الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

نسي جده يا ترى؟. وإذا كان قد نسي حقا ، فلماذا لا يسأل أباه وهو أفصح العرب ، وأعلم الأمة ، الذي رباه النبي «صلى الله عليه وآله» في حجره ، وكان يعرف عنه كل شيء مما دق وجلّ؟

أم يعقل أن يكون هند مطلعا على أحوال النبي «صلى الله عليه وآله» أكثر من علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام؟!.

على أننا لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص ـ حتى المكذوب منها ـ ما يشير إلى أن هندا كان يعيش مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، أو بالقرب منه ، أو أنه كان يحضر مجالسه ، أو نحو ذلك ، رغم أننا نسمع الكثير عن غيره ممن كانوا يأتون إلى مجلس النبي «صلى الله عليه وآله» بين حين وآخر.

رابعا : لا ندري لماذا كتم الحسن «عليه السلام» أخاه هذا الأمر ، مع أننا لا نعرف عنه أنه كان يستأثر لنفسه على أخيه في أمور كهذه.

خامسا : إن ما تقدم كله يدفع هذا الحديث ويلقي عليه ظلالا من الريبة والشك.

وسادسا : لا ندري من هو ابن أبي هالة الراوي عن الإمام الحسن «عليه السلام» ؛ فهل هو من أبناء خديجة أيضا؟! فإن كان الجواب بالإيجاب ، فلماذا لم يحدثنا عنه التاريخ؟

وإن كان هو ابن لأبي هالة من امرأة أخرى غير خديجة ، فهذا ما لم يذكره التاريخ لنا أيضا ، ولا أشارت إليه كتب الأنساب ، ولا ذكر في عداد الرواة ، ولا في كتب الرجال!!

٢٢١
٢٢٢

الفصل الثالث :

حتى البعثة

٢٢٣
٢٢٤

حضور النبي صلّى الله عليه وآله حرب الفجار :

ويذكر المؤرخون : أن حربا قد هاجت بين قيس من جهة ، وقريش وكنانة من جهة أخرى ، في الأشهر الحرم ـ وهي أشهر الحج ، ورجب معها ـ ولذلك سميت حرب الفجار.

ويقال : إنه «صلى الله عليه وآله» قد حضر بعض أيامها ، وشارك فيها فعلا ، بنحو من المشاركة.

ولكننا بدورنا لا نستطيع أن نؤكد صحة ذلك ، بل ونشك كثيرا فيه وذلك لأمور :

الأول : لقد وقعت حرب الفجار في الأشهر الحرم ، في رجب ، ولا نرى مبررا لأن ينتهك أبو طالب ومعه الرسول «صلى الله عليه وآله» حرمة الأشهر الحرم ، كما يظهر لمن راجع سيرتهما وحياتهما ، ومدى تقيدهما بمثل هذه الأمور ؛ فإنهما كانا مسلمين (١) ، بل لقد كان أبو طالب مستودعا للوصايا (٢) ، كما ورد في بعض الأخبار في الكافي ، بالإضافة إلى نصوص

__________________

(١) راجع : البحار : ج ١٥ ص ١١٧ ، وستأتي مصادر أخرى في فصل : بحوث تسبق السيرة ، حين الكلام حول إيمان آباء النبي «صلى الله عليه وآله».

(٢) الغدير : ج ٧ ص ٣٩٤ ، والكافي : ج ١ ص ٤٤٥ ، والدر المنثور للعاملي : ج ١ ص ٤٩.

٢٢٥

أخرى تدل على عظمته وثبات قدمه في الدين ، فراجع ما ذكر في الغدير ، وغيره من الكتب المعدة للحديث عن أبي طالب «عليه السلام».

إلا إذا وجّهت المشاركة : بأن حرب الفجار قد وقعت في أشهر النسيء ، أو في شعبان أو شوال ، وكان سببها في الأشهر الحرم (١).

ولكنه توجيه لا يعتمد على أي سند تاريخي ؛ فلا مجال للتعويل عليه.

بالإضافة إلى ما سيأتي ..

الثاني : قال ابن واضح المعروف باليعقوبي :

«وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها (أي في حرب الفجار) أحد من بني هاشم ، وقال : هذا ظلم ، وعدوان ، وقطيعة رحم ، واستحلال للشهر الحرام ، ولا أحضره ، ولا أحد من أهلي ؛ فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها ، وقال عبد الله بن جدعان التيمي ، وحرب بن أمية :

لا نحضر أمرا تغيب عنه بنو هاشم» (٢).

