عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

الكعبة محض الإيمان (١)) أخرجه الجندي.

وعن سعيد بن المسيب رحمه‌الله : «من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (٢) ، وعن عطاء رضي‌الله‌عنه : «النظر إلى البيت الحرام عبادة ، والناظر له بمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد في سبيل الله تعالى» (٣).

[٨٦] [الجلوس في المسجد] :

وعن زهير بن محمد : «الجالس في المسجد ينظر إلى البيت ، لا يطوف ولا يصلي ، أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت» رواه الأزرقي (٤).

[٨٧] [حكم الصلاة بالكعبة] :

فائدة : الصلاة في الكعبة صحيحة عندنا من غير كراهة بجماعة وغيرها ، كذلك من غير ساتر لكن مع الكراهة.

وما يقوله العامة من العروة الوثقى والمسمار الذي هو سرة الدنيا ، فلا أصل له ، قال الفاسي : «وهذان الأمران لا آثر لهما الآن في الكعبة».

__________________

(١) الأزرقي في أخبار مكة «إسناده ضعيف» كما قال محققه ١ / ٥٠١.

(٢) رواه ابن الجوزي في مثير العزم الساكن ١ / ٢٨٧ ؛ والأزرقي في أخبار مكة ، وقال محققه : «إسناده ضعيف» ١ / ٥٠١.

(٣) ابن الجوزي ١ / ٣٨٨ ، والأزرقي بإسناد ضعيف كما قال محققه ١ / ٥٠٢.

(٤) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ، وقال محققه : «إسناده ضعيف» ١ / ٥٠١.

٦١

[٨٨]

٢ ـ [وقت الإجابة في الكعبة]

وملتزم ـ بضم الميم وفتح الزاي ـ ما بين الحجر الأسود والباب على ما عليه الجمهور (١) ، وما ورد عن ابن الزبير رضي‌الله‌عنهما أنه دبر البيت ، ردّ عليه ابن عباس : بأن ذلك ملتزم عجائز قريش ويسمى المستجار (٢).

[٨٩] [سبب التسمية] :

وسمى بذلك ؛ لأن الناس يلتزمونه في حوائجهم لتقضى ، ويسمى المتعوذ والحطيم (٣) عند الشافعية ، أي : بعضه.

[٩٠] [أعظم أماكن الإجابة] :

والمراد أنه مما يستجاب عنده الدعاء من غير قيد بوقت على قول الحسن ، وهو ألطف وأيسر ، وبقيد نصف الليل على ما قاله ابن النقاش. وفيه نوع كلفة ، وفضل مولانا لا يحصى ، وهو من أعظم أماكن الإجابة ، فقيل : [ما من أحد] دعا هناك على ظالم إلا هلك ، وقيل : [ما من أحد](٤) حلف هناك كاذبا إلا عجلت عقوبته ، وقال في الشفاء : قال القاضي أبو الفضل : قرأت على القاضي الحافظ الفقيه أبي علي رحمه‌الله تعالى حدثنا أبو العباس العذري ، قال : ثنا أبو أسامة محمد بن أحمد بن محمد الهروي ، ثنا أبو الحسن بن رشيق ، سمعت أبا الحسن بن محمد ابن الحسن بن راشد ، سمعت أبا بكر

__________________

(١) وهو المشهور ، ومقداره نحو مترين.

(٢) أوردها الطبراني في القرى لقاصد أم القرى ص ٣١٨.

(٣) انظر بالتفصيل : القرى ص ٣١٤.

(٤) في الأصل (من) والمثبت زيدت لدلالة السياق عليه.

٦٢

محمد ابن إدريس ، سمعت الحميدي قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ما دعا أحد بشيء في الملتزم إلا استجيب له (١)).

[٩١] [الحديث المسلسل بالإجابة في الملتزم] :

وقال ابن عباس : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا استجيب لي.

قال عمرو بن دينار : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلا استجيب لي.

قال سفيان : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت من عمرو إلا استجيب لي.

قال الحميدي : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لي.

قال محمد بن إدريس : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت من الحميدي إلا استجيب لي.

