الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

منها قليل ، ومن كان يصر على الجهر بالحقيقة ، فإنه يتعرض لمختلف أنواع القهر والاضطهاد ، كما كان الحال بالنسبة لأبي ذر «رحمه الله» (١).

وهكذا .. فإن الصحابة لم يتمكنوا من الجهر بما تجيش ، أو بكل ما تجيش به صدورهم ، حتى أشرف هذا الجيل على الفناء والزوال ، مما كان من شأنه أن يفسح المجال أمام الجهاز الحاكم لكل افتراء ضد أهل البيت «عليهم السلام» ، وضد النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه ، ثم ضد الإسلام بشكل عام.

وخلاصة الأمر : أن قتل الحسين «عليه السلام» في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي ولا ينفع ، وإنما يكون فيه قضاء تام على الأمل الوحيد للدين ، والأمة ، وللحق ، وفي هذا خيانة حقيقية ظاهرة لكل ذلك ، بمقدار ما كان استشهاد الحسين «عليه السلام» بعد ذلك وفاء للدين ، وللأمة وللحق ، عندما لم يعد انحراف الحكم ولا دينيته ، بل وعداؤه للدين خافيا على أحد ، ولم يمكن بعد للدهاء والمكر ، وللسياسات المنحرفة أن تتستر عليه ، ولا أن تقلل من وضوحه ، وأصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة للدين ، وللأمة ، وللحق.

وإلا فإن الحسين «عليه السلام» قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه الحسن «عليه السلام» عشر سنوات ، ولم يقم بالثورة ضده ، مع أن الحسين «عليه السلام» الذي سكت في زمن معاوية هو نفسه الحسين الذي ثار في زمان يزيد ، كما أن الانحراف والظلم الذي كان في زمان هذا قد كان في زمان ذاك ، وما ذكرناه هو المبرر لسكوته هناك ، وثورته هنا.

__________________

(١) راجع مقالنا عن أبي ذر في الجزء الأول من كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.

٢٤١

هذا ، وقد تمدح الإمام الحسين «عليه السلام» أخاه الإمام الحسن «عليه السلام» على صلحه مع معاوية ، واعتبره إيثارا لله عند مداحض الباطل ، في مكان التقية بحسن الروية ، كما قاله «عليه السلام» وهو يؤبن أخاه الإمام الحسن «عليه السلام» حينما استشهد بسم معاوية (١).

وكتب أهل الكوفة أكثر من مرة إلى الإمام الحسين «عليه السلام» يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية ، وفي كل ذلك يأبى عليهم (٢) ، وقد أمرهم بلزوم بيوتهم ما دام معاوية حيا (٣).

فالقول بأن سبب عدم ثورته على معاوية إنما هو عدم بيعة الناس له في زمنه ، لا يصح.

كما أن الناس كانوا قد بايعوا الإمام الحسن «عليه السلام» ، فلماذا سكت؟ ولماذا لم يطالبه الحسين بالقيام؟! ولماذا يمدحه على صلحه لمعاوية؟

هذا ما أردنا الإشارة إليه هنا ، ولهذا البحث مجال آخر.

٢ ـ ويلاحظ أيضا : أنه حين دعا الحسين «عليه السلام» بحلف الفضول قد استجاب له حتى أعداؤه ، كابن الزبير ، الذي لم يكن ليخفى على أحد كيف كان موقفه من الهاشميين أيام خلافته حتى لقد كان يريد أن يحرقهم بالنار في مكة ، لو لا وصول النجدة لهم من العراق.

كما أنه قد قرت عينه ـ على حد تعبير ابن عباس ـ حين توجه الحسين

__________________

(١) راجع : تهذيب تاريخ دمشق : ج ٤ ص ٢٣٠ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة : ج ٢ ص ٣١٤.

(٢) ترجمة الإمام الحسين «عليه السلام» من تاريخ دمشق (تحقيق المحمودي) : ص ١٩٧.

(٣) الأخبار الطوال : ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٢٤٢

«عليه السلام» إلى العراق.

أضف إلى ذلك : أنه قد قطع الصلاة على النبي «صلى الله عليه وآله» في خطبه ، ولما عوتب على ذلك ادعى : أن هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره «صلى الله عليه وآله» اشرأبت أعناقهم ، وأبغض الأشياء إليه ما يسرهم ، وفي رواية : إن له أهيل سوء إلخ (١).

