الكواكب السيّارة في ترتيب الزيارة

شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن ناصر الأنصاري [ ابن الزيّات ]

الكواكب السيّارة في ترتيب الزيارة

المؤلف:

شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن ناصر الأنصاري [ ابن الزيّات ]


المحقق: أحمد بك تيمور
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة بيبليون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٠

ولا يغلق فى وجهك باب المحبوب يا ذا النون ان لله عبادا عرّفهم به فعرفوه وأطلق ألسنتهم بذكره فذكروه لو احتجب عنهم طرفة عين قطعهم شديد الخوف والبين وكان مكتوبا على عكازها

ما بقى دمع فأبكى

ها فؤادى فتشوه

ان وجدتم غير حبى

فدعونى ودعوه

ثم قالت يا ذا النون ليس الموعد هاهنا موعدى وموعدك الجنة

ويلى قبرها من الجهة الغربية قبر موسى بن طلحة التكرورى ثم تمشى قاصدا للسور تجد قبر الشيخ الفقيه الامام أبى على الحسن بن محمد بن الحسن الجيلى ذكره القرشى فى تاريخه وذكره ابن الجباس فى الطبقات وعدّه من المحدثين والفقهاء والمتصدرين وروى باسناده الى مروان قال قلت لعائشة رضى الله عنها هل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان لابن آدم جبلان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ عين ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب قالت نعم. وفى طبقته القاضى مالك بن سعيد الفارقى الشهيد المذكور ذكره ابن الجباس وعدّه من الفقهاء والقضاة والشهداء فهو معدود فى الثلاث طبقات وقبره من وراء السور ليس يفرق بينهما الا بناء السور حكى انه عزل نفسه عن القضاء فى النصف من رجب سنة ثمان وسبعين وثلثمائة ولم يزل الى الخامس من ذى القعدة سنة أربع وأربعمائة فلما ولى الحاكم أحضره وأمره أن يكتب سب الصحابة على أبواب المساجد فلم يكتب الا قول الله تعالى (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ثم عاد اليه فقال له أفعلت ما أمرتك قال نعم فعلت ما يرضى الرب قال وما هو فقرأ عليه الآيات ثم انصرف فأمر بضرب عنقه فضربت يوم السبت كما أمر الحاكم وقريبا منه قبور عديدة أشهرها قبر الرجل الصالح أبى جعفر الناطق ذكره ابن ميسرة فى تاريخه وحكى عنه أن قراقوش لما وصل الى هذا المكان وكان بعض الاسرى يحفرون فى مكان قبره فسمع من جوف القبر قائلا يقول امسك يدك فأمسكت يد الأسير فقال له الامير ويلك ما بك قال سمعت كلاما وكلما أردت أن أصنع بيدى شيأ أجدها لا تتحرك وأنا أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وقيل انه دفن الى جانبه وقريب منه قبور مكتوب عليها السادة الاشراف الطباطبيون وتقول العوام الشريف طباطبيا وليس بصحيح ويقولون أم الامام الشافعى وليس بصحيح فانها بمكة قال المؤلف عفا الله عنه دفنت فاطمة الازدية أم الامام الشافعى بمكة وهو الاصح ثم تأتى الى مشهد آسية

٤١

وليست بآسية بنت مزاحم زوجة فرعون المشهورة قصتها فى القرآن قال الشيخ موفق الدين ابن عثمان فى تاريخه انها ابنة مزاحم بن ابى الرضا بن سمنون بن خاقان أحد وكلاء أحمد بن طولون وقال صاحب كتاب مصباح الدياجى هى آسية ابنة زرزور بن خمارويه بن أحمد بن طولون قال شيخنا الادمى رحمه‌الله هى آسية ابنة مزاحم بن مطر بن خاقان وهو الاصح وانها من بنى خاقان والمقبرة تعرف ببنى خاقان. وأما آسية زوجة فرعون المشهورة فى القرآن فليس لها قبر يعرف وذلك لما رواه الثعالبى فى قصة الماشطة من طريق عطاء ابن السايب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما كنت ليلة أسرى بى وجدت رائحة طيبة فقلت ما هذه يا جبريل قال عليه‌السلام هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها قلت وما شأنها قال بينا هى تمشط ابنة فرعون اذ سقط المشط من يدها فقالت بسم الله فقالت ابنة فرعون أبى قالت لا ولكن ربى ورب أبيك الله قالت أو لك رب غير أبى قالت نعم قالت فأعلمه بذلك قالت نعم فأعلمته فأحضرها وقال يا فلانة ألك رب غيرى قالت نعم ربى وربك الله فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم جعل يلقى أولادها واحدا واحدا فى تلك البقرة فقالت ان لى اليك حاجة قال وما هى قالت أحب أن تجمع عظامى وعظام أولادى فى ثوب واحد فتدفنها جميعا قال لك ذلك علينا فلم يزل بأولادها حتى انتهى الى ابن لها رضيع فكأنها تقاعست من أجله فأنطق الله الولد فقال يا أماه اقتحمى فان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قال ابن عباس رضى الله عنهما ان الله أنطق فى المهد أربعا عيسى ابن مريم عليه‌السلام وصاحب جريج وشاهد يوسف وابن ماشطة ابنة فرعون وقيل ان آسية عليها‌السلام لما رأت ما فعل فرعون بماشطة ابنته أرادت أن ترجعه عن ذلك فقال لها كأنك على ما هى عليه قالت نعم فأمر أن تعذب وفى بعض أقوال الثعلبى أنها رفعت الى الجنة

ويلى تربة آسية المقدم ذكرها قبور أصحاب الخيم وهناك قبور لا تعرف أسماؤهم ثم ترجع الى باب السور قاصدا الى الجهة القبلية تجد قبرين مبنيين بالحجر أحدهما قبر أبى عبد الله الغافقى وقيل الفائقى والثانى أولاد ابن بنت أبى هريرة الجيزيين والى جانبهما قبور عديدة قديمة قال ابن ميسرة فى تاريخه هم من فقهاء مصر وذكر لهم نسبا متصلا بقريش منهم أحمد ومحمد أخوه وعبد الله ويحيى واسماعيل ويليهم من الجهة الغربية قبر كبير قال صاحب كتاب مصباح الدياجى كان عليه رخامة مكتوب فيها هذا قبر فضل بن بحر التاجر وحكى عنه المسبحى حكاية مطوّلة وهو الآن كوم تراب وهو معدود من أرباب الأسباب

٤٢

فى الطبقة العاشرة والى جانبه من الجهة القبلية قبر عنتر نجار المنبر ويقال جار منبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل انه جاور المنبر الشريف عشرين سنة وكان على قبره خامة قديمة تشهد بأنّه عنتر بن جعفر فقيه مصر وعالمها انتهت اليه الرياسة فى العلم والفتوى فى زمنه وكان عظيم الشأن جليل القدر كثير الصمت وكان يقول لسان ابن آدم سبع ضارى ان أطلقته ندمت وان أمسكته سلمت ذكره ابن يونس فى تاريخه وعده فى طبقة الفقهاء والمحدثين فهو معدود فى الطبقتين والى جانبه قبر خديجة ابنة العباس بن مرداس السلمى وقريب منها قبر رجل من ذرية عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم والى جانبه من الجهة القبلية بخطوات يسيرة قبر المرأة الصالحة زينب بنت الاباجلى قال صاحب مصباح الدياجى كان على قبرها قبة حسنة البناء والى جانبها قبر الخليفة الآمر على ما قيل وقريب منه من الجهة الشرقية قبر الشيخ أبى القاسم الفوطى والى جانبه قبور عديدة قد درست قال شيخنا الأدمى هى قبور المغاربة اللوّاحين وهم قوم شهروا بالصلاح وفعل الخير قيل انهم كانوا يصنعون ألواحا بأيديهم ويفرقونها على صغار المكاتب ثم تمشى مغربا تجد تربة مبنية بالحجر ليس بها باب بها قبران أحدهما قبر السيدة الشريفة فاطمة الصغرى القرشية يتصل نسبها بعبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم والثانى قبر عاتكة ابنة عيسى المكية وهو مكان مبارك عرف باجابة الدعاء حكى ابن أخى عطايا أن رجلا تاجرا مر فى الليل قريبا من هذه التربة ومعه متاع له فتعرض له جماعة يريدون أخذ ما معه فلما رآهم قصد الى هذا المكان ولم يكن به بناء فتوسل الى الله تعالى فسمع قائلا يقول له اقرأ الله لا اله الا هو الحى القيوم فقرأها فكان القوم يمسونه بأيديهم ولا يشعرون به فطال عليهم الأمر فمضوا وتركوه وهذا المشهد ذكره جماعة من أهل التاريخ والى جانبه من الجهة البحرية قبر الشيخ نجيم الابله كان رجلا مجذوبا يظهر عليه أكثر أحوال الفقراء وكل من سأله الدعاء يقول له كشك ولحم فشهر بذلك وله حكايات مشهورة وتحت جدار هذا المشهد من الجهة القبلية قبر الشيخ عبد الرحمن الخوّاص وتقول العوام ابراهيم الخوّاص وليس بصحيح فانه لم يمت بمصر وأما عبد الرحمن هذا فانه أخو شبل الواعظ وسيأتى ذكر شبل عند بيان قبره وكان عبد الرحمن هذا يسمى واعظ المقبرة قيل انه أقام عشرين سنة يقف كل يوم على المنامة ويقول شعرا