الثالث : إختلاف الروايات حول الدور الذي أداه النبي «صلى الله عليه وآله» في هذه الحرب ؛ فبعضهم يروي :

أن عمله «صلى الله عليه وآله» قد اقتصر على مناولة أعمامه النبل ، وردّ

__________________

(١) راجع السيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٨ ، فإنه قد ذكر أن سبب الفجار قد كان في الأشهر الحرم أما نفس الحرب فكانت في شعبان ، وأقول : ولكن ما معنى تسميتها حينئذ بحرب الفجار؟ .. هذا بالإضافة إلى تصريح اليعقوبي في تاريخه بأن حرب الفجار كانت في رجب فراجع.

(٢) تاريخ اليعقوبي ط صادر ج ٢ ص ١٥.

٢٢٦

نبل عدوهم عليهم ، وحفظ متاعهم (١).

وآخر يروي : أنه قد رمى فيها برميات ، ما يحب أنه لم يكن قد رماها (٢).

وثالث يروي : أنه طعن أبا براء ملاعب الأسنة فصرعه (٣) مع أنهم يقولون : إن عمره حينئذ كان أربع عشرة سنة! (٤) ، أو أنه كان حينئذ غلاما (٥).

ولا ندري إن كانت العرب تسمح للغلام بخوض المعارك والحروب ، أو لا ، ولا سيما بالنسبة إلى محمد «صلى الله عليه وآله» ، الولد المتميز والعزيز جدا على عمه أبي طالب.

بل نجد البعض يناقض نفسه ، فيقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد ولد عام الفيل ، وأنه حضر الفجار وعمره أربع عشرة سنة ، ثم يقول في آخر كلامه : إن حرب الفجار كانت بعد عام الفيل بعشرين سنة (٦).

ونشير إلى تناقض آخر هنا ، وهو : أن الكلام الذي نقلناه في الأمر الثاني ، عن اليعقوبي ينص على أن حرب بن أمية قد تغيب عن هذه الحرب ، بينما نجد الروايات الأخرى تنص على أنه كان قد حضرها ، وكان هو قائد قريش وكنانة.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ١ ص ١٩٨ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٥٩.

(٢) السيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٧.

(٣) المصدران المتقدمان.

(٤) المصادر الأربعة المتقدمة إلا أن صفحة ابن هشام هي ١٩٥.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦ ط صادر.

(٦) تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٥٩ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ١٩٥ و ١٩٨.

٢٢٧

سر التلاعب في الروايات هنا :

وقد لفت نظرنا : هذا التناقض الأخير ، إذ لو كان الاختلاف في رجل عادي من سائر أفراد الجيش.

هذا يقول : حضر ، وذاك يقول : لم يحضر ؛ لكان يمكن أن تلتمس بعض المبررات لاختلاف كهذا!! وأنه ربما يقال لا تعمد في المقام!!.

ولكن إذا كان هذا يقول : كان فلان على رأس الجيش ، وذاك يقول : لم يحضر أصلا ؛ فلا يمكن إلا أن يكون ثمة تعمد للكذب في قضية كهذه.

ولعل الهدف هو إبعاد حرب بني أمية عن حرب فيها ظلم ، وعدوان ، وقطيعة رحم ، وفي الأشهر الحرم ، ولو بالمخالفة لكل المؤرخين ، لأن حرب بن أمية هو من تهتم الدولة برفعة شأنه ، وتنزيه مقامه ، ولو عن طريق الدجل والتزوير!!.

أما النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فقد تقدم أن الخطة الملعونة كانت تهدف إلى عكس ذلك ؛ ولذلك يلاحظ هنا : تعمد جعل النبي «صلى الله عليه وآله» حتى بعد نبوته يظهر على أنه منسجم مع مشاركته في حرب الفجار في الأشهر الحرم ، والتي فيها ظلم وعدوان ، وقطيعة رحم ، واستحلال للشهر الحرام ، حتى ليقول : إنه رمى فيها برميات ، ما يحب أنه لم يكن قد رماها!!.

حلف الفضول :

وبعد منصرف قريش من حرب الفجار دعا الزبير بن عبد المطلب (١)

__________________

(١) هو غير الزبير بن العوام ، الذي حارب أمير المؤمنين عليه السلام في وقعه الجمل ، وقتل وهو منهزم.