نعم ، لقد استجاب للإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه حتى أعداؤه حين دعاهم بحلف الفضول ، ولكنهم لا يستجيبون لداعي الله والرسول الذي يأمرهم بقبول إمامة الحسنين «عليهما السلام» قاما أو قعدا ولا يدافعون عن إمامهم الذي خرج في طلب الأصلاح في أمة جده ، بل وينصبون العداء له ولأهل بيته عموما كما أشرنا إليه.

فما هو سر استجابتهم للنداء بحلف الفضول؟

ثم عدم استجابتهم للحسين ، حين دعاهم للجهاد ضد أعداء الدين ، فلم يخرج منهم أحد إلى كربلاء لمحاربة الظلم والطغيان ، والانحراف عن الدين والحق؟!.

مع أن القضية الأولى وإن كانت تمثل مكافحة للظلم والتجبر ، إلا أنها في الحقيقة تنتهي إلى مسألة خاصة ، محدودة الزمان والمكان ، والأشخاص ، كما سوف تفسرها أبواق الدعاية الأموية المغرضة.

__________________

(١) راجع : العقد الفريد ج ٤ ص ٤١٣ ط دار الكتاب العربي ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٢٠ ص ١٢٧ وغير ذلك ، وأنساب الأشراف ج ٤ ص ٢٨ وقاموس الرجال ج ٥ ص ٤٥٢ ، ومقاتل الطالبيين ص ٤٧٤.

٢٤٣

أما في قضية كربلاء ، فقد كان واضحا لدى كل أحد حقيقة أهداف الثورة ، وقد أوضحها الإمام الحسين «عليه السلام» أكثر من مرة ، ولم يبق مجالا للشك في أنها ذات أهداف إسلامية جامعة ، بعيدة كل البعد عن المكاسب الشخصية والنفعية المحدودة.

فلماذا السكوت؟ وربما السرور من بعضهم بالمصير الذي لاقاه الإمام الحسين «عليه السلام» هنا؟

ثم هم يهبون لنصرته ، والقيام دونه ، أو على الأقل يظهرون استعدادهم لذلك هناك؟! مع أن الأهداف إن لم تكن في المآل واحدة ؛ فإنها في قضية كربلاء أهم وأكثر مساسا بهم وبدينهم وكرامتهم .. فهل كانوا يهدفون إلى إضعاف عدوهم الأقوى أولا؟!

أم أنهم أمنوا معاوية ، وخافوا يزيد الخمور؟ ربما يكون ذلك ، وربما لأن حلف الفضول كان جاهليا ، وهم إلى الجاهلية في حقها وفي باطلها أقرب منهم إلى الإسلام ، حتى حينما تكون القضية مصيرية ، وحتى ولو كانت مصيرية بالنسبة للأمة بأسرها ، وبالنسبة للدين نفسه.

ولو أنهم التفتوا إلى أن حلف الفضول قد أمضاه الإسلام ، وصار إسلاميا فلربما يكون لهم حينئذ موقف آخر ، إن ذلك لعجيب حقا! وأي عجيب!!.

٣ ـ إن موقف الحسين هذا ، وكذلك إمضاء النبي «صلى الله عليه وآله» لهذا الحلف في كلامه المتقدم ، ليدل على أن الإسلام قد أمضى هذا الحلف ؛ لأنه قائم على أساس الحق والعدل والخير ، وهل الإسلام إلا ذلك؟ إنه يمضيه مع أن الذين قاموا به كانوا وقتها على الشرك والكفر ، ولكنه يهدم

٢٤٤

مسجد الضرار ، مع أن الذين بنوه كانوا يتظاهرون بالإسلام ، ويتعاملون على أساسه ، بحسب الظاهر.

وهذا ما يؤكد واقعية الإسلام ، وأنه إنما ينظر إلى عمل يدي الصياد لا إلى دموع عينيه ، وأنه لا يغتر بالمظاهر ، ولا تخدعه الشعارات مهما كانت براقة ، إذا كانت تخفي وراءها الوصولية ، والخيانة والتآمر ، فالحق حق ، ومقبول ، ولا بد من الالتزام به ، والتعامل على أساسه ، ولو صدر من مشرك ، والباطل باطل ومرفوض ، ولا يجوز الالتزام به ، ولا التعامل على أساسه ، مهما كانت الشعارات براقة ومغرية.

ولهذا نفسه نجد أمير المؤمنين أيضا يرفض خدعة رفع المصاحف على الرماح في صفين ويحذر منها ، ولقد كان هو المصيب في رفضه ، وغيره ممن كان يتظاهر بالتقى والعبادة كان هو المخطئ.

وفقنا الله للسير على هدى أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ، وتأثر خطاه ، والعمل بمنهاجه ، الذي هو نهج الإيمان والإسلام ، إنه ولي قدير.

