الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

والصحيح هو أن عمه أبا طالب هو الذي رجع معه «صلى الله عليه وآله» إلى مكة (١) كما قدمنا ، وليس أبا بكر ولا غيره.

هذا ، وللنبي «صلى الله عليه وآله» سفرة أخرى إلى الشام للتجارة ، ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى في موضعها.

رعيه صلّى الله عليه وآله الغنم :

ويذكر المؤرخون : أنه «صلى الله عليه وآله» قد رعى الغنم في بني سعد ، وأنه رعاها لأهله ، بل ويقولون : رعاها لأهل مكة أيضا ، حتى ليذكرون والبخاري منهم في كتاب الإجارة وغيره أنه «صلى الله عليه وآله» قال : «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم!

فقال أصحابه : وأنت؟.

قال : نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (٢).

وفسرت القراريط بأنها : أجزاء الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة (٣).

ولكننا نشك كثيرا : في أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد رعى لغير أهله بأجر كهذا ، تزهد به حتى العجائز ، ولا يصح مقابلته بذلك الوقت والجهد الذي يبذله في رعي الغنم ، نعم ، نشك في ذلك ، لأننا نجد :

__________________

(١) مصنف الحافظ عبد الرزاق ج ٥ ص ٣١٨ وسيرة ابن هشام ج ١ ص ١٩٤.

(٢) البخاري هامش فتح الباري ج ٤ ص ٣٦٣ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٥.

(٣) السيرة النبوية ج ١ ص ٥١ لزيني دحلان ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٥ وفتح الباري ج ٤ ص ٣٦٤.

١٨١

أولا : أن اليعقوبي ـ وهو المؤرخ الثبت ـ قد نص على أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن أجيرا لأحد قط. (١)

وثانيا : تناقض الروايات ؛ فبعضها يقول : لأهلي ، وبعضها يقول : لأهل مكة ، وبعضها يقول : بالقراريط ، وأخرى قد أبدلت ذلك بكلمة بأجياد ، وإذا كان الراوي واحدا لم يقبل منه مثل هذا الاختلاف ، إلا إذا فرض أنه قد نسي في إحدى المرتين.

نعم ، قد ذكر البعض : أن العرب ما كانت تعرف القراريط ، وإنما هي اسم لمكان في مكة (٢) ولنفترض أنه اسم جبل في مكة ، ولأجل ذلك جاء بكلمة «على» ولم يقل في ، ولنفترض أيضا أنه كان يرعى الغنم في خصوص ذلك المكان؟ ولا يتجاوزه إلى غيره؟

ونفترض ثالثا : أنه ربما يكون هذا الاختلاف بين الرواية التي تقول : بأجياد ، والتي تقول بالقراريط ، بسبب أن القراريط وأجيادا اسم لمكان واحد ، أو لمكانين متقاربين جدا.

ولكن يعكر على هذا : أن رواية البخاري تقول : «على قراريط» ؛ فالظاهر من كلمة على هو : الأجر.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢١ ط صادر.

(٢) فتح الباري ج ٤ ص ٣٦٤ عن إبراهيم الحربي ، وصوّبه ابن الجوزي تبعا لابن ناصر والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٦ ويؤيد أن العرب ما كانت تعرف القراريط ، ما جاء في الصحيح ، يفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ، فتح الباري ج ٤ ص ٣٦٤ ، وقولهم لا يعرف مكان في مكة بهذا الاسم محل نظر لأن عدم معروفيته الآن لا يستلزم عدم معروفيته في ذلك الزمان.

١٨٢

ويمكن أن يدفع هذا : بأن من المحتمل أن يكون قراريط اسم جبل في مكة وقد رعى «صلى الله عليه وآله» الغنم عليه.

وكل ذلك وسواه من الاحتمالات لا شاهد له ، وإنما يلجأ إليه لو كانت الرواية صحيحة السند عن معصوم ، وليست كذلك ، بل هي عن أبي هريرة ، وغيره ممن لا يمكن الاعتماد عليهم.

ملاحظة :

لقد حاول البعض التفلسف هنا ، فذكر : أن رعي الغنم صعب ؛ لأنها أصعب البهائم وهو يوجب أن يستشعر القلب رأفة ولطفا ، فإذا انتقل إلى رعاية البشر كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية ، والظلم الغريزي ، فيكون في أعدل الأحوال (١).