٢٢٨

إلى حلف الفضول ، وعقد الاجتماع في دار عبد الله بن جدعان ، وغمسوا أيديهم في ماء زمزم ، وتحالفوا وتعاقدوا على نصرة المظلوم ، والتأسي بالمعاش ، والنهي عن المنكر ، وكان أشرف حلف.

والمتحالفون على ذلك هم : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وبنو أسد بن عبد العزى ، وزهرة ، وتيم (١).

وأنكر البعض أن يكون بنو أسد بن عبد العزى في حلف الفضول (٢) ، وقالوا : إن عبد الله بن الزبير قد ادعى ذلك لهم في الإسلام (٣).

وقد حضر هذا الحلف نبينا الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وأثنى عليه بعد نبوته ، وأمضاه ؛ فقد روي أنه «صلى الله عليه وآله» قال : ما أحبّ أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ، ولو دعيت به لأجبت (٤) ، أو ما هو قريب من هذا.

__________________

(١) راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٤ ص ١٢٩ ، ونسب قريش لمصعب ص ٣٨٣ فإنه قد شرح كلا الحلفين : حلف الأحلاف ، لعقة الدم ، وحلف المطيبين ، وراجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٣ ، والأغاني : ج ١٦ ص ٦٦ و ٦٥.

(٢) الأغاني : ج ١٦ ص ٦٦.

(٣) الأغاني : ج ١٦ ص ٧٠.

(٤) أعيان الشيعة ج ٢ ص ١٣ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ١٤٢ ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٣ و ٢٩١ ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣١ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٣ والأغاني : ج ١٦ ص ٦٦ و ٦٧.

٢٢٩

سبب هذا الحلف :

وسبب هذا الحلف : أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه العاص بن وائل ؛ فحبس عنه حقه ؛ فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف ، الذين كانوا يسمون : لعقة الدم ، لأنهم حين تحالفوا غمسوا أيديهم بالدم على خلاف المطيبين المشار إليهم آنفا ، الذين هم أصحاب حلف الفضول أيضا.

والأحلاف هم : عبد الدار ، ومخزوم ، وجمح ، وسهم ، وعدي بن كعب.

فأبى الأحلاف معونة الزبيدي على العاص بن وائل ، وانتهروه ، وذلك لما كان يتمتع به العاص هذا من نفوذ ، وسيأتي أنه قد أنقذ عمر من براثن أهل مكة.

فلما رأى الزبيدي الشر ، صعد على أبي قبيس ، واستغاث ، فقام الزبير بن عبد المطلب ، ودعا إلى الحلف المذكور ؛ فعقد ؛ ثم مشوا إلى العاص ، وانتزعوا منه سلعة الزبيدي ؛ فدفعوها إليه (١).

بنو أمية وحلف الفضول :

وأما ما ذكره أبو هريرة من أن بني أمية قد كانوا في حلف الفضول ؛ فهو ما لم يتابعه عليه أحد ، وأنكره غير واحد من المؤرخين (٢).

وكذا قول البعض : إن أبا سفيان ، والعباس بن عبد المطلب ، هما اللذان

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩١ ، ٢٩٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٢ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٣.

(٢) البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣١ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٣ ، والسنن الكبرى للبيهقي.

٢٣٠

دعيا إلى هذا الحلف (١).

لكن رواية الأغاني ليست صريحة في العباس بن عبد المطلب ، فلعل المراد : العباس بن مرداس السلمي ، حيث إنه كان يتحدث عنه أولا ، ثم جاء بهذه الرواية بعده ..

ولكن يرد عليه : أن العباس بن مرداس لا شأن له في هذا الأمر ، وأما إرادة العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان فلا يمكن قبولها ، وذلك لأمور :

أولا : إن هذا الحلف إنما كان ضد الأمويين ، وكان سببه العاص بن وائل السهمي ، حليف الأمويين ، ووالد عمرو بن العاص ، فكيف يشارك أبو سفيان فيه ، فضلا عن أن يكون هو الداعي له؟!.

لا سيما وأنه قد تقدم : أن الأحلاف ومنهم بنو أمية قد طردوا الزبيدي حينما استجار بهم ، وتاريخ أبي سفيان وأخلاقياته لا تساعد على موقف كهذا منه.