قال أبو الحسن محمد بن الحسن : وأنا ما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعته من محمد بن إدريس إلا استجيب لي.

قال أبو أسامة وما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئا ، وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أسامة إلا استجيب لي من أمر الدنيا ، وأنا أرجو أن يستجاب لي من أمر الآخرة.

__________________

(١) أخرجه الديلمي في الفردوس ٤ / ٩٤ ، والحديث أخرجه الأزرقي «عن مجاهد قال : ما بين الباب والركن يدعى الملتزم ، ولا يقوم عبد ثمّ فيدعو الله عزوجل بشيء إلّا استجاب له» ، وقال محققه : «إسناده حسن» ١ / ٤٨٢.

٦٣

قال العذري : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا إلا استجيب لي.

قال أبو علي : وأنا قد دعوت الله بأشياء كثيرة وأرجو من سعة فضله أن يستجيب لي بقيتها (١).

وفي منسك ابن جماعة عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : «من التزم الكعبة ودعا استجيب له» (٢) ثم قال : «فيجوز أن يكون على عمومه ، ويجوزان أن يكون محمولا على الملتزم» (٣).

[٩٢] [المستجار] :

واعلم أن المستجار : هو ما بين الركن اليماني والباب المسدود في دبر الكعبة (٤) ، يحاذي الملتزم المذكور سابقا ، ويسمى المتعوذ أيضا ، وهو من

__________________

(١) هذا الحديث هو المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم ، أخرجه القاضي عياض في الشفاء مسلسلا ، وقال : ابن مسوي : وهذا حديث غريب حسن من حديث عمرو بن دينار اللمكي عن ابن عباس تفرد به مسلسلا عن محمد بن إدريس المكي كاتب الحميدي عنه ، وقد روي من حديث أبي الزبير المكي عن ابن عباس موقوفا ، ومثله لا يكون رأيا ، ورواية ابي الزبير أخرجها سعيد بن منصور ، والبيهقي في سننهما وهو شاهد قوي ، أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من وجه آخر عن محمد بن الحسن بن راشد الأنصاري تلميذ محمد بن إدريس مسلسلا.

هامش القرى لقاصد أم القرى ص ٣١٦.

(٢) رواه الأزرقي في أخبار مكة وإتمامه (فقيل له : وإن كانت استلامة واحدة ، قال : وإن كانت ، أوشك من برق الخلّب) وقال المحقق : «إسناده ضعيف» ١ / ٤٨٥.

(٣) هداية السالك لابن جماعة ١ / ٧٠.

(٤) ومساحته : أربعة أذرع ، ويسمى ذلك الموضع : المستجار من الذنوب ، كما في شفاء الغرام ١ / ١٩٦.

٦٤

أماكن الإجابة. ذكره في المنسك الكبير وغيره.

وعن معاوية رضي‌الله‌عنه : من دعا فيه استجيب له ، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، قال المحب الطبري : ومثل هذا لا يقوله إلا عن لسان النبوة (١) ، وكان بعض السلف والخلف يلتزمونه ، منهم : عمر بن عبد العزيز وأيوب السختياني (٢).

تتمة : اختلف مشايخنا في إتيان الملتزم بعد الطواف ، فقيل : يأتي إليه بعد الركعتين ، وقيل : قبلهما ، وقيل : بعد الصلاة والشرب من زمزم ، وهذا في غير طواف الوداع ، أما فيه فيأتي إليه بعد الشرب.

[٩٣] [صفة الالتزام] :

والالتزام مستحب عندنا ، وصفته : أن يضع صدره وخده الأيمن على الجدار ويرفع يده اليمنى واليسرى إلى جهة الحجر ، أو يرفع أحدهما ، أو يرفعهما مبسوطتين على رأسه على الجدار قائمتين ، ويتعلق بالأستار متضرعا خاشعا داعيا باكيا مكبرا مهللا ، مصليا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وعن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه : أنه طاف بالبيت ، واستلم الحجر ، وقام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما بسطا ، وقال : كذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله (٤).

__________________

(١) القرى لقاصد أم القرى ص ٣١٨.

(٢) انظر : القرى لقاصد أم القرى ص ٣٨٦.

