الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-173-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

وحييّ بن أخطب وكنانة بن الربيع ، حين ذهبوا إلى مكة ليحرضوا الأحزاب على حرب المسلمين ، قالت لهم قريش :

«يا معشر اليهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ؛ أفديننا خير أم دينه؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه.

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ، ونشطوا لما دعوهم إليه الخ ..» (١).

ونحن وإن كنا نعلم أن زعماء قريش كانوا يعلمون الحق ، ولكنهم كانوا يكتمونه عنادا واستكبارا لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(٢).

ولكن الذي يلفت نظرنا : هو هذا الاستغلال لنفوذ اليهود ، وهيمنتهم العلمية ، واعتبارهم مصدرا للمعارف الدينية.

وبالمناسبة فإن التاريخ يعيد نفسه ، فإن نظرة المسلمين إلى الأوروبيين الآن تشبه تماما ما كانت عليه في الجاهلية.

وأخيرا ، فقد قال الحلبي وابن هشام : «لا يخفى : أن كفار قريش بعثوا النضر بن الحرث ، وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما :

إسألاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول» (٣) ثم ذكر ما جرى بينهم وبين اليهود ، ثم ما جرى لهم مع

__________________

(١) سيرة ابن هشام ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦. وستأتي بقية المصادر في غزوة الخندق.

(٢) الآية ١٤ من سورة النمل.

(٣) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣١٠ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٢١.

١٢١

النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة.

والخلاصة : أن إخبارات أهل الكتاب تلك قد غرست في ذهن العربي أن نبيا سوف يخرج من منطقته ، مما سهل عليه قبول دعوته «صلى الله عليه وآله» ، والإذعان للحق الذي جاء به ؛ لأن الناس ـ باستثناء أصحاب المطامح والأهواء ، والطواغيت منهم ـ لصفاء وسلامة طباعهم ، وكونهم أقرب إلى الفطرة ، وعدم تلوث فكرهم بالشبهات والفلسفات المعقدة كانوا يتقبلون الحق ، ويذعنون له ، وقبليتهم وعاداتهم إنما كانت تمنع فقط من انقياد بعضهم لبعض ، بسبب غلظتهم ، وانفتهم ، وبعد هممهم ، ولكن لم يكن ذلك يمنعهم من قبول الحق ، والإذعان لإرادة السماء (١).

٦ ـ الفراغ العقائدي والسياسي :

أ ـ الفراغ العقائدي :

لقد كان العرب يعانون من فراغ عقائدي هائل ، عبّر عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله المتقدم : «بعثه ، والناس ضلال في حيرة ، وحاطبون في فتنة ، حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل».

ويكفي أن نذكر : أنهم حتى عبادتهم للأصنام قد كانت ملونة باللون القبلي ، فلكل قبيلة بل لكل بيت وثن ، وطريقة.

وكثيرا ما كانت دوافعهم إلى عبادة تلك الأصنام عاطفية ، بعيدة عن أساليب التبرير العقلي ، والمنطقي ، فارتباط العربي بهذا الصنم إنما هو لأن هذا الصنم مرتبط بتاريخ أبيه أو جده ، فالعربي يعتز بنسبه بحسب طبعه ،

__________________

(١) راجع : البيان والتبيين للجاحظ ج ٣ ص ١٢٧.

١٢٢

وبما ينسب إليه ، قال تعالى حكاية لذلك عنهم : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(١).

ومما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عن تعقل وقناعة : هو أن الذين كانوا يرجعون إلى فطرتهم ، وإلى عقولهم سرعان ما يدركون منافرتها للفطرة ، ولأحكام العقل السليم ، ويرغبون بالخروج من هذا الجو ، ولذلك نجد المؤرخين يذكرون :

أن عبد المطلب قد رفض عبادة الأوثان.

كما ويذكرون : أن ورقة بن نوفل ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وعبيد الله بن جحش قد تبرموا من عبادة الأوثان ، وعبروا عن ضعف ثقتهم فيها ، فاجتمعوا وتشاوروا فتنصر الأولان ، وبقي الآخران في حيرتهما وشكهما (٢).