أضف إلى ذلك : أن أبا سفيان والعباس لم يكونا مؤهلين من حيث السن والنفوذ والاعتبار للقيام بأمر كهذا ، كما أشير إليه في الهامش.

ثانيا : ورد أن محمد بن جبير بن مطعم ، قدم على عبد الملك ، حين قتل ابن الزبير ، فقال له عبد الملك :

يا أبا سعيد ، ألم نكن نحن وأنتم ـ يعني عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف ـ في حلف الفضول؟!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٣ ، وكان سن العباس حينئذ لا يساعد على دعوة كهذه لأن عمره حينئذ كان لا يزيد على ثمانية عشر عاما ، كما يفهم من تاريخ عقد حلف الفضول.

٢٣١

قال : أنت أعلم.

قال : لتخبرنّي يا أبا سعيد بالحق من ذلك.

فقال : لا والله ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ، قال : صدقت ، وزاد البعض «وهو المعتزلي في جواب ابن جبير : وما كانت يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والإسلام» (١).

ثالثا : كان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول : لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول ، وليس عبد شمس في حلف الفضول (٢).

ورابعا : مجموعة قضايا تدل على أن الأمويين ما كانوا في حلف الفضول ، وعلى أن الإسلام قد اعترف بهذا الحلف وأمضاه ، ونذكر منها :

ألف : إنه كان بين الحسين «عليه السلام» ، والوليد بن عتبة الأموي أمير المدينة من قبل عمه معاوية منازعة في مال متعلق بالحسين ، فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه ، فقال الحسين : أحلف بالله ، لتنصفني من حقي ، أو لآخذن سيفي ، ثم لأقومن في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ثم لأدعون بحلف الفضول.

فاستجاب للحسين جماعة ، منهم : عبد الله بن الزبير ، وهو من أسد بن

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ١ ص ١٤٣ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٢٦ عن الزبير بن بكار ، والأغاني : ج ١٦ ص ٦٨ و ٧٠ ، لكن في ص ٦٩ : أن ذلك قد كان بين معاوية وجبير بن مطعم.

(٢) الأغاني : ج ١٦ ص ٦٦ و ٧٠.

٢٣٢

عبد العزى ، والمسور بن مخرمة الزهري ، وعبد الرحمن بن عثمان التيمي ؛ فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من حقه حتى رضي (١).

ب : وحسب نص أبي هلال العسكري : «كان بين الحسين «عليه السلام» وبين معاوية كلام في أرض للحسين ، فقال الحسين لابن الزبير :

خيّره في ثلاثة ، والرابعة الصيلم (٢) : أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه ، أو يقر بحقي ، ثم يسألني أن أهبه له ، أو يشتريه مني ؛ فإن أبى ـ فو الذي نفسي بيده ـ لأهتفن بحلف الفضول إلخ» (٣).

ج : وعند أبي الفرج رواية جاء في آخرها : أنه حينما أظهر معاوية انزعاجه من عدم زيارة الإمام الحسن المجتبى «عليه السلام» له ، وهو في المدينة ، أغراه به ابن الزبير ، فلم يستجب له معاوية.

فقال له ابن الزبير : «أما والله إني وإياه ليد عليك بحلف الفضول ، فقال معاوية : من أنت؟! لا أعرض لك ، وحلف الفضول والله إما .. إلخ» (٤).

فهذه النصوص تدل على قبول الأئمة «عليهم السلام» بحلف الفضول وإمضائهم له ، تبعا لرسول الله في إمضائه له حسبما تقدم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ١ ص ١٤٢ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٢ ، والكامل لابن الأثير ط صادر ج ٢ ص ٤٢ ، والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٣ عن سيرة الحافظ الدمياطي وأنساب الأشراف ج ٢ ص ١٤ ، والأغاني : ج ١٦ ص ٦٨.

(٢) الصليم : السيف.

(٣) الأوائل ج ١ ص ٧٣ ـ ٧٤ والأغاني : ج ١٦ ص ٦٨.

(٤) الأغاني ط ساسي ج ٨ ص ١٠٨.

٢٣٣

كما وتدل ، ولا سيما النص الأخير منها ، على أن معاوية وقومه ما كانوا في حلف الفضول ، الذي يعرّض له به ابن الزبير ، كما أن مناداة الحسين «عليه السلام» بهذا الحلف ، واستجابة الزبيريين وغيرهم له ضد الأمويين ، يشير إلى ذلك أيضا.

