عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

١
٢

٣

٤

تقديم بين يدي الكتاب

للدكتور / عبد اللطيف الصباغ

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تعالى وأثني عليه الخير ، كله وأصلي وأسلم على سيدنا محمد معلم الناس الخير ، والأمين على وحي ربّه ، الذي أرسله رحمة للعالمين ، وبعد :

فقد رغب إلي أخي وصديقي وزميلي العزيز الأستاذ الباحث المحقق الدكتور عبد الله نذير أحمد مزي ، حفظه الله تعالى ، أن أكتب كلمة مختصرة بين يدي هذا الكتاب ـ (كتاب عدة الإنابة في أماكن الإجابة) للعارف الفقيه السيد عبد الله بن إبراهيم مرغني الحسني المكي الحنفي الملقب بالمحجوب (ت ١٢٠٧ ه‍) ، الذي قام بتحقيقه ونشره في هذا الإصدار ، إحياء لأثره والتماسا لإرشاد الناس إلى تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى ، والدلالة عليها في بلاد الحرمين الشريفين حماهما الله وحرسهما وأعلى منارهما في الخافقين.

والكتاب يعتبر سجلا حافلا لمواطن إجابة الدعاء ، وتحصيل فضيلة الذكر ، وثواب العبادة في هذه المشاعر الشريفة ، في الحرم المعظم وما حوله ، ويبدو لقارئ الكتاب أن مؤلفه ، يرحمه‌الله تعالى ، فقيه حنفي متمكن ، ومطلع على مذاهب الفقه الأخرى ، لكن مشربه مشرب صوفي منضبط إلى حد ما بهدي السلف الصالح ، وقواعد المنهج السلفي المعتدل! وهذا يظهر في بعض تعليقاته وتعقيباته.

٥

ومن المعلوم أن تحديد مواطن إجابة الدعاء أمر توقيفي ، لا يصح ولا يقبل إلا بالأدلة الشرعية المعتبرة من : قرآن ، وسنة وأثر نبوي صحيح ، ولا يجوز أن يترك للظنون ، والاجتهادات ، والحكايات ، والتجارب.

ولقد توسع المؤلف رحمه‌الله تعالى في سوق كثير من الأحاديث الضعيفة ، ميلا مع القاعدة الحديثية التي ترجح الأخذ بالضعيف من الأحاديث في فضائل الأعمال ، كما توسع في الاعتماد على مقصد التبرك ، وتحصل البركة والثواب ، في ترجيح بعض التعيينات ، وتحديد بعض الأماكن والأوقات.

والحق أن مواطن إجابة الدعاء ، وأوقاتها ، من الأمور الشرعية التي لا يجوز التساهل فيها ، والتوسع فيها ؛ لأن ذلك يؤدي إلى ركام من الأخبار والممارسات البدعية ، التي تشكل حجابا للدين العتيق ، والعبادة المأثورة الخالصة ، فلا يجوز إثباتها إلا بنص قرآني ، أو حديث نبوي صحيح ، أو أثر موقوف صحيح ، له حكم الحديث المرفوع ، والتساهل في ذلك ، ولو عن حسن نية وسلامة قصد ، مظنة التزيد في الدين بما لم يأذن به الله تعالى ، وتعظيم شعائر الله تعالى يتجلى في الإتباع ، وترك الغلو والابتداع ، بل إنه «يتنافى مع الغلو في أداء المناسك بل هو نقيض ، وهذا الغلو يظهر في التشدد وفي مجاوزة الحد فيها وفي البحث عن غوامضها ، والتنطع في تطبيقها» ، وكم حمدت لأخي الدكتور عبد الله تعليقاته في الهوامش على بعض البدع والتجاوزات بعلمه الواسع ، وصدقه العميق في إتباع الكتاب والسنة ، وكم كانت تلك التعليقات سديدة وموفقة ، فجزاه الله خيرا وثبته بالقول الثابت على الحق.