ولكن ، حتى لو لم نقل : إنه «صلى الله عليه وآله» كان نبيا منذ صغره ، كما هو الصحيح حسبما سيأتي ، فإننا نطرح الأسئلة التالية :

هل يمكن أن يصدق أحد : أن النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» كان يحتاج إلى التهذيب من الحدة الطبيعية ، والظلم الغريزي؟!.

وهل في النبي «صلى الله عليه وآله» ظلم وحدة غريزيتان يحتاجان إلى التهذيب والحد منهما حقا؟! ولو سلم ذلك ، ألا يوجد مدرسة أفضل من هذه المدرسة؟! ثم أفلا ينافي ذلك قضية شق الصدر (٢) ـ المكذوبة ـ المقبولة

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٦ ، والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥١ ، وليراجع : فتح الباري ج ٤ ص ٣٦٤.

(٢) تقدم الكلام عنها في أوائل هذا الفصل.

١٨٣

لدى هؤلاء؟!

أوليس ذلك الظلم وتلك الحدة هما من حظ الشيطان ، الذي استأصله جبرئيل في عملياته الجراحية المتعددة ، المزعومة لدى هؤلاء؟.

ثم أوليس كان له ملك يسدده ، ويرشده منذ صغره ، حسبما نطقت به الروايات (١)؟!.

إلا أن يدعي هؤلاء : أن التسديد لا ينافي الظلم الغريزي.

وحينئذ نقول : ألم يحاول الملك الموكل به ليسدده ويرشده إلى محاسن الأخلاق ، أن يرشده إلى قبح الظلم ، وحسن العدل؟!

ولماذا قصّر في أداء مهمته تجاهه؟

وأيضا ألا يمكن لله تعالى أن يهذب نبيه ، ويخفف من حدته بغير هذه الطريقة؟!

وهل صحيح : أن رعاية الغنم أصعب من رعاية غيرها ، كما يدعي هؤلاء؟!.

وهل صحيح : أن الظلم غريزة في الإنسان؟!

وإذا كان غريزة فهل يمكن القضاء عليه بواسطة رعاية الغنم؟!.

وهل كل راعي غنم لا يكون فيه ظلم غريزي ، ولا حدة طبيعية .. أم أن ظلمه وحدته ، أقل من ظلم غيره وحدته؟!.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة رقم ١٩٢ ص ٣٠٠ ضبط صبحي الصالح ، والبحار ج ١٥ ص ٣٦١ ـ ٣٦٢.

١٨٤

ثم ، ألا يمكن أن يكون الرعي عملا عاديا ، كان «صلى الله عليه وآله» يقوم به كغيره من أبناء مجتمعه ، الذين كانت الماشية ورعيها عندهم من الوسائل العادية للعيش ، وكسب الرزق؟!. وليكون النبي إنسانا يعيش كما يعيش الآخرون من الناس الذين ما عاشوا حياة الترف ، ولا شعروا بزهو السلطان؟!.

إلى غير ذلك من الأسئلة التي لن تجد عند هؤلاء جوابا مقنعا ومفيدا.

وعلل ذلك البعض : بأن رعي الغنم يعطي فرصة للابتعاد عن الناس ، والانصراف للتفكير السليم ، بعيدا عن مشاكل الناس ، وهمومهم ، ويؤيد ذلك : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يذهب إلى غار حراء طلبا للانفراد عن الناس ، من أجل التفكير والتأمل في ملكوت الله ، والعبادة وتزكية النفس ..

وبعض آخر يرى : أن الرعي فيه تحمل مسؤولية أحاد متفرقة ، وهو يناسب المهمة التي سوف توكل إليه «صلى الله عليه وآله» الأمر الذي من شأنه أن يروض النفس ، ويزيدها اندفاعا نحو طلب الخير للآخرين من رعيته لهم ، والحرص على ما ينفعهم ، وقد كان الله تعالى يهتم برفع مستوى تحمل وملكات وقدرات نبيه ، ليواجه المسؤولية العظمى ، ولكن بالطرق العادية والطبيعية ، كما هو معلوم من إرساله الرسل ، وتزويدهم بالمعجزات وغيرها.

غير أننا نقول : هل يمكن تحقيق هذا الغرض برعي الأغنام؟!.

