عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

[أماكن الإجابة]

وأما الأماكن فسيأتي الكلام عليها في النظم ، وهو ما قال رحمه‌الله تعالى ـ : دعاء البرايا ، أي : طلب حاجاتهم من الله تعالى ، والبرايا : الخلائق جمع برية ، بمعنى الخليقة ، أي : المخلوقة ، يستجاب ، أي : يقبل ويجاب بفضل الملك الوهاب ، قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] ، وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] ، وقال : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١] ، والإجابة تكون بطرق ، وتقدم بيانها.

[٥٠] [علامات الإجابة] :

ومن علاماتها : الخشية والبكاء ، وربما تحصل الرعدة والغيبة عن الوجود.

[٥١] [المستند في أماكن إجابة الدعاء عامة] :

واعلم أن الحسن ـ رضي‌الله‌عنه ـ ذكر الإجابة في هذه الأماكن ، والظّاهر أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف ؛ لأنه تابعي جليل بل سيد التابعين.

وقال الشيخ محمد بن علي علان في شرح الأذكار : عن جده عبد الملك بن علي ، إن الحسن البصري ، رفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ثبت ذلك فيكفي في العمل به ، ولعلّه ثبت عند الشيخ

٤١

عبد الملك العصامي أيضا ؛ لأنه ذكره في آخر نظمه المشهور ، وله شواهد فإن بعضها مذكور في أحاديث مرفوعة ، وقد ذكرها مطلقة عن الأوقات ، وتبعه في ذلك أكثر من ذكرها من مشايخنا ، وعليه جرى الناظم ، وقال الملّا علي قاري : والظاهر أن هذه الأماكن الشريفة موضع إجابة الدعوات المنيفة ، في الأزمنة والأحوال المخصوصة ، ويمكن حملها على عمومها. والله سبحانه أعلم ، وقيد النقّاش البعض ، ومشى عليه الشافعية ، وفضل الله لا يحصى ، وسأذكر ذلك كلما قيده بقيد ، تتميما للفائدة وتحصيلا للأكمل.

٤٢

[٥٢]

١ ـ [وقت الإجابة في الكعبة]

بكعبة ، أي : بيت الله الحرام زاده الله شرفا وتعظيما ، أي : داخلها من غير قيد على قول الحسن ، وهو من فضل الله تعالى ؛ إذ هو الممكن في العادة ، وبقيد وقت العصر ، وكونه بين جذعته على ما ذكره النقّاش ، وهو غير مشير عادة ؛ إذا العادة في فتحه بكرة النهار ، وفي شرح الشيخ إدريس معناه : ويمكن ذلك في دخول الحجر ؛ لأنه كله من البيت أو ستة أذرع أو شيء منه ، لكن يرده شرط كونه بين جذعته ، وسيأتي أن الحجر مما يستجاب فيه الدعاء أيضا ، والبيت أعظم أماكن الإجابة وأفضلها ، وفضله لا يحصى ، فإنه سرّ الله في أرضه ، ووجهته لعباده ، وقبلة العالم بأسره ، وبقعته أفضل البقاع ، ما عدا ما ضم أعضاءه الشريفة بالإجماع (١) ، ولذا قال سبحانه (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ٩٦] الآية.

[٥٣] [وضع الله البيت] :

قال في المدارك : والواضع هو الله عزوجل ، والمعنى : وضع الله بيتا للناس ، أنه جعله متعبدا لهم ، فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة ، وفي الحديث : أن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة ، قيل أول

__________________

(١) قال القاضي عياض : «ولا خلاف أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض» ، ونقل المحقق (البجاوي) في الهامش : «قال السبكي : الإجماع على أن قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل البقاع وهو مستثنى من تفضيل مكة على المدينة». انظر : الشفاء للقاضي عياض ، ٢ / ٦٨٢ (طبعة الحلبي).

٤٣

من بناه إبراهيم ، وقيل : هو أول بيت حجّ بعد الطوفان ، وقيل : هو أول بيت ظهر للناس على وجه الماء ، عند خلق السماء والأرض ، وقيل : هو أول بيت بناه آدم عليه‌السلام في الأرض ، وقيل : أول بيت بنته الملائكة.