(٣) انظر منسك الكرماني (المسالك في المناسك) ١ / ٦٢٦ ـ ٦٢٧.

(٤) أخرجه أبو داود (١٨٩٩).

٦٥

[٩٤] [بعض الأدعية المأثورة] :

ومن دعائه : «يا واجد يا ماجد لا تزل عني نعمة أنعمت بها عليّ» ودعاء آدم عليه‌السلام ـ أخرج الأزرقي في تاريخه ـ أن آدم عليه‌السلام طاف بالبيت سبعا حين نزل ، ثم صلى تجاه الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم فقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي وما عندي ، فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، والرضا بما قضيت علي. فأوحى الله تعالى : يا آدم قد دعوتني بدعوات واستجبت لك ، ولن يدعوني بها أحد من ذريتك إلا كشفت همومه وغمومه ، وكففت ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه وجعلت الغنى بين يديه ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها (١).

ومن المستحسن : إلهي وقفت ببابك ، والتزمت بأعتابك ، وأرجو رحمتك وأخشى عذابك ، اللهم حرّم شعري وبشري على النار ، اللهم كما منعت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن مسألة غيرك ، اللهم يا رب البيت العتيق أعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار ، يا كريم يا غفار ، يا عزيز يا جبار ، ويقول : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧) [البقرة].

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير ١ / ١٧٠ ؛ والرازي في علل الحديث ٢ / ١٨٨.

٦٦

[٩٥]

٣ ـ [موقف عرفة]

والموقفين ، أي : يستجاب الدعاء في الموقفين ، وهما : موقف عرفة ، وموقف مزدلفة.

أما موقف عرفة فيستجاب فيه الدعاء حال تلبسه بإحرام الحج ، وبعد الزوال إلى الصبح ، كذا قال الملّا علي في شرح الحصن الحصين ، وهو مقيد ، وقد ذكره كثير من علمائنا من غير تقييد ، وفضل الله عظيم ، وقال العصامي في نظمه : عند مغيب الشمس ، قال شارحه : لعله باعتبار الأكمل ، وإلا فيوم عرفة كله يستجاب الدعاء فيها كما ورد.

[٩٦] [تسمية عرفة] :

وسميت عرفات بذلك ؛ لأن إبراهيم عليه‌السلام عرف أن الحكم من الله فيه ؛ أو لأن جبريل عرّفه المناسك فيه ؛ أو لأن آدم وحواء تعارفا فيه بعد الهبوط إلى الأرض.

[٩٧] [إجابة الدعاء بعرفات] :

وهو من أجل أماكن الإجابة وأعظمها (١) ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في الدعاء فيه ، حتى روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة فاستجاب له إلا في الدماء والمظالم ، أخرجه ابن ماجه (٢) وهو ضعيف بالعباس بن مرداس ، فإنه منكر الحديث ساقط الاحتجاج ، كما ذكره الحفاظ ، لكن له شواهد كثيرة.

__________________

(١) انظر القرى لقاصد أم القرى ص ٣٨٦.

(٢) ابن ماجه (٣٠١٣) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١١٨.

٦٧

[٩٨] [فضل يوم عرفة] :

فمنها : ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما كان فلان رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم عرفة ، قال : فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن ، قال : فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفر له (١)).

منها ما رواه البخاري مرفوعا : (من حج ثلاث حجج فلم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (٢)).

ومنها ما رواه مسلم في صحيحه مرفوعا : (إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله (٣)).

ومنها ما رواه مالك في الموطأ مرفوعا : (ما رؤي الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في هذا اليوم ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، إلا ما رأى يوم بدر ، فإنه رأى جبريل يزع الملائكة (٤)).

[٩٩] [تكفير الذنوب] :

وهذا يقتضي تكفير الصغائر والكبائر ، ولو كانت من حقوق العباد ، وقد

__________________

(١) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ٤ / ٢٦٠ ؛ والإمام أحمد في المسند ١ / ٣٢٩ ؛ وأورده الهيثمي في المجمع وقال : «رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني في الكبير .. ورجال أحمد ثقات» ٣ / ٢٥١.

