عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

وقال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥].

وروي أن عمر ـ رضي الله ـ عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى! (١) وقال عليه الصلاة والسلام : (لم أؤمر بذلك) ، فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية. وهذه أحد المواطن التي وافقت عمر فيها رأيه.

وعنه عليه الصلاة والسلام : (من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وحشر يوم القيامة من الآمنين (٢)) أخرجه في الشفاء ، وفي المنسك الكبير.

[١٧٧] [فضل الصلاة خلف المقام] :

وإذا أتى مقام إبراهيم عليه‌السلام فصلى عنده ركعتين إيمانا واحتسابا ، كتب الله له عتق أربعة عشر من ولد إسماعيل ، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وهو بعض حديث بريدة مرفوعا :

(لما أهبط آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم قال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، ورضّني بقضائك! فأوحى الله تعالى إليه : يا آدم إنّك دعوتني بدعاء استجبت لك فيه ، وغفرت ذنوبك ، وفرجت همومك وغمومك ، ولن يدعو به أحد من

__________________

(١) أورده الزيلعي في تخريج الأحاديث وقال : «غريب بهذا اللفظ» ١ / ٨٠ ؛ وأخرجه البخاري بلفظ آخر (٤٢١٣).

(٢) أخرج نحوه الواحدي في تفسيره الوسيط كما ذكر الزبيدي في إتحاف السادة ٤ / ٣٥٩.

١٤١

ذريتك من بعدك إلّا فعلت ذلك به ، ونزعت فقره من بين عينيه ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأتته الدنيا وهي كارهة وإن لم يردها) (١) رواه الأزرقي ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدعوات وابن عساكر.

وورد أن آدم دعا ربه خلف المقام (٢) ، وفي رواية عند الملتزم ، وفي أخرى : عند الركن اليماني.

ولا منافاة بين الروايات ؛ لاحتمال أنه دعا ربه في المقامات.

فإن قلت : في نقل العلماء لدعاء آدم تفاوت في بعض الألفاظ فما سبب ذلك؟ أقول : لعل ذلك لاختلاف الروايات ، والله أعلم.

[١٧٨] [أحكام ركعتي الطواف] :

تتمة : ينبغي إكثار الصلاة عند المقام إذا لم يؤذ أحدا من الأنام ؛ لأنه من أعظم الأماكن التي صلّى فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خصوصا ركعتي الطواف ، فإنه يستحب مؤكدا أداؤهما خلفه (٣) ، وهو أفضل أماكنها ، ثم الكعبة ، ثم الحجر ، ثم تحت الميزاب ، ثم كلما قرب من الحجر إلى البيت ثم باقي الحجر ، ثم ما قرب من البيت ، ثم المسجد الأصلي ، ثم باقيه ، ثم الحرم كله إلى أعلامه ، ثم لا فضيلة بل الإساءة.

__________________

(١) الأزرقي ١ / ٤٤ ، وأورده الهيثمي في المجمع وقال : «رواه الطبراني في الأوسط وفيه النضر بن طاهر وهو ضعيف» ١٠ / ١٨٣.

(٢) كما في رواة الأزرقي ١ / ٤٤ ؛ وأورده المحب الطبري في القرى ص ٣١٧.

(٣) هذا إذا أمكن أداؤهما من غير أن يؤذي أو يؤذى ، وإلّا فإنه يؤكد عدم أداء الصلاة خلف المقام ، وبخاصة ما يحصل الآن من شدة الازدحام بسبب تعنت البعض في أداء الركعتين خلف المقام ، مما يؤدي إلى الايذاء بالطائفين.

١٤٢

وهما واجبتان مطلقا عندنا ، ولا يؤديان في أوقات الكراهة على المذهب خلافا لما اختاره الطحاوي (١).

ويستحب عند الأربعة أن يقرأ في الأولى : الكافرون ، وفي الثانية : الإخلاص.

ويستحب أن يدعو بعدهما بدعاء آدم عليه‌السلام.

والسنة أن يوالي بينهما وبين الطواف ، إلّا في وقت مكروه ، فلذا قالوا :

لو طاف ثم صلى المغرب يصليهما قبل سنة المغرب.

وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما : أنه إذا أراد أن يركع خلف المقام ، جعل بينه وبين المقام صفا أو صفين ، أو رجلا أو رجلين. رواه عبد الرزاق.

والظاهر : أنه لرجاء مصادفة مصلى سيد الخلق على الإطلاق.

[١٧٩] [بدع تقع في المقام] :

وأما ما أحدثه بعض الناس من إتيان المقام في وقت كراهة الصلاة ، والوقوف عنده للدعاء مع استقبال القبلة أو المقام ، فلا أصل له في السنة ، ولا رواية عن فقهاء الأمة من الأئمة الأربعة ، كذا قال الملا علي.

ونقل العلامة ابن خليل المالكي : أن الحجرين المفروشين خلف المقام اللذين يقف عليهما المصلي ، صلىّ عليهما بعض الصحابة.

