عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

[٢٦٧] [مسجد الجعرانة] :

ومسجد الجعرانة (١) : معروف ، وهو الذي أحرم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعمرة في مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، وموضع إحرامه : وراء الوادي عند الحجارة المنصوبة بالعدوة القصوى. ذكره الأزرقي عن مجاهد ، واختلف في وقته : والراحج أنه ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة عام الفتح (٢).

__________________

(١) الجعرانة : موضع بين مكة والطائف ، وهو إلى مكة أقرب ، وهو من الحل ، وهي اليوم قرية في صدر وادي سرف ، على بعد نحو ٢٤ كيلومتر من المسجد الحرام في الجهة الشمالية منه ، والمسجد قد أعيد بناؤه وتوسعته في عهد خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد رحمه‌الله) وأضيفت إليه مرافق كثيرة.

(٢) انظر : الجامع اللطيف ص ٢٩٤.

٢٢١

والجعرانة ـ بجيم مكسورة وعين ساكنة وراء مفتوحة ، وبكسرهما وتشديد الراء ، وقيل بكسر الجيم وفتح الراء المشددة ، وقال الشافعي : التشديد خطأ ـ موضع بين مكة والطائف سمي بريطة بنت سعد ، وكانت تلقب بالجعرانة : وهي امرأة أسد بن عبد العزى ، وعن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنها هي التي نزل فيها قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [النحل : ٩٢] الآية.

[٢٦٨] [فضائل الجعرانة] :

ومن فضائل هذا الموضوع : ما أخرجه الجندي في فضائل مكة بسنده إلى يوسف بن ماهك أنه قال اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي (١) ، ومنها : ما ذكره الفاكهي أن في جهة الجعرانة ماء شديد العذوبة ، يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحص موضع الماء بيده الكريمة ، وقيل : إنه غرز فيه رمحه الميمون ، فنبع الماء من ذلك المحل ، فشرب منه وسقى الناس (٢).

[٢٦٩] [مسجد الفتح] :

ومسجد بوادي مرّ الظهران قرب الجموم ، يقال له : مسجد الفتح ، مشهور بهذا الاسم إلى هذا الزمان يقال إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيه (٣). والله أعلم.

__________________

(١) أوردها ابن جماعة في هداية السالك ٣ / ١٢٦٣.

(٢) أخبار مكة للفاكهي ٥ / ٦٩.

(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٥. موقعه : الجموم وادي مر الظهران ، ماء لبني سليم ، يقع على بعد نحو ٢٥ كم شمال مكة المكرمة على طريق المدينة المنورة (طريق الهجرة). انظر : تاريخ مكة قديما وحديثا ص ١٣٨.

٢٢٢

[٢٧٠] [جبال مكة] :

وأما الجبال المأثورة :

[٢٧١] [جبل أبي قبيس] :

فمنها : جبل أبي قبيس أحد أخشبي مكة (١) ، سمي برجل من مذحج حدّاد ؛ لأنه أول من بنى فيه ، كذا في القاموس (٢). وقال ابن ظهيرة في تسميته بأبي قبيس : أرجحها أنه سمي باسم رجل من إياد ، يقال له : أبو قبيس ، بنى فيه (٣) ، وكان يسمى الأمين في الجاهلية ؛ لأن الحجر استودع فيه عام الطوفان ، فلما بنى الخليل الكعبة ناداه الجبل : الركن مني بمكان كذا وكذا ، فجاء به جبريل فوضعه ، وهو أصل الجبال وأولها ، كما روي عن ابن عباس وغيره. وذكر الفاكهي : أن الدعاء يستجاب فيه.