(٢) ولفظ البخاري : (من حج هذا البيت) (لله) (١٧٢٢ ، ١٤٤٩) ولفظ (ثلاث حجج) رواه الدمشقي في سياق آخر ٨ / ٢٨٥.

(٣) أخرجه مسلم (١٢١).

(٤) الموطأ (٩٤٤).

٦٨

قال به جماعة من الشافعية كالشيخ ابن حجر العسقلاني وصنف فيه ، والشهاب الرملي وولده ، وقيده بأن يموت في أثناء النسك ولم يتمكن من ردّ المظالم ، وذكر القاضي عياض رحمه‌الله تعالى : أن أهل السنة أجمعوا على أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة ، فالحاصل أن المسألة ظنية وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله فضلا عن حقوق العباد ، وإن قلنا بالتكفير للكل ، فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن الدّين يسقط عنه ، وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكوات ؛ إذ لم يقل أحد بذلك ، وإنما المراد أن إثم مطل الدين ، وتأخره يسقط بعد الوقوف بعرفة ، وإذا مطل الآن صار آثما ، وكذا إثم تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ، ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء ، فإن لم يفعل كان آثما على القول بفوريته ، وكذا البقية على هذا القياس ، وبالجملة فلم يقل أحد بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفى ، انتهى ملخصا من البحر الرائق.

[١٠٠] [أحكام الوقوف بعرفة] :

تتمة : الوقوف بعرفة أعظم (١) ركني الحج عندنا.

__________________

(١) وعرفات تقع إلى الجنوب الشرقي من المسجد الحرام على بعد ٢٢ كم ، وإجمالي مساحتها ٤ ، ١٠ كم مربع. انظر : تاريخ مكة قديما وحديثا ص ١١٥.

حدود عرفات : الحد الشمالي : ملتقى وادي (وصيق) بوادي (عرنة) الغربي : هو وادي عرنة ، (وهذا الوادي فاصل بين الحرم وبين عرفات ، فليس واحدا منهما).

الجنوبي : هو ما بين الجبال الجنوبية لعرفات ، وبين وادي عرنة.

الشرقي : هي الجبال المقوسة على ميدان عرفات ، ابتداء من الثنية التي تنفذ إلى طريق الطائف وتستمر سلسلة تلك الجبال حتى تنتهي بجبل سعدن وتعتبر وجوه الجبال المحيطة بعرفات من عرفات.

نيل المآرب (الاختيارات الجليلة) للبسام ٢ / ٢٥٠.

٦٩

وقدره : لحظة مطلقا في وقته ، ومكانه ، وبإحرامه ، ولو مارا وبأي حال كان.

ووقته : من زوال الشمس إلى طلوع فجر النحر.

ومكانه : عرفات كلها إلى عرنة ، وإحرامه بنية الحج والتلبية ، وما يقوم مقامها ، وليس القيام من شرط الوقوف ، ولا من واجباته.

وواجبه : أن لا ينفر من عرفة قبل الغروب (١).

[١٠١] [سنن الوقوف] :

ومن سننه : الاغتسال ، وتعجيل الوقوف بعد الجمع بين الصلاتين بها ، وأن يكون مفطرا لكونه أعون على الدعاء ، وأن يكون متوضئا ، وأن يقف على راحلته ، وأن يكون مستقبل القبلة وراء الإمام بالقرب منه إن كان ممن يتقرب به ، وأن يكون حاضر القلب ، فارغا عن الأمور الشاغلة عن الدعاء.

[١٠٢] [موقف المصطفى بعرفات] :

وأن يقف عند الصخرات السود موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلا فبقرب منه من غير إيذاء (٢).

__________________

(١) انظر : منسك الكرماني (المسالك في المناسك) ، ١ / ٥٠٠ وما بعدها.

(٢) وفصّل ذلك النووي رحمه‌الله تعالى بقوله : «قال أصحابنا : وإن كان راكبا جعل نظر راحلته إلى الصخرات لحديث جابر .. ، وإن كان راجلا وقف على الصخرات أو عندها بحسب الإمكان ؛ بحيث لا يؤذي ولا يتأذى ، قال أصحابنا : فإن تعذّر عليه الوصول إليه للزحمة تقرب منه بحسب الإمكان فهذا هو الصواب». المجموع ٨ / ١٣٤ (بتحقيق المطيعي).