وهل كل راع للغنم يصير كذلك؟!.

وهل المطلوب هو مجرد التدريب على تحمل مسؤولية الآحاد المتفرقين.

ولماذا لا يكون رعي الغنم هو المهنة التي يمارسها جميع الرسل؟!.

١٨٥
١٨٦

الفصل الثاني :

خديجة في بيت النبي صلّى الله عليه وآله

١٨٧
١٨٨

السفر الثاني إلى الشام :

ويقولون : إنه «صلى الله عليه وآله» قد سافر سفره الثاني إلى الشام ، وهو في الخامسة والعشرين من عمره (١).

ويقولون : إن سفره هذا كان في تجارة لخديجة ، وإن أبا طالب هو الذي اقترح عليه ذلك ، حينما اشتد الزمان ، وألحت عليهم سنون منكرة ، فلم يقبل «صلى الله عليه وآله» أن يعرض نفسه على خديجة ، فبلغ خديجة ما جرى بينه «صلى الله عليه وآله» وبين أبي طالب ؛ فبادرت هي ، وبذلت للرسول «صلى الله عليه وآله» ضعف ما كانت تبذله لغيره ؛ لما تعرفه من صدق حديثه ، وعظيم أمانته ، وكرم أخلاقه.

ويروي بعضهم : أن أبا طالب نفسه قد كلم خديجة في ذلك ، فأظهرت سرورها ورغبتها ، وبذلت له ما شاء من الأجر.

فسافر «صلى الله عليه وآله» إلى الشام ، وربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره ، وظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة ، فلما عادت القافلة إلى مكة أخبر ميسرة غلام خديجة ، سيدته بذلك ، فذكرت ذلك

__________________

(١) وفي البحار ج ١٦ ص ٩ عن بعضهم : أن سفره كان إلى سوق حباشة بتهامة ، وكذا في كشف الغمة ج ٢ ص ١٣٥ عن الجنابذي في معالم العترة ..

١٨٩

بالإضافة إلى ما ظهر لها هي منه «صلى الله عليه وآله» لورقة بن نوفل ، ابن عمها كما يقولون! وإن كنا نحن نشك في ذلك (١) فقال لها : إن كان ذلك حقا ، فهو نبي هذه الأمة (٢).

ثم اهتمت خديجة بالعمل على الاقتران به «صلى الله عليه وآله» ، كما سنرى.

هكذا يقولون ، ولكننا نشك في بعض ما تقدم ، لا سيما وأن ورقة لم يسلم حتى بعد أن بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله».

كما أن قولهم : إن خديجة قد استأجرته في تجارتها ، لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأننا نجد المؤرخ الأقدم ، الثبت ابن واضح ، المعروف باليعقوبي يقول : «وإنه ما كان مما يقول الناس : إنها استأجرته بشيء ، ولا كان أجيرا لأحد قط» (٣).

ولعل في عزة نفس النبي «صلى الله عليه وآله» وإبائها ، وأيضا في تسديد الله تعالى له ، وأيضا في شرف أبي طالب وسؤدده ، ما يبعد كثيرا أن يكون قد صدر شيء مما نسب إلى أبي طالب منه.

وعلى هذا ، فقد يكون سفره «صلى الله عليه وآله» إلى الشام ، لا لكونه

__________________

(١) سيأتي إن شاء الله بعض الكلام حول بعض ما يقال عن ورقة بن نوفل ، ودوره في بدء الوحي.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٦ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢١ ونقل عن سفر السعادة : أنه «صلى الله عليه وآله» بعد البعثة ، وقبل الهجرة كان يشتري أكثر مما يبيع ، وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات ، أما شراؤه فكثير .. وأما شراكته مع غيره ففيها كثير من الاضطراب ، وليس لنا مجال لتحقيق ذلك.

١٩٠

كان أجيرا لخديجة ، وإنما لأنه كان يضارب بأموالها ، أو شريكا لها. ويدل على ذلك تصريح رواية الجنابذي بالمضاربة (١) فراجع.

ويؤيده ، ما رواه المجلسي من أن أبا طالب قد ذكر له «صلى الله عليه وآله» اتجار الناس بأموال خديجة ، وحثه على أن يبادر إلى ذلك ، ففعل ، وسافر إلى الشام (٢).