ب ـ الفراغ السياسي :

إن أرض العرب القاحلة ، والجو الحار الذي تتميز به ، وحياتهم المتنقلة من مكان إلى مكان ، وقدرتهم على تحمل المشاق ، قد جعل السيطرة عليهم شبه مستحيلة حسبما قدمنا ، بل جعلهم بحسب طبيعة ظروفهم الحياتية قادرين على توجيه الضربات القاصمة لكلّ دخيل ، وجعله في رعب دائم ، وخوف مستمر ، الأمر الذي أسهم بشكل فعال في إبعاد أطماع المستعمرين عن منطقتهم ، مع قناعة المستعمر بأنه سوف لا يجني الكثير من النفع في

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة الزخرف.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ وحياة محمد لهيكل ص ٨٩ ، وغير ذلك.

١٢٣

مقابل الكثير من الضرر الذي سوف يتعرض له ، ولا سيما مع علمه بأن حب الانطلاق في البادية بلا رقيب ولا حسيب مغروس في دم العربي ، وفي روحه ، وفي أعماق أعماقه ، ولا يتنازل عن ذلك بأي ثمن كان.

فكل ذلك قد جعل المنطقة في فراغ سياسي محسوس ، بل إن شمالي الجزيرة العربية لم يتعرض لأي حكم أجنبي أصلا ..

نعم ، قد تعرض جنوبها وهو اليمن لسلطة الأحباش لفترة قصيرة (١).

وهذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال ، ولو بفرض من السلطة الحاكمة ، كالنصرانية والزرادشتية ، وحتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم ومعهم ، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات والأفكار الغريبة والدخيلة ، وإن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فرارا من الرومان ، ولكن لم يكن لهم أي نشاط ديني ، أو لعله كان ، ولكنه لم يثمر ، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسيا وإعلاميا ، ولذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر (٢) بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك (٣).

وما ذلك إلا لأن النصرانية بعيدة عن عقل وفطرة الإنسان ، ولا تستطيع أن تتصل بروحه ووجدانه لتفرض هيمنتها على أفعاله ، وسلوكه.

__________________

(١) راجع : مختصر تاريخ العرب ، للسيد أمير علي ص ٨.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٨٤.

(٣) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ و ٧٣ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢١٧.

١٢٤

أما الإسلام ، دين الفطرة ، الذي استطاع بفترة وجيزة أن يصنع أمثال أبي ذر ، وعمار ، وسلمان ، فإنه يتصل أولا بعقل الإنسان ، ثم بروحه ووجدانه ، حتى يحوله إلى إنسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب ، والذين لا يلتزمون بنظام ، ولا يحكمهم قانون أكثر الأمم اتباعا للنظم ، وأشدها إيمانا وإخلاصا للقانون الإلهي.

كما ويلاحظ : أن من رباهم النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» في فترات وجيزة جدا ، مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى ، حتى التي تنسب نفسها إلى الإسلام أن تأتي بأمثالهم ، رغم توفر كل الإمكانات لها ، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد والحاكم الحق في تربية المجتمع ، وفي تزكيته.

قال المعتزلي : «والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية ، وخشونة الطبع. ومن سكن المدن منهم ، كأهل مكة ، والمدينة ، والطائف ؛ فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة.

ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ، ولا صاحب نظر وجدل ، ولا موقع شبهة ، ولا مبتدع نحلة الخ ..» (١).

وخلاصة الأمر :

أن صفاء نفوس عرب الحجاز وعدم تلوثها بالأفكار ، والانحرافات والشبهات الغريبة عن الفطرة ، بالإضافة إلى الفراغ العقائدي ، وعدم

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ٥١.

١٢٥

معقولية شركهم ، وعبادتهم للأوثان ، ثم الحالة الاجتماعية السيئة التي كانوا يعانون منها ، كل ذلك قد أسهم إسهاما كبيرا في نشر الدعوة الإسلامية وقبولها.

ولذلك ترى أن كثيرا منهم كانوا يسلمون بمجرد سماعهم كلامه «صلى الله عليه وآله» ، واطلاعهم على أصول دعوته وأهدافها ، أو بمجرد أن يتلو عليهم القرآن.

وإذا ما رأينا ساداتهم وكبراءهم ـ عموما ـ كانوا يجحدون بهذه الدعوة الحقة ، فليس ذلك لأنهم لم يجدوا فيها ما يقنعهم ، بل لأنهم وجدوها تضر بمصالحهم الدنيوية ، وتصدهم عن مطامعهم اللاإنسانية ؛ فهم مصداق لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١).