٧٠

[١٠٣] [صعود جبل عرفة] :

وأما ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بصعود جبل الرحمة الذي عليه القبة ، وترجيحهم له على غيره من عرفات ، فخطأ ظاهر ومخالف للسنة ، ولم يذكر أحد ممن يعتد به في صعود الجبل فضيلة تختص به ، بل له حكم سائر أراضي عرفات ، غير موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه أفضل (١) ، إلا الطبري والماوردي فإنهما قالا : بالاستحباب ، قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء ، قالا : وهو موقف الأنبياء [صلوات الله وسلامه عليهم] ، وما قالاه لا أصل له ، ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف ، كذا ذكر النووي في شرح المهذب (٢).

__________________

(١) انظر بالتفصيل : القرى لقاصد أم القرى ص ٣٨٤.

(٢) وقال النووي في تكملة حديثه : «... فالصواب الاعتناء بموقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الذي خصه العلماء بالذكر وحثوا عليه وفضلوه ...». المجموع ٨ / ١٣٥.

٧١

[١٠٤] [ما يسن في الموقف] :

ومن السنة : أن يكثر الدعاء ، والتكبير ، والتهليل ، والتلبية ، والاستغفار ، وقراءة القرآن ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليحذر كل الحذر من التقصير في شيء من هذا ، فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه ، ويكثر من التلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب ، ويكثر البكاء مع الذكر ، فهناك تسكب العبرات ، وتستقال العثرات ، وترتجى الطلبات ، وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين ، وأعظم مجامع الدنيا.

[١٠٥] [وقفة الجمعة] :

وقد قيل : (إذا وافق يومه يوم جمعة غفر لأهل كل الموقف ، إنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة) ، كما ورد في الحديث الشريف (١).

فإن قيل : قد ورد أنه يغفر لجميع أهل الموقف مطلقا ، فما وجه تخصيص ذلك بالجمعة؟

قيل : لأنه يغفر يوم الجمعة بلا واسطة ، وفي غيره يهب قوما لقوم ، وقيل : إنه يغفر في وقفة الجمعة للحاج وغيره ، وفي غيرها للحاج فقط.

[١٠٦] [مغفرة يوم عرفة] :

فإن قيل : قد يكون في الموقف من لا يقبل حجه فكيف يغفر له؟ قيل :

__________________

(١) أورده ابن حجر في الفتح وقال : «هو حديث لا أعرف حاله لأنه لم يذكر صحابيه ولا من أخرجه بل أدرجه في حديث الموطأ الذي ذكره مرسلا عن طلحة بن عبد الله بن كريز ..» ٨ / ٢٧١.

٧٢

يحتمل أنه يغفر له ولا يثاب ثواب الحج المبرور ، فالمغفرة غير مقيدة بالقبول ، والذي يوجب هذا أن الأحاديث وردت بالمغفرة لجميع أهل الموقف ، ولا بد من هذا القيد والله أعلم. ا ه.

[١٠٧] [ما يحذر في الوقوف] :

من المنسك الكبير : وليحذر كل الحذر من المخاصمة ، والمشاتمة ، والكلام القبيح أيضا في مثل هذا اليوم.

[١٠٨] [ما يشتغل به في الموقف] :

ويتوجه إلى الله تعالى بالقلب والقالب ، والظاهر والباطن ، ويشتغل بالأذكار والأدعية المأثورة ، وهي أولى وأفضل ، أو غيرها مما تيسر ولم تخالف الشرع.

[١٠٩] [أدعية مأثورة للموقف] :

وروى الطبراني في الأوسط ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقف بعرفات قال : (لبيك اللهم لبيك) ، ثم قال : (إنما الخير خير الآخرة (١)). وفي رواية : (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة (٢)) ، وروى مالك وغيره : (أفضل الدعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير (٣)).