وبعد كل ما تقدم : فإن ما يريد أبو هريرة ، ومن هم على شاكلته ، إثباته ، تزلفا ، وتقربا لأسيادهم من الحكام الظالمين ، مما يكذبه كل أقوال المؤرخين ، وكل الوقائع التاريخية.

ولكن حرص أبي هريرة على أن لا تفوت بني أمية فضيلة كهذه ، هو الذي دفعه إلى إدخال الأمويين في أشرف حلف في العرب ، والذي يوافق مبادئ الإسلام وشرائعه ، وينسجم مع الفطرة السليمة والعقل القويم.

ملاحظة :

ويلاحظ أخيرا : أننا نجدهم يروون عن النبي «صلى الله عليه وآله» ما يدل على لزوم التمسك بأحلاف الجاهلية (١).

وهي دعوة مغرضة وخبيثة ، إلا إذا أريد منها خصوص حلف الفضول ، الذي أمضاه الإسلام ، أو أي حلف آخر تنسجم أهدافه مع الإسلام ، كالحلف الذي عقده عبد المطلب مع جماعة خزاعة ، فلما قتلت قريش جماعة من خزاعة ، استنصروا النبي «صلى الله عليه وآله» استنادا إلى

__________________

(١) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج ١٠ ص ٣٠٦ ـ ٣٧٠ وفي هامشه عن مسلم والترمذي ج ٤ ص ١٤٦ ط المكتبة الإسلامية وعن سعيد بن منصور وعن فتح الباري ج ٨ ص ١٧٣ والدارمي.

٢٣٤

ذلك الحلف ، وكان فتح مكة لذلك (١).

ملاحظات هامة على حلف الفضول :

١ ـ إن دعوة الحسين «عليه السلام» بحلف الفضول ، إنما كانت منه «عليه السلام» لأنه لم يكن لينقض الهدنة التي عقدها الإمام الحسن «عليه السلام» .. كما أنه كان يعلم من خلال دراسته للأوضاع وللنفسيات أن هذه الدعوة سوف لن تنتهي إلى حد الخطر الأقصى ، وقد كان يهدف منها إلى تعريف الناس على واقع وحقيقة بني أمية ، وأنهم ظالمون عتاة ، لا يهمهم إلا الدنيا وحطامها وأن الهاشميين ، وأهل البيت هم الذين يهتمون بالحفاظ على العهود والمواثيق التي تهدف إلى نصرة المظلوم ، والدفاع عن الحق.

وقد خاف معاوية من هذا الأمر بالذات ، فاستسلم للحسين «عليه السلام» ، وأرجع الحق إلى أصحابه.

كما أن هذه الدعوة قد كانت في ظرف حرج ، لا يمكن اللجوء فيه إلى أية وسيلة أخرى غيرها ، حتى ولا وسيلة الثورة العامة ضد تلك الطغمة الفاسدة.

إذ إن إعلانه «عليه السلام» للثورة العامة حينئذ ، وفي مناسبة كهذه ، لسوف يفسر على أنه لدوافع شخصية ، ولا علاقة له بالدفاع عن الدين والأمة ، لا من قريب ولا من بعيد.

وعليه فلو استشهد الإمام الحسين «عليه السلام» والحالة هذه ، فسوف لا يكون لقتله أية فائدة تعود على الدين والأمة ، بل ربما يكون ضرر ذلك

__________________

(١) سيأتي الحديث عن ذلك في فتح مكة إن شاء الله تعالى.

٢٣٥

أكثر من نفعه ؛ وذلك عندما يلاحق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائية مغرضة ، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمة ، ويفصل المجتمع المسلم نفسيا وفكريا عن أهل البيت «عليهم السلام» بشكل عام ، وعن أئمتهم بصورة خاصة.

وذلك لأن الظروف التي أوصلت معاوية إلى الحكم ، وإن كانت واضحة لدى كثيرين من أهل العراق والحجاز ، إلا أن أهل الشام ، الذين لم يعرفوا إلا الإسلام السفياني ، إسلام المصالح والأهواء ، الإسلام الذي يستحل كل شيء في سبيل الوصول إلى الأهداف الشخصية ، واللذات الفردية.