وعن وهب بن منبه : أن قبر آدم في غار فيه يقال غار الكنز ، وأن نوحا لما جاء الطوفان استخرجه من الغار وجعله في تابوت وحمله في السفينة ، فلما غاض الماء أعاده ، وهو لا يعرف الآن ، وقيل بمسجد الخيف وتقدم ، وقيل ببيت المقدس ، وقيل بالهند ، وصححه الحافظ ابن كثير. وعن

__________________

(١) وهذا الأخشب الشرقي ، والغربي : قعيقعان (ومكة بينهما) وأمام اليوم فلا يعرف الجبل بالاسم المذكور ، وإنما تطلق عليه عدة أسماء : جبل السليمانية ، والعبادي ، والمدافع ، قرن ، لعلع ، الترك ، المطابخ ، السودان ، وجبل الأحمر وهذه أسماء بعضها قديمة وبعضها حديثة. وكل يشرف على حيّ أو أحياء. انظر البحر العميق ١ / ١٢١ ؛ أودية مكة للبلادي ص ٩٠.

(٢) جبل أبي قبيس ـ بضم القاف ـ وهو الجبل المشرف على الصفا والمسجد الحرام وهو معروف ، وإن كان البناء قد ستر الجهة المقابلة للحرم ، وتفصل الساحة بينه وبين الحرم. القاموس المحيط (قبس).

(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٨.

٢٢٣

الذهبي : أن قبر حواء وشيث فيه أيضا. والله أعلم (١).

وعن بعض العلماء : أنه أفضل جبال مكة حتى من حراء لقربه من الكعبة الشريفة واستشكله الفاسي [من تفضيله على حراء](٢) لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر إتيانه للعبادة ، ويقيم به لأجلها شهرا في كل عام ، وفيه أكرم بالرسالة ، ولم يتفق له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ذلك في غيره ، وذلك مما يقتضي امتيازه بالفضل.

وما فضل دار خديجة على غيرها من دور الصحابة إلا بطول سكناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ونزول الوحي عليه فيها لا لقربه من الكعبة ؛ إذ دار

__________________

(١) المصدر السابق ص ٢٩٧.

(٢) ما بين المعكوفتين أضيفت من الجامع اللطيف ، وبدونها لا تستقيم العبارة. انظر : الجامع اللطيف ص ٢٩٨.

٢٢٤

العباس ودار الأرقم أقرب منها (١).

وفي عجائب المخلوقات ـ من خواص جبل أبي قبيس ـ : أن من أكل فيه رأسا مشويا يأمن من وجع الرأس ، وكثير من الناس يفعله. وقال الملّا علي : وأما ما اشتهر من أكل رأس الغنم يوم السبت ، فلا أصل له. والله أعلم بحقيقته! (٢).

[٢٧٢] [جبل الخندمة] :

جبل الخندمة : وهو معروف خلف جبل أبي قبيس ، وروى عن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أنه قال : ما أمطرت مكة قط إلا كان للخندمة عزة ؛ وذلك

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر السابق نفسه.

٢٢٥

أن فيه قبر سبعين نبيا ، أخرجه الفاكهي (١) ، قال العلامة بن ظهيرة بصحته (٢).

وفيه يقول القائل في فتح مكة :

إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذ مرّ صفوان وفرّ عكرمة

[٢٧٣] [جبل حراء] :

وحراء : ككتاب ممدود إن ذكّر صرف ، وإن أنث منع ، ويسمى جبل النور (٣) ؛ وكان ذلك لكثرة إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وتعبد به فيه ،

__________________

(١) أخبار مكة ٤ / ١٣٤ ، وجبل خندمة.

(٢) قال المؤلف : (قال العلامة ابن ظهيرة بصحته) بينما قال : «والله أعلم بصحته» تعليقا على الرواية كما في الجامع اللطيف ص ٢٩٩ ، ومن ثم لا أرى المطابقة ، بين القول وبين المفهوم منه ، ولعل السهو والتسرع أدىّ إلى هذا.

(٣) الجامع اللطيف ص ٢٩٩. حراء ـ غار حراء ـ : ويعرف الجبل (بجبل النور) والغار الذي

٢٢٦

ولما خصه الله به من الإكرام بالرسالة ونزول الوحي عليه بالغار الذي بأعلاه ، كما في صحيح البخاري حين فجأه الحق في غار حراء. كذا في الجامع اللطيف (١).

وفي المواهب : والصحيح أن أول ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن (اقرأ) كما صح ذلك عن عائشة ، وروي عن أبي موسى الأشعري ، وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف (٢).