زواجه صلّى الله عليه وآله بخديجة :

ولقد كانت خديجة «عليها السلام» من خيرة نساء قريش شرفا ، وأكثرهن مالا ، وأحسنهن جمالا ، وكانت تدعى في الجاهلية ب (الطاهرة) ، (٣) ويقال لها : (سيدة قريش) ، وكل قومها كان حريصا على الاقتران بها لو يقدر عليه (٤).

__________________

(١) البحار ج ١٦ ص ٩ ، وكشف الغمة ج ٢ ص ١٣٤ عن معالم العترة للجنابذي.

(٢) البحار ج ١٦ ص ٢٢ عن البكري وص ٣ عن الخرائج والجرائح ص ١٨٦ و ١٨٧.

(٣) راجع الإصابة ج ٤ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ الترجمة النبوية ص ١٥٢ وقسم السيرة النبوية ص ٢٣٧ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٣٤٢ والاستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٤ ص ٢٧٩ والإصابة ج ٤ ص ٢٨١ وسيرة مغلطاي ص ١٢ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١١١ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٣٨ و ٢٠٠ والروض الأنف ج ١ ص ٢١٥ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ وأسد الغابة ج ٧ ص ٧٨ ط دار الشعب والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٥ والثقات ج ١ ص ٤٦.

(٤) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٤ وبهجة المحافل ج ١ ص ٧ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢٠١ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٣ وطبقات ابن سعد ج ١ ص ١٣١ ط دار صادر والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٥.

١٩١

وقد خطبها عظماء قريش ، وبذلوا لها الأموال.

وممن خطبها عقبة بن أبي معيط ، والصلت بن أبي يهاب ، وأبو جهل ، وأبو سفيان (١) فرفضتهم جميعا ، واختارت النبي «صلى الله عليه وآله» ، لما عرفته فيه من كرم الأخلاق ، وشرف النفس ، والسجايا الكريمة العالية. ونكاد نقطع ـ بسبب تضافر النصوص ـ بأنها هي التي قد أبدت أولا رغبتها في الاقتران به «صلى الله عليه وآله».

فذهب أبو طالب في أهل بيته ، ونفر من قريش إلى وليها ، وهو عمها عمرو بن أسد ؛ لأن أباها كان قد قتل قبل ذلك في حرب الفجار أو قبلها (٢).

وأما أنه خطبها إلى ورقة بن نوفل ، وعمها معا ، أو إلى ورقة وحده (٣) فمردود ، بأنه : قد ادعي الإجماع على الأول (٤).

__________________

(١) البحار ج ١٦ ص ٢٢.

(٢) كشف الغمة ج ٢ ص ١٣٩ ، والبحار ج ١٦ ص ١٢ عنه وص ١٩ عن الواقدي ، وراجع : الأوائل ج ١ ص ١٦٠ وفي السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٨ : أن المحفوظ عن أهل العلم أنه مات قبل الفجار ، وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٣٠٣ عن الواقدي ، والإصابة ج ٤ ص ٢٨٢ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٦.

(٣) البحار ج ١٦ ص ١٩ عن الواقدي والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢٩ والكافي ج ٥ ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، وفيه أن ورقة كان عم خديجة وكذا في البحار ج ١٦ ص ١٤ و ٢١ عنه وعن البكري ، وهو غير صحيح لأن ورقة هو ابن نوفل بن أسد وخديجة هي بنت خويلد بن أسد.

(٤) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٧.

١٩٢

وأما أنا فلا أدري ما أقول في ورقة هذا. وفي كل واد أثر من ثعلبة ، فهو يحشر في كل كبيرة وصغيرة ، فيما يتعلق بالرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، وإن ذلك ليدعوني إلى الشك في كونه شخصية حقيقية ، أو أسطورية.

ويلاحظ : أن نفس الدور الذي يعطى لأبيها تارة ، ولعمها أخرى ، يعطى لورقة بن نوفل ثالثة حتى الجمل والكلمات ، فضلا عن المواقف والحركات ، فلتراجع الروايات التي تحكي هذه القضية ، وليقارن بينها (١) ، وسيأتي إن شاء الله مزيد من الكلام حول ورقة هذا.