__________________

(١) أورده الهيثمي في المجمع وقال : «رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن» ٣ / ٢٢٣.

(٢) أورده ابن حجر في التلخيص : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى شيئا يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة».

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ٢١٤ إلى (لا شريك له) ؛ وروى البيهقي وقال : «هذا مرسل وقد روى عن مالك بإسناد آخر موصولا ووصله ضعيف» ٥ / ١١٧.

٧٣

وأخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أكثر دعائي ودعاء النبيين من قبلي بعرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري ، وأعوذ بك من وساوس الصدر وشتات الأمر ، وفتنة القبر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح (١)).

وأخرج الترمذي ، وابن خزيمة ، والبيهقي عن علي رضي‌الله‌عنه قال : كان أكثر دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشية عرفة : (اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيرا مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، وإليك مآبي ولك ربي تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر ، اللهم إني أسالك من خير ما تجيء به الرياح ، وأعوذ بك من شر ما تجيء به الرياح (٢)).

وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان من دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشية عرفة (اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي ، وتعلم سري وعلانيتي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير الوجل ، المشفق المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خضعت لك رقبته ، وفاضت لك عيناه ونحل لك جسده ، ورغم

__________________

(١) أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ٦ / ٨٤.

(٢) أخرج الترمذي (٣٥٢٠).

٧٤

لك أنفه ، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا ، وكن بي رؤوفا رحيما ، يا خير المسؤولين ، يا خير المعطين (١)).

[١١٠] [المغفرة لأهل الموقف] :

وروى جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف ويستقبل القبلة بوجهه ثم يقول : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ، مائة مرة ، ثم يقرأ (قل هو الله أحد) مائة مرة ، ثم يقول : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، وعلينا معهم (مائة مرة) إلّا قال الله تعالى : يا ملائكتي ، ما جزاء عبدي هذا؟ سبّحني وهلّلني وكبّرني وعظّمني ، وعرفني وأثنى عليّ ، وصلّى على نبيي ، اشهدوا علىّ يا ملائكتي أني قد غفرت له وشفعته في نفسه ، ولو سألني عبدي هذا لشفّعته في أهل الموقف). رواه البيهقي ، وقال : هذا متن غريب وليس في إسناده من ينسب إلى الوضع (٢).

وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من قرأ قل هو الله أحد عشية عرفة ألف مرة أعطاه الله ما سأله) رواه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي ، وابن أبي عاصم والطبراني معا في الدعاء ، والبيهقي في الدعوات (٣).

__________________

(١) أورده الهيثمي في المجمع ، وقال : «رواه الطبراني في الكبير والصغير .. وفيه يحيى بن الأبلي» ، قال العقيلي : «روى عنه يحيى بن بكير مناكير ، وبقية رجاله رجال الصحيح» ٣ / ٢٥٢.

(٢) أورده السيوطي في اللآلئ المصنوعة ، وقال : وأورده الحافظ ابن حجر في أماليه وقال : «رواته كلهم موثوقون إلّا الطلحي فإنه مجهول ...» ٢ / ١٠٦ ؛ وأورده ابن الجوزي في مثير العزم ١ / ٢٥٧ ، وفي الموضوعات ٢ / ٢١٢ ، وقال : «هذا حديث موضوع».

(٣) قال المناوي في الفيض : «الخيارى في فوائده عن حذيفة بن اليمان» ٦ / ٢٠٣.

٧٥

عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : ما من عبد ولا أمة دعا الله في كل ليلة عرفة بهذا الدعاء ـ وهي عشر كلمات ألف مرة ـ لم يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه إلا قطيعة رحم ، أو إرادة مأثم : (سبحان الذي في السماء عرشه ، سبحان الذي في السماء سلطانه ، سبحان الذي في الجنة رحمته ، سبحان الذي في القبر قضاؤه ، سبحان الذي في الهواء روحه ، سبحان الذي رفع السماء ، سبحان الذي وضع الأرض ، سبحان الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه) قيل له : أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم.