٤ ـ إن اهتمام النبي «صلى الله عليه وآله» ، والأئمة «عليهم السلام» بحلف الفضول إنما يدل على أن الإسلام ليس منغلقا على نفسه ، وإنما هو يستجيب لكل عمل إيجابي فيه خير الإنسان ، ويشارك فيه على أعلى المستويات ، انطلاقا من الشعور بالمسؤولية ، وانسجاما مع أهدافه العليا ، ومع المقتضيات الفطرية ، وأحكام العقل السليم.

٥ ـ أما استجابة الذين استجابوا للزبير بن عبد المطلب حينما دعا لعقد هذا الحلف ، فلعل لهم دوافع مختلفة باختلاف الأشخاص ، والبيوتات ، والقبائل ، ونذكر من هذه الدوافع :

٢٤٥

ألف : الدافع الفطري الإنساني ؛ لأن هذا هو ما تحكم به الفطرة ، والعقل السليم ، ثم هو ينسجم مع الشعور الإنساني ، والأخلاقي.

ب : الدافع المصلحي ، وذلك لأن عدم الأمن في مكة لسوف يقلل من رغبة التجار في الوفود عليها ، والتعامل مع أهلها.

ج : وثمة دوافع أخرى ربما تكون لدى بعضهم ، كالحفاظ على قدسية مكة وأهلها في نفوس العرب ؛ وغير ذلك ، وقد تقدم في الفصل الأول ما يفيد هنا ؛ فراجع إن شئت.

تاريخ ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام :

أما عن تاريخ ولادة أمير المؤمنين «عليه السلام» ففيه اثنا عشر قولا على وجه التقريب ، تبدأ من سبع ، حتى ست عشرة سنة قبل البعثة ، وقال آخرون : ولد قبل البعثة بعشرين ، وغيرهم بثلاث وعشرين سنة (١).

__________________

(١) راجع الأقوال المذكورة كلا أو بعضا في الكتب التالية : المصنف لعبد الرزاق ج ٥ والعقد الفريد ج ٤ ص ٣١١ ، وأنساب الأشراف ، ومقاتل الطالبيين ص ٢٦ ، والأنس الجليل ج ١ ص ١٧٨ ، والتهذيب ج ٧ ص ٣٣٦ ، والأوائل ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٧٩ عن شواهد النبوة ، وطبقات ابن سعد ط ليدن ج ٣ ص ١٣ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٥١ ، وحياة الحيوان ج ١ ص ٥٤ ، والبحار ، وينابيع المودة ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٣٤ ، وذخائر العقبى ص ٥٨ ، والاستيعاب ، وسنن البيهقي ج ٦ ص ٢٠٦ ، ونزهة المجالس ، ومناقب الخوارزمي وأسد الغابة ج ٤ ص ١٦ ـ ١٨ ، والبداية والنهاية ، ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٢ ، وفتح الباري ج ٧ ص ٥٧ ، وإحقاق الحق ج ٧ ص ٥٣٨ ـ ٥٥٤ ، والقول بالعشر موجود في : الفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٢ والاستيعاب ج ٣ ص ٣٠ ط صادر ، وطبقات ابن سعد ط مصر ج ٣ ص ٢١ ،

٢٤٦

ويمكن أن تقل الأقوال عن ذلك ، إذا قلنا :

إنه لا منافاة بين القول : بأنه ولد قبل البعثة باثني عشرة سنة ، وبين القول بأنه ولد قبلها بخمس عشرة سنة ، إذا كان القائل بالثاني لا يسقط السنوات الثلاث الأولى من بعثته «صلى الله عليه وآله» من الحساب ، لأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يجهر فيها بالدعوة.

ولعل اختلافهم في مدة نبوته «صلى الله عليه وآله» في مكة على قولين : عشر سنوات ، وثلاث عشرة سنة سببه ذلك أيضا.

بل نجد البعض يقول : إن سرّية الدعوة قد استمرت خمس سنوات ، فيمكن بملاحظة هذا وما تقدم في سائر الأقوال : أن تقل الأقوال عن ذلك

__________________

وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٦٢ ، والكافي ج ١ ص ٣٧٦ ، وإرشاد المفيد ص ٩ ، وإعلام الورى ص ١٥٣ ، ومناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٧٨ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٨٦ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١١ ، وتلخيصه بهامشه للذهبي ، ومناقب الخوارزمي ص ١٧ ، وتاريخ الخلفاء ص ١٦٦ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦ ، وذخائر العقبى ، وأنساب الأشراف ، وملحقات إحقاق الحق ج ٧ عن بعض من تقدم.