ولذلك نلاحظ : أن الناس ما كانوا يتطلبون الاستدلال على التعاليم والأفكار الدينية كثيرا في أول الأمر ؛ لأن صفاء نفوسهم ، وسلامة فطرتهم ، وعدم إرباكها وإرهاقها بالأفكار ، والفلسفات ، والشبهات كان كافيا لإدراك حقانية الدعوة ، وسلامة أفكارها. وكانت الآيات إنما تحاول إرجاعهم إلى الفطرة وتدعوهم إلى التفكير ، والتعقل.

ولكن بعد أن دخلت الفلسفات والأفكار الغريبة ، والشبهات المغرضة ، إلى فكر وعقل هذا الإنسان ، وحجبت فطرته ، وأربكت تفكيره وأرهقت عقله ، صار الناس يحتاجون أكثر فأكثر إلى الأدلة ، ويتطلبونها من الأئمة «عليهم السلام» ، بحسب نسبة تلوث فطرتهم بالشبهات والأفكار الغريبة.

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

١٢٦

٧ ـ الحياة الصعبة ، والتضحية بالنفس :

وكانت بدائية العرب ، وحياتهم الصعبة التي يعانون منها ، قد جعلتهم أكثر اقداما على التضحية في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها عن قناعة وجدانية راسخة ، ويتفاعلون معها تفاعلا روحيا خالصا.

وذلك لأنهم لم ينعموا بحياة النعيم والرفاهية ، التي لا تعب فيها ولا نصب ، ولا آلام ؛ ليصبح لهم تعلق شديد بالحياة ، وحب ، بل وعشق لها ، فإن من الملاحظ : أنه كلما كانت الحياة رخية ناعمة مرفهة ، كلما ازداد تعلق الإنسان بها ، وحبه لها ، وكلما كان العكس ، سهل عليه تركها ، والتخلي عنها.

كما أن الدعوة التي سوف يتعرض أفرادها لمختلف أنواع الضغوط النفسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية وأقساها ، بحاجة ماسة إلى جماعة قادرين على مواجهة تلك الضغوط ، وتحمل تلك الآلام ، والصبر على التعذيب ، والجوع والاضطهاد ، بمختلف أنواعه.

وقد كان العرب ـ عموما ـ كذلك ؛ لأنهم قد عانوا من مشاق الحياة والطبيعة ما عانوا ، وأصبحت الآلام والمتاعب والمصاعب هي الصفة المميزة لحياتهم بل هي خبزهم اليومي وغير ذلك هو الاستثناء ، فهم أقدر من غيرهم على تحمل ما ينتظر أتباع هذه الدعوة ؛ لأن المنعمين لا يستطيعون عادة تحمل المشاق ، ومواجهة الصعوبات فإن الشجرة البرية أصلب عودا ، وأبطأ خمودا ؛ ولذلك نجد :

أن بعض المسلمين كانوا يودون لو يجعلون امتيازا لأحدهم ، وهو ابن عمير لأنه كان منعما قبل أن يسلم ، وحينما أسلم تعرض للمشاق والآلام ، فذلك جعلهم يشعرون بأنه قد تحمل من المصاعب والآلام ما يوجب الرثاء

١٢٧

والرحمة له ؛ وما ذلك إلا انطلاقا من الناحية التي أشرنا إليها آنفا.

٨ ـ بقايا الحنيفية في العرب :

وبعد ، فإن مما ساعد على ذلك أيضا ، وجود بقايا الحنيفية ـ دين إبراهيم كالحج وآدابه ـ في الجزيرة العربية ، وفي مكة بالذات ؛ لأن العرب ، وهم أولاد إسماعيل ، قد توارثوا عنه الدين الحق وكانوا يعتزون بذلك ، وقد قال الله تعالى لهم : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ..)(١).

ولكنهم على مر السنين بدؤوا يخلطون هذا الحق بكثير من الباطل ، شأن سائر الأمم ، عندما يغشاها الجهل ، وتستبد بها الأهواء ، والانحرافات.