وروى ابن أبي شيبة موقوفا عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أنه كان إذا صلى العصر ووقف بعرفة يرفع يديه يقول : الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر ولله الحمد ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، اللهم اهدني بالهدى ونقني بالتقوى ، ـ وفي رواية أخرى ـ : واعصمني بالتقوى ، واغفر لي في الآخرة والأولى ـ ثلاث مرات ـ اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ، ثم يرد يديه فيسكت قدر ما يقرأ الإنسان فاتحة الكتاب ، ثم يعود ويرفع يديه ويقول مثل ذلك حتى أفاض (١).

وأخرج الطبراني في الدعاء عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما عنه : كان يرفع صوته بالدعاء يقول : «اللهم اهدنا بالهدى وزيّنّا بالتقوى ، واغفر لنا في الآخرة والأولى ، ثم يخفض صوته يقول : اللهم إني أسالك رزقا طيبا مباركا ، اللهم إنك أمرت بالدعاء ، وقضيت على نفسك بالإجابة ، وإنّك لا تخلف وعدك ، ولا تنكث عهدك ، اللهم ما أحببت من خير فحبّبه إلينا ، وما كرهت من شيء فكرّهه إلينا وجنّبناه ، ولا تنزع منا الإسلام بعد إذ هديتنا» (٢).

__________________

(١) أخرجه ابن شيبة في مصنفه ٣ / ٣٣٤.

(٢) ورد نحوه في قسم الحديث للشيخ محمد بن عبد الوهاب ٤ / ١٦٧.

٧٦

[١١١] [فضل الاشتغال بالذكر] :

وأخرج البيهقي في الشّعب عن بكير بن عتيق ، قال : حججت فتوسمت رجلا أقتدي به ، فإذا سالم بن عبد الله في الموقف يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ونحن له مسلمون ، لا إله إلا الله ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله ربنا ورب آبائنا الأولين. فلم يزل يقول حتى غربت الشمس ، ثم نظر إليّ وقال : حدثني أبي عن أبيه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (يقول الله تبارك وتعالى : من شغله ذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين (١)).

قال الملّا علي قاري : وفيه إيماء إلى دفع إشكال مشهور ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. الخ) مع أنه ليس فيه دعاء ، وأشار إلى جوابه : بأن الله تعالى يعطي على هذا الثناء أفضل مما يعطيه أهل الدعاء ، وأجيب أيضا : بأن غرض الثناء هو : التعرض للدعاء ، بل هو أبلغ في مقام الاعتناء ، لكن يؤدي الأول المراد به مطلق الذكر : ما أخرجه ابن أبي شيبة ، عن صدقة بن يسار ، قال : سألت مجاهد عن قراءة القرآن يوم عرفة أم الذكر؟ قال بل قراءة القرآن ، ويؤيده ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ([يقول الرب تبارك وتعالى] من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي الذاكرين والسائلين (٢)) يقول الفقير : ويمكن أن يجاب : بأن الذكر من الدعاء ، بل هو أعلى مرتبة الدعاء.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢٩٢٦) وقال : «حديث حسن غريب».

(٢) رواه الترمذي (٢٩٢٦) وقال : حديث غريب.

٧٧

[١١٢] [تعريف الدعاء] :

أما لغة : فظاهر ؛ لأنه الرغبة إلى الله تعالى كما في القاموس. وأما اصطلاحا : فكذلك ؛ إذ معناه : رفع الحاجات إلى رافع الدرجات ، وطلب قضائها منه تعالى ، والذاكر قصده بذكره رفع حاجته التي هي طلب زيادة حب الله تعالى وبقاء شهوده ، واتصاله بقربه ، والاستئناس به ، وإن ذكره لكونه أهلا لذلك ، فهو لا يخلو عن الافتقار أيضا وهذا قصد الكمّل ولذا قال : (دعائي ودعاء الأنبياء قبلي) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[١١٣] [العتق يوم عرفة] :

وأخرج ابن أبي الدّنيا في كتاب الأضاحي عن علي رضي‌الله‌عنه أنّه قال وهو بعرفات : لا أدع هذا الموقف ما وجدت إليه سبيلا ؛ لأنه ليس في الأرض يوم أكثر عتقا للرقاب فيه من يوم عرفة ، فأكثروا فيه من قول : اللهم اعتقني من النار ، وأوسع لي في الرزق الحلال ، واصرف عني فسقة الجن والإنس ، فإنه عامة ما أدعوك به (١).