١ ـ الحجر الأسود ٢ ـ باب الكعبة ٣ ـ الميزاب (ميزاب الرحمة) ٤ ـ الشاذوران ٥ ـ حجر إسماعيل (الحطيم) ٦ ـ اللتزم ٧ ـ مقام سيدنا إبراهيم ٨ ـ ركن الحجر الأسود ٩ ـ الركن اليماني ١٠ ـ الركن الشامي ١١ ـ الركن العراقي ١٢ ـ ستار الكعبة ١٣ ـ خط المرمر البني

٤٤

[٥٤] [المراد بأول بيت وضع] :

وعن علي رضي‌الله‌عنه أنه سئل أهو أول بيت وضع؟ فقال : كان قبله بيوت ولكنه أول معبد (١) ، وهو عين القول الأول.

وقال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] أي مآبة ومرجعا للحجاج يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ، وقال تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) الآية [البقرة : ١٢٥] : من الأوثان والأنجاس والخبائث كلها (٢).

__________________

(١) انظر تفسير المحرر الوجيز لابن عطية ، في تفسير قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ .....) ص ٣٣٠.

(٢) انظر المصدر السابق في تفسير الآية ، ص ١٣٣.

٤٥

وناهيك بهذه الإضافة المنوهة بذكره المعظمة لشأنه الرافعة لقدره ، وكفاه ذلك شرفا وفخرا ، وبها على سائر البقاع عظمة وقدرا.

٤٦

[٥٥] [شرف البيت] :

وما أحسن ما قيل في هذا المعنى :

كفى شرفا أني مضاف إليكم

وأني بكم أدعى وأرعى وأعرف

وهي من السر في إقبال العالمين عليه ، وعكوفهم لديه ، قال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤]. أي : الكعبة أو وجهتها.

[٥٦] [جعل البيت قياما] :

وقال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧]. أي : قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم ، وروي عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية ثم قال : لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة ، وقيل : لو تركوه عاما لم ينظروا ولم يؤخروا ، وقال تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) [الحج].

[٥٧] [الطواف بالبيت] :

المراد : طواف الزيارة الذي هو ركن باتفاق الأربعة (١) ، قيل : هو مطاف أهل الغبراء ، كما أن العرش مطاف أهل السماء ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن هذا البيت دعامة الإسلام ، ومن خرج يؤمّ هذا البيت من حاج أو معتمر وزائر كان مضمونا على الله إن ردّه ردّه بأجر وغنيمة ، وإن قبضه أن يدخله الجنة) (٢). وقال عليه الصلاة والسلام : (لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا

__________________

(١) انظر زبدة الأحكام في مذاهب الأئمة الأربعة ص ١٦٠.

(٢) أخرجه ابن حجر في المطالب العالية ٦ / ٣٣٩ ؛ والأزرقي في أخبار مكة ٢ / ٣ ؛ والديلمي

٤٧

هذه الحرمة حق تعظيمها) (١) يعني الكعبة. وإذا ضيعوا ذلك هلكوا.

[٥٨] [حرمة البيت] :

ولما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة قال : (مرحبا بك من بيت ، ما أعظمك وأعظم حرمتك! وللمؤمن أعظم عند الله منك) رواه البيهقي (٢).

[٥٩] [زفّ الكعبة] :

وعن جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا كان يوم القيامة زفت الكعبة البيت الحرام إلى قبري ، فتقول : السلام عليك يا محمد ، فأقول : وعليك السلام يا بيت الله ما صنع بك أمتي؟ فتقول : يا محمد من أتاني فأنا أكفيه وأكون له شفيعا ، ومن لم يأتني فأنت تكفيه فتكون له شفيعا) أخرجه ابن مردويه والأصبهاني في الترغيب (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وعد الله تعالى هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف ، فإن نقصوا كملهم بالملائكة ، وإن الكعبة تحشر كالعروسة المزفوفة ، من حجها تعلق بأستارها حتى تدخلهم الجنة) (٤) ذكره ابن جماعة في منسكه.

__________________

في الفردوس ٤ / ٣٣٢ ؛ وقال الهيثمي : «رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن عبد الله بن عبيد وهو متروك». المجمع ٣ / ٢٠٩.

(١) أخرجه ابن ماجه (٣١١٠) ؛ والإمام أحمد في المسند (١٩٠٧٢).

(٢) أورده الهيثمي وقال : «رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه محمد بن محصن وهو كذاب يضع الحديث». المجمع ١ / ٨٢ ؛ وقال المناوي في الفيض : «لكن تعدد الطرق دل على أن للحديث أصلا» ٥٠ / ٣٦٦.