أيها العالم متم

مثلنا بالامس كنتم

٤٣

ليت شعرى فى سفركم

هل ربحتم أم خسرتم

فأقام تلك المدة ولم يجبه أحد فبينما هو يوم من الايام يتكلم على عادته اذ سمع قائلا يقول

قد وجدنا ما عملنا

سوف تلقون ما عملتم (١)

فلما كان من الغد مات رضى الله عنه قال صاحب مصباح الدياجى كان على قبره حائط قصير البناء وعند رأسه عمود وأما ابراهيم الخواص فسيأتى الكلام عليه فى كتاب غير هذا يتضمن أحوال السلف ومدافنهم قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام بن غانم المقدسى فى كتابه المسمى بشرح الاحوال كيف حالك يا خواص حتى أنت مكتوب من الخواص ومن أين لك هذا الاختصاص قال يا قوم جواهر الاحجار لا يجلبها الا غواص وظباء القفار لا يقتنصها الا قناص وطريق الاخلاص لا يسلكها الا الخواص فمن طلب نفيسا خاطر بنفيس ومن ونت همته قنع بالخسيس فعلى قدر همة الطالب تنال المطالب وعلى قدر خطبة الخاطب يسمع جواب المخاطب ما كل قاصد يبلغ المقاصد ولا كل وارد يستعذب الموارد ولا كل واجد متواجد ولا كل مجاهد مشاهد كم عليل لا يعاد وكم قتيل لا يقاد وكم مريد لا يراد وكم قريب حظه الابعاد فموائد الخواص لا يجلس عليها الا من تطهر بطهور (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) وطيب بطيب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) وغذى بلبان (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وسقى بشراب (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وكسى خلعة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وعقد له لواء (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) وكتب له توقيع (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) وحمى بحماية (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فمن صح له هذا الانعام غاص فى بحر الصفا وعام ومن حرم عليه هذا الطعام لم ينفعه عمل ولو عبد الله ألف عام شعر

ليهنك يا قلب يوم اللقا

ويهنك يا عين ذاك السنا

فنحن من الوصل فى موعد

اذا فصل الحكم ما بيننا

اذا ما شجا الطرف ذاك الحما

وبشر قلبى بنيل المنا

جمال تقدس فى عزه

وعلياه عم جميع الدنا

فمن جاء يسعى الى بابه

حقيرا فقيرا ينال الغنا

ومناقب ابراهيم الخواص غير محصورة وتوفى عبد الرحمن الخواص هذا بعد الستين وخمسمائة ثم تمشى خطوات يسيرة الى الجهة القبلية تجد تربة عبد الله بن وهب وتعرف بتربة بنت

__________________

(١) وفى رواية وكذا تلقون أنتم

٤٤

طولون بها قبر الفقيه الامام العالم المحدث عبد الله بن وهب بن مسلم مولى ابن أبى زمانة من أكابر المصريين مشهور بالعلم والصلاح حدث عن مالك وعن عمرو بن الحارث وعن عبد الله بن لهيعة وعن جماعة من المحدثين وحدث عنه جماعة وله كتب عديدة منها كتاب الجامع وكتاب الاهوال ذكره الكندى وعده فى طبقة يزيد بن أبى حبيب وأثنى عليه قال الشيخ رشيد الدين أبو الحسن يحيى الحافظ روى ابن وهب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة ألف حديث ما جرح فى حديث واحد وحكى أبو داود قال سمعت ابن وهب يقول جعلت على نفسى ان اغتبت مسلما أن أصوم يوما فلم أجد ذلك يشق على فجعلت على نفسى أن عدت الى ذلك تصدقت بدرهم فشق علىّ لأنى قد لا أجد الدرهم فما اغتبت أحدا بعدها وقال خالد ألف ابن وهب كتاب الاهوال فلما قرأه على القاسم صار لا يتكلم ثلاثة أيام ثم مات فى اليوم الرابع وحكى أحمد بن سعيد عن ابن وهب انه أراد دخول الحمام فلما دخله وسمع لغط الناس فيه وشدّة حره بكى وخر مغشيا عليه فلما أفاق سئل عن ذلك فقال تذكرت قوله تعالى ((وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ)) وروى ابن زولاق عن أبى الحسن قال سمعت ابن وهب يقول كنت أتمنى على الله ثلاثمائة دينار أنفقها فى طلب الحديث فبينما أنا أصلى فى ليلة من الليالى واذا برجل أتى ومعه قرطاس مربوط فوضعه على نعلى فصليت العشاء ثم أخذت القرطاس فوجدته ثقيلا ففتحته فاذا فيه ثلاثمائة دينار وحكى عنه أنه طلب الى القضا فأراهم الجنون فاطلع عليه بعض جيرانه فوجده يتوضأ والثعبان يشرب الماء من يده فقال له لم لا حكمت بين الناس فقال يا أخى ان القضاة يحشرون مع الملوك والملوك يحشرون كالذر والعلماء يحشرون مع الانبياء فأحببت أن أحشر مع الانبياء وقال القاضى عياض هو المشار اليه فى كتاب الموطأ فى أصحاب مالك يقول مالك عنه هو الثقة العدل يعنى عبد الله وقال أحمد بن أخيه لا أعلم عمى نام ثلاثين سنة ولقد كنا ننام فيوقظنا ببكائه وقال بن وهب رضى الله عنه اللقمة من الحرام تميت القلب أربعين صباحا ولا يزال آكل الحرام يأكل الحرام حتى يلقى الله وليس فى صحيفته حسنة وقال أيضا الشبهة تظلم القلب وهو من الفقهاء المحدثين والى جانبه قبر أخيه عبد الرحمن بن وهب روى عنه جماعة من المحدثين ومعهم فى التربة قبر ولده أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عرف بيحشل (١) وكلها فقهاء محدثون والى جانبهم قبر السيدة الطاهرة أم الخير ابنة على بن الحسين العلوية قبرها الى جانب قبر ابن وهب قال ابن عثمان هو قبر رخام مكتوب فيه فاطمة ابنة محمد بن الحسن

__________________

(١) نسخة بنجبل

٤٥

توفيت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال ابن الجباس ومعهم فى التربة حسن بن وهب الفقيه كذا مكتوب على قبره وكان على قبره رخامة فيها اسمه ونسبه وأيضا شعر