__________________

(١) صلاة ركعتي الطواف : واجب في وقت مباح فيه الصلاة لا كراهة فيه ، وواجب أيضا عند المالكية ، وسنة عند الشافعية والحنابلة.

انظر : فتح القدير ٢ / ١٨٠ ؛ الشرح الصغير ٢ / ٤٦ ؛ مغني المحتاج ١ / ٤٨٥ وما بعدها ؛ المغني ٣ / ٤٤٠ وما بعدها.

١٤٣

وقال : مسح المقام ومسّه وتقبيله ليس بسنة ، إنما أمرنا بالصلاة عنده. وبحث فيه العلامة ابن ظهيرة فقال : كون المسح والتقبيل ليس بسنة ، لا يمنع من الإتيان به على وجه التبرك ، فمن فعل ذلك تبركا ، فالظاهر أنه لا بأس به فتأمل هذا. انتهى (١).

[١٨٠] [إنكار البدع] :

أقول : وما ذكره علماؤنا في المنع عن مسّ جدار الحجرة الشريفة وتقبيلها ، وتقبيل القبر الشريف ونحوه ؛ معللين بأن ذلك لم يفعله العلماء الأكابر ، يؤيد ابن خليل ويؤذن بالمنع ، والله أعلم.

__________________

(١) الجامع اللطيف ص ٣٧.

١٤٤

[١٨١]

١٢ ـ [من أماكن الإجابة الميزاب]

وميزاب (١) : أي ومما يستجاب فيه الدعاء تحت الميزاب ، وهو معروف.

قال الملا : الظاهر أنه من داخل الحجر ، ويحتمل أن يراد به محاذيه من الطواف ، وقيده النقاش بوقت السحر ، ويمكن الإطلاق تعويلا على عظيم فضل الخلاق ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلّا استجيب له (٢).

__________________

(١) وقياس الميزاب : طوله ٥٣ ، ٢ م ، والظاهر منه خارجا ٩٥ ، ١ م ، وارتفاعه ٢٣ سم ، وعرضه ٢٦ سم. انظر : تاريخ مكة المكرمة قديما وحديثا ص ٤٩.

(٢) الأزرقي ١ / ٣١٦.

١٤٥

ونقل ابن جماعة عن بعض السلف : من صلّى تحت الميزاب ركعتين ثم دعا بشيء مئة مرة وهو ساجد استجيب له (١).

وعن عطاء بن أبي رباح : من قام تحت مثقب الكعبة ودعا استجيب له (٢).

والمثقب : مجرى الماء ومسيله.

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : «صلوا في مصلّى الأخيار ، واشربوا من شراب الأبرار ، فقيل له : ما مصلّى الأخيار ، وما شراب الأبرار؟ فقال : تحت الميزاب ، وماء زمزم» (٣) ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي في الحجر.

في رسالة الحسن البصري رحمه‌الله تعالى : إن إسماعيل عليه‌السلام شكى إلى ربه حرّ مكة ، فأوحى الله إليه : إني أفتح لك بابا من الجنة في الحجر ، يخرج عليك الرّوح منه إلى يوم القيامة.

الروح ـ بفتح الراء ـ نسيم الريح.

وفيها عن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه أنه أقبل ذات يوم ، فقال لأصحابه : «ألا تسألوني من أين جئت ؛ فسألوه» ، فقال : «كنت قائما على باب الجنة». وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده (٤).

__________________

(١) هداية السالك ١ / ٧٨.

(٢) مثير العزم الساكن ١ / ٣٧٩.

(٣) الأزرقي ١ / ٣١٦.

(٤) أوردها ابن جماعة في هداية السالك ١ / ٧٨.

١٤٦

ويروى أن أبا هريرة ، وسعيد بن جبير ، وزين العابدين رضي‌الله‌عنهم ، كانوا يلتزمون ما تحت الميزاب من الكعبة. والحاصل أنه من أماكن الإجابة الفاضلة ، ومما يرتجى فيه حصول الرحمة النازلة ، أي تعتبر بما تقدم من الأماكن في حكم الإجابة ، يعني : يستجاب عندها الدعاء مطلقا.

١٤٧

[١٨٢]

١٣ ـ ١٤ ـ ١٥ ـ [من أماكن الإجابة الجمرات]

أو بعد الرمي ، وعند طلوع الشمس ، قال الملا علي : والظاهر تقييدها بأوقاتها المعروفة ، أي : لأنه يمكن الدعاء مع المشي.

وأما الأولى والوسطى فأمرهما ظاهر ؛ لأن الوقوف عندهما سنة. والجمار : ـ هي الصغار من الحجارة ، ـ جمع جمرة ، وبها سمّوا المواضع التي ترمى جمارا وجمرات ، لما بينهما من الملابسة من تسمية المحل بالحال ، وقيل لجمع ما هناك من الحصى ، من تجمر القوم إذا تجمعوا ، أو جمر شعره إذا جمعه على قفاه.