ثم تسرب إليهم الشرك ، وعبادة الأوثان ، حسبما قدمنا ، ثم الكثير من الأمور الباطلة ، والأخلاق الذميمة ، والفواحش ، حتى أصبحوا في الجاهلية العمياء ، وحتى أدى بهم الأمر إلى الحالة التي وصفها لنا أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما تقدم ، غير أن بقية منهم ـ وإن كانت قليلة جدا ـ قد بقيت متمسكة بعقيدة التوحيد ، وترفض عبادة الأوثان ، وتعبد الله على حسب ما تراه مناسبا ، وقريبا إلى تعاليم دين إبراهيم ، مع التزام بعضهم الآخر بدقة بدين الحنيفية ، ومن هؤلاء عبد المطلب ، وأضرابه ، من رجالات بني هاشم الأبرار.

وكان من بقايا الحنيفية تعظيم البيت ، والطواف به ، والوقوف بعرفة ، والتلبية (٢) وهدي البدن ، وإن كانوا يطبقون ذلك مشوها وممسوخا ، ويقحمون

__________________

(١) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٢) ذكر اليعقوبي في تاريخه (ط صادر) ج ١ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٧ تلبيات كل قبيلة ، وأعطى نبذة عن شعائرهم في مكة ، فمن أراد فليراجع.

١٢٨

فيه ما ليس منه ، وكانت هذه المعالم تضعف رويدا رويدا مع الزمن ، حتى لم يبق منها إلا الأسماء ، والرسوم الشوهاء.

وقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» ما مفاده : إن العرب كانوا أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ؛ فإن العرب يغتسلون من الجنابة ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ، وهم أيضا يختتنون ، وهو من سنن الأنبياء ، كما أنهم يغسلون موتاهم ، ويكفنونهم ، ويوارونهم في القبور ، ويلحدونهم ، ويحرمون نكاح البنات والأخوات ، وكانوا يحجون إلى البيت ويعظمونه ، ويقولون : بيت ربنا ، ويقرون بالتوراة والإنجيل ، ويسألون أهل الكتب ، ويأخذون منهم ، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس (١).

إذن ، فقد كان ثمة ذكريات بعيدة في ضمير ووجدان الإنسان العربي ، تربطه بالحنيفية السهلة السمحاء ، دين آبائه وأجداده ـ وهو الذي يعتز بالأنساب وصفائها ، بحكم ما يتعرض له من الغزو والسبي الموجب للتهمة أحيانا ـ وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد بعث ليتمها ؛ فمن الطبيعي أن يكون لهذه الذكريات أثر في نظرة كثير من الناس إليه ، وإلى ما جاء به بإيجابية وواقعية.

٩ ـ الخصائص والعادات العربية :

ولقد كان لبعض الخصائص ، والأخلاق ، والعادات العربية ، أثر كبير

__________________

(١) راجع : الاحتجاج ، للطبرسي ج ٢ ص ٩١ ـ ٩٢ والبحار ط مؤسسة الوفاء ج ٧٨ ص ٨.

١٢٩

في نشر دعوة الرسول «صلى الله عليه وآله» ، التي هي دعوة الحق والخير وشمولها ، وإن كان الإسلام الذي استفاد من تلك الخصائص والعادات والأخلاق قد حاول إلى جانب ذلك تركيزها من حيث المنطلقات والأهداف على أسس صحيحة ومقبولة ، وأما إن كانت مرفوضة إسلاميا ، فإنه ـ وإن كانت قد أفادته تلقائيا ، ومن دون أن يتطلب هو ذلك ـ كان يحاول القضاء عليها ، واستئصالها بالحكمة والموعظة الحسنة ، كلما سنحت له الفرصة ، وواتاه الظرف.

فمثلا : لقد استفاد الإسلام كثيرا من شجاعة العربي ، واستهانته بالصعاب ، في الدفاع عن الإسلام.

وأيضا ، فقد كان للتعصب القبلي بعض الفوائد الهامة ، حتى ليذكرون أنه بعد الهجرة إلى المدينة ؛ كان الأوس والخزرج : «يتصاولان مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» غناء إلا قالت الخزرج : والله ، لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الإسلام ؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ، قال : وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك» (١).

وأما قبل الهجرة في مكة ، فقد كان للقبلية أثر كبير في منع قريش وغيرها مدة طويلة من المضايقات لكثير ممن اعتنقوا الإسلام ، ثم من محاولة

__________________

(١) تاريخ الطبري ط الاستقامة ج ٢ ص ١٨٤ د وراجع الكامل لابن الأثير ط صادر ج ٢ ص ١٤٦.