__________________

كان يتعبد فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجبل مشهور ب (غار حراء) ، ومن ثم غلب على الجبل ، ويقع جبل النور شمال شرقي المسجد الحرام ، والغار عبارة عن فجوة بابها نحو الشمال يتوصل إليه بعد المرور من مدخل بين الحجرين سعته نحو ٦٠ سم وطول الغار نحو ٣ م ، في مقدمته فتحة طبيعية ، وعرض الغار متفاوت أقصاه ٣٠ ، ١ م وارتفاعه ٢ م ويتسع لشخصين. انظر : تاريخ مكة قديما وحديثا ص ١٢٤.

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) انظر : زاد المسير لابن الجوزي ، ص ١٥٦٨ (ابن حزم) ؛ وتفسير ابن عطية ص ١٩٩١.

(ابن حزم).

٢٢٧

وأما ما روي عن جابر وغيره : أن أول ما نزلت (يا أيها المدثر) ، فقال النووي : ضعيف بل باطل ، وإنما نزلت بعد فترة الوحي ، وأما حديث البيهقي أنه الفاتحة كقول بعض المفسرين ، فقال البيهقي : هذا منقطع ، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] و (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) [المدثر] ، وقال النووي بعد ذكر هذا القول : بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى. وهو مشهور معروف يأثره السلف عن الخلف.

وذكر الأزرقي والفاكهي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختبأ فيه من المشركين.

قال ابن ظهيرة : والمعروف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يختبئ من المشركين إلا في غار ثور ، لكن يتأيد ما ذكر بما قاله القاضي عياض ، والسهيلي في روضه : أن قريشا حين طلبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على ظهر ثبير ، فقال له : اهبط عني يا رسول الله ، فإني أخاف أن تقتل وأنت على ظهري فيعذبني الله تعالى ، فناداه حراء : إليّ يا رسول الله!

وجمع القاضي تقي الدين فقال : إن صحّ اختفاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بحراء فهو](١) غير اختفائه بثور والله أعلم ، فيكون اختفاؤه بحراء أولا ، وفي ثور حين الهجرة. انتهى (٢).

وفي تذكرة القرطبي عن أنس بن مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكا ، صار بعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحراء ، وبالمدينة أحد ، وورقان ،

__________________

(١) ما بين المعكوفتين مزيدة من الجامع اللطيف ، والعبارة مأخوذة منه ، وبغيرها لا تستقيم العبارة.

(٢) الجامع اللطيف ، ص ٢٩٩.

٢٢٨

ورضوى (١)). والحاصل : أن فضله عظيم وشرفه جسيم ، وهو أحد الجبال التي بني منها البيت الشريف ، ومحل ظهور السر المنيف ، وقد أفرده ابن فهد الهاشمي بالتصنيف ، وما أحسن ما قال العلامة المرجاني فيه شعرا :

تأمل حراء في جمال محياه

فكم من أناس في حلا حسنه تاهو

فما حوى من جاء لعلياه زائرا

يفرج عنه الهم في حين مرقاه

به خلوة الهادي الشفيع محمد

وفيه له غار كان يرقاه

وقبلته للقدس كانت بغاره

وفيه أتاه الوحي في حال مبداه

وفيه تجلى الروح بالموقف الذي

به الله في وقت البداءة سواه

وتحت تخوم الأرض في السبع أصله

ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه

ولما تجلى الله قدس ذكره

لطور ، تشظى فهو إحدى شظاياه

ومنها ثبير ثم ثور بمكة

كذا قد أتى في فقل تاريخ مبداه

وفي طيبة أيضا ثلاث فعدها

فعيرا وورقانا وأحدا رويناه

ويقبل في ساعة الظهر من دعا

به وينادى من دعانا أجبناه

وفي إحد الأقوال في عقبة حراء

أتى ثمّ قابيل لهابيل غشاه

ومما حوى سرا حوته صخوره

من التبر إكسيرا يقام بسكناه

سمعت به تسبيحها غير مرة

وأسمعته غيري فقالوا سمعناه

وفيه مركز النور الالهي مثبتا

فلله ما أحلا مقاما بأعلاه (٢)

وقول الناظم : (فعيرا) ، صوابه : فرضوى ؛ كما في الحديث السابق ؛ ولأن (عيرا) مبغوض كما ورد ، والحكمة في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازم فيه

__________________

(١) رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة ١ / ٧٩ ؛ والأزرقي ٢ / ٢٨٠ ؛ والفاكهي ٤ / ٨١.