المال ينفد حله وحرامه

يوما ويبقى فى غد آثامه

ليس التقى بمتق فى دينه

حتى يطيب شرابه وطعامه

ثم تمشى خطوات يسيرة تجد على يسارك قبرا كان مبنيا بالحجر وهو قبر أبو الحسن الرماح قال صاحب مصباح الدياجى وبهذه التربة قبر القاضى أبى عبد الله محمد كان زاهدا عابدا ذكره الضراب وحكى عنه انه كان يقرأ فى كل ليلة ثلاث ختمات ويأتى أهله ثلاث مرات فلما مات وقفت زوجته وقالت رحمك الله يا أبا عبد الله لقد أرضيت الله وأرضيت أهلك قال ابن الجباس والى جانب ابن وهب قبر وهب بن مسلم مولى ابن أبى زمانة كان من كبار التابعين قال ابن قتيبة عن ابن وهب انه قال كان أبى من التابعين رأى عقبة وعبد الله بن الحارث وأبا بصرة رضى الله عنهم الا انه لا راوية له ثم تمشى مغربا تجد تربة بها قبر مقبل الحبشى قال صاحب المصباخ ولم أر أحدا من أصحاب التواريخ ذكره وحكى عنه بعض الزوار انهم أرادوا أن يدفنوه بغير هذا الموضع فارتفع نعشه فى الهواء وهذه التربة ليست له وانما هى تربة فاطمة بنت الحسين بن على ولم ينظروا الى الرخامة النى فى أصل البناء والى جانب هذه التربة من وراء الحائط الغربى قبور من الدفن الاول وهم جماعة من نسل الفضل بن العباس وهو مكان معروف باجابة الدعاء وقريب منه قبر عنبسة وقد تقدّم الكلام عليه فيمن دخل مصر وليس هو كما قال بعض الزوار عنبسة مقدّم جيش الامام على وقالوا مقدّم جيشه أبو موسى الاشعرى وليس بصحيح ثم تأتى الى الكوم المعروف بمصلى بنى مسكين ويسمى غير ذلك وقد دثر به قبور كثيرة منهم أبو الحسن على ابن الحسين بن الحسن المعروف بابن الخلعى كان من الفقهاء المحدثين شهر بالعلم والصلاح وله مصنفات قال ابن رفاعة كنت آنى الى أبى الحسن بن الخلعى فأجد عنده قوما يقرؤن عليه فأعجب من كثرتهم فسألت عن ذلك فقال هؤلاء الجان يقرؤن ويتفقهون كما تقرؤن وتتفقهون قال ابن رفاعة كنت أراه اذا سمع الاذان ينهض كأنه نشط من عقال وكان يأتيه الرجل وبه الالم فيضع يده عليه فيشفى لوقته وكان الناس يزدحمون عليه ويكتبون عليه الحديث وسنذكر رواياته ومن روى عنه من المحدّثين وكان رضى الله عنه يتمثل بهذا البيت شعر

أمين الله ان السجن باس

فلم وقعت وليس عليك باس

٤٦

قال ابن الجباس وقبره بمقبرة بنى مسكين وبينهم مصاهرة وبهذا المكان هارون بن عبد الله الزهرى كان قاضيا على مصر بعد القاضى عيسى بن المنكدر الذى اتفق له حادث مع المعتصم فى سنة أربع وعشرين ومائتين حين قدم الى مصر فى السنة المذكورة وكان يقول بخلق القرآن فقال ان يطعنى القاضى أجعل له فى كل شهر مائة دينار على ما بيده وكان للقاضى عيسى بن المنكدر فى كل شهر أربع مائة دينار وهو أول قاض جعلت له جامكية القضاء فلما قيل له فى ذلك قال لو قطعنى إربا إربا لا أقول بمقالته فأمر أن يقيد وينادى عليه ففعل به ثم أوقفه وجعل يضر به والناس يصيحون عليه حتى غشى عليه فحمله فى القيود الى العراق فمات بالعراق وترك ولدا بمصر وأقامت مصر بعده بلا قاض حتى ولى هارون ابن عبد الله الزهرى المقدّم ذكره فلم يزل قاضيا عليها حتى كتب اليه أن يمسك عن الحكم ومات بمصر وقبره بمصلى بنى مسكين

فأكبرهم الشيخ الامام العالم القاضى الحارث بن مسكين انتهت اليه الرياسة فى زمنه قال ابن عبد ربه فى كتابه العقد لما حمل القاضى الحارث بن مسكين الى بغداد فى أيام المحنة أوقفه الخليفة بين يديه وقال له ما تقول بخلق القرآن قال اياى تعنى قال نعم قال مخلوق قال فكفاه الله كيده وحسب انه قال بخلق القرآن وليس الامر كذلك وحكى عنه انه كان مجاور امرأة فقيرة فقيل انها أهدت اليه رطبا فى طبق مغطى فلما أكله جعل لها بكل رطبة دينارا وكان رضى الله عنه إماما فى علوم شتى وله مصنفات عديدة فى علم التاريخ وعلم الميقات وعلم الآلات والساعات وولى القضاء على مصر بعد القاضى محمد بن الحارث بن الليث الاصم قيل انه كتب الى ابن أبى داود كتابا يقول فيه لقد أعظمت الذمة على الله تعالى هل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم يقولون كما قلت أو يفعلون كما فعلت الويل لك من ديان يوم الدين فلما كان يوم الخميس ثالث شهر شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين جاءه كتاب الخليفة بعزله وضربه وحبسه فقام رجل يضر به فعوق عن ضربه ولم يستطع حركة فتبسم القاضى فقيل له مم تبسمك قال رضى الله عنه ما كان الله ليسلط أيدى الظالمين على جنوب تتجافى عن المضاجع فحبس وولى الحارث بن مسكين ومات القاضى أبو عبد الله محمد بن الليث الاصم بمصر ودفن بجبانتها وليس يعرف له بها قبر ودفن القاضى الحارث بن مسكين بمصلاه تحت كوم المنامة وبها نحو عشرين اماما من ذريته وغيرهم وهم ذرية مباركة ولهم عقب بمصر وخطتهم باقية ذكرها القضاعى وقيل انهم من نسل رجل مولى يقال له تمام. ثم تمشى مع ذيل الكوم

٤٧

مسقتبل القبلة تجد على يسارك من الجهة الشرقية قبرين داثرين أحدهما قبر السيد الشريف اسماعيل الديباج بن ابراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على ابن أبى طالب رضى الله عنه على ما قيل والثانى قبر أبى الفرج منصور ثم تمشى مستقبل القبلة طالبا مشهد القاضى بكار تجد قبل الدخول اليه قبر الشيخ أبى رحمة أحد مشايخ الزيارة كان مشهورا بالخير والصلاح وكان كثير التودد للاخوان وملازما لتلاوة القرآن وزيارة الصالحين ثم تجد هناك قبر الشيخ خزعل (١) الكتبى قال المؤلف واسمه أبو الحسن الواسطى وهناك أيضا قبر الرجل الصالح أبو الحجاج يوسف المعروف بالخضرى قال صاحب المفتاح كان عفيفا مشهورا بالصلاح ملازما لصلاة الفجر منذ عشرين سنة مافاتته يوما توفى رضى الله عنه سنة ثمان وسبعين وستمائة وهناك تربة الى جانب القاضى بكار من الجهة البحرية تعرف بتربة القارى والمستمع بها قبر الشيخ أبى العباس أحمد بن المشجرة المقرى كان من قراء أمير الجيوش وكان له صوت جيد بقراءة القرآن قال الشيخ موفق الدين بن عثمان زار ابن المشجرة قبر الشيخ أبى الحسن الدينورى يوما فرأى فقيرا فسأله الفقير أن يقرأ شيئا من كتاب الله فامتنع عن ذلك فلما رجع الى الأفضل طلب منه القراءة فلم يستطع فسأله عن ذلك فقال لا أدرى فقال له فأين كنت اليوم قال زرت قبر الشيخ أبى الحسن الدينورى قال فما الذى اتفق لك قال وجدت فقيرا وطلب منى القراءة فلم أقرأ فقال الافضل أمير الجيوش فالآن لا يخلصك الا الفقير انهض فى طلبه واسأله الدعاء فلما عاد اليه وجده لم يتغير من مكانه فسأله الدعاء وتمرغ بوجهه على أقدامه فقال له اقرأ فتح الله عليك فقرأ على عادته كما كان وحكى عنه أنه قرأ بجامع مصر وكان وقت الظهر فسمعه اثنان الى جانب بعضهما فانصدع قلب أحدهما ومات واستمع الثانى فغلب عليه الحال فمات فغسلا وكفنا ودفنا فى قبر واحد فالثلاثة بهذه التربة وبهذه التربة قبر الرجل الصالح المعروف بالجميزى قيل إنه كان مقيما بباب جامع مصر يبيع الجميز فجاءه انسان شريف من العلويين وأودعه مالا وأوصاه على ولده وقال له ان آنست منه رشدا فادفع اليه المال والا أنفقه عليه بالمعروف فلما مات الرجل كان الجميزى ينظر فى وجه الصبى كل قليل نظرة فلما آنس منه الرشد دفع اليه ماله وكان الجميزى فقيرا لا يملك شيأ ولا يجد ما ينفق بل كان عفيفا جدّا مشهورا بالخير والصلاح رضى الله عنه