نعم ، إن أهل الشام الذين لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة ، ولا عرفوا عليا وأهل البيت على حقيقتهم ، ولا عرفوا إسلام علي ، ولا مبادئ علي ، ولا أهداف علي «عليه السلام» ، بل كان الأمويون يظهرون لهم : أنهم هم قرابة النبي «صلى الله عليه وآله» وهم أهل بيته ، حتى ليدعي عشرة من أمرائهم وقوادهم : أنهم ما كانوا يعرفون للنبي «صلى الله عليه وآله» أهل بيت غير بني أمية (١).

__________________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٩ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣ ، وعن دعواهم الخلافة بالقرابة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» راجع : العقد الفريد ط دار الكتاب العربي ج ٢ ص ١٢٠ ؛ والحياة السياسية للإمام الرضا «عليه السلام» للمؤلف ص ٥٤ ـ ٥٥.

٢٣٦

بل إن معاوية ليتجرأ ويقول لأهل الشام : إن عليا «عليه السلام» لا يصلي!! (١).

إن أهل الشام والحالة هذه لا يمكنهم أن يدركوا واقع ما يجري وما يحدث ، بل إن باستطاعة معاوية أن يموّه ويشبه الأمر على غير أهل الشام أيضا ؛ لمكره وشيطنته ؛ فإنه قد تأمّر على الشام من قبل عمر بن الخطاب ، الذي أحبه العرب ، وأخلصوا له ، لأنه أرضى غرورهم ، ورفع معنوياتهم ، بتفضيلهم على غيرهم من أهل الأمم الأخرى في العطاء ، وفي مختلف الشؤون ، مع أنهم الذين كانوا إلى الأمس القريب لا قيمة لهم ، يتيهون في صحرائهم القاحلة ، يأكلون الجشب ، ويشربون الكدر ، إلى آخر ما تقدم في أوائل الفصل الأول ؛ ثم جاء الإسلام ، فساواهم بغيرهم ، ورفع من شأنهم ، وقرر : أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

ولكن سياسة عمر بن الخطاب قد اقتضت إعطاء كل الامتيازات ، وفي مختلف الشؤون لخصوص العرب ، وحرمان غيرهم من كل الامتيازات ، ومن كل شيء (٢).

فأحب العرب عمر بن الخطاب أعظم الحب ، وقدروه أجل تقدير ، وصارت أفعاله وأقواله عندهم قانونا متبعا ، لا يمكن مخالفته ، ولا الخروج

__________________

(١) الفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ١٩٦ ووقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٥٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ٨ ص ٣٦ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٣١٣ ، وتاريخ الطبري ج ٤ ص ٣٠ ، والغدير ج ٩ ص ١٢٢ عن بعضهم.

(٢) راجع كتابنا : سلمان الفارسي في مواجهة التحدي.

٢٣٧

عليه ، ويكفي أن نذكر :

أن مجرد توليته لأحدهم قد أوجبت لذلك الرجل عظمة ومنزلة خاصة (١).

بل إن عليا الذي لم يكن يرى لبني إسماعيل فضلا على بني إسحاق (٢) لم يستطع أن يعزل شريحا عن القضاء ، وقد أبى ذلك عليه أهل الكوفة ، وقالوا له : لا تعزله ؛ لأنه منصوب من قبل عمر ، وبايعناك على أن لا تغير شيئا مما قرره أبو بكر وعمر (٣).

كما أنه لم يستطع أن يمنع جيشه من صلاة التراويح ؛ لأن عمر هو الذي شرعها ، وصاحوا وا سنّة عمراه (٤) ، ولعل أول من صاح في هذه المناسبة ب «وا عمراه» هو قاضيه شريح (٥).

__________________

(١) الثقات : ج ٢ ص ٢٩٥.

(٢) سنن البيهقي ج ٦ ص ٣٤٩ والغدير ج ٨ ص ٢٤٠ عنه. وراجع : أنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي : ج ٢ ص ١٤١ ، والغارات : ج ١ ص ٧٤ ـ ٧٧ ، وحياة الصحابة : ج ٢ ص ١١٢ عن البيهقي ، وتاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ١٨٣ ، والبحار ج ٤١ ص ١٣٧.

(٣) كشف القناع عن حجية الإجماع : ص ٦٤ ، وراجع : تنقيح المقال : ج ٢ ص ٨٣ ، وقاموس الرجال : ج ٥ ص ٦٧.