(٣) أخرجه الديلمي في الفردوس ٢ / ٢٩٥.

(٤) أورده الملا علي في الأسرار المرفوعة وقال : «كذا في الإحياء ، وقال العراقي : لم أجد أصلا» ١ / ١٢٦ ؛ وابن جماعة في هداية السالك ، ١ / ٤١.

٤٨

وعن عمر رضي‌الله‌عنه : من أتى البيت لا ينهزه ، أي : لا يحمله غير صلاة فيه رجع كيوم ولدته أمه (١).

[٦٠] [زيارة الملائكة الكعبة] :

ويروى أن الملك إذا نزل إلى الأرض في بعض أمور الله تعالى ، فأول ما يأمره الله تعالى بزيارة البيت ، فينفض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ، ثم يطوف بالبيت سبعا ويركع ركعتين ، ثم يمضي لما أمر به (٢) وقيل : لمّا خلق الله السموات والأرض قال لهما : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، خلق فيهما كلاما ونطقا ، فنطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحيالها ، وظاهره النطق بلسان المقال ، وقيل ينزّل الطاعة منها منزلة القول.

[٦١] [خلق الكعبة] :

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : الكعبة خلقت قبل الأرض بألفي عام ، قيل : وكيف خلقت قبل الأرض وهي من الأرض؟ قال لأنه كان عليها ملكان يسبحان الله بالليل والنهار ألفي سنة ، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها من تحت الكعبة (٣).

وقال الثعلبي : خلق الله جوهرة خضراء ثم نظر الله إليها بالهيبة فصارت ماء ، فخلق الأرض من زبده ، والسماء من بخاره ، فكان أول ظاهر على وجه الأرض مكة. زاد غيره : ثم المدينة ، ثم بيت المقدس ، ثم دحى الأرض منها طبقا واحدا ، ثم فتقها بعد ذلك ، وكذلك السماء (٤).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، ٣ / ١٢٠.

(٢) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ، ١ / ٣٩.

(٣) روى ابن الجوزي في المنتظم نحوه ١ / ١٢٨.

(٤) انظر : فيض القدير ١ / ٦٨.

٤٩

[٦٢] [موضع البيت] :

وعن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ قال : «لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض بعث الله تعالى ريحا هفافة فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع البيت كأنها قبه ، فدحى الله الأرضين من تحتها ، فمادت ثم ماءت فأوتدها بالجبال ، وكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس ؛ فلذلك سميت أم القرى» (١) ، أي : أصلها ، والخشفة ـ بالخاء والشين المعجمتين والفاء ـ واحدة من الخشف ، وهي : حجارة تنبت في الأرض نباتا ، وروي بالعين عوضا عن الفاء ، أي : أكمة لاطئة بالأرض ، وقيل : هو ما غلب عليه السهولة وليس بحجر ولا طين ، وكل هذا دال على فضلها والكلام فيه يطول ، ولو لم يكن من فضلها إلا خلق سيد الخلائق فيها عليه الصلاة والسلام لكفى.

[٦٣] [أصل طينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم] :

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : «أصل طينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سرة الأرض بمكة» ، يعني : الكعبة ، وهو لا ينافي أنه أخذ طينته من قبره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الماء لما تموج ، رمى بالزبد إلى النواحي ، فغرقت جوهرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يحاذي تربته بالمدينة.

[٦٤] [حصول الأمن] :

وله فضائل كثيرة وكرامات شهيرة ، في فضائله : حصول الأمن بدخوله أو دخول فنائه بدعوة إبراهيم عليه‌السلام ، حيث قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦] على ما قيل أو من منذ خلق الله السماء والأرض ، وهو الصحيح ،

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقي ١ / ٣٢.

٥٠

وقال تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥] ، وقال : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧](١).

وعن عمر رضي‌الله‌عنه : لو ظفرت بقاتل الخطّاب ما مسسته حتى يخرج منه (٢). ومعنى الأمن عندنا : أن من دخله من الصيد ، ومن [كان] متهما بقتل بقود ، أو ردّة ، أو زنا في الحل ، ثم التجأ إليه ، لم يتعرض له ؛ لأنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ، حتى يضطر إلى الخروج ، وأما إذا فعل ذلك فيه أقيم عليه حدّه ، وقيل : معناه الأمن من النّار لقوله عليه الصلاة والسلام : (من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا (٣)).