ذکر مشهد القاض بکار رضى الله عنه وهو القاضى بكار بن قتيبة بن أسد بن عبد الله

__________________

(١) نسخة خزعلى

٤٨

ابن بشر بن أبى بكرة بن الحارث بن مخلدة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثقفى من أهل البصرة وهو من الدفن الأول ذكره القضاعى وأثنى عليه دخل الى مصر فى يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين ومائتين ولم يزل قاضيا حتى مات فى ذى الحجة فى سنة تسعين وكان السبب فى دخوله الى مصر ان المتوكل استشار قوما فيمن يكون قاضيا على مصر فأجمعوا على أن يولوا بكار بن قتيبة وكان قد بلغ المتوكل ما هو عليه من الزهد والورع والعفة والصلاح فأرسل اليه نجابا وكان مقيما بأرض البصرة فلما أن قدمها النجاب سأل عن مكانه فأرشدوه اليه فجاء الى المنزل وسأل عنه فقيل له قد مضى الى الفرن فجلس قليلا واذا به قد أقبل وعلى رأسه طبق الخبز فلما رآه النجاب ملتحفا برداء استحقره فلما دنا منه سلم عليه وقال له أنا رسول الخليفة قد جئتك بتولية القضاء على مصر وهذا كتاب الخليفة قال يا أخى لا أقدر على الوقوف قال لم قال لان الرداء الذى علىّ لوالدتى وقد استأذنتها ان أمضى به الى الفرن وأعود ولم أستأذنها فى الوقوف معك ثم دخل الى المنزل (١) (وعاد فدفع اليه رغيفين وقال له امض فى حفظ الله تعالى فتعجب الرجل من ذلك ولم يمكنه ردهما ورجع بعد أن قلده القضاء فلما عاد الى الخليفة فسأل عن قصته فأخبره بها وكيف أعطاه الرغيفين) فقال له الخليفة وما الذى صنعت بهما قال فرطت فى أحدهما وجئت بالآخر قال ائتنى به فلما جاء به الى الخليفة أعطاه مائة دينار وقال لو جئت بالآخر لاعطيتك مائة أخرى وأخذ الخليفة الرغيف وصنعه أكحالا وأدوية وادخره فلم يكن الا مدة يسيرة وأراد الخليفة أن يرسل النجاب فى رسالة فقيل انه أرمد وقد أشرف على العمى فاستحضره فلما حضر بين يديه أخرج له كحلا وقال له قل باسم الله واجعل منه فى عينيك ففعل ذلك فشفى باذن الله تعالى ومضى فى رسالة الخليفة فلما عاد قال يا أمير المؤمنين أريد أن أصنع ذلك الكحل فانى وجدت فيه شفاء عظيما فقال الخليفة عرفت ما صنعت بالرغيف الذى جئت به من عند بكار قال وما الذى صنعت به يا أمير المؤمنين قال جعلناه فى أكحالنا وأدويتنا فنجد به ما وجدت من الشفاء والبركة فندم النجاب على ما فرط فيه من أمر الرغيف وكان القاضى بكار من الفقهاء والمحدثين والقراء ويعد فى أربع طبقات أخذ الفقه عن هلال بن يحيى وحدث عن أبى داود الطيالسى وعبد الصمد بن عبد الوارث وجماعة من المحدثين فمما رواه بالسند الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ

__________________

(١) كذا بالاصل

٤٩

بسبع وعشرين درجة وقال الامام أبو جعفر الطحاوى سمعت أبا العلا الكوفى يقول حضرت يوما عند بكار بن قتيبة فدخل اليه رجلان يختصمان أحدهما أبو الآخر فنظر اليهما وأنشد

تعاطيتما ثوب العقوق كلا كما

أب غير بر وابنه غير واصل

وكان يحكم بمذهب أبى حنيفة رضى الله عنه وهو معدود من جملة التالين لكتاب الله وكان اذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها جميع ما حكم به ويبكى ويقول يا بكار قدم اليك رجلان فى كذا وكذا وحكمت بكذا وكذا فما جوابك غدا اذا وقفت بين يدى الله تعالى وكان أحمد بن طولون يبعث اليه فى كل سنة ألف دينار فلما جرى بينهما ما جرى قال أحمد بن طولون وأين جوائزى التى كنت أرسلها اليك قال فى المكان الذى كان يضعها رسولك فيه فابعثه يأخذها من مكانها ثم قرأ القاضى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية قال فجاء الرسول فوجدها ستة عشر كيسا ما نقص منها شئ وهذه جوائز القاضى بكار الذى كان يأخذها من ابن طولون قال ابن زولاق حدثنى بعض شيوخ مصر قال مررت على منزل القاضى بكار فى الليل فوجدته يصلى ثم فرغ من صلاته فبكى وقرأ (كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) وحكى ابن أخيه قال قدم على عمى رجل من أهل البصرة فأكرمه وأثنى عليه وقال هذا كان معى فى المكتب ومضى الرجل الى حال سبيله وجاء بعد أيام فى شهادة عند القاضى بكار ومعه شاهد آخر من أهل مصر فقبل شهادة الرجل الذى كان معه ولم يقبل شهادة الآخر فقلت له يا عم هذا الرجل أثنيت عليه خيرا فلم لم تقبله فقال يا ابن أخى ما رددت شهادته إلا لأمر فقال وما هو قال كنا على مائدة ونحن صغار وفيها أرز وفيه عسل فاخذت بأصبعى من وسط الارز فجرى العسل حتى دخل وسط الارز فقال أخرقتها لتغرق أهلها فقلت اتهزأ بكتاب الله فأمسكت عن كلامه مدّة فما قدرت على قبول شهادته وأنا أذكر ذلك منه وكان القاضى بكار محمودا فى ولايته عفيفا عن أموال الناس مات فى سجن أحمد بن طولون. وذلك أنه لما خرج الموفق بعث الى الاقاليم يطلب المال بأمر من الخليفة فحمل اليه المال من كل اقليم وبلدة إلا أحمد بن طولون فانه لم يرسل اليه شيأ فكاتبه الموفق فلم يجبه بشئ وعصى أمر الموفق وكان ابن طولون بمصر فجمع العساكر وركب فى مائة ألف وعشرين ألفا وخرج الى دمشق وملك أكثر الشام وأحضر قضاة الامصار وامرهم أن يخلعوا الموفق وأن يسجلوا على أنفسهم أن الموفق خارجى فأجابوه كلهم الا بكار فانه قال لا يثبت عندى ذلك فأعاده الى