١٣٠

الاعتداء على حياته «صلى الله عليه وآله» ، أو على حياة أكثر المسلمين آنذاك ، وإن كانت تواجههم بالمضايقات أحيانا ، وأحيانا بالتعذيب القاسي ، إن لم يكن لهم عشيرة يرهب جانبها ، حتى أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى المدينة.

ولذلك نلاحظ : أن أبا طالب «رحمه الله» قد استفاد كثيرا من العامل القبلي ، حتى إن بني هاشم مسلمهم وكافرهم قد قبلوا بمحاصرة قريش لهم ، وكانوا معه في شعب أبي طالب كما سيأتي.

وتجد في شعر أبي طالب الكثير من التأكيد على عامل القرابة بين بني هاشم وطوائف من قريش ، الأمر الذي كان له أثر كبير في حفظ حياته «صلى الله عليه وآله» من كيد أعدائه كما قلنا.

بل إننا نجد المشركين حتى في عدائهم له «صلى الله عليه وآله» ، وحتى حينما تآمروا عليه ليقتلوه ـ وكان ذلك هو سبب هجرته «صلى الله عليه وآله» ـ قد أخذوا بعين الاعتبار العلاقات القبلية ، وردّات الفعل التي سوف تنجم عنها فاختاروا عشرة أشخاص ، من كل قبيلة رجلا ، ليضربوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسيوفهم في آن واحد وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي المدينة أيضا كان ثمة أثر كبير لكرم ضيافة العربي ، ولوفائه بالعهد والذمار ، ولحسن الجوار ، ولحريته ، وحميته ، وأنفته وعزته ، واعتداده بنفسه ، وقوة إرادته ، وللشجاعة ، والإقدام ، وحتى لصفات القوة والغلظة ، التي ولدتها فيهم حياة الغزو والحرب ، وجعلتهم قادرين على التخلي عن العواطف في سبيل دينهم وعقيدتهم ، حتى لقد كانوا يقتلون أبناءهم ، وآباءهم ، وإخوانهم.

١٣١

١٠ ـ دور أبي طالب عليه السّلام :

يجب أن لا ننسى الدور الذي اضطلع به الرجل العظيم ، أبو طالب شيخ الأبطح «عليه السّلام» ، الذي وفر للنبي «صلى الله عليه وآله» حمايته المطلقة من كل أعدائه ومناوئيه.

١١ ـ أموال خديجة عليها السّلام :

ثم هنالك العامل الاقتصادي الذي وفرته له زوجته أم المؤمنين خديجة صلوات الله وسلامه عليها ، والتي كانت تمتلك ـ حسبما يرى البعض ـ عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية كلها.

وقد أنفقت كل تلك الأموال على المسلمين ، في الظروف الحرجة التي واجهوها ، إبان اضطهاد قريش وحصارها الاقتصادي لهم.

ومما يدل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتولى الإنفاق على المسلمين ، من أموال خديجة وأبي طالب (١) قول أسماء بنت عميس لعمر (٢) حين عيّرها بأنه سبقها بالهجرة ، وإنها حبشية حجرية ـ على ما نقل عن صحيح مسلم وغيره ـ قالت له :

«كنتم مع النبي «صلى الله عليه وآله» يطعم جائعكم ، ويعظ

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٦ وأموال خديجة أمرها أشهر من أن يذكر فراجع أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨١ ـ ٨٢ والبحار ج ١٩ ص ٦١ و ٦٢.

(٢) ستأتي مصادر ذلك في فصل : هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، حين الكلام حول ثروة أبي بكر.

١٣٢

جاهلكم» (١).

١٢ ـ جهاد علي عليه السّلام :

وأخيرا ، فيجب أن لا ننسى دور وصي وأخي النبي «صلى الله عليه وآله» ، أمير المؤمنين «عليه السّلام» ، حسبما سيظهر إن شاء الله ـ ولو بنحو محدود ـ في مطاوي هذه السيرة العطرة.

نعم ، لقد كان لكل ذلك دور هام في حفظ الدعوة ، وانتصارها ، وانتشارها ، كما لا يخفى على الناقد البصير ، والمتتبع الخبير.