(٢) بهجة النفوس والأسرار ، للمرجاني ، ١ / ١٣٣.

٢٢٩

التعبد دون غيره ما فيه من السر الإلهي الذي أودعه فيه ؛ لأن لله تعالى في كل شيء أسرارا ربانية ، ولطائف رحمانية يختص بها عن غيره ، أو ما قيل من أنه مختلى أجداده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام ، أو غير ذلك والله أعلم بما هنالك (١).

[٢٧٤] [جبل ثور] :

وجبل ثور (٢) : وهو معروف بأسفل مكة ، بينه وبينها ميلان ، وقيل : ثلاثة ، وارتفاعه نحو ميل ، ويقال له : ثور أطحل ، واسم الجبل أطحل نزله ثور بن عبد مناف ، فنسب إليه ، كذا في القاموس (٣).

وقال الشيخ إدريس : (ثور) ـ بفتح المثلثة وسكون الواو ـ وهو ابن حجفل الهذلي ، وقيل هو ثور بن آدم طايخة بن إلياس بن مضر ، أبو القبيلة المشهورة : رهط.

ومنهم سفيان الثوري ، وهذا الجبل فيه الغار المذكور في قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] الآية الذي اختفى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر ، وروى رزين ابن أبي بكر لما رأى القافة ، اشتد حزنه على النبي صلى الله عليه

__________________

(١) انظر الجامع اللطيف ص ٢٩٩ ، ٣٠٠.

(٢) جبل ثور ـ غار ثور ـ يقع الجبل في جنوب المسجد الحرام في جهة المسفلة بحي الهجرة على يمين السائر على الطريق الدائري باتجاه مزدلفة ، ويبعد عن المسجد الحرام ثلاثة كيلو مترات ، ويبلغ ارتفاعه نحو ٧٥٩ مترا ، والغار مساحته نحو مترين مربعين ، وله فتحتان من الأمام والخلف ، والغار عبارة عن صخرة مجوفة كبيرة ، والدخول إليه يكون بانحناء ، وقد غيرت عوامل التعرية فيه الكثير. وهذا الغار دون القمة ، وصعب المرتقى ، ويستغرق الصعود إليه نحو ساعة ونصف.

(٣) القاموس المحيط (نور).

٢٣٠

وسلم ، وقال : إن قتلت فإنما أنا رجل واحد ، وإن قتلت أنت هلكت الأمة. فعندها قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تحزن إن الله معنا ، يعني : في المعونة ، وفي النصر.

وفي الصحيح عن أنس بن مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ ، قال أبو بكر : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه!! رآنا؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)؟ (١).

وروي أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قال : نظرت إلى قدمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار وقد تفطرتا دما ، فاستبكيت وعلمت أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن تعود الحفا والحفوة ، وأنه رأى جحرا فيه فألقمه عقبه ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣٤٥٣) ومسلم (٢٣٨١).

٢٣١

لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل الأفاعي يضربنه ويلسعنه ، فجعلت دموعه تنحدر.

وفي رواية : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر فنام ، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك ، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهب ما يجده (١).

وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما دخل الغار وأبو بكر معه ، أنبت الله على بابه الراه فحجبت عن الغار أعين الكفار (٢).

والراه : أم غيلان ، وقيل : شجرة مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر به يحشى المخاد (٣).