٥٠

مصر ولما رجع ابن طولون واستقر فى قصره بعث الى بكار فجاء اليه وكان عند بكار يتيم يكفله فلما أحضره أوقفه فى مجلس الشرطة وأقام اليتيم معه فقال له اليتيم أنت أكلت مالى وأسمعه كلاما قبيحا فقال بكار اللهم ان كان كاذبا فاسلبه عقله فرئى من ليلته يرجم الناس بالحجارة فى الطرقات ثم سجن القاضى بكار فوقف أهل الحديث الى ابن طولون وقالوا على من نقرأ وقد سجنت بكارا فقال اذهبوا الى السجن واقرؤا عليه فكان الناس يأتون السجن ويقرؤن على بكار الحديث وكان يغتسل فى وقت الجمعة ويتوضأ ويأتى الى باب السجن فيقول له السجان ما أمرت بخروجك فيقول بكار اللهم فاشهد ثم يعود الى مكانه ولم يزل القاضى بكار فى السجن حتى احتضر ابن طولون فقال لابنه خمارويه اذهب الى القاضى بكار فقل له أبى يسلم عليك ويسألك أن تدعو له فخرج من عنده حتى أتى القاضى بكارا فوجده يصلى فلما سلم من صلاته قال له ان أبى يسلم عليك وانه بسألك الدعاء فقال له قل له انه عليل أشرف على قبره وأنا شيخ فان أشرفت على حفرتى والمجتمع بينى وبينه بين يدى الله تعالى فعاد خمارويه فوجده قد اشتدّ به النزع ومات ومات بكار بعده بمدّة يسيرة وحكى أمام مسجد الزبير وابن ميسر وابن أخى عطايا وابن عثمان وابن الجباس ومجد الدين الناسخ ان ابن طولون رئى فى المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال شفع فىّ القاضى بكار وكانت وفاة القاضى بكار فى سنة سبعين ومائتين وقيل ان أمّه دفنت الى جانبه قال المؤلف عفا الله عنه ومعه فى حومته قبر جدّه بشر بن أبى بكرة بن الحارث بن مخلدة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الكندى مات بشر بن أبى بكرة بمصر وقبره عند قبر ولده بكار قال أبو جعفر الطحاوى سمعت أبا العلى الكوفى يقول كان القاضى بكار يقول لى انطلق معى حتى أزور قبر جدّى فيأتى الى مكان قبره فيزوره ويقول هذا من التابعين قال الشيخ شرف الدين بن الجباس أخذ القاضى بكار القضا عن دحيم (١) بن اليتيم وأسد بن عبد الرحمن بن ابراهيم الدمشقى (٢) (وجاء بتوقيع القضا من بغداد فلما وصل الى الرملة مات وولى بعد القاضى بكار القاضى أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقى ولاه هارون الرشيد قضا مصر وفلسطين ودمشق وكانت ولايته سنة أربع وثمانين ومائتين) حكى أبو مالك قال أتيت دار أبى زرعة فسألت عنه فأبطأ علىّ خروجه فدخلت عليه فقلت لم لا تسرع للناس فقال يا أخى عفا الله عنك حدث لى أمر منعنى من الخروج اليك قلت بالله ما هو فقال سألنى رجل ثوبا ولم يكن لى غير ثوب واحد فاستحييت أن أرد مسألته فنزعت ثوبى له وجعلت

__________________

(١) نسخة رحيم

(٢) كذا بالاصل

٥١

علىّ رداء أهلى فاستحييت أن أخرج للناس على تلك الحال فجاء ولدى فأخذت ثوبه وأعطيته ثمنه قال أبو مالك فجئت الى هارون الرشيد (١) وقلت ما أغفلك عن أبى زرعة قال ما غفلت عنه جعلته قاضيا على مصر وفلسطين ودمشق وها أنا أتفقده بالجوائز فيردها قال أبو مالك فقصصت عليه القصة فأعطانى مائتى دينار فأخذتها وجئت بها الى أبى زرعة فلما دخلت عليه قال ما أسرع دخولك علىّ فأخبرته فقال لقد كنت أحسبك صديقا كيف تفشى أمرا كان بينك وبين أخيك والله لا كلمتك سنة قال أبو مالك فأخذت المال ورجعت الى هارون الرشيد وقصصت عليه القصة قال المؤلف وله حكايات مشهورة ولم يزل قاضيا الى شهر صفر فدخل محمد بن سليمان الى مصر من قبل الخليفة فى جموع كثيرة فصرف أبا زرعة قال الضراب ثم خرج أبو زرعة الى العراق ثم عاد الى مصر قاضيا عليها وتوفى بها وقبره بجبانتها وليس يعرف له بها قبر قال المؤلف وقد دثر قبر بشر بن أبى بكرة وبالحومة المذكورة جماعة من التابعين وهى الطبقة الثانية. منهم القاضى الخيرى بن نعيم بن كرب بن مرة الحضرمى يكنى أبا اسماعيل ويعدّ أيضا من القضاة وهى الطبقة الرابعة ومعدود من المحدّثين وهى الطبقة الخامسة وولى لبنى أمية وأثنى عليه مرثد بن أبى حبيب وهو من طبقته وله حكايات مشهورة قال سهل بن على كنت كثيرا ما أجالس الخير بن نعيم فكنت أراه يتجر فى الزيت فقلت يا سيدى أتكون فى أحكامك وتؤتى بالزيت بين يديك ويوزن ويباع قال يا بنىّ اذا أنت جعت ببطن غيرك عرفت قدر ما أنا فيه قال فقلت فى نفسى أيجوع انسان ببطن غيره فلما تزوّجت جمعت عندى سبعة من العيال فكنت أجوع ببطونهم فكنت أتذكر ما قاله القاضى رضى الله عنه وقيل انه كان يحكم فى مسجده الى بعد صلاة العصر ويخرج على باب المسجد فيحكم بين النصارى واليهود قال يزيد بن أبى حبيب ما أدركت من قضاة مصر أفقه من الخير بن نعيم كان يتكلم فى القضا والقصص وكان يقول الندم كل الندم لمن جار فى حكمه وكان يقول أيضا ليتنى كنت نسيا منسيا ولم أحكم بين اثنين وكان سبب عزله أن رجلا من الجند قذف رجلا فطلبه للقاضى وأقام عليه شاهدا فسجنه القاضى حتى يأتى خصمه بشاهد آخر فأرسل أبو عون وكان أميرا على مصر الى السجن فكسره وأخرج الجندى فعزل القاضى نفسه فأتى اليه الأمير وقال له لم لا تحكم بين الناس قال حتى تعيد الجندى الى السجن قال ناشر علينا بمن نولى قال عون بن سليمان قال ابن النحوى حضرت بين يدى القاضى

__________________

(١) هذا غير صواب

٥٢

الخير بن نعيم خصمين ادعى أحدهما على الآخر بعشرين دينارا فسكت الخصم فقال له القاضى ما يخلصك السكوت فدفع اليه رقعة وقال استرها سترك الله فسترها بكمه ونظر فيها فاذا مكتوب العشرون دينارا فى ذمتى وما علىّ بها شاهد إلا الله فان اعترفت اعتقلنى وان انكرت استحلفنى أفتنا يرحمك الله قال فبكى القاضى بكاء شديدا وأخرج من كمه منديلا وأخرج منه عشرين دينارا وقال لصاحب الطلب خذها فقال يا سيدى ما الخبر فقص عليه القصة فقال صاحب المال أنا أحق بذلك والله لا أطالبه أبدا فقال القاضى وأنا والله لا يعود لى المال وقال المديون وأنا والله بعد أن قضى الله دينى لا ألتمس منه شيأ قال فتصدق به القاضى فى المجلس. وحكى عنه رضى الله عنه انه كان فى منزله واذا بخصمين يختصمان على باب المنزل فقال للخادم انظرى من بالباب فخرجت اليهما فقال أحدهما أريد الاجتماع بالقاضى ينصفنى من خصمى وكان وقت المغرب فلما دخلت الخادم اليه قال لن يحصل لى اجتماع بهما الى غد فاخبرتهما بذلك فمضيا ولما كان الغد أتيا اليه وقال أحدهما يا سيدى إنى ابتعت من هذا الرجل جملا فظهر به عيب فأردت رده عليه فحلف انه ما يرده الا بحكم حاكم فجئنا اليك بالامس عقب النهار فلم يحصل لنا اجتماع بالقاضى وكان الجمل معنا فلما رجعنا به الى الخان أخذه أمر الله فمات من ليلته فهل يا سيدى هو فى ذمة البائع أم فى ذمة المشترى فقال القاضى لا فى ذمة البائع ولا فى ذمة المشترى بل هو فى ذمة القاضى الذى لم يخرج اليكما ويبث الحكومة بينكما ثم أدّى ثمنه رضى الله عنه قال ابن موهوب رويت عن الخير بن نعيم انه كان يقول معصية العالم بألف معصية وبلغنى ان الرجل من علماء بنى اسرائيل كان اذا أذنب يصبح وجهه مسودا وله مناقب مشهورة يضيق الوقت عن حصرها وتوفى الى رحمة الله تعالى فى سنة ست وثلاثين ومائة وقبره تحت كوم المنامة وكان عليه قبة. قال المؤلف وقبره أول قبور الحضارمة وآخرها قبر عبد الله ابن جذام الحضرمى وهو القبر المبنى على هيئة المصطبة تحت العقود من تربة سهل بن أحمد المسلوك اليها من تربة طباطبا يفرق بينهما الحائط وسيأتى الكلام عليهم ويجاور قبر الخير ابن نعيم من الجهة الغربية تربة لطيفة فى ذيل الكوم بها قبر مرثد بن عبد الله البجلى من كبار التابعين قال ابن لهيعة كان مرثد بن عبد الله البجلى يقسم الليل نصفين يجعل الأول صلاة والثانى تلاوة وقيل إنه ولى القضا بالاسكندرية وتوفى سنة سبعين ومعه فى التربة قبر كان مكتوبا عليه كثير مولى عقبة بن عامر الجهنى ذكره صاحب المصباح وقال هو من التابعين وذكر له حكاية وذلك أنه أتى عقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنه وقال له ان