وللقول بالاثني عشر راجع : البحار ج ٣٥ ص ٧ وإحقاق الحق ج ٧ ص ٥٤٩ ، عن نهاية الإرب ج ٨ ص ١٨١ والاستيعاب ج ٣ ص ٣٠.

ونقلت كثير من الأقوال عن المصادر التالية : إكمال الرجال ص ٦٨٧ والروضة الندية ص ١٣ ، وإحكام الأحكام ج ١ ص ١٩٠ ، وأنباه الرواة في أنباء النحاة ج ١ ص ١١ ، ونهاية الارب ج ٨ ص ١٨١ ، والمختصر في أخبار البشر ج ١ ص ١١٥ ، ونظم درر السمطين ص ٨١ و ٨٢ ، والرياض النضرة ج ٢ ص ١٥٦ والغرة المنيفة ص ١٧٦ وشرح المواهب للزرقاني ج ١ ص ٢٤٢ ، والطبقات المالكية ج ٢ ص ٧١ ، والمصباح الكبير ج ٥٦٠.

٢٤٧

كثيرا ، ولكن هذا على أي حال يبقى مجرد احتمال.

وعلى كل حال ، فإن القول بالاثني عشرة ، وإن كان مرويا عن أهل البيت ، إلا أن القول الآخر ، وهو أن ولادته كانت قبل البعثة بعشر سنوات مروي أيضا ، وهو المشهور عند علمائنا ، وعند غيرهم ، كما يظهر من ملاحظة المصادر المتقدمة.

ولذا نقول : إن هذا القول المعتضد بالشهرة هو الأولى بالاعتماد والاعتبار ، لا سيما وأنه مروي عن أهل البيت الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه.

وأما محاولات البعض الاستفادة من ذلك ، واستنتاج نتيجة معينة لتأكيد فكرة معينة ، من قبيل ادعاء أن عليا هو أول من أسلم من الصبيان ؛ ليكون أبو بكر أول من أسلم من الرجال ، فسيأتي عند الحديث عن إسلام أمير المؤمنين «عليه السلام» : أن هذا لا يمكن أن يصح بأي وجه.

أول هاشمي ولد من هاشميين :

لقد ولد أمير المؤمنين «عليه السلام» وهو الشخصية الأولى بعد الرسول ، والذي تربى في حجر الوحي ، وارتضع لبان النبوة من أبوين قرشيين هاشميين ، هما : أبو طالب ، شيخ الأبطح ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

وقال الكليني وغيره : (وهو أول هاشمي ولده هاشم مرتين) وقريب منه غيره (١).

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٧٦ ، ونسب قريش لمصعب الزبيري ص ١٧ ، والتهذيب للشيخ ج ٦ ص ١٩ والبحار ج ٣٥ ص ٥ عنه وعن الكافي ، وأسد الغابة ج ٤ ص ١٦ وج ٥ ص ٥١٧ والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٣.

٢٤٨

وعلق المجلسي : بأن أخوته طالبا ، وعقيلا ، وجعفر قد ولدوا قبله من هذين الهاشميين ، وقول التهذيب وغيره : (في الإسلام) لا يصحح ذلك ؛ إذ لو كان مرادهم أنه ولد بعد البعثة فهو لا يصح ، للاتفاق على أنه قد ولد قبلها.

ولو كان المراد : أنه الوحيد الذي ولد بعد ولادة الرسول ، فهو كذلك لا يصح ، لأن أكثر إخوته قد ولدوا بعد ولادة النبي «صلى الله عليه وآله» ، مع أنه اصطلاح غريب غير معهود (١).

والصحيح : أن يقال كما قال المعتزلي ، والشهيد ، وغيرهما : «وأمه أول هاشمية ولدت لهاشمي» (٢).

ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام في الكعبة :

لقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قد ولد في جوف الكعبة أعزها الله ، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب ، وأن هذه فضيلة اختصه الله بها ، لم تكن لأحد قبله ، ولا بعده ، وقد صرح بذلك عدد كبير من العلماء ، ورواة الأثر ، ونظمها الشعراء والأدباء ، وذلك مستفيض عند شيعة أهل البيت «عليهم السلام» ، كما أنه كذلك في كتب غيرهم ، حتى لقد قال الحاكم وغيره :

__________________

(١) راجع : البحار ج ٣٥ ص ٦.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ٦ عن الدروس للشهيد ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٣ وج ١٥ ص ٢٧٨ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٧١ ، ونسب قريش لمصعب ص ٤٠ ، ونزهة المجالس ج ٢ ص ١٦٥ ، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم مخطوط في مكتبة طوپ قپوسراي رقم ١ ـ ٤٩٧ أالورقة ١٩ وذخائر العقبى ص ٥٥ والمعارف لابن قتيبة ص ٨٨.