وفي مسند البزار (أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار ، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار ، وأن ذلك مما صد المشركين عنه ، وأن حمام الحرم من نسل تلك الحمامتين ، ولما فقدته قريش طلبوه بمكة كلها ، وبعثوا القافة في كل وجه ، فوجد الذي ذهب قبل ثور ، فلم يزل يتبعه حتى انتهى إلى ثور ، وشق خروجه عليهم ، وجزعوا لذلك وجعلوا مائة ناقة لمن يرده ، فتوجه فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم إلى ثور ، فلما أقبلوا على الغار جعل بعضهم ينظر فيه ، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفمه ، فرجع إلى أصحابه وقالوا : مالك؟ قال : رأيت حمامتين وحشيتين ،

__________________

(١) انظر السيرة النبوية لابن كثير ، ٢ / ٢٣٧.

(٢) انظر عيون الأثر لابن سيد الناس ، ١ / ١٨٢.

(٣) «أم غيلان : شجرة السّمر ، وهو نوع من جنس السنط من الفصيلة القرنية ، ويسمى أيضا الطّلح» المعجم الوسيط (غيل).

٢٣٢

فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر : ادخلوا الغار. فقال : وما ألاكم إلى الغار إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد) (١).

وروي أن الحمامتين باضتا في أسفل النقب ، ونسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخلا لتكسر البيض ، وتفسخ العنكبوت.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (اللهم أعم أبصارهم (٢)) ، فعميت عن دخوله ، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار ، والحاصل : أن كل هذه الآيات الكبرى والأسرار العظمى وقعت عنده ، ولله ما أحسن قول الشريف البوصيري :

وا غيرتا بين أضحى الغار وهو به

كمثل قلبي معمود ومأهول

كأنما المصطفى فيه وصاحبه ال

صديق ثان قد آواهما غيل

وجلل الغار نسج العنكبوت على

وهن فيا حبذا نسج وتحليل

عناية ضل المشركون بها

وما مكايدهم إلا الأضاليل

إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما

كأن أبصارهم من زيغها حول

وكان مكثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ثلاثا ، كما في صحيح البخاري ، وهو المشهور ، وقيل : بضعة عشر يوما.

__________________

(١) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥ / ٨٧. انظر السيرة النبوية لابن كثير ، ٢ / ٢٣٥.

(٢) أورده الملا علي في مرقاة المفاتيح ١١ / ٤ ، وقال الزيلعي : «لم أجده» تخريج الأحاديث والآثار ٢ / ٧٧ ، وانظر هذه الروايات وغيرها في تفسير ابن عطية ، ص ٨٤٦. (طبعة بن حزم).

٢٣٣

٢٣٤

[٢٧٥] [فضائل ثور] :

ومن فضائل ثور : ما يروى أنه كلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال له : إليّ يا رسول الله فإني قد آويت قبلك سبعين نبيا (١) ، وما قال المرجاني في بهجة النفوس : ذكر لي أن رجلا كان معه مال وبنون ، وأنه أصيب بذلك ، فلم يحزن ولم يجزع على مصائبه بقوة صبره وتحمله ، قال : فسألته عن قوة صبره وحسن تحمله؟ قال : إن من دخل غار ثور الذي آوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبه أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، وسأل الله تعالى أن يذهب عنه الحزن. لم يحزن على شيء ، وقد فعلت ذلك فما وجدت قط حزنا ، قال المرجاني : هذه الخاصة من تأثير قوله تعالى (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠].

وما نقل عن البكري ـ رحمه‌الله ـ أنه قال في جبل ثور : من كل نبات الحجاز ، وفيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه هامة.

ونقل الفاسي عن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ : أنّ قتل قابيل أخاه هابيل كان في ثور (٢).

وفضل هذا الجبل عظيم ، ولو لم يكن من ذلك إلا ذكر غاره في القرآن لكفى ؛ ولأجل ذلك فضله على حراء [جماعة] ، منهم الفيروزآبادي ، ولابن فهد فيه تأليف حسن سماه : «النور في فضائل جبل ثور» والغار الذي فيه بابان

__________________

(١) انظر : الجامع اللطيف ص ٣٠٠. هذا الحديث ورد في فضل (حراء) والقائل هو حراء ، كما ذكر المرجاني في بهجة النفوس ، ١ / ١٣٢ وابن الضياء في البحر العميق ، ٥ / ٢٦٥٤ ؛ وقال السهيلي في حديث الهجرة : وأحسب في الحديث أن ثورا ناداه أيضا لما قال له ثبير : اهبط عني» كما نقل صاحب البحر العميق ، ٥ / ٢٦٥٤.