نعود إلى القول : إن أبا طالب قد ذهب لخطبة خديجة ، وليس حمزة الذي اقتصر عليه ابن هشام في سيرته (٢) لأن ذلك لا ينسجم مع ما كان لأبي طالب من المكانة والسؤدد في قريش ، من جهة ، ولأن حمزة كان يكبر النبي «صلى الله عليه وآله» بسنتين أو بأربع (٣) كما قيل من جهة أخرى.

هذا بالإضافة إلى مخالفة ذلك لما يذكره عامة المؤرخين في المقام.

وقد اعتذر البعض عن ذلك : بأن من الممكن أن يكون حمزة قد حضر مع أبي طالب ؛ فنسب ذلك إليه (٤).

وهو اعتذار واه ؛ إذ لماذا لم ينسب ذلك إلى غير حمزة ، ممن حضر مع أبي

__________________

(١) راجع المصادر المتقدمة والآتية.

(٢) راجع : سيرة ابن هشام ج ١ ص ٢٠١ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٨ ونقل أيضا عن المحب الطبري.

(٣) تقدمت مصادر ذلك حين الحديث حول إرضاع ثويبة لرسول الله «صلى الله عليه وآله».

(٤) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٩.

١٩٣

طالب من بني هاشم وغيرهم من القرشيين؟!.

ويظهر : أن ثمة من يهتم بسلب هذه المكرمة عن أبي طالب «عليه السلام» ، وإعطائها لأي كان من الناس سواه ، سواء لحمزة ، أو لغيره ، ولا ضير في ذلك عنده ما دام أنه قد استشهد في وقت مبكر.

خطبة أبي طالب رحمه الله :

وعلى كل حال فقد خطبها أبو طالب له «صلى الله عليه وآله» قبل بعثته «صلى الله عليه وآله» بخمس عشرة سنة ، على المشهور.

وقال في خطبته ـ كما يروي المؤرخون ـ : «الحمد لرب هذا البيت ، الذي جعلنا من زرع إبراهيم ، وذرية إسماعيل ، وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه.

ثم إن ابن أخي هذا ـ يعني رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به ، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ، ولا عدل له في الخلق ، وإن كان مقلا في المال ؛ فإن المال رفد جار ، وظل زائل ، وله في خديجة رغبة ، وقد جئناك لنخطبها إليك ، برضاها وأمرها ، والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله.

وله ـ ورب هذا البيت ـ حظ عظيم ، ودين شائع ، ورأي كامل» (١).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، والبحار ج ١٦ ص ١٤ عنه وص ١٦ عمن لا يحضره الفقيه ص ٤١٣ ، وفي ص ٥ عن شرف المصطفى ، والكشاف ، وربيع الأبرار والإبانة لابن بطة ، والسيرة للجويني ، عن الحسن والواقدي ، وأبي صالح والعتبي ، والمناقب ج ١ ص ٤٢ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٩ ، وتاريخ اليعقوبي ـ

١٩٤

نظرة في كلمات أبي طالب :

وخطبة أبي طالب المتقدمة تظهر مكانة الرسول الفضلى في قلوب الناس ، وهي صريحة في أن الناس كانوا يجدون في الرسول علامات النبوّة ونور الهداية ، ويتوقعون أن يكون هو الذي بشر به عيسى وموسى «عليهما السلام» ، وأنه كان لا يوزن به أحد إلا رجح به ، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه.

ثم إن كلمات أبي طالب تدل دلالة واضحة على ما كان يتمتع به بنو هاشم ، من شرف وسؤدد ، حتى ليقول «رحمه الله» : وجعلنا الحكام على الناس.

وتدل أيضا : على أن العرب كانت تعتبر الحرم موضع أمن للقاصي والداني ، وقد تقدم ما يدل على ذلك أيضا.

ثم إن حديثه عن فقر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وإعطاء الضابطة للتفضيل بين الرجال ، يدل على واقعية أبي طالب ، وأنه ينظر إلى الإنسان بمنظار سام ونبيل ، كما أنه يتعامل مع الواقع بحنكة ووعي وأناة.

وبعد ، فإن كلماته تلك تدل أيضا : على أن قريشا كانت تعتبر انتسابها إلى إبراهيم وإسماعيل ، وسدانتها للبيت ، كل شيء بالنسبة لها ، وقد أشرنا إلى هذا الأمر في الفصل الأول.

__________________

ـ ج ٢ ص ٢٠ ، والأوائل لأبي هلال ج ١ ص ١٦٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٣٩ وبهجة المحافل ج ١ ص ٤٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ٥٥.