ويحكى عن بعض العبّاد رضي‌الله‌عنه أنه قال : كنت أطوف ، فقلت : يا ربّ! إنك قلت : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) ، أين الأمن؟ فسمعت ملكا يكلمني ويقول : من النّار.

[٦٥] [من حجّ ثلاث حجج] :

ويحكى أن قوما أتوا سعدون الخولاني رضي‌الله‌عنه بالمنستير ، فأعلموه أن كتامة ـ وهي قبيلة بالبربر ـ قتلوا رجلا ، وأضرموا عليه النار طول الليل ، فلم تعمل فيه النار ، وبقي أبيض البدن. فقال : لعله حج ثلاث حجج؟ قالوا : نعم. قال : حدّثت أن من حج حجة أدى فرضه ، ومن حج ثانية داين ربه ، ومن حج ثلاث حجج حرم الله سبحانه وتعالى شعره وبشره على النار (٤).

__________________

(١) انظر تفسير ابن عطية في تفسير الآية ، ص ٣٣٢.

(٢) رواه الأزرقي في أخبار مكة ٢ / ١٤٠.

(٣) أورده الهيثمي في المجمع وقال : «رواه الطبراني في الصغير والأوسط» وفيه موسى بن عبد الرحمن وثقه ابن حبان ، وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وغيره ، وضعفه أحمد وغيره ، وإسناده حسن» ٢ / ٣١٩.

(٤) أورده الدمشقي في توضيح المشتبه ٨ / ٢٨٥.

٥١

وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويختطفون الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع المظالم إلا في الحرم.

[٦٦] [تضعيف الثواب] :

ومنها تضعيف الثواب فيه وفي بنائه ، ومنها حصول الأجر العظيم بالطواف به ، والنظر إليه ، والجلوس حوله.

[٦٧] [كراماته وتعظيمه في قلوب الناس] :

ومنها كراماته : كما هو مجرب أن مفتاح بابها إذا وضع في فم الصغير الذي ثقل لسانه عن الكلام تكلم سريعا (١).

ومنها بقاء بنائها المدد المتطاولة مع توالي الأمطار والأهوية.

ومنها : هيبتها وتعظيمها في قلوب الناس ، وكفّ الجبابرة عنها على مرّ الدهور والأعصار ، وإذعان نفوس العرب لتوقيرها بدون ناه ولا زاجر.

[٦٨] [عقوبة منتهكي حرمة البيت] :

روي أن الحجاج بن يوسف الثقفي لما نصب المنجنيق على [جبل] أبي قبيس ، والنيران ، واشعلت النار في أستار الكعبة ، جاءت سحابة نحو جدة يسمع فيها الرعد ، ويرى البرق ، فمطرت ، فلم يجاوز مطرها الكعبة والمطاف ، فأطفات النّار فأرسل الله عليهم صاعقة ، فأحرقت منجنيقهم فتداركوه. قال عكرمة : أحسب أنها احترقت تحته أربعة رجال ، فقال الحجاج : لا يهولنّكم

__________________

(١) هذه القصة تناقلها المؤلفون في (فضائل مكة) فذكرها الفاكهي ، وعنه الفاسي في الشفاء ١ / ٣٠١ ؛ وابن ظهيرة في الجامع اللطيف ص ٥١.

٥٢

هذا فإنها أرض صواعق ؛ فأرسل الله صاعقة أخرى ، فأحرقت المنجنيق وأحرقت معه أربعين رجلا (١). وهذا كان مع عدم قصد الحجّاج للبيت ؛ لأن قصده إخراج ابن الزبير حيث تخفى به. فكيف بمن قصده أو رامه بسوء!! وقد وقع له ما هو أعظم من ذلك ، كقصة تبّع ، وأصحاب الفيل.

[٦٩] [هيبة البيت] :

ومن هيبته : أن الطير لا توقع عليه إلا للاستشفاء ، ولا تعلوه ، حتى إذا طارت فوقة وحاذت الكعبة انفرقت فرقتين كما حكاه كثير.

وذكر بعضهم : أن الطير إذا نزل على الكعبة : إما أن يشفى ، وإما أن يموت لحينه ، وهذا كان سابقا وأما الآن فلا ، ذكره غير واحد ، وكان ذلك لاختلاف الزمان وقرب الساعة ، كما هو مشاهد في أحوال بني آدم حولها من قلة الأدب ، وعدم الخشية.