٢٤٩

«تواترت الأخبار : أن فاطمة بنت أسد ، ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة ..».

وصرح بأنه لم يولد فيها أحد سواه عدد من العلماء والمؤرخين (١).

ويقول السيد الحميري ، المتوفى في سنة ١٧٣ ه‍ :

ولدته في حرم الإله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

__________________

(١) راجع مستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٨٣ ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة ، ونور الأبصار ص ٧٦ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٢ ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٤٠٦ و ٤٠٧ ومناقب الإمام أمير المؤمنين لابن المغازلي ص ٧ وذكر ولادته فيها أيضا : أسد الغابة ج ٤ ص ٣١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٩ ونزهة المجالس ج ٢ ص ٢٠٤. وتذكرة الخواص ص ١٠ ونقله صاحب الغدير ج ٦ ص ٢٢ ـ ٣٨ عن عشرات المصادر مثل : إزالة الخفاء للدهلوي ، والآلوسي في شرح الخريدة الغيبية ، ص ١٥ ومروج الذهب ج ٢ ص ٢ وشرح الشفا ج ١ ص ١٥١ ، والمناقب لمحمد صالح الترمذي ، وآئينه تصوّف ص ١٣١١ وروائح المصطفى ص ١٠ وكتاب الحسين للسيد علي جلال الدين ج ١ ص ١٦ ، ونقله أيضا عن عشرات المؤلفات للإمامية فليراجع. وحياة أمير المؤمنين لمحمد صادق الصدر ص ٣٠ عن غاية الاختصار ص ٩٧ وعن مصادر أخرى ، وليراجع إحقاق الحق بتعليقات السيد النجفي ج ٧ ص ٤٨٦ ـ ٤٩٠ عن أرجح المطالب ص ٣٨٨ ، ومحاضرة الأوائل ص ٧٩ ، والبلخي في كتابه على ما في تلخيصه ص ١١ طبع بمبئى ، وعن مطالب السؤل لابن طلحة ص ١١ ، وفضائل أمير المؤمنين للقفال الشافعي ، مخطوط ، ومفتاح النجا ص ٢٠ مخطوط وإعلام الورى ص ٩٣ ، ونقل أيضا عن الاستيعاب وشواهد النبوة وكنوز الحقائق ، واستقصاء مصادر هذه القضية متعذر وما ذكرناه كاف لمن ألقى السمع وهو شهيد.

٢٥٠

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها

وبدا مع القمر المنير الأسعد

ما لف في خرق القوابل مثله

إلا ابن آمنة النبي محمد

ويقول عبد الباقي العمري :

أنت العلي الذى فوق العلى رفعا

ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

ولكن نفوس شانئي علي «عليه السلام» قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه الله بها ، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء والمؤرخين ، ورواة الحديث والأثر ، والضرب بها عرض الجدار ، حيث نجدهم ـ وبكل جرأة ولا مبالاة ـ يثبتون ذلك لرجل آخر غير علي «عليه السلام» ، بل ويحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضا ، حتى لقد قال في كتاب النور :

«حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة ، ولا يعرف ذلك لغيره ، وأما ما روي من أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء» (١).

وقال المعتزلي : «كثير من الشيعة يزعمون : أنه ولد في الكعبة ، والمحدّثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون : أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام» (٢).

ثم حاول الحلبي والديار بكري الجمع والصلح بين الفريقين ، باحتمال

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٩ ، وذكر ولادته فيها في أسد الغابة ج ٢ ص ٤٠ والإصابة ج ١ ص ٣٤٩ والاستيعاب هامش الإصابة ج ١ ص ٣٢٠.

(٢) شرح النهج ج ١ ص ١٤.

٢٥١

ولادة كليهما فيها (١).

ولكن كيف يصح هذا الجمع ، ونحن نجد عددا ممن قدمنا أسماءهم ، وغيرهم ممن ذكرهم العلامة الأميني في كتاب الغدير ، وغيره ، يصرون على أنه لم يولد في جوف الكعبة سوى علي ، لا قبله ولا بعده؟! وأن تلك فضيلة اختصه الله بها دون غيره من العالمين؟!

وكيف يقبل ذلك الجمع ، ونحن نجد الحاكم يصرح بتواتر الأخبار في ولادة أمير المؤمنين «عليه السلام» في جوف الكعبة؟!.

