ، واستمر ينزل تدريجا بعد ذلك ، وكل حادث خطير له امتداد زمني إنما يسجل يوم شروعه.

__________________

(١) الآية ١ من سورة القدر.

(٢) الآية ١٨٥ من سورة البقرة.

(٣) الآيتان ١ و ٢ من سورة العلق.

٢٩٧

وأما حديث البخاري في بدء الوحي والدال على اقتران نزول القرآن بالنبوة فسيأتي أنه باطل لا يصح.

ثم إنه يمكن تقريب كلام هذا المحقق بأن يقال : إن قوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إنما هو حكاية عن أمر سابق ، ولا يشمل هذا الكلام الحاكي له إلا بضرب من العناية والتجوز ، ولا الذي يأتي بعده ، وإلا لجاء التعبير بصيغة المضارع ، أو الوصف فإنه يكون حينئذ هو الأوفق (١).

ولعل ابن شهر آشوب كان ينظر إلى هذا حين قال في متشابهات القرآن :

«والصحيح : أن القرآن في هذا الوضع لا يفيد العموم ، وإنما يفيد الجنس ، فأي شيء نزل فيه ؛ فقد طابق الظاهر» (٢).

هذا .. ولكن ما قدمناه يوضح : أن الالتزام بهذا التوجيه ليس ضروريا ، ونعود فنذكر القارئ الكريم بأنه قد ورد ما يؤيد نزول القرآن دفعة واحدة أولا ، ثم صار ينزل تدريجا بعد ذلك ؛ فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله : «يا مفضل ، إن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة ، والله يقول : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).

وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)(٣).

__________________

(١) قد أشار إلى ذلك في : التمهيد في علوم القرآن ج ١ ص ٨٤.

(٢) التمهيد في علوم القرآن ج ١ ص ٨٥.

(٣) الآيات ٣ ـ ٥ من سورة الدخان.

٢٩٨

وقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ)(١).

قال المفضل : يا مولاي فهذا تنزيله الذي ذكره الله في كتابه ، وكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة؟

قال : نعم يا مفضل ، أعطاه الله القرآن في شهر رمضان وكان لا يبلغه إلا في وقت استحقاق الخطاب ، ولا يؤديه إلا في وقت أمر ونهي ، فيهبط جبرائيل بالوحي ، فيبلغ ما يؤمر به وقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)(٢)» (٣).

وقد قلنا فيما سبق : إن للقرآن عدة نزولات ، نزول إلى البيت المعمور ، ونزول إلى السماء الدنيا ، ثم نزول على قلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» في رمضان .. ثم صار ينزل سورة سورة ، ثم صارت تنزل الآيات في المناسبات المختلفة ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا مختصر مفيد حين الكلام حول نزول آية بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وآية اليوم أكملت (٤) ..

بدء الوحي وأول ما أنزل :

لقد كان بدء الوحي في غار حراء ، وهو جبل على ثلاثة أميال من مكة ويقال :

__________________

(١) الآية ٣٢ من سورة الفرقان.

(٢) الآية ١٦ من سورة القيامة.

(٣) البحار ج ٨٩ ص ٣٨.

(٤) مختصر مفيد ج ٤ ص ٤٥.

٢٩٩

هو جبل فاران ، الذي ورد ذكره في التوراة إلا إن الظاهر هو أن فاران اسم لجبال مكة ، كما صرح به ياقوت الحموي ، حسبما تقدم ، لا لخصوص حراء.

وكان «صلى الله عليه وآله» يتعبد في حراء هذا ، على النحو الذي ثبتت له مشروعيته ، وكان قبل ذلك يتعبد فيه عبد المطلب.

وأول ما نزل عليه «صلى الله عليه وآله» هو قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(١).

وهذا هو المروي عن أهل البيت «عليهم السلام» (٢) ، وروي أيضا عن غيرهم بكثرة ، ويدل عليه أيضا سياق الآيات المذكورة. (٣)

وربما يقال : إن أول ما نزل عليه «صلى الله عليه وآله» هو فاتحة الكتاب (٤) ، ولا سيما بملاحظة :

أنه قد صلى في اليوم الثاني هو «صلى الله عليه وآله» وعلي «عليه السلام» ، وخديجة «عليها السلام» ، حسبما ورد في الروايات.

ولكن من الواضح : أن ذلك لا يثبت شيئا ؛ إذ يمكن أن تنزل الفاتحة بعد سورة إقرأ ، بلا فصل ، ثم يصلي ويقرؤها في صلاته ، كما أن من الممكن أن تكون صلاتهم آنئذ غير مشتملة على فاتحة الكتاب ، ثم وجبت بعد ذلك وإن كان لم يذكر أحد ذلك.

__________________

(١) الآيتان ١ و ٢ من سورة العلق ، وراجع تفسير البرهان.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٢٩.

(٣) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٦٨ والإتقان ج ١ ص ٢٣.

(٤) الدر المنثور ج ١ ص ٢٤.

٣٠٠