وليكثر من دعاء الخضر عليه‌السلام وهو : «يا من لا يشغله شأن عن شأن ، ولا سمع عن سمع ، ولا تشتبه عليه الأصوات ، يا من لا تغلطه كثرة المسائل ، يا من لا يبرمه إلحاح الملحيّن ولا تضجره كثرة السائلين ، أذقنا برد عفوك ، وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين». والدعاء في هذا الباب كثير لكن ما تقدم الشهير.

__________________

(١) رواها ابن الجوزي بسنده في (مثير العزم) ١ / ٢٥٥.

٧٨

تذييل جليل فيه شفاء للقلب العليل :

[١١٤] [أحوال بعض الواقفين] :

يروى أن الفضيل ابن عياض رحمه‌الله تعالى وقف في بعض حجّاته ولم ينطق بشيء ، فلما غربت الشمس قال : واسوأتاه وإن غفرت لي.

وعن بشر الحافي رحمه‌الله تعالى قال : رأيت رجلا عشية عرفة غلبه الوله وهو يبكي وينتحب انتحابا شديدا وهو يقول :

سبحان من لو سجدنا بالعيون له

على شبا الشوك والمحمى من الإبر

لم نبلغ العشر من معشار نعمته

ولا العشير ولا عشرا من العشر (١)

وأنشد أيضا :

كم قد زللت ولم أذكرك في زللي

وأنت يا مالكي بالغيب تذكرني

كم أكشف الستر جهلا عند معصيتي

وأنت تلطف بي حلما وتسترني

قال : ثم غاب عني وحجب فلم أره ، فسألت عنه فقيل لي : هو أبو عبيدة الخواص له سبعون سنة ما رفع وجهه إلى السماء ، فقيل له في ذلك ، فقال : إني لأستحي أن أرفع إلى الحسن وجها مسيئا (٢).

فواعجباه من مطيع يتذلل ويستحي مع إحسانه! ومن عاص لا يتذلل ولا يستحي مع عصيانه.

__________________

(١) رواها ابن الجوزي في مثير العزم بقوله : «رأيت على جبال عرفة رجل قد ولع الوله ..» وفي البيت الأول (على شبا الشوك) ، وفي البيت الثالث بلفظ (وأنت يا سيدي) ٢ / ٢٥٩.

(٢) في مثير العزم «.. منذ سبعين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله عزوجل» المصدر السابق.

٧٩

وقيل : لما وقف الشبلي بعرفات لم ينطق بشيء حتى غربت الشمس ، فلما جاوز العلمين هملت عينه بالدموع ، وأنشأ يقول :

أروح وقد ختمت على فؤادي

بحبك أن يحل به سواكا

وفي الأحباب مختص بوجد

وآخر يدّعي معه اشتراكا

إذا سكبت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكا

ووقف بعض الصوفية بعرفات ورأى تلهفهم وبكاءهم ، فرفع كفيه وطرفه إلى السماء وقال :

يا ذا المكارم والعلا

يا ذا الجلال الأوحد

إن العصاة تجمعوا

ترجو نوالك سيدي

قصدتك كل قبيلة

ممن يروح ويغتدى

حطوا إليك رحالهم

وتشفعوا بمحمد

صلى عليه الله مع

أزكى سلام سرمد

والآل والأصحاب ما

أعطيت عبدا قد هدي

فهتف به هاتف : يا شيخ قد قبل الله ذو العرش على من رأيتهم من أهل الإسلام والتوحيد ، وشفع فيهم خير الخلق ، وأجاب السؤال ، وعمّ الجميع بالفضل والنوال.

[١١٥] [واسع فضل الله تعالى] :

وعن أبي عبد الله الجوهري رحمه‌الله تعالى قال : كنت سنة في عرفات ، فلما كان آخر الليل نمت ، فرأيت ملكين نزلا من السماء ، فقال أحدهما

٨٠