[٧٠] [إنجاح مقاصد الملتجئ إليها] :

ومنها إنجاح مقاصد من التجأ إليها ، ودفع الشر عنه ، وتفريج كربه ، وذلك كثير لا يحصى.

وحكي أن امرأة لاذت بظالم ، فجاء ومدّ يده إليها فصار أشلّ ، وهذا سرعة عقاب من لم يتأدب في حضرتها. ويحكى أن رجلا كان في الطواف فبرق له ساعد امرأة فوضع ساعده عليه متلذذا به ، فلصق ساعدهما ، فقال له بعض الصالحين : ارجع إلى المكان الذي فعلت فيه ، فعاهد ربّ البيت أن لا تعود بإخلاص وصدق نية! ففعل فخلي عنه ، وانفصل ساعده (٢).

__________________

(١) أورد الهيثمي في المجمع نحوها ، انظر ٣ / ٢٩١.

(٢) انظر : القرى لقاصد أم القرى ص (٢٧٢).

٥٣

ويحكى : أن رجلا نظر إلى شخص في الطواف واستحسنه ، فسالت عينه على خده. وقال ابن حجر المكي ـ رحمه‌الله تعالى : أخبرت عن بعض من كان يحضر درسي وعليه من لوائح النّجابة وحفظ المسائل الغريبة ، ما كان الأمل فيه أن ينتج ويرتقي إلى مرتبة إفتاء أو تدريس ، أنّه عند تقبيل الحجر زاحمته امرأة لتقبّل فقبلها ، فابتلاه الله تعالى بحالة قطعته أولا عن العلم بالكلية ، ثم صيّر مسخرة وضحكة لكل من يراه ؛ بحيث يقضي كل من عرف حاله أولا وآخرا بالعجب العجاب من ذلك ؛ لجهلهم بهذا الفعل الصادر منه الذي كان سببا لمقته ، وذهاب لبّه ، ودناسة ثيابه ، وخبل عقله واختلاط كلامه ، ووصوله إلى حالة المبرسمين ومرافقته للمسرفين. أعاذنا الله من غضبه ، وفتنته وبلائه ومحنه ، بمنّه وكرمه! آمين.

[٧١] [دوام الطواف] :

وفيها أنه منذ خلقه الله تعالى ما خلا من طائف يطوف به من إنس أو جنّ أو ملك أو غير ذلك. وقال بعض أهل السلف : خرجت يوما في هاجرة ذات سموم ، وقلت : إن خلا البيت عن طائف ففي هذا الحين ، ورأيت المطاف خاليا ، فدنوت فرأيت حية عظيمة رفعت رأسها وهي تطوف حولها.

[٧٢] [طواف الحيوانات] :

وذكر أنه يوم قتل عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنهما بمكة اشتد الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالبيت إلا جمل يطوف بها.

٥٤

[٧٣] [طواف الجان بالبيت] :

وروي أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما كان جالسا في جماعة من قريش بالمسجد الحرام بعد ما ارتفع النهار ، وقلصت الأفياء ، إذا هم ببريق أيم دخل من جهة باب بني شيبة ، فاشرأبت أعينهم إليه وأبدوه بأبصارهم ، فجاء حتى استلم الحجر وطاف بالبيت سبعا ، وهم يحصونه ، ثم ذهب إلى دبر المقام فركع ركعتين وهم ينظرون إليه ، فقال عبد الله بن عمرو لأصحابه : اذهب إلى هذا فحذره فأني أخاف أن يقتل أو يعبث به ، فذهب إليه حتى وقف على رأسه ، وحذره فأصغى إليه برأسه حتى استنفد كلامه ، ثم ذهب في السماء حتى غاب ، فلم ير (١).

والأيم : هي الحية الذكر ، وبريقه : لمعانه ، إلى غير ذلك مما روي من هذا النوع (٢).

[٧٤] [اتساع الكعبة] :

ومنها اتساعه لداخليه مع كثرتهم وازدحامهم ، ولم يعلم أحد مات فيه من الزحام ، إلا ما وقع في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كما نقله المؤرخون : فإنه مات فيه أربعة وثمانون ، وقال ابن النقاش : والكعبة تسع ألف إنسان ، وإذا فتحت أيام الموسم دخلها آلاف كثيرة.

هذا وفضائل البيت لا تحصى ، وفضائله لا تستقصى ، فكم خلص الله به قوما ووصل آخرين وأفاض بواسطة أسراره الربانية على قلوب كثير من المحبين.