٥٣

لنا جيرانا يشربون الخمر وإنى داع اليهم الشرطة فقال لا تفعل فذهب ثم أتاه ثانيا فقال لا تفعل فانى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من رأى زلة فسترها فكأنما أحيى الموتى من قبورهم وذكره ابن عبد البر

ومن طبقتهم أبو قيس واسمه عبد الرحمن وقيل سعد قال الشيخ شرف الدين بن الجباس هو ممن شهد فتح مصر واختط بها وليس يعرف له قبر ويجاور قبر الخير بن نعيم من الجهة الشرقية تربة بنى عبد الحميد القرشى فمنهم أبو الحسن على بن عبد الحميد القرشى قال ابن الجباس هو من أصحاب أبى الحسن على بن الرومى وكان بينهما صحبة وكان يرسل له الجوائز ويتفقده كل حين والى جانبه قبر أخته فاطمة ابنة عبد الحميد القرشية يقال انها أم جعفر صاحبة السماط والى جانبها قبر السيدة الشريفة فاطمة ابنة عبد الله بن الحسن ابن طباطبا كذا كان على قبرها مكتوبا وذكرها ابن الجباس فى طبقات الاشراف وقال هى بالقرب من فاطمة ابنة عبد الحميد القرشية ولم يذكر لها وفاة قال المؤلف وهى حومة مباركة وقد دثر أكثر قبورها ويجاورها من الجهة القبلية تربة أصحاب قضبان الذهب قيل إنهم رؤا فى المنام وبأيديهم قضبان من ذهب فقيل لهم ما فعل الله بكم فقالوا من زارنا فكأنما تصدق بقضبان الذهب والى جانبهم من الجهة القبلية تربة بنى سنان وهى تربة متسعة وكان بها ألواح رخام مكتوب فيها أسماؤهم وقد فقدت الالواح قال ابن الجباس كان لبنى سنان جنان لم ير أبدع منها ولا من ثمرها قال أبو داود فى السنن رأيت فى جنان بنى سنان قثاية فشبرتها أربعة عشر شبرا ورأيت أترجة قد شقت نصفين وحملت على جمل قال ابن النحوى وكان ابن سنان اذا عطشت جنته بسط يديه ودعا الله فتأتى سحابة من عند الله تعالى فتسقى جنته ولما دخل المأمون الى مصر دخل جنان بنى سنان فأعجبه ما رأى فيها فقال المأمون لأمير مصر لمن هذه قال لرجل يقال له ابن سنان قال علىّ به فلما أتى اليه قال له كم تحمل خراج هذه الجنان فى كل سنة قال عشرين ألف دينار قال فكم ترد عليك قال لا أستطيع حصره قال لم قال لانى أتصدّق بجميع ما يفضل من خراجها وذلك عند الله الحسنة بعشر أمثالها وتضاعف الى سبعين والذى يزيد عند ذلك مائة ألف دينار كلها صدقة لله تعالى قال المأمون اذهبوا الى بيته فانظروا ما فيه فلما جاؤا الى منزله لم يجدوا فيه غير آلة الوضوء فعادوا الى المأمون وأخبروا بما وجدوا فبكى المأمون بكاء شديدا وقال أيها الشيخ تصدّق بالخراج مع ما تتصدّق به وها أنا قد أمرت أمير مصر أن يعطيك ما تريد من أجل الصدقة فقال يا أمير المؤمنين دعنى لئلا يقطع (١) زخرف الدنيا فينقطع ما بينى

__________________

(١) كذا بالاصل

٥٤

وبينه قال فهل لك فى القضاء قال حاش لله ليس لى الا الرجوع الى أهلى فقد أبطأت عليهم وأخاف أن يدعوا عليك فقال اذهب الى أهلك لا بأس عليك قال المؤلف واسمه ابراهيم والى جانبه قبر ولده أحمد بن ابراهيم بن سنان البصرى دفن عن يمين قبر أبيه قال الشيخ أبو النجيب كانت له جارية سوداء تسمى بلاغ وكان يطحن معها الشعير ثم يعجنه بيده وليس له قوت غيره وكان يقول أشد المصائب أن يقال فلان طائع وهو عاص أو فلان عالم وهو جاهل وكان رضى الله عنه له اجتهاد فى العبادة كثير الصلاة والصدقة والمعروف محافظا عليها توفى الى رحمة الله تعالى سنة تسع وسبعين ومائتين والى جانبه قبر أخيه محمد بن ابراهيم بن سنان البصرى له حكايات مشهورة والدعاء عند مقبرتهم مستجاب والى جانبه قبر ابنته زينب وذكر صاحب مصباح الدياجى ان بمقبرتهم رجلا منهم يقال له الحسن وذكر وفاته بعد التسعين ومائتين وتوفيت زينب المقدّم ذكرها فى سنة سبعين ومائتين قال الشيخ شرف الدين ابن الجباس فى تاريخه من جعل تربة بنى سنان عن يساره ومقبرة الحضارمة عن يمينه ومشهد الشريف طباطبا أمامه وتربة القاضى بكار وراء ظهره ويسأل الله تعالى حاجته قضاها ومن وراء هذه التربة قبر مكتوب عليه فى رخامة هذا قبر همام بن عبد الله الغافقى حكى الطرايفى رضى الله عنه قال ما دعوت الله عند قبر همام الا وعرفت الاجابة وهى مقبرة مباركة وبها جماعة من الغافقيين وقبلى هذه المقبرة قبة بها قبر أبى العلا الكوفى قال المؤلف رأيت فى أعلاها مكتوبا اسمه قال ابن الجباس ولا أدرى أهو الذى سمع من أبى جعفر الطحاوى ونقل عنه ما تقدّم من أمر بكار أم لا وقال صاحب المصباح ان فى القبلة مكتوبا صالح بن محمد بن عبد الله العباسى وهذا غلط وصالح وأولاده فى حوش شرقى مشهد طباطبا وقد ذكرهم ابن الجباس وعين تربتهم وذكر ابن الجباس ان أول من دخل مصر من العباسيين فى أيام خلافة بنى أمية صالح بن محمد ابن على بن عبد الله بن العباس قال الضراب فى تاريخه وله حكاية عجيبة وذلك أنه أطلق عليه الموت ببغداد فلم يمت بها وكان الرشيد يحبه محبة شديدة فمرض مرضا شديدا أشرف منه على الموت وكان عند الرشيد طبيبان فأمر باحضارهما وكان يحب أحدهما فجس أحدهما مفاصله فقال انه يموت فى آخر الليل وقال الآخر نساؤه طلق وعبيده أحرار وماله صدقة لله ان كان هذا يموت فى هذه المرضة ثم انصرف فلما كان آخر الليل تشهد ثم مات فغمضه وشدّ لثامه ثم قال علىّ بالطبيبين فقال لأحدهما أمّا أنت فصدقت ثم التفت الى الآخر فقال له طلقت نساؤك وعتقت عبيدك فتصدّق بجميع مالك قال لم يا أمير المؤمنين قال انه