فهل الحاكم بنظر المعتزلي جاهل بالحديث؟!

ومن أين لحديث ولادة حكيم بن حزام حتى خصوصية صحة سنده ، فضلا عن أن يكون متواترا ومقطوعا به؟!.

لماذا حكيم بن حزام؟!

وإنما أثبتت هذه الفضيلة لحكيم بن حزام ؛ لأنه كان للزبيريين فيه هوى ، فإنه ابن عم الزبير ، وابن عم أولاده ؛ فهو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ، والزبيريون ينتهون أيضا إلى أسد بن عبد العزى.

ولم يسلم حكيم إلا عام الفتح ، وهو من المؤلفة قلوبهم (٢) ، وكان يحتكر الطعام على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٧٩ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٩.

(٢) الإصابة ج ١ ص ٣٤٩ ، والاستيعاب ج ١ ص ٣٢٠ هامش الإصابة.

(٣) وسائل الشيعة كتاب التجارة ص ٣١٦.

٢٥٢

وعن المامقاني : نقل الطبري : أنه كان عثمانيا متصلبا تلكأ عن علي (١) ، ولم يشهد شيئا من حروبه (٢).

وإذن فمن الطبيعي أن يروي الزبير بن بكار ، ومصعب بن عبد الله ، (٣) وهما لا شك في كونهما زبيريي الهوى :

أنه لم يولد في جوف الكعبة سواه ، وذلك على خلاف جميع الأخبار المتواترة ، ومخالفة لكل من نص على أنه لم يولد فيها سوى أمير المؤمنين «عليه السلام» لا قبله ولا بعده؟!.

سر ولادة علي عليه السلام في الكعبة :

إننا قبل أن ندخل في الإجابة على السؤال المذكور ، نحب التذكير بأن بين النبوة والإمامة ، والنبي والإمام فرقا ، فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من يؤمن بذلك وينكر ، ومن يتيقن ويشك ، ومن يحب ويبغض ..

فأما بالنسبة للنبوة والنبي «صلى الله عليه وآله» ، فإن أدنى شك أو شبهة بها ، وكذلك أدنى ريب في الرسول «صلى الله عليه وآله» يوجب الكفر ، كما أن بغض الرسول «صلى الله عليه وآله» بأي مرتبة كان ، يخرج الإنسان من الإسلام واقعا ، وتلحقه وتترتب عليه أحكام الكفر ، في مرحلة الظاهر أيضا ، فيحكم عليه بالنجاسة ، وبأنه لا يرث من المسلم وغير ذلك ..

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٣٨٧ عن تنقيح المقال.

(٢) قاموس الرجال ج ٣ ص ٣٨٧.

(٣) راجع : الإصابة ج ١ ص ٣٤٩ ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٨٣.

٢٥٣

وأما الإمامة والإمام «عليه السلام» ، فإن الحكمة والرحمة الإلهية ، وحب الله تعالى للناس ، ورفقه بهم ، قد اقتضى :

أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة ، أو شك فيها ، أو في الإمام «عليه السلام» ، أو قصر في حبه .. ولكن بشرطين :

أحدهما : أن يكون ذلك الإنكار ، أو الشك ، أو التقصير ناشئا عن شبهة ، إذ مع عدم الشبهة في ثبوت النص أو في دلالته ، يكون المنكر أو الشاك مكذبا لرسول الله صلى الله عليه وآله ، رادا على الله سبحانه ، ومن كان كذلك فهو كافر جزما ..

الثاني : أن لا يكون معلنا ببغض الإمام ، ناصبا العداء له ، لأن الناصب حكمه حكم الكافر أيضا ..

النبي صلّى الله عليه وآله لا يقتل أحدا ؛ لماذا؟

وبعد ما تقدم نقول :

إذا كان قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد وتضحيات ، ثم إذا كان في الجهاد قتل ويتم ، ومصائب ومصاعب.

ولم يكن يمكن لرسول الله أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك ، وقتل فراعنته وصناديده .. لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه ، وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم ، ومن يرون أنفسهم في موقع المهزوم بغضا له ، وحنقا عليه ..

وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام ، وسيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم ، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك أيضا ..

٢٥٤

فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى الله عليه وآله» ، الذي يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، ألا وهو أمير المؤمنين «عليه السلام» ..