على أن الكتاب يبقى ذا فائدة لا شك فيها ، ومتعة للباحثين عن المشاعر ، والمواطن الشريفة ، والآثار النبوية ، وآثار الصحابة والتابعين ، وأهل العلم والصلاح ، وهو يمثل ثقافة الحج الشائعة في عصر المؤلف رحمه‌الله تعالى ،

٦

وهو القرن الثاني عشر الهجري ، كما يمثل معارف ذلك العصر وأحواله ، وعاداته الإجتماعية.

أما أخي الدكتور عبد الله نذير أحمد مزي ، فله مني خالص المحبة والتقدير ، وهو لا يزال يحسن الظن بي رغم قصوري وضعفي ، غفر الله لي وله ، وإني بهذه المناسبة أحب أن أعبر له وللإخوة القراء عن اهتمامي الكبير بأعماله العلمية المتتابعة ، وإعجابي بهمته القسعاء وإرادته القوية ، ومثابرته الصبورة وتواضعه الجمّ مع زهد وشكر لله مولانا المنعم المتفضل الجواد.

العلم رحم بين أهله ، وأسأل الله تعالى أن يعيننا جميعا على وصل هذه الرحم وتقويتها وإعلاء شأنها ، كما أسأله سبحانه أن يعين أخي الباحث المحقق الدكتور عبد الله نذير ويديم توفيقه ويسدد فكره وعمله وقلمه ، وأن ينفع بعلمه وعمله المسلمين بعامة وطلاب العلم وشداته بخاصة ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفقير إلى رحمة ربه

د. عبد اللطيف الشيخ توفيق الشيرازي الصبّاغ

أستاذ العقيدة والملل والنحل بقسم الدراسات الإسلامية

لية الآداب ـ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة

٧

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ، حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد :

فإن الدعاء عبادة لله تعالى ، وهو : «استدعاء العبد ربه عزوجل العناية ، واستمداده إياه المعونة.

وحقيقته : إظهار الافتقار إليه ، والتبرؤ من الحول والقوة ، وهو سمة العبودية ، واستشعار الذلة البشرية ، وفيه معنى الثناء على الله عزوجل ، وإضافة الجود والكرم إليه سبحانه وتعالى.

فشأن الدعاء عظيم ، ونفعه كبير لكل إنسان في هذه الحياة ، فبالدعاء يستجلب الخير ، وبه يدرأ الشر والسوء (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل : ٦٢] ، وبالدعاء يسأل الإنسان مطلبه ومبتغاه من خالقه وبارئه ، وبه يبلغ مناه في الدنيا والآخرة : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) [البقرة : ١٨٦] ، والدعاء ليس قاصرا على الطلب فقط ـ كما هو مفهوم العامة ـ بل إنه يتضمن توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية دون ما سواه ، وبذل ما

٨

يستحقه سبحانه وتعالى من الذل والافتقار ، والخشوع ، والخضوع من مخلوقاته : (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [الأعراف : ٢٩] ، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥].

وبالجملة فإن الدعاء سبب لجلب كل خير ، ودفع كل شرّ في الدنيا والآخرة.

وقد ورد الكثير في فضائل الدعاء وثمراته ، وأسراره ، فلا أطيل بذكرها هاهنا ؛ وقد كتبت فيه المطولات والمختصرات.

والإنسان مجبول بطبعه وفطرته على الطلب والدعاء من الله عزوجل (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٦٥) [العنكبوت : ٦٥].

كما أن للدعاء شروطا وآدابا ينبغي توافرها في الداعي لاستجابة دعواته.

وثمة أوقات وأماكن ، وأحوال وأوضاع يستجاب فيها الدعاء ـ ذكرها المؤلف باختصار في المقدمة ـ ، وكل هذه واردة في الأحاديث والآثار المشتهرة على ألسنة الناس على اختلاف في مراتب الحديث المشهورة.