وثمة أسباب أخرى قد ساعدت على ظهور الإسلام ، وانتشاره ، وانتصاره ، يمكن استجلاء بعضها من مطاوي التاريخ الإسلامي.

ونحن نكتفي هنا بهذا القدر ؛ لنوفر الفرصة لعرض حياة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بعد البعثة ، وبشكل موجز وواضح قدر الإمكان.

تنبيه هام وضروري :

إن كل ما ذكرناه آنفا لا يعني : أن ظهور الإسلام ، وانتشاره في الجزيرة العربية قد كان أمرا طبيعيا ، بحيث إنه لو توفرت هذه العوامل لأي دعوة أخرى ، فإنها تستطيع أن تحقق نفس النتائج التي حققها الإسلام ، بل الأمر على العكس من ذلك تماما ، فإن ظهور الإسلام ، وانتصاره في هذه المنطقة

__________________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٨٠ وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٥ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٧٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٧٢ وصحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ٣٥ وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٦ عن أبي نعيم ، والطيالسي ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٩٥ والأوائل ج ١ ص ٣١٤.

١٣٣

هو بذاته معجزة له ، ودليل على حقانية الإسلام ؛ وذلك لأن اليهودية قد كانت موجودة ، وكانت هذه الظروف أيضا موجودة ، ولكنها لم تستطع أن تؤثر أثرا يذكر في عقلية العربي ، ولا في سلوكه ، وتصرفاته (١).

وكذلك الحال بالنسبة للنصرانية ، التي كانت تهتم في تنصير كل من تقدر على تنصيره ، ثم هناك الزرادشتية وغيرها من الأديان.

وهذا معناه : أن لنفس المبدأ ، والرسالة ، والقائد دورا هاما جدا ، بل والدور الأول والأساس في عملية التغيير وفي النجاح وفي استمراره ، وبدون ذلك ، فإن كل نجاح ـ لو كان ـ فلسوف يكون محدودا جدا ، ولظروف معينة ، ولسوف ينتهي بمجرد انتهاء تلك الظروف.

وقد رأينا الإسلام رغم ما عاناه من مصائب وبلايا حتى على أيدي أبنائه ، كان ولا يزال يزداد قوة وفعالية على مر الزمن ، وفي مختلف الظروف والأحوال ، ولم يؤثر فقدان تلك الظروف والعوامل ، ولا تحولها وتقلبها لا في الإسلام ، ولا في فعاليته ، إن لم نقل : إنه قد زاد في ذلك بشكل ظاهر.

والذي يفسر لنا هذه الظاهرة ، هو ما ذكرناه آنفا من أن الإسلام يستطيع أن يستوعب طاقات الإنسان ، ويحولها ويطورها في مصلحة الرسالة والحق ، كما إنه يستطيع أن يتلاءم مع الظروف المختلفة ، فهو يملك لكل داء دواء ، ولكل مشكلة حلا ، ولكل ظرف ما يناسبه ، على عكس غيره من الدعوات الجامدة ، والمحدودة.

ولذلك ، فإن الإسلام عندما نجح في الجزيرة العربية ، وإن كان قد

__________________

(١) وإن كان دين اليهود مقصورا عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

١٣٤

استفاد من بعض الظروف ، وحوّل وطوّر الأوضاع السائدة في صالحه ، إلا أنه كان في نفس الوقت لا يجد في المنطقة التي ظهر فيها الكثير من المميزات الهامة التي من شأنها أن تساعده في مهمته ، ولولاها فإن أي دعوة أخرى لا تستطيع أن تنجح ، ولكن فقدها لم يؤثر على الإسلام ، كما أن امتلاك أعدائه لها لم يؤثر عليه أيضا.

وهذا أحد أسرار عظمة الإسلام وسموّه.

وفقنا الله للعمل في سبيله ، والاهتداء بهديه ، إنه ولي قدير.

١٣٥
١٣٦

الباب الثاني

من الميلاد إلى البعثة

الفصل الأول : عهد الطفولة

الفصل الثاني : خديجة في بيت النبي صلّى الله عليه وآله

الفصل الثالث : البعثة

١٣٧
١٣٨

الفصل الأول :

عهد الطفولة

١٣٩
١٤٠