واقتضت هذه الرحمة أيضا رفع بعض الأحكام الظاهرية ـ دون الواقعية ـ المرتبطة بحبه وبغضه ، وبأمر إمامته «عليه السلام» ، تسهيلا من الله على الناس ، ورفقا بهم ـ رفعها عن منكر إمامته «عليه السلام» ، وعن المقصر في حبه ، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما :

وجود الشبهة وعدم النصب ، لأنه مع عدم الشبهة ومع نصب العداء للإمام «عليه السلام» يكون من قبيل تعمد تكذيب الرسول «صلى الله عليه وآله» ، والتمرد والرد على الله سبحانه ، كما قلنا ..

معالجة قضايا الروح والنفس :

وفي سياق آخر نقول أيضا :

إن معالجة قضايا الحب والبغض ، والرضا والغضب ، والإنفعالات النفسية ، تحتاج إلى اتصال بالروح ، وبالوجدان ، وإلى إيقاظ الضمير ، وإثارة العاطفة ، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين ، وترسيخ اليقين بحقائقه ..

وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية ، في معالجة الأحقاد التي علم الله سبحانه أنها سوف تنشأ ، وقد نشأت بالفعل كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه السلام» ، في سبيل هذا الدين ..

ونحن نعتقد : أن قضية ولادة الإمام علي «عليه السلام» في جوف الكعبة ، واحدة من مفردات هذه السياسة الربانية ، الحكيمة ، والرائعة ..

٢٥٥

ولادة علي عليه السّلام في الكعبة صنع الله :

ويمكن توضيح ذلك بأن نقول :

إن ولادته «عليه السلام» ، في الكعبة المشرفة ، إنما هي أمر صنعه الله تعالى له ، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة ، وسببا من أسباب هدايتها .. وليست أمرا صنعه الإمام علي «عليه السلام» لنفسه ، ولا هي مما سعى إليه الآخرون ، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به ، أو التأييد لمفهوم اعتقادي ، أو لواقع سياسي ، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه ، في صراع ديني ، أو اجتماعي ، أو غيره ..

ويلاحظ : أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه السلام» حين دخلت ، وحين خرجت ، بعد أن وضعته في جوف الكعبة ، وقد جرى هذا الصنع الإلهي له حيث كان «عليه السلام» لا يزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد .. ليدل دلالة واضحة على اصطفائه له ، وعلى عنايته به ..

وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر ، وليكون الإنسان في إمامته أبصر ..

ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذي سوف تترك لمسات ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في المستكبرين والطغاة من إخوانهم ، وآبائهم ، وعشائرهم ، أو من لهم بهم أية صلة أو رابطة ..

الرصيد الوجداني آثار وسمات :

إن هذا الرصيد الوجداني الذي هيأ الله لهم أن يختزنوه في قلوبهم وعقولهم من خلال النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضله وإمامته ،

٢٥٦

ثم يأتي الواقع العلمي ليعطيها المزيد من الرسوخ والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم ، ومعرفتهم بتلك الألطاف الإلهية به «عليه السلام» ، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك ، وبأنه من صفوة خلق الله ومن عباده المخلصين ، سيجعلهم يدركون :

أنه «عليه السلام» ، لا يريد بما بذله من جهد وجهاد في مسيرة الإسلام ، إلا رضا الله سبحانه ، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية ، على حالة السلامة ، وفي خط الاعتدال .. لأنها مسيرة سيكون جميع الناس ـ بدون استثناء ـ عناصر فاعلة ومؤثرة فيها ، ومتأثرة بها ..

وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له «عليه السلام» ، أو المؤلب عليه ، أمام صراع مع النفس ومع الوجدان ، ومع الضمير ، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون الله ورسوله .. ويسعون في هدم ما شيده للدين من أركان ، وما أقامه من أجل سعادتهم ، وسلامة حياتهم ، من بنيان ..

ولادة علي عليه السّلام في الكعبة لطف بالأمة :

فولادة الإمام علي «عليه السلام» في الكعبة المشرفة ، هي لطف بالأمة بأسرها ، حتى أولئك الذين وترهم الإسلام منها ، وسبيل هداية لهم ولها ، وهو سبب انضباط وجداني ، ومعدن خير وصلاح ، ينتج الإيمان ، والعمل الصالح ، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان عن الامعان في الطغيان ، والعدوان ، وعن الانسياق وراء الأهواء ، والعواطف ، من دون تأمل وتدبر ..

وغني عن البيان ، أن مقام الإمام علي «عليه السلام» وفضله ، أعظم وأجل من أن تكون ولادته «عليه السلام» في الكعبة سببا أو منشأ لإعطاء

٢٥٧

المقام والشرف له .. بل الكعبة هي التي تتشرف به وتعتز ، وتزيد قداستها ، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه ..