فموضوع الكتاب مختص بمواطن وأماكن إجابة الدعاء بمكة المكرمة ، والمشاعر المقدسة بحسب ورودها في سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثار الصحابة والتابعين ، وقد ضمّنها المؤلف فوائد وملاحق من أحكام وأدعية وآثار ونحوها ؛ حيث إن الكتاب في أصله شرح «على منظومة الشيخ عبد الملك العصامي» ، كما ذكر المؤلف في المقدمة ، والمنظومة كما أوردها السيد البكري في إعانة الطالبين بقوله :

٩

قد ذكر النقاش في المناسك

وهو لعمرى عمدة للمناسك

أن الدعا في خمسة وعشره

في مكة يقبل ممن ذكره

وهي الطواف مطلقا والملتزم

بنصف ليل فهو شرط ملتزم

وداخل البيت بوقت العصر

بين يدي جذعته فاستقر

وتحت ميزاب له وقت السحر

وهكذا خلف المقام المفتخر

وعند بئر زمزم شرب الفحول

إذا دنت شمس النهار للأفول

ثم الصفا ، ومروة والمسعى

لوقت عصر فهو وقت يرعى

كذا منى في ليلة البدر إذا

ينتصف الليل فخذ ما يحتذى

ثم لدى الجمار ، والمزدلفة

عند طلوع الشمس ، ثم عرفة

بموقف عند مغيب الشمس قل

ثم لدى السدرة ظهرا وكمل

وقد روى هذا الذي قد مرّا

من غير تقييد بما قد مرّا

بحر العلوم الحسن البصري عن

خير الورى ذاتا ووصفا وسنن

صلى عليه الله ثم سلما

وآله والصحب ما غيث هما

وقوله وقد روى هذا الذي الخ قد نظمه بعضهم كذلك وزاد عليه خمسة مواضع ـ فقال :

دعاء البرايا يستجاب بكعبة

وملتزم الموقفين كذا الحجر

طواف وسعى مروتين وزمزم

مقام وميزاب جمارك تعتبر

منى ويماني رؤية البيت حجره

لدى سدرة عشرون تمت بها غرر

وإذا كان الدعاء عبادة توقيفية ، فكذلك أماكن إجابتها ، ما لم يطلق ، والأصل فيه الإطلاق.

١٠

ولئن كان الغالب في تلك الأحاديث الضعف ، فإن أنّ الأحاديث الضعيفة مقبولة ويعمل بها في فضائل الأعمال ـ مع شروط ـ كما هو مذهب كثير من أهل العلم ـ ومعلوم أن أهل العلم يتساهلون في قبول أحاديث فضائل الأعمال بما لا يتساهلون به في الأحاديث المتعلقة بالعقيدة والأحكام من حلال وحرام.

قال الإمام أحمد ـ رحمه‌الله ـ في قبول ذلك : «إذا روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد ، وإذا روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد».

وقال الإمام النووي ـ رحمه‌الله ـ في مقدمة كتاب الأذكار : «قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكون موضوعا .... ـ ثم قال مقررا ذلك ـ إنما ذكرت هذا الفصل ... فأردت أن تقرر هذه القاعدة عند مطالع هذا الكتاب ...».

هذا وقد ذكر المؤلف رحمه‌الله تعالى ـ جميع ما ذكر في السنة والآثار من أماكن إجابة الدعاء بالكعبة المشرفة وما حولها بداخل المسجد الحرام وهكذا في مواطن بمكة المكرمة ثم المشاعر المقدسة ، مع ما قيل فيها من الأدعية المأثورة.

بل ذهب ـ رحمه‌الله ـ في هذا الكتاب مذهب العلماء الأوائل ؛ إذ لم يكتف بذكر موضوع الكتاب (مواطن إجابة الدعاء) كما يظهر من عنوان الكتاب ، بل استطرد في كل مسألة بذكر الخلاف ، وما تعلق بها من فروع بإيجاز ، وإن كان

١١

الغالب تمسكه والتزامه فيما ذكره بمذهبه (الحنفي) أصولا وفروعا ؛ حيث يؤكد في المسائل الفقهية مرة بعد مرة بمثل قوله : «على مذهبنا» «لا على مذهبنا» ونحوها في أماكن كثيرة.

ومن ثمّ تقيدت بالتأكيد في الأصول والفروع على أقوال فقهاء الحنفية رحمهم‌الله ، إلا إذا استطرد بذكر أقوال غيرهم.