(٤) راجع : شرح النهج للمعتزلي : ج ٢ ص ٢٨٣ وج ١ ص ٢٦٩ ، والصراط المستقيم : ج ٣ ص ٢٦ ، والكافي ج ٨ ص ٦٣ وتلخيص الشافي : ج ٤ ص ٥٨ ، والبحار ط حجرية : ج ٨ ص ٢٨٤ ، وراجع : الجواهر : ج ٢١ ص ٣٣٧ ، والوسائل : باب (١٠) من أبواب نوافل شهر رمضان ، كتاب الصلاة ، وكشف القناع : ص ٦٥ ـ ٦٦ وسليم بن قيس ص ١٢٦ ط مؤسسة البعثة.

(٥) راجع : قاموس الرجال : ج ٥ ص ٦٧.

٢٣٨

بل لقد نادوا بعلي «عليه السلام» في حرب الجمل : «أعطنا سنة العمرين» (١).

وسمع رجل النبي «صلى الله عليه وآله» يقول عن معاوية : من أدرك هذا أميرا فليبقرن خاصرته بالسيف ؛ فرآه يخطب في الشام ؛ فأراد تنفيذ أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقالوا له : أتدري من استعمله؟.

قال : ومن؟

قالوا : أمير المؤمنين عمر.

قال : سمعا وطاعة لأمير المؤمنين (٢).

وقد صرح أمير المؤمنين في خطبة له بأعمال كثيرة لمن سبقوه ، لم يستطع تغييرها ، ولو أنه حاول ذلك لتفرق عنه جنده ، حتى يبقى وحده ، وقليل من شيعته ، وهي أمور كثيرة فلتراجع (٣) ، ولتراجع أيضا الشواهد الكثيرة التي تؤيد ذلك في مصادرها.

ثم جاءت الدولة الأموية ، فاستنت بسنة عمر ، وسارت بسيرته ، وانتهجت نهجه.

__________________

(١) الكامل للمبرد ج ١ ص ١٤٤ ط دار نهضة مصر. وراجع الكافي : ج ٨ ص ٥٩ ، وشرح النهج : ج ١ ص ٢٦٩ ، والكامل في التاريخ : ج ٣ ص ٣٤٣ ، والأخبار الطوال : ص ٢٠٧ ، وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي : ج ٢ ص ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، وتنقيح المقال : ج ٢ ص ٨٣.

(٢) البحار ج ٩٢ ص ٣٦ عن معاني الأخبار.

(٣) الكافي ج ٨ ص ٥٩ ـ ٦٣ وسليم بن قيس ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢٣٩

وإذا كان معاوية قد تولى الشام من قبل عمر ، وإذا كان قد موّه على الناس في قضية قتل عثمان ، وألقى في الناس الشبهات الكثيرة حولها ، حتى استطاع أن يقود جيشا ليحارب في صفين أعظم رجل بعد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله».

وإذا كان قد استغل قضية التحكيم ، وأضفى على خلافته نوعا من الشرعية المزورة ، التي يمكن تضليل العوام والسذج بواستطها ، ـ إذا كان كل ذلك ـ فإن من الطبيعي أن يستطيع معاوية الذي وصل إلى الحكم في مثل تلك الظروف الغامضة ، أن يصوّر الحسين بن علي «عليه السلام» بعد قتله على أنه باغ وطاغ وطامع ، تحركه المصالح الشخصية ، بل وحتى خارج عن الإسلام ، والعياذ بالله.

ولسوف يتمكن عن طريق الأخطبوط الأموي المتغلغل في مختلف البلاد ، والذي استطاع أن يضع العراقيل في طريق علي «عليه السلام» ، وغيره من الأئمة الطاهرين ، لسوف يتمكن من استغلال تلك الظروف الخاصة ، في الحجاز ، والعراق ، وفي الشام ، أبشع استغلال ، ولا سيما بالنسبة لأهل الشام ، الذين ما كان يمكنهم إدراك واقع ما يجري وما يحدث إلا عن طريق الجهاز الأموي نفسه.

يضاف إلى ذلك كله :

أنه قد كان ثمة في عهد الخلفاء قبل علي «عليه السلام» ، ولأهداف سياسية معينة ، حصار مضروب على كبار الصحابة ، فلم تتح لهم الفرصة ليتفرقوا في البلاد ، وينشروا تعاليم النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» على حقيقتها ، بل حصروهم في المدينة مدة طويلة ، ومن استطاع منهم الإفلات

٢٤٠