وأما رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فإن معجزته الظاهرة ـ التي تهدي الناس إلى الله تعالى ، وصفاته ، وإلى النبوة والنبي ، وتدلهم عليه ، وتؤكد صدقه ، ولزوم الإيمان به ، وتأخذ بيدهم إلى الإيمان باليوم الآخر ـ.

إن هذه المعجزة هي هذا القرآن العظيم ، الذي يهدي إلى الرشد من أراده ، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول أولا ، من باب الاستدلال ، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق .. من دون تأثر بالعاطفة ، وبعيدا عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى مهما كانت ..

إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر ، وحق وباطل ، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء والنقاء ، وتفريغ القلب من أي داع آخر ، قد يكون سببا في التساهل في رصد الحقيقة ، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها ، والوصول إليها ..

فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة سببا في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق ، وفي تحديد حدوده ، وتلمّس دقائقه ، وحقائقه والتبيّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس ..

ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله ما يدعوهم إلى تقديسه كشخص ، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه لا بد لهم من الخضوع والبخوع له ، وتمجيد مقامه ، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل ، ولا الطريقة الفضلى في سياسة الهداية إلى الأمور الإعتقادية ، التي هي أساس الدين ، والتي تحتاج إلى تفريغ النفس وإعطاء الدور ، كل الدور ،

٢٥٨

للدليل وللبرهان ، وللآيات والبينات ، وإلى أن يكون التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة ، وبوعي كامل ، وتأمل عميق ، وملاحظة دقيقة ..

وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى ، خصوصا تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة ، فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة ، رائعة في دلالاتها وبياناتها ، التي تضع العقل والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه إلا بتعطيل دورهما ، وإسقاط سلطانهما ، لمصلحة سلطان الهوى ، ونزوات الشهوات ، والغرائز ..

وهذا الذي قلناه لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات والآيات الدالة على الرسولية ، وعلى النبوة ، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق ، وتوصله إليه .. وتضع يده عليه .. وليست هي فوق العقل ، ولا هي من موجبات تعطيله ، أو إضعافه.

تجديد بناء الكعبة أعزها الله تعالى :

ويقولون : إن الكعبة قد جاءها سيل جارف تجاوز الردم الذي كان قد وضع ليمنع من مثل ذلك ؛ فدخلها ، وصدع جدرانها.

ويقال أيضا : إنها كانت قد احترقت حينما أرادت إحدى النساء تبخيرها فطارت شرارة إلى ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها (١) ، ثم جاء السيل بعد ذلك فزاد في تصدعها حتى خاف الناس عليها.

ويرى البعض : أن هذا الحريق كان في زمان ابن الزبير.

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ج ٥ ص ٣١٩ ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٣٠٠ كلاهما عن الزهري.

٢٥٩

ورفع الحلبي التنافي باحتمال حصول الحريق مرتين (١).

ونحن نقول : إنه يبدو أن دعوى احتراقها على هذا النحو الاتفاقي ، إنما صيغت للتخفيف من الامتعاض الناشئ من جرأة الأمويين على بيت الله الحرام ، حيث إنها قد تصدعت حينما ضربت بالمنجنيق وبالنار من قبلهم ، وتركها ابن الزبير ليراها الناس محترقة ، يحرضهم على أهل الشام (٢).

ومهما يكن من أمر : فقد اتفقت قريش قبل بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» على هدمها ، وإعادة بنائها ، وأن يرفع بابها ، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا ، وأعدوا لذلك نفقة طيبة ، ليس فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة مما أخذوه غصبا ، أو قطعوا فيه رحما ، أو انتهكوا فيه حرمة ، أو ذمة (٣).

وبدأت كل قبيلة تجمع الحجارة على حدة ، ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد شارك في جمع الحجارة ، وكان أول من جرأهم على هدمها هو الوليد بن المغيرة.

وتجزأت قريش الهدم والبناء ، لكل قبيلة شق ، وجهة معينة ، وقد

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٤١.

(٢) صحيح مسلم هامش القسطلاني ج ٦ ص ١٨ ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ١٢٤ ط صادر وذكر في الكامل عن البخاري قولا آخر ، وهو أنها احترقت في زمن ابن الزبير ، بسبب نار أوقدها أصحابه حولها ، وأقول : الظاهر أن الأمويين أرادوا رد التهمة في جنايتهم على ابن الزبير وأصحابه.

(٣) سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٠٦ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٣٠١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٤١.

٢٦٠