١٩٥

ولتراجع خطبة أبي طالب «رحمه الله» حين موته ، والتي يخاطب بها قريشا ، فإنها خطبة جليلة ، لا تبتعد عن هذه الخطبة في مراميها وأهدافها.

ودين شائع :

ويتساءل بعض المحققين هنا : أنه كيف يمكن الجمع بين قوله : «ودين شائع» ، وبين قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)(١) ، وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ)(٢).

وجوابه :

أولا : قد يقال : إن الآيات ربما تكون ناظرة إلى المراحل الأولى من حياة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» فهو لم يكن يعلم ، ثم علم ، وأما متى علم ؛ فالآيات لا تحدد لنا ذلك ؛ فلربما يكون قد علم حينما كان في سن العشرين مثلا ، أو قبل ذلك أو بعده.

بل لعله علمه منذ صغره ، فقد دلت الروايات على أنه «صلى الله عليه وآله» كان نبيا منذ ذلك الحين ..

بل في الروايات : «كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد» أو نحو ذلك.

وثانيا : إن السيد الطباطبائي يقول : إن الآيات ناظرة إلى نفي العلم التفصيلي ، أما العلم الإجمالي فقد كان موجودا ، لأن عبد المطلب وأبا طالب وغيرهما كانوا مؤمنين بالله ، وكتبه إجمالا ، والنبي أيضا كذلك (٣) ، لا سيما إذا

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة الشورى.

(٢) الآية ٨٦ من سورة القصص.

(٣) راجع : تفسير الميزان ج ١٨ ص ٧٧.

١٩٦

قوّينا أنه «صلى الله عليه وآله» كان نبيّا منذ صغره ـ كما ذهب إليه البعض ـ ولسوف يأتي ذلك إن شاء الله تعالى في فصل بحوث تسبق السيرة.

وثالثا : إن من معاني الدين : «السيرة ، والتدبير ، والورع ، والعادة ، والشأن» ؛ فلعل القصد في هذه العبارة كان إلى أحد هذه المعاني.

ورابعا : إن هذه الآيات بمثابة قضية شرطية مفادها : أنه «صلى الله عليه وآله» لو لا لطف الله به لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، لأنك أنت بنفسك وبما لديك من قدرات ذاتية لست قادرا على شيء وكذلك هو «صلى الله عليه وآله» لم يكن يرجو ذلك لو لا الله سبحانه.

وخامسا : لماذا لا يكون المقصود بالدين الشائع هو دين إبراهيم «عليه السلام»؟!

وسادسا : قد يكون المقصود هو التنبؤ بما سيكون له في المستقبل من حيث إن أبا طالب أدرك مما يراه له من معجزات أنه نبي ، وأنه سيكون خاتم الرسل والأنبياء.

مهر خديجة :

وعلى كل حال ، فإن أبا طالب قد ضمن المهر في ماله ، كما هو صريح خطبته ، ولكن خديجة رضوان الله تعالى عليها عادت فضمنت المهر في مالها ، فقال البعض : يا عجبا! المهر على النساء للرجال؟!

فغضب أبو طالب ، وقال : إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان ، وأعظم المهر ، وإن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.

ولكن يبقى : أن بعض الروايات تفيد : أن رسول الله «صلى الله عليه

١٩٧

وآله» نفسه قد أمهرها عشرين بكرة (١) وذلك ينافي أن يكون أبو طالب قد ضمن المهر ، أو هي ضمنته دونه ، أو هي لأبي طالب.

إلا أن يكون المراد : أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمهرها بواسطة أبي طالب.

وقيل : إن عليا «عليه السلام» هو الذي ضمن المهر ، قالوا : «وهو غلط ، لأن عليا «عليه السلام» لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره» (٢).

ويرد عليه : أن ثمة أقوالا ـ وإن كنا نقطع بعدم صحتها ـ تفيد : أنه «عليه السلام» قد ولد قبل البعثة بعشرين ، أو بثلاث وعشرين سنة ، ولذا قال مغلطاي : «وهو غلط ، كان علي إذ ذاك صغيرا لم يبلغ سبع سنين» (٣).

ونحن نغلط هذه الأقوال ، ونستغربها ، إذ إن ذلك معناه : أنه «عليه السلام» قد استشهد وعمره ست وسبعون سنة ، وهو ما لم يقل به أحد.