٥٥

قد مات قال أرنيه فلما رآه الطبيب تقدم اليه وجسه وأخذ ابرة ودخل بها بين لحمه وظفره فخرج الدم وتحرك أصبعه فسر الرشيد لذلك سرورا عظيما فقال له الرشيد قد وليتك يا ابن عمى مصر فقام لوقته دخل الى مصر فحكم بها أياما ثم مات قال الضراب وغيره وقبره أول قبر بيض بجبانة مصر وهو معدود من الامراء وهى الطبقة السابعة ومعه فى التربة ولده ابراهيم بن صالح بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب وأيضا بها قبر على ابن ابراهيم وبها جماعة من ذريتهم قال ابن الجباس وكان بمقبرتهم ما يزيد على عشرة ألواح رخام ولم يبق فيها الا رخامة فى أصل البناء مكتوب فيها يحيى المقرى مولى أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه وهذا النسب مكتوب على أكثر قبور الجبانة لانهم كانوا يفتخرون بذلك قال المؤلف وليس هذا التاريخ موجودا الآن وبجوار هذا الحوش تربة لطيفة بها قبرا روى العابدة وبجوارها تربة بها قبر أحمد بن محمد بن يحيى الواثقى وابنته أم محمد لا تعرف لهم وفاة ثم نرجع الى مقبرة الحضارمة وهى مقبرة مباركة قديمة معروفة باجابة الدعاء ذكرهم القضاعى فى تاريخه وأسماء مدافنهم بحضرموت قال المؤلف عفا الله عنه وقد اشترطنا فى كتابنا انا اذا ذكرنا مقبرة من هذه المقابر نذكر جميع من فيها ونذكر أولها وآخرها لان القضاعى ذكر مدافن كثيرة وقد دثر أكثرها وقبورا أكثرها لا تعرف وقببا ومساجد ولا بد من تعيين بعضها فى هذا الكتاب

فمن مدافنه التى ذكرها فى تاريخه الحضارمة ومدافن بنى عبسون قال المولف وهم الطباطبيون ومقبرة الجارودى ومقبرة الصدفيين ومقبرة المادرانيين ومقبرة الخولانيين ومقبرة القضاعيين ومقبرة بنى طعمة ومدافن الفقاعى ومقبرة العامريين ومقبرة المعافريين ومقيرة التجيبيين ومقبرة بنى كندة ومقبرة الكلاعيين ومقبرة الغافقيين وسيأتى الكلام على كل مقبرة فى موضعها والبيان على ذلك فى كل شقة عندها وبالله التوفيق

ذكر مقبرة الحضارمة وأولها كما تقدّم الكلام الخير بن نعيم وانتهاؤها عبد الله بن جذام الحضرمى وقال ابن الجباس آخرها الخير بن نعيم وأوّلها عبد الله بن جذام الحضرمى ذكره ابن الجباس فى طبقة القضاة وقال انه أخذ القضاء عن عياض بن عبد الله الأزدى ولم يزل على القضاء حتى صرف عنه سنة ثمان وتسعين وهو الثالث عشر من القضاة الأربعين ورد بن مجيرة الى القضاء ثم صرف ورد عياض بن عبد الله فلم يزل قاضيا حتى صرف سنة مائة ثم ولى عبد الله بن جذام الحضرمى وهو القاضى الرابع عشر وحكم سنين وكان شديدا فى أحكامه فذكر ذلك أهل مصر وشكوا أمرهم فصرف عنهم فقال الحمد لله الذى خلصنى

٥٦

وحمانى وكان اذا تكلم فى الحكم قال اللهم غفرانك قد حكمت ولا أعلم هل وافقت أم لا ثم ولى يحيى الحضرمى وهو يحيى بن ميمون الحضرمى روى عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ولم يزل قاضيا حتى صرف سنة أربع عشرة ومائة قال الضرّاب ولم يكن محمودا فى ولايته وقيل انه كان بين يدى القاضى يقبل الهدية ثم ولى القضاء بعده زيد بن عبد الله بن جذام الحضرمى وهو الخامس عشر أقام على القضاء سنين ثم مات فى سنة خمس عشرة ومائة وكان محمود المذهب كثير التواضع يركب دابة ويمشى وحده ويتصدّق بقوته ويبيت طاويا ويطحن فى الليل بيده وأقام مدّة تزيد عن خمس عشرة سنة يصلى الصبح بوضوء العشاء وقيل له إن أمير المؤمنين قد بعث إليك بخمسمائة دينار فغلق بابه وبعث يقول للامير انى أخيرك إما أن تأخذها وتنفقها على ضعفائك وإما أن أعزل نفسى من القضاء فتصدّق بها ولم يقبل منها شيأ وكان اذا جاء اليه معسر تفرس له ويقول لخصمه وما يدريك أنه معسر فيقول هو كما تقول وقد أنظرته وكان كثير التواضع وناظر رجلا من القدرية فلم يزل يغلظ عليه فى القول وهو يلين له وكلما سفه الرجل عليه زاده حلما الى أن ترك القدرى ما كان عليه وتاب الى الله تعالى على يديه ثم ولى القضاء. ثوبة بن نمر (١) الحضرمى وهو السادس عشر ولما ولى القضاء دعا زوجته ثم قال لها كيف علمت صحبتى لك قالت جزاك الله خيرا فقال لها وقد علمت ما بلينا به من أمر الناس فاياك أن تعترضينى فى خصم أو تذكرينى به أو تمنعينى من القضاء فانك ان فعلت ذلك طلقتك فكانت لا تكلمه إلا فيما لا بدّ لها منه حتى إنها كانت تحتاج الى الماء فلا تذكره له خوفا أن تدخل عليه فى يمينه واستعفى فقال له المتولى اشر علينا بمن نوليه بعدك فقال لا يصلح إلا الخير بن نعيم فانه لم يشتهر عنه إلا خير ثم ولى عون بن سليمان الحضرمى فلم يزل قاضيا بها حتى خرج مع صالح بن على فى سنة أربع وأربعين ومائة ثم ولى عبد الرحمن بن سالم الخبشانى ولم يزل قاضيا بها حتى استغاث منه الناس وطلبوا الخير بن نعيم فولى واشتهر له بعد ذلك مناقب عظيمة ثم صرف وولى أبو خزيمة الرعينى بن ابراهيم بن زيد وكان سبب ولايته أن أميرا قدم الى مصر فأجمعوا له على ثلاثة حيوة بن شريح وأبو خزيمة وعبد الله بن عباس فأحضرهم وكان الى جانبه رجل يشير الى كل أحد منهم فنظر الى حيوة فوقع فى نفسه أنه يشير اليه فقال حيوة أيها الأمير أدننى منك ففعل فقال أيها الأمير والله لو قطعتنى إربا إربا ما وليت القضاء فقال انى مستشيرك قال عليك بالكوسج فولى أبا خزيمة القضاء وولى عبد الله بن عباس القصص

__________________

(١) نسخة تيمور

٥٧

وكان حيوة بن شريح حاضرا فاستأذن الأمير فى الانصراف فقال له انصرف فى حفظ الله وكان أبو خزيمة اذا غسل ثيابه أو اغتسل يشتغل حسب ذلك ويقول انما أنا عامل للمسلمين فاذا اشتغلت فى غير عملهم فلا يحل لى أن آخذ شيأ وكان له فى كل شهر دينار وسئل بثمانين دينارا فأبى وقال ليس لى حاجة إلا بهذا وحكى انه كان يصنع فى كل يوم رسنين فينفق ثمن أحدهما على نفسه وعائلته ويرسل ثمن الآخر الى اخوانه بالاسكندرية فتعوّق مرة ولم يرسل اليهم شيأ فأرسلوا اليه يقولون (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ألهتك الدنيا حتى قطعت ما بينك وبين الله تعالى وقيل انه استخلف عبد الله بن هلال الحضرمى وكان عبد الله بن هلال يجلس للناس فى المسجد الأبيض صاحب المنارة التى تلى الصخرة يعرف بمسجد مسلمة بن مخلد وقدم عون بن سليمان فأقرة نائبا له فحكم بين الناس حتى مات عبد الله بن هلال فقال بعضهم انه فى مقبرة الحضارمة وقال ابن الجباس إن قبره عند قبر الرفا قبلى الأدفوى قال المؤلف وسيأتى الكلام عليه عند ذكر النقعة. ثم ولى عبد الله ابن لهيعة الحضرمى قيل انه بمقبرتهم وقيل انه بسفح المقطم وقيل انه فى النقعة الكبرى هو وأخوه عباس بن لهيعة وسيأتى الكلام عليه ان شاء الله تعالى ثم ولى يونس بن عطية الحضرمى كانت له حلقة فى العلم ثم استناب رجلا من تجيب فبلغه عنه أنه قام لرجل فى المجلس فعزله وقال ليس على هذا مضى السلف وكان كثير تلاوة القرآن قال يونس ابن عطية لأصحابه إياكم والشح فانه أهلك من كان قبلكم وكان يقول لا يأمر بالبخل إلا ذو القطيعة والفجور وحكى أنه سمع ممن حضر خطبة الزبير بن العوّام بالبصرة فقال أيها الناس ان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر الىّ وقال يا زبير انفق ولا توكى يوكى عليك ووسع يوسع عليك ولا بضيق يضيق عليك واعلم يا زبير ان الله يحب الانفاق ولا يحب الأقتار ويحب السماحة وهى ثمرة الشجاعة توفى رضى الله عنه سنة ست وثمانين (١) واختلف أهل التاريخ فيمن ولى بعده فمنهم من قال ولى ابن أخيه ومنهم من قال بل ولى بعده ولده والله أعلم ثم ولى لهيعة بن عيسى بن لهيعة الحضرمى فلم يزل قاضيا حتى قدم المطلب بن عبد الله بن مالك فوجده قد اشترى حزمة بقل من السوق فقال لا يصلح أن يكون هذا قاضيا فعزله فى أول سنة ثمان وتسعين ومائة وولى المطلب بن فضل بن غانم وقيل الفضيل فأقام سنة أو نحوها ثم سجن رجلا من الجند عليه دين لأهله فبعث اليه الامير يقول له أطلقه فقال لا فعزله ثم أعاد عيسى (٢) بن لهيعة فلم يزل قاضيا حتى مات فى سنة (٣) أربع وثمانين