__________________

(١) وذكر ابن الجوزي نحوها في مثير العزم الساكن ٢ / ٣١.

(٢) انظر أخبار مكة للأزرقي ١ / ٣٢٢.

٥٥

[٧٥] [أحوال العارفين] :

روي أن أبا الفضل الجوهري رحمه‌الله لما رأى الكعبة علاه حال فقال ـ وقد دخله الطرب ـ : هذه زيارة المحبوب فأين المحبون؟ وهذه أسرار القلوب فأين المشتاقون؟ هذه ساعة الاطلاع على الدموع فأين البكاؤون ، ثم شهق شهقة وأنشد :

هذه دارهم وأنت محب

ما بقاء الدموع في الآماق (١)

ثم بادر إلى البيت باكيا.

وقد روى عنهم كثير من هذا الباب ، وما ذاك إلا للسر الذي قصر عن بيانه الإطناب ، وما أحسن قول العارف بالله تعالى السيد عبد الله با علوي رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) هذا قول الشبلي كما ذكر ابن الجوزي : «وحج الشبلي ، فلما وصل مكة جعل يقول : أبطحاء مكة هذا الذي أراه عيانا ، وهذا أنا ، ثم غشي عليه ، فأفاق وهو يقول :» مثير العزم الساكن ١ / ٣٨٩.

٥٦

عزيزة وصف حار فيه أولو النهى

من العارفين أهل الندا والبصائر

[٧٦] [التسمية بالكعبة] :

وإنما سمي كعبة لتكعبه أي : تربعه ـ يقال : برد مكعّب إذا طوي مربعا ، أو لعلّوه ونتوئه ـ ومنه سمي الكعب كعبا لنتوئه ، وخروجه من جانب القدم ، يقال : تكعبت الجارية إذا خرج نهداها (١) ـ أو لانفراده عن البيوت وارتفاعه ، وكان الناس بيوتهم مدورة تعظيما للكعبة ، وأول من بنى مربعا حميد بن زهير ، فقالت قريش : ربع حميدا بيتا إما حياة أو موتا ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه وغيره كانوا يأمرون بهدم ما ارتفع من البيوت عن الكعبة ؛ لأن الارتفاع من حيث هو مذموم ، ومن علامات الساعة ، وقد ورد : «من بنى فوق عشرة أذرع ناداه مناد من السماء يا عدو الله إلى أين تريد؟ (٢)» ، وهذه المحنة قد عمت فنسأل الله العفو.

[٧٧] [والتسمية بالبيت] :

وأما تسميته بالبيت الحرام ؛ فلأن الله حرّمه وعظّمه ، وحرم صيده وشجره ، أن يختلى خلاه ، وأن يعضد شجره ؛ وأن يتعرض له بسوء.

[٧٨] [التسمية بالعتيق] :

واختلف في تسميته بالعتيق : فقيل : لأن الله أعتقه من الجبابرة ، فلم يظهر عليه جبار ، وقيل لقدمه ؛ لأنه أول بيت وضع ، والعتيق : القديم ، وقيل : لأنه

__________________

(١) القرى لقاصد أم القرى ، ص ٣٤٠.

(٢) أورده المناوي في الفيض وقال : «أغفل المصنف من خرجه ، وعزاه في الدرر إلى الطبراني عن أنس ، وفيه الربيع ابن سليمان» ٦ / ٩٧.

٥٧

كريم على الله لم يجر عليه ملك لأحد من خلقه ، فلا يقال بيت فلان وإنما يقال بيت الله ، وقيل : لأنه أعتق من الغرق ؛ لما أنه رفع في زمن الطوفان ، وقيل : لشرفه سمي عتيقا ، وقيل : لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المؤمنين من العذاب ، وقيل : لأنه يعتق زائره من النار ، وهو قريب من الأول ، وقيل غير ذلك (١) ، قال ابن جماعة : والأصح الأول ؛ لأن الترمذي رواه من حديث الزبير ، وقال : إنه حسن غريب (٢).

[٧٩] [دخول البيت] :

تتمة : يستحب دخول البيت عند الأربعة إذا لم يؤذ أحدا وإلا فيحرم ، كما في المضمرات. ويستحب الصلاة فيه والدعاء ، ويدخله خاضعا خاشيا حافيا ، معظما مستحييا ، لا يرفع رأسه إلى السقف ، ويقصد مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٨٠] [ما يفعل بداخل الكعبة] :

وكان ابن عمر رضي‌الله‌عنهما إذا دخلها مشى قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره ، حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع ، ثم يصلي يقصد مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، وإذا صلّى وضع خده على الجدار ـ رحمه‌الله ـ واستغفر.