وكذا عرض المؤلف مسائل كثيرة متعلقة بالموضوع ؛ ما أثرى الكتاب وفكر القارئ بأمور مهمة مفيدة ، جليلة متممة لأبحاثه ، وهو واضح في ثنايا سطوره وكلماته للمتأمل والعابر ، وأشار المؤلف ـ رحمه‌الله ـ إلى شيء من ذلك في مقدمة الكتاب ـ حيث قال أثناء ذكر تسمية الكتاب ـ : «وسميت ما جمعته بالكتاب (عدة الإنابة في أماكن الإجابة) ؛ لكوني أذكر في سبيل كل محل بعض ما يناسبه من مسائل فقهية وأدعية مأثورة ومروية ، تتميما للفائدة وتحصيلا للعوائد».

لذا نجده ضمّن كتابه الأحكام الفقهية المتعلقة بكل موطن ، كما نبّه على ما ابتدعته العامة من الأعمال والتصرفات المنافية للشرع الحنيف في بعض مواطن الإجابة ؛ تنبيها وتذكيرا للحجاج والزوّار ، ولعدم الظن بأنه من الدين ، وشدّد النكير على مرتكبي البدع والمنكرات مطالبا من أولياء الأمور حكاما وعلماء ومحتسبين المنع ، ورفع هذه البدع والمنكرات الواقعة في المشاعر المقدسة بما أوتي كلّ من إمكانية زاجرة ورادعة ، بل وصف المبتدع بقوله : «فهو جاهل ضال ، كيف وقد ترتبت على ذلك من المفاسد الواقعة في السبت المشهور بمنى ، ما يتعين على قدرة السعي في إزالته وكف من يغترّ من العامة عن الذهاب إليه ..».

١٢

وقال معلقا على هذه الأحوال : «... ومعاصي ذلك اليوم عامة في سائر منى ، يعرف ذلك من شاهده وعاينه ، فنسأل الله العفو والسلامة» ، وقال في بدع تقع في المقام : «وأما ما أحدثه بعض الناس من إتيان المقام في وقت كراهة الصلاة والوقوف عنده للدعاء مع استقبال القبلة أو المقام ، فلا أصل له في السنة ولا رواية عن فقهاء الأمة من الأئمة الأربعة ، كذا قال الملّا علي».

وقال أيضا : «مسح المقام ومسه وتقبيله ليس بسنة إنما أمرنا بالصلاة عنده».

وقال ـ فيما يفعله العامة من زيادة الصعود على الصفا ـ : «وما زاد على ذلك من الصعود من الجدران والالتصاق بدعة قبيحة».

وقال ـ في رفع اليدين عند رؤية البيت ـ : «ويرفع يديه حذو منكبيه بسطا للدعاء ـ لا كما يفعله الجهلة من معلمي الغرباء وغيرهم».

ونحو هذا الإنكار الشديد على بعض الأعمال من البدع والمنكرات كثير في كتابه ، ما يظهر حرصه واهتمامه بإقامة السنة والقضاء على البدع والأمور المخالفة للشرع.

هذا وإنّ المؤلف رحمه‌الله ـ كما سطّر شطر كتابه في ذكر مواطن الإجابة والفوائد المتممة والعوائد المحصلة ، فقد ذكر في الشطر الثاني من الكتاب :

آثار مكة المكرمة مختصرة ؛ لكثرتها وحدّد مواقعها بدقة ، وللمؤلف تحقيقات وتعليقات جيدة في تحديد المواقع ، والردّ والتعقيب على القضايا المختلف فيها.

ويجد القارئ في الكتاب من المعلومات المتميزة ما لا يجده في المطولات.

١٣

وذكر الكثير من الأدعية المأثورة أو الموروثة المتعارف عليها بين الناس بغض النظر عن السند (وهو ينقل عن البيئة التي عايشها).