(٢) راجع المصدر السابق نفسه.

٢٣٥

واسع وضيق ، وكثير من الناس يدخله ، أي الضيق ؛ لما يقال : إن من لم يدخل منه وتعوق فليس لأبيه : باطل لا أصل له ، وقد وسع في عام ثمانمائة ؛ لأن بعض الناس أراد الدخول فانحبس ، فنحت منه وتخلص. كذا في الجامع اللطيف (١).

[٢٧٦] [جبل ثبير] :

وجبل ثبير وتقدم الكلام عليه في الكلام على منى. والله أعلم.

فهذه المآثر الجلية يستحب زيارتها والتردد إليها للتبرك بآثار المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللانتشاق من فضل ذوي الفضل والنور الوفاء ، والتعفر بتراب نعل سيد ذوي الاصطفاء بسوائد القلوب ، كشأن أهل الوفاء.

[٢٧٧] [بعض أحوال العارفين] :

يحكى أن الإمام السبكي ـ رحمه‌الله ـ لما دخل مدرسة النووي وقد أعطي تدريسه ، صار يعفر جلده بالأرض حتى وصل إلى محله وهو ينشد :

وفي دار الحديث لطيف معنى

إلى بسط لها أصبو وآوي

لعلي أن أنال بحرّ وجهي

مكانا مسه قدم النواوي

وإذا كان هذا في حق بعض الأولياء من أمته الذين قاموا بخدمته ، فكيف به وبأثره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرم ومجّد وعظّم ، وما أحسن قول الشيخ إدريس رحمه‌الله تعالى :

إذا حلت ركابك سوح قوم

وأنت مقصر عاصي الجليل

__________________

(١) ص ٣٠٠ ، ٣٠١.

٢٣٦

فأيقن أنك الناجي وعفر

بسوح حله قدم الرسول

وقال أيضا :

إذا أفنيت عمرك في معاص

فتب واقلع من الذنب المسيء

تفوز مع الأكابر ثم عفر

بسوح مسّه نعل النبي

ويقول الفقير رحمه‌الله تعالى :

وفي أثر الرسول لنا شفاء

لقلب ذاب من حر السقام

وروح دائما ولطيف معنى

تطير إليه أرواح الغرام

فتعفير القلوب لديه فضل

من الرحمن فاشكر بالتزام

وعفر ديمة فيه خدودا

لتحظى بالسعادة والمرام

وأكثر دائما فيه صلاة

على المختار من بين الأنام

ولله ما أنسب بهذا المقام قول أبي اليمن بن عساكر في النعل الشريف وأثره ، رضي‌الله‌عنه وأرضاه :

يا منشدا في رسم ربع خال

ومناشدا لدوارس الأطلال

دع ندب آثار وذكر مآثر

لأحبة بانوا وعصر خال

والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا

إن فزدت عنه بلثم ذا التمثال

أثر له بقلوبنا أثر لها

شغل الخلي بحب ذات الخال

قبل لك الإقبال نعلي أخمص

حل الهلال بها محل قبال

الصق بها قلبا يقلبه الهوى

وجلا على الأوصاب والأوجال

٢٣٧

صافح بها خدا وعفّر وجنة

في تربها وجدا وفرط ثقال

وسبيل حرّ جوى ثوى بجوانح

في الحب ما جنحت إلى الإبدال

يا شبه نعل المصطفى روحي الفدا

لمحلك الأسما الشريف العال

هملت لمرآك العيون وقدنا

مرمى العيون بغير ما إرسال

وتذكرت عهد العقيق فناثرت

شوقا عقيق المدمع الهطال

وصبت فواصلت الحنين إلى الذي

ما زال بالي منه في بلبال

أذكرتني قدما لها قدم العلا

والجود والمعروف والأفضال

أذكرتني من لم يزل ذكري له

يعتاد في الأبكار والآصال

ولها المفاخر والمآثر في الدنا

والدين في الأقوال والأفعال

لو أن خدي يحتذى نعلا لها

لبلغت من نيل المنى آمالي

أو أن أجفاني لوطىء نعالها

أرض سمت عزا بهم ندى الإذلال

فتأمل يا أخي. حال أكابر السادات ، واقتباس أهل العرفان والولايات ، وانتشاق أهل المواهب والعنايات ، فطوبى لهم منحوا من الكرامات وبما أعطوا من صفو المشارب وأعلى المرامات.