فنحن لا نقبل قول مغلطاي ، ولا نقبل قول أولئك الذين يزعمون أنه قد ضمن المهر ، وذلك لما سيأتي في تاريخ ميلاده «عليه الصلاة والسلام».

ثم نقول : إن أبا هلال العسكري ذكر أنه لما قيل : من يضمن المهر؟

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢٠١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٢٦٣ والسيرة النبوية لدحلان ج ١ ص ١٠٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٩ عن الفسوي في كتاب : ما روى أهل الكوفة مخالفا لأهل المدينة ، وسيرة مغلطاي ص ١٢ ، والأوائل ج ١ ص ١٦١.

(٣) سيرة مغلطاي ص ١٢.

١٩٨

قال علي وهو صغير : «أبي فلما بلغ الخبر أبا طالب جعل يقول : بأبي أنت وأمي» (١).

ولربما يمكن تقريب هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يقال : من أن عليا «عليه السلام» قد ولد قبل البعثة بعشر أو بخمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة ، بل بثلاث وعشرين سنة ، حسب بعض الأقوال النادرة ، ثم قارنا بينها وبين الأقوال التي تقرر : أنه «صلى الله عليه وآله» قد تزوج خديجة وهو ابن ثلاثين سنة ، أي قبل البعثة بعشر سنوات ، سنة ولادة علي «عليه السلام» ، أو وهو ابن سبع وثلاثين سنة ، كما عن ابن جريج (٢) أي قبل البعثة بثلاث سنوات ، وقيل : تزوجها قبل البعثة بخمس سنين (٣).

فلعله «عليه السلام» قد قال ذلك وهو طفل صغير فاستحسن ذلك منه أبوه أبو طالب.

وعن مقدار المهر ، قيل : إنه عشرون بكرة ، وقيل : إثنا عشر أوقية ونش ، أي ما يعادل خمس مئة درهم ، وقيل غير ذلك (٤).

__________________

(١) الأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ١٦١.

(٢) راجع تاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ ، وراجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢١٩.

وذكرت بعض الأقوال في التبيين في أنساب القرشيين ص ٦٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٠ ومختصر تاريخ دمشق ج ٢ ص ٢٧٥ قيل : تزوجها وهو ابن ثلاثين سنة وكذا في الاستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٤ ص ٢٨٨ وسيرة مغلطاي ص ١٢ ومثله في المواهب اللدنية ج ١ ص ٣٨ و ٢٠٢ والروض الأنف ج ١ ص ٢١٦.

(٣) الأوائل ج ١ ص ١٦١.

(٤) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ١٣٨ و ١٣٩.

١٩٩

عمر خديجة حين الزواج :

ويلاحظ هنا : مدى الاختلاف والتفاوت في عمر خديجة حين اقترانها بالرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله».

وهو يتراوح ما بين ال ٢٥ سنة إلى ال ٤٦ سنة وهو على النحو الآتي :

ألف ـ ٢٥ سنة وصححه البيهقي (١).

ب ـ ٢٨ سنة هو ما رجحه كثيرون (٢).

ج ـ ٣٠ سنة (٣).

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ط دار الكتب العلمية ج ٢ ص ٧١ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٩٤ و ٢٩٥ ومحمد رسول الله ، سيرته وأثره في الحضارة ص ٤٥ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٢٦٥ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٤٠.

(٢) شذرات الذهب ج ١ ص ١٤ واقتصر عليه في بهجة المحافل ج ١ ص ٤٨. ورواه عن ابن عباس كل من : أنساب الأشراف (قسم حياة النبي «صلى الله عليه وآله») ص ٩٨ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٣٠٣ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١١١ ومختصر تاريخ دمشق ج ٢ ص ٢٧٥ ، والبحار ج ١٦ ص ١٢ عن الجنابذي ، كلهم عن ابن عباس.

ورواه في مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٨٢ عن ابن إسحاق ، دون أن يذكر له قولا آخر ، وراجع سيرة مغلطاي ص ١٢ والمحبر ص ٧٩ وتهذيب الأسماء ج ٢ ص ٣٤٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٤٠.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ١ ص ١٤٠ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢٦٤ وسيرة مغلطاي ص ١٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٣٠٣.

٢٠٠