وذكر الأماكن الأثرية ومواقعها بمكة المكرمة محدّدة وموثقة ، فالكتاب يعدّ معتبرا ومقدما على ما ذكر في كتب الآخرين ؛ لكون المؤلف ابن مكة المكرمة (ولادة ونشأة) ، حيث فتح عينيه وترعرع وهو يرى أهل مكة المشرفة من كبار السن والعلماء وعامة الناس يؤكدون ذلك وتناقله الأصاغر عن الأكابر ، حتى وصل إلى المؤلف ، وهو بدوره نقله إلينا ، وأصبحت متواترة لدى أهل مكة المشرفة.

ولأجل ذلك يقدّم قوله وشهادته على بعض ما كتب ـ من المجاورين لفترة ، أو الوافدين للحج والعمرة ـ عن مآثر مكة المعظمة ؛ ولهذا السبب نفسه كان المقدم ، والمعول عليه في حالة الخلاف الإمام الأزرقي لدى المتقدمين ، وشتان بين الشهادتين.

وقد بيّن المؤلف حدود الحرم وأنصابه ، ثم استعرض فضائله ، وذكر بخاصة بعض الأمور المشكلة والمختلف عليها في الباب لدى العلماء قديما وحديثا ، مثل : التفريق بين الحرم والمسجد الحرام ، وكذا المضاعفة في الحسنات وجريان المضاعفة في السيئات أيضا ، ثم التفصيل في التفضيل بين مكة المشرفة والمدينة المنورة ، ونحوها من موضوعات مهمة في الباب.

وباختصار فإن هذا الكتاب ليس كتابا في ذكر (مواطن إجابة الدعاء) فحسب بل ذلك عقد يحاط بفوائد من الدّرر ، بحمله التنوع وتعداد المباحث والمقاصد ، فالكتاب جامع لموضوعات كثيرة يغني عن كثير من الأسفار الكبار. ويمكننا أن نذكر مزايا الكتاب إجمالا بما يلي :

١٤

أولا : يذكر مواطن إجابة الدعاء لجميع مواقع مظان الإجابة.

ثانيا : يذكر مناسك الحج ، حيث ذكر المؤلف جميع أحكام الحج والعمرة عند ذكره المشاعر ، ويذكر ما ينبغي للحاج أن يفعله عند كل مشعر من المشاعر المقدسة.

ثالثا : يذكر آثار مكة المكرمة ومواقعها ، وبعض آثار المدينة المنورة أيضا.

رابعا : يذكر آداب زيارة القبور.

خامسا : يذكر خصائص الحرم الشريف.

سادسا : يذكر الأدعية المأثورة.

والمؤلف الفاضل ينقل الكثير من أقوال العلماء في بعض المسائل موثقا إيّاها من مصادرها ، وذاكرا قائلها بأمانة ودقة ، ولا يكتفي بسرد الأقوال ونقلها ، إنما يعقبها بالنقد والدراسة والتمحيص مؤيدا أو مخالفا ، مقرّا أو منكرا ؛ وبخاصة في البدع والمنكرات التي كانت موجودة في زمنه بالحرم والمشاعر وغيرها.

هذا ومما تجدر الإشارة إليه أنّ المؤلف مع شدة نكيره على بدع العوام فإنه فاته الإنكار على بعض المحدثات التي لم تعرف عن السلف الصالح من القرون الفاضلة ، والتي كانت موجودة في زمنه ، مثل بعض مبالغات الصوفية : من اعتقاد قبول الدعاء عند بعض قبور الصالحين.

ونقل المؤلف كلّ ذلك عن كتب أسلافه من المؤلفين في أخبار مكة ، أو واصفا ما رآه بنفسه عن البيئة التي عايشها في زمنه من غير أن يجد إنكارا أو تحذيرا من هذه الأعمال.

ولعل عدم الإنكار ـ في أمر أو أمرين مما ذكره ـ راجع إلى الاعتماد

١٥

على النقل ، أو إلى أن هذه تصرفات غلبت على أهل ذلك الزمن لغلبة العادة والعرف ، وتسويغ ذلك بمسوغات يرونها سائغة. والله أعلم ..