__________________

(١) لعله ومائه بدليل ما بعده

(٢) اسمه فيما سبق لهيعة بن عيسى

(٣) هذا خطأ مع قوله السابق فعزله فى أول سنة ١٩٨

٥٨

ومائة ثم ولى عرفطة بن نعيم الحضرمى وعون بن سليمان الحضرمى ويحيى بن ميمون الحضرمى قديم الوفاة بمصر معدود من التابعين من أجلاء العلماء روى عن سهل بن سعد الساعدى ومعهم فى التربة أبو بكر بن عبد الله بن عبيد الحضرمى قال صاحب المصباح انه من ذرية العلاء بن الحضرمى صاحب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى كتاب عيون الحكايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جيشا فى البحرين فيهم العلاء بن الحضرمى فجاء والبحر بينهم وبين عدوّهم فصلى ركعتين ودعا فجازوا والغبار يصعد من حوافر خيلهم وهى مقبرة مباركة معروفة باجابة الدعاء ومعهم فى المقبرة جماعة من الاشراف وشرقى هذه المقبرة كوم فيه قبر الشيخ أبى الحسن على الجزرى

ومن به من نسل طباطبا وأخيه ومن بهذه التربة من غيرهم وتربة سهل ومن بها فبهذا المشهد قبر مكتوب عليه ابراهيم طباطبا بن اسماعيل الديباج بن ابراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم ولا خلاف عند علماء النسب فى صحة هذا النسب الا ان طباطبا لم يمت بمصر ولا تعرف له بها وفاة وسمى طباطبا لرتة كانت فى لسانه قال أبو بكر الخطيب لما قدم بغداد فى خلافة الرشيد سمع به فبعث اليه فظن أن أحدا قد وشى به فدخل على الرشيد فقام الرشيد وأجلسه الى جانبه وقال له ما جاء بك يا أبا اسحق فقال ظلمنى صاحب الطبا يعنى صاحب القبا فكان يقلب القاف طاء وللسيد ابراهيم طباطبا من الاولاد لصلبه القاسم الرسى والرس قرية من قرى المدينة سكن بها فنسب اليها ولما دخل الى مصر جلس بالجامع العتيق واجتمع عليه الناس لسماع الحديث وجمعوا له المال فأبى أن يقبله فازداد أهل مصر فيه محبة وكانت له دعوة مجابة قال العبيدلى النسابة انه كان أبيض مقرون الحاجبين كثير الخشوع لا يتكلم الا بالقرآن والحديث قال حدّثنى أبى عن جدّى عن أبيه عن الحسن المثنى عن أبيه الحسن السبط عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال من أراد البقاء ولا بقاء فليلتحف الرداء وليباكر الغداء وفى رواية ولا يكاثر الغداء وليقل من مجامعة النساء خير نسائكم الطيبة الرائحة وكان القاسم أكثر أهل زمانه علما وحديثا وقيل إنه عاد الى الحجاز ومات بالرس سنة عشرين ومائتين وقيل إنه معهم فى التربة ومن أولاد طباطبا لصلبه الحسن الأكبر والحسن الأصغر وعبد الله وأحمد وبغا (١) الكبير وبغا الصغير والأزرق الكبير والأزرق الصغير فمن أولاد الحسن الكبير بهذه التربة على بن الحسن بن طباطبا كانت له

__________________

(١) فى النسخ بيغا

٥٩

مكانة قيل إنه بلغ ماله بعد موته ثلاثة قناطير من الذهب ونصف وسبعة قناطير فضة ومائة عبد ومائة أمة وكان قد أوصى بنصف ماله صدقة وتوفى رضى الله عنه فى سنة خمس وخمسين ومائتين وبهذا المشهد الامام أحمد بن على بن الحسن بن طباطبا كان جليل القدر وله مكانة مذكور فى طبقة الشعراء وله كلام رائق قيل إنه تصدّق بمال أبيه كله حتى كان لا يجد ما ينفق فكان يأكل فى اليوم والليلة مرة واحدة فلما بلغ ذلك ابن طولون وقع له بقرية من قرى مصر وكان يشفع عنده ويمشى فى قضاء حوائج الناس فيقضيها قال ابن زولاق لم ير فيمن نزل مصر من الأشراف أكثر شفقة ورأفة وسعيا فى قضاء حوائج الناس من أحمد بن على بن الحسن بن طباطبا قال ولده عبد الله شفع أبى عند صاحب مصر شفاعة فى قوم كان قد طلب منهم مالا فأبى أن يقبل شفاعته فلما كان الليل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره أن يقبل شفاعته وبهذا المشهد الامام عبد الله بن أحمد بن على بن الحسن قال ابن النحوى فى كتاب الرد على أولى الرفض والمكر فيمن كنى بأبى بكر كان عبد الله بن طباطبا شريفا عفيفا فصيحا جميلا وكان له رباع وضياع ونعمة ودائرة متسعة وكان كثير الافتقاد للفقراء والأرامل والمنقطعين وحكى ابن زولاق قال حدثنى عبد الله بن أحمد بن طباطبا قال رأيت فى المنام كأن طاقة فى السماء فصعدت اليها ومشيت فيها فرأيت سريرا عليه امرأة فعلمت أنها خديجة فسلمت عليها فقالت من تكون فقلت عبد الله بن أحمد بن طباطبا فصاحت يا فاطمة قد جاءك من أولادك ولد فخرجت من بيت على يسار خديجة فقمت اليها فقالت مرحبا بالولد الصالح ثم أقبل اثنان أعلم أنهما الحسن والحسين فقبلت يد الواحد فقال عمك وأشار بيده الحسن ثم خرج رجل عليه سكينة ووقار فقال أحدهما هذا جدّك على بن أبى طالب ثم رأيت رجلا أقبل جليلا جميلا فانكببت على رجليه أقبلهما فمنعنى وقال لا تفعل هذا يا أحمد (١) مرحبا بالولد الصالح وجلسوا يتحدّثون فما أنسيت طيب حديثهم الى الآن فقال لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قم فأخذ بيدى وأنزلنى من الطاق ويدى فى يده وهو يقول لى بلغت الارض فأقول لا الى أن بلغ ابهام رجلى الارض فلما وصلت رجلى للارض انتبهت كالمصروع لا أعقل شيأ فجاؤا لى بالمعبرين وعلقوا على التعاويذ فبلغ الحديث الى أبى عبد الله الزيدى فجاءنى وسألنى عن قصتى فحدّثته فقال ليتنى كنت معكم قال ابن النحوى فى كتاب الردّ على أولى الرفض والمكر فيمن كنى بأبى بكر وكان فى دهليز داره رجلان

__________________

(١) تقدم ان اسمه عبد الله بن احمد

٦٠