[٨١] [الأدعية بداخل الكعبة] :

ثم يأتي الأركان فيحمد الله تعالى ويستغفر ، ويهلل ويكبر ويسبح ،

__________________

(١) انظر : القرى لقاصد أم القرى ص ٣٤٠.

(٢) أخرجه الترمذي (٣١٧٠) ؛ هداية السالك لابن جماعة ١ / ٤٠.

(٣) أخرجه البخاري (٤٨٤).

٥٨

ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدعو بما شاء من الأدعية طلب الجنة بلا حساب ، والشوق إلى لقاء الملك الوهاب ، ويتجنب البدع ، وينبغي أن يقول : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] ، ويقول : اللهم كما أدخلتني بيتك فأدخلني جنتك ، اللهم يا رب البيت العتيق أعتق رقابنا ورقاب أبائنا وأمهاتنا من النار ، يا عزيز يا جبار ، اللهم يا خفي الألطاف آمنا مما نخاف ، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه نبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

[٨٢] [فضل دخول الكعبة] :

ولدخول الكعبة ثواب عظيم وفضل جسيم : وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من دخل البيت فصلّى فيه ، دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له (١)) ومثله عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما ، وفي رسالة الحسن البصري عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من دخل الكعبة دخل في رحمة الله عزوجل وفي حمى الله عزوجل وفي أمن الله عزوجل ومن خرج خرج مغفورا له (٢)) ، وفي رواية عن مجاهد : (يخرج معصوما فيما بقى) نقله ابن جماعة ، ثم قال : يحتمل أنه يريد بذلك العصمة من الكفر ، فتكون له البشارة لمن دخله بالموت على الإسلام (٣).

[٨٣] [فضل النظر إلى الكعبة] :

ويستحب الإكثار من النظر إليه ؛ لأنه عبادة ، وروى الحسن البصري

__________________

(١) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ٤ / ٣٣٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١٥٨ وقال : «تفرد به عبد الله بن المؤمل وليس بالقوي».

(٢) وأخرج نحوه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ١٧٧.

(٣) هداية السالك لابن جماعة ١ / ٧٦ ، ٧٧.

٥٩

رحمه‌الله تعالى في رسالته أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من نظر إلى البيت إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وحشر يوم القيامة من الآمنين (١)) ، وفيها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من نظر إلى البيت نظرة من غير طواف ولا صلاة كان عند الله عزوجل أفضل من عبادة سنة بغير مكة صائما وقائما وراكعا وساجدا (٢)).

[٨٤] [الجلوس إلى القبلة] :

وفيها أيضا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من جلس إلى القبلة ساعة واحدة محتسبا لله عزوجل ، كان له كأجر الحاج والمعتمر ، والمرابط ، والقائم ، وأول ما ينظر الله تعالى لأهل الحرم ، فمن رآه مصليا غفر له ، ومن رآه قائما غفر له ، ومن رآه قاعدا مستقبل القبلة غفر له (٣)).

[٨٥] [تنزل الرحمات حول البيت] :

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (إن الله تعالى ينزل في كل يوم مائة وعشرين رحمة على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين (٤)) وهذا وإن كان ضعيفا فيعمل به في الفضائل كما عرف ، وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه : (النظر إلى

__________________

(١) رسالة الحسن البصري (فضائل مكة والسكن فيها) بتحقيق د / سامي الصافي ص ٢٣ ، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه نحوها ٥ / ١٣٥.

(٢) هداية السالك ١ / ٧٥ ، وأخرج الأزرقي عن يونس بن خباب قوله : «النظر إلى الكعبة عبادة فيما سواها من الأرض عبادة الصائم القائم الدائم القانت» وقال محققه : «إسناده ضعيف» ١ / ٥٠٠.

(٣) انظر رسالة الحسن البصري.

(٤) رواه الفاكهي ١ / ١٩٨ والأزرقي في أخبار مكة ٢ / ٨ ، وقال محققه : «إسناده حسن» (طبعة الأسدي) ١ / ٥٠٠ ؛ والطبراني في الكبير ١١ / ١٢٤ ؛ وقال الهيثمي : «وفيه يوسف ابن السفر وهو متروك» مجمع الزوائد ٣ / ٢٩٣.

٦٠