وهذا لا يقدح في المؤلف وأمثاله ، وجدير بأهل العلم وطلبته أن ينظروا في مثل ذلك بعينين :

عين الحق تمحيصا له ، وعين الإنصاف تقديرا للجمّ من الحسنات وكثرة الصواب ، وتأويلا حسنا لما ظاهره خلاف الصواب وإبداء ذلك في ثوب أدب العلماء ، ثم إنّ العصمة للأنبياء عليهم‌السلام فحسب.

وأقول كما قال شاعر النيل :

إذا قيس إحسان امرئ بإساءة

فأربى عليها فالإساءة تغفر

وقد نبهّت على هذه القضايا القليلة في مواضعها بإيجاز ، مبينا الحق مستدلا بالكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح في ذلك.

هذا والكتاب ـ مع صغر حجمه ـ يعد إضافة مختصرة جديدة في فن الأدعية وأماكن إجابتها ، وآثار مكة المشرفة كما سبق بيانه.

وقد اعتمدت في إخراج الكتاب على مصورة نسخة خطية وحيدة من مكتبة مكة المكرمة المعروفة والكائنة في (مولد النبي الشريف) بجوار سقيا زمزم برقم (١٠٥٤٢٥).

وكان عملي في الكتاب مقتصرا على ما يأتي :

* إخراج الكتاب ونسخه على أقرب صورة يراها المؤلف بإذن الله تعالى حسب قواعد الإملاء المعروفة.

١٦

* تفقير الكتاب ، واستعمال العلامات الإملائية في ذلك ، وهذا أهم عمل أرى وجوب عمله في إخراج الكتب التراثية ، ولا يدرك ذلك إلّا المتخصصون.

* وضع عناوين جانبية لجميع مسائل الكتاب ، وترقيمها كذلك ؛ تسهيلا وتيسيرا لوصول القارئ إلى المقصود.

* إضافة الآيات القرآنية إلى مواضعها في القرآن الكريم ، بداخل النص بين معكوفتين [] ؛ لئلا تكثر الهوامش ، كما نسخت الآيات بالرسم العثماني (مباشرة من المصحف الشريف).

* أما الأحاديث النبويّة الشريفة ، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين فهي كثيرة ـ فالمؤلف ـ رحمه‌الله ـ يخرّج الأحاديث من كتب السنن والمسانيد ومعالجة الأحاديث غالبا ـ (علما بأن المؤلف دقيق وأمين في النقل) ـ.

فما كان من الأحاديث مخرجا من الكتب الستة : ذكرت الكتاب ورقم الحديث فقط ، وما كان منها مخرجا في غير الكتب الستة ، فاكتفي بذكر رقم الجزء والصفحة فقط ، وأحيانا أنقل أقوال المحدثين في التصحيح والتضعيف إن وجدت ذلك ، وإلّا أكتفي بما سبق ذكره فقط.

ـ تمحيص وتحرير العزو لأكثر الآراء التي ينقلها المصنف ، وإرجاعها إلى مصادرها الأصلية بقدر المستطاع.

ـ كما أنّني أضفت أمرا مهما في الهامش : وهو تجديد وتحديث المواضع والأماكن بقدر الإمكان كما هو معروف الآن ، بالإضافة إلى بعض الصور من شبكة الانترنت.

١٧

ـ وهناك أمور يقتضيها إخراج الكتب التراثية إعانة للقراء ـ سوف يراها القارئ ـ بإذن الله سبحانه وتعالى.

ـ كما قدمت بين يدي الكتاب ترجمة موجزة للمؤلف رحمه‌الله تعالى.

ـ وذيلت الكتاب بفهارس متنوعه :

* فهرس الآيات الكريمة.

* فهرس الأحاديث النبوية الشريفة ، والآثار.

* فهرس الأماكن والمواضع.

* فهرس الموضوعات.