[٢٧٨] [مقبرة المعلا] :

وأما المقابر فأعظمها وأشرفها المعلا (١) ؛ لما حوته من سادات الصحابة

__________________

(١) الأزرقي ٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، الجامع اللطيف ص ٣٠٣ ، مقبرة المعلا : تقع في الحجون ملاصقة لسفح جبل البرم (أبو دجانة) على يسار الذاهب إلى منى ، وتمتد المقبرة من الكمالية إلى الخرمانية ثم إلى ريع ذاخر ، وهي من أكبر المقابر بمكة ، وقد شق طريق من وسطها فصارت كأنها مقبرتان ، وهي مسوّرة من جميع الجهات.

٢٣٨

والتابعين وكبار العلماء والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو ـ بفتح اللام ـ ضد المسفلة (١) ، واشتهر بين العوام ـ بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة ـ ، وله وجه في العربية كذا قال الملا علي ، وقال أيضا : وهو أفضل مقابر المسلمين بعد البقيع ، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما في المدارك : عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة (٢)). وهما مقبرتا مكة والمدينة.

__________________

(١) المسفلة ـ بفتح الميم وسكون المهملة ـ وتطلق على ما انحدر من المسجد الحرام ، وقد أصبحت الآن علما على حيّ من مكة ، يمتد من المسجد الحرام جنوبا غربا. انظر : معجم معالم الحجاز ٨ / ١٥٤.

(٢) ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة (٣٩٢) ، وقال الزيلعي : «غريب جدا» كما في تخريج الأحاديث الواقعة في الكشاف (٢٠٩) ، وذكره الملا علي القارئ في الأسرار المرفوعة وقال : «لا يعرف له أصل» (١٦٩).

٢٣٩

[٢٧٩] [فضل المعلا] :

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أنه سأل الله تعالى عما لأهل البقيع الغرقد؟ فقال : لهم الجنة ، فقال يا رب ما لأهل المعلا؟ قال : يا محمد تسألني عن جوارك ولا تسألني عن جواري).

وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنهما قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الثنية ثنية المقبرة وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال : (يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين ألفا ، يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا ، وجوههم كالقمر في ليلة البدر ، فقال أبو بكر : من هم يا رسول الله؟ قال : من الغرباء (١)) ، وهو يحتمل حمله على الحقيقة أو على من تحقق بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب (٢)) ، وهم صالحوها ، وهم غير محصورين ؛ لأنها معدن الأولياء وبرزخ الأصفياء. ويقال عن أهل مكة : إن هذه البقعة هي الشعبة التي فيها الشيخ عبد الوهاب الكبير المشهور ، ويسمونها شعبة النور وإنهم يبعثون متوّجين. وقيل : هي التي فيها السيدة خديجة ، والفضيل وغيرهما من الأكابر. والله أعلم بصحة ذلك.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمقبرة مكة : (نعم المقبرة هذه (٣)) وروى الفاكهي عن الزهري مرسلا أن النبي صلى

__________________

(١) الحديث بطوله رواه الفاكهي في أخبار مكة ٤ / ٥١ ، وعزاه المتقي الهندي إلى الديلمي ، كنز العمال (٣٤٩٦٠).

(٢) أخرجه البخاري (٦٠٥٣).

(٣) عزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار والطبراني وقال : «وفيه إبراهيم بن أبي خداس حدث عن ابن جريج وابن عيينة كما قال أبو حاتم ، ولم يضعفه أحمد وبقية رجاله رجال الصحيح» مجمع الزوائد ٣ / ٢٩٧.

٢٤٠