وبعد ، فإن أصبت فمن الله عزوجل وتوفيقه ، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ـ وأستغفر الله العظيم ـ وأبرأ إلى الله عزوجل من حولي وقوتي إلى حول الله تعالى وقوته ، ورحم الله تعالى امرأ أهدى إليّ عيوبي وبصّرني بأخطائي وأكرم الله قارئا فطن لذلك ، ثم أقول كما قال الإمام الشافعي رحمه‌الله :

وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة

كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا

ولا يفوتني أن أشكر إخواني وأساتذتي الذين شجعوني لإخراج هذا الكتاب ، وبخاصة أخي الكبير فضيلة الدكتور عبد اللطيف الصبّاغ حفظه الله ، الذي أفدت الكثير من علمه الغزير ، وإرشاداته القيّمة ، والتي كان لها الأثر الكبير في أعمالي العلمية عامة ، كما تكرم مشكورا ـ جزاه الله خيرا ـ بالاطلاع على الكتاب والتقديم له ، وكذلك توجيهي بالتصحيح والتعليق لبعض ما ورد

١٨

في أصل الكتاب ، فلفضيلته مني كل شكر وتقدير وامتنان ودعاء.

كما لا يفوتني أن أشكر الأخ الكريم الحبيب المحسن (والذي يحب أن لا يذكر اسمه) صاحب الأيادي البيضاء على كثير من أعمال الخير والبر والإحسان ، حفظه الله ووفقه لمرضاته ، والذي تبرع بنفقة طبع ونشر هذا الكتاب وتوزيعه لوجه الله عزوجل على طلبة العلم. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه خير الجزاء ، وأن يعظم له الأجر والمثوبة ، وأن يطيل عمره في صحة وسعادة وتقوى ، وأن يديم عليه توفيقه وفضله وإحسانه.

كما أشكر الأخ الفاضل الأستاذ غسان نويلاتي ـ صاحب المكتبة المكية ؛ لرعايته المشروع من البداية إلى النهاية ، والشكر موصول للأخ العزيز سهيل مولوي ناسخ الكتاب والذي قام بجهود مشكورة لإخراج الكتاب بما يليق ومكانته فلهم جميعا مني جزيل الشكر والتقدير ، ودعائي لهم من الله تعالى بالأجر والمثوبة.

والله سبحانه وتعالى أسأل أن يتقبل مني هذا العمل قبولا حسنا ، وأن يغفر لي ولوالديّ ولمشايخي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ، وصلّى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان.

كتبه

الفقير إلي عفو ربه

عبد الله بن نذير أحمد بن عبد الرحمن مزي

مكة المكرّمة ـ بحي الهجرة ـ في ١ / ١٠ / ١٤٢٨ ه‍.

١٩

[١] ترجمة مختصرة للمؤلف :

هو عبد الله بن إبراهيم بن حسن ، بن محمد أمين بن علي ، ميرغني الحسني ، المتقي ، المكي ، الطائفي ، الحنفي.

الملقب : بالمحجوب (عفيف الدين ، أبو السيادة) عالم ، فاضل ، فقيه من فقهاء الحنفية ، أديب ، شاعر ، مشارك في أنواع العلوم.

ولد بمكة ، ونشأ بها ، وأخذ عن المشايخ الأجلّاء.

قال الجبرتي : «حضر دروس الشيخ أحمد النخلي وغيره».

له ميل شديد للتصوف ، ألّف فيه المؤلفات العديدة.

وانتقل إلى الطائف ، فسكنها في عام ١١٦٦ ه‍ ، وصنف كتبا كثيرة في العقيدة ، والحديث ، والفقه ، والآداب الدينية.

إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى في قرية السلامة ، سنة ١٢٠٧ ه‍.

رحمه‌الله تعالى رحمة الأبرار ، ورضي عنه ، وأسكنه فسيح جناته.

قال عنه النبهاني : «أحد أكابر الأولياء العارفين ، وأئمة العلماء العاملين».

وقال أيضا : «ومآثره شهيرة ومفاخره كثيرة ، وكراماته كالشمس في كبد السماء ، وله مؤلفات كثيرة في علوم شتى».

[٢] مصادر ترجمته :

الجبرتي : عجائب الآثار ٣ : ١٤٧ ؛ الحضراوي : تاج تواريخ البشر ورقة ١١ ب ؛ البغدادي : هدية العارفين ١ : ٤٨٦ ؛ مرداد : المختصر

٢٠