[١٨٣] [الحكمة من رمى الجمار] :

وهي من أماكن الإجابة ومنازل العبادة ، ولا ينافيه ما روي من أن الرمي لطرد الشيطان ونحوه ؛ لأن الحق أنه فعل تعبّدي أمرنا به ، ولا ندرك حكمته كالطواف ، والسعي ، وهو الصحيح الذي عوّل عليه المحققون من علمائنا والشافعية وغيرهم ، ولذا قال بعضهم : لو كان القصد بالرمي النكاية لجاز بنحو النشاب ، أو الإهانة لجاز بنحو البعر ، أو الإكرام لجاز بنحو النقد ، فلم يبق إلّا التعبّد المحض وإتباع النص وأخرج سعيد بن منصور أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن رمي الجمار؟ فقال : (الله ربكم تكبرون ملّة أبيكم إبراهيم تتبعون ، ووجهة الشيطان ترجمون ، وسنة نبيكم تتبعون (١)).

__________________

(١) رواها البيهقي عن ابن عباس موقوفا ٥ / ١٥٣.

١٤٨

١٤٩

١٥٠

[١٨٤] [تعليم جبريل المناسك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم] :

وأخرج الحاكم عنه وصححه : (جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليريه المناسك ، فانفرج له ثبير ، فدخل منى فأراه الجمار ، ثم أراه جمعا ، ثم أراه عرفات ، فنبغ الشيطان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات حتى ساخ (١)) ، ونبغ ـ بنون فموحدة مفتوحات ـ أي ظهر ، وساخ ـ بمهملة ثم معجمة ـ غار في الأرض ، وقوله : (فانفرج له ثبير) هذا في صراحة بأن ثبير عن يمين الذاهب وعن يساره ، وبأن كلا منهما ثبير ولا خلاف حينئذ ، ويقال : لأن ثبير اسم لثمانية أماكن : سبعة منها في مكة والحرم. كذا في شرح الشيخ إدريس.

وروى البيهقي وغيره : «أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لما أوتي بالمناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض» (٢).

[١٨٥] [فضل رمي الجمرات] :

وروي أن الكبش لما هرب من سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقف عند الجمرة! فرماه بسبع حصيات حتى أخذه ، فصار سنة.

وفي حديث ابن عمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ الذي رواه الطبراني والبزار وابن حبان في صحيحه : (وأما رميك الجمار فلك بكل رمية حصاة رميتها تكفير

__________________

(١) أخر الحاكم في المستدرك ١ / ٦٥٠ ، وابن خزيمة في صحيحه ٤ / ٣١٥.

(٢) السنن الكبرى ٥ / ١٥٣.

١٥١

كبيرة من الموبقات (١)). وروى أنس ـ رضي‌الله‌عنه ـ مرفوعا : (أنه يغفر له بكل حصاة رماها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات) رواه سعيد بن منصور (٢). وهو وإن كان خلاف ما عليه الجم الغفير ففضل الله عظيم كبير.

[١٨٦] [أحكام الرمي] :

تتمة : المقصود من الجمار رميها ، وهو واجب (٣).

__________________

(١) رواه البزار والطبراني في الكبير كما في المجمع ٣ / ٢٧٤.

(٢) ورواه البزار وفيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما في الزوائد ٣ / ٢٥٧ ، لكن له شواهد تعضد معنى الحديث ، كما في حديث ابن عمر رضي‌الله‌عنهما.

(٣) رمي الجمار (جمرة العقبة يوم النحر ، والجمار الثلاث أيام التشريق) واجب اتفاقا ، اتباعا لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال جابر : (رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ، ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه أحمد ومسلم والنسائي كما في نيل الأوطار ٥ / ٦٥ ، والواجب في الحج : ما يقابل ركن الحج ، باعتبار أن للحج عند الفقهاء أركانا وواجبات وسننا ، فالركن أو الفرض : هو ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه ، وفوت الركن يوجب الفساد والبطلان ، كالوقوف بعرفة ، وطواف الإفاضة (الزيارة).

أما الواجب : فهو ما ثبت بدليل فيه شبهة (وواجبات الحج مختلف فيها بين الفقهاء) والتي يجزئ بتركها الدم ، وهي مثل : الوقوف بمزدلفة ، ورمي الجمار ، والحلق أو التقصير ، وطواف الوداع عند الحنفية.

وعند المالكية : طواف القدوم ، والوقوف بمزدلفة ، ورمي الجمار ، والحلق أو التقصير والمبيت بمنى.

وعند الشافعية : الإحرام من الميقات الزماني والمكاني ، ورمي الجمار ، والمبيت بمزدلفة ، والمبيت بمنى ، وطواف الوداع.

وعند الحنابلة : الإحرام من الميقات ، والوقوف بعرفة نهارا للغروب ، والمبيت بمزدلفة ، والمبيت بمنى ورمي الجمار مرتبا ، والحلق أو التقصير ، وطواف الوداع.

انظر بالتفصيل : الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي ٣ / ٢١٤٦ ـ ٢٢٤٤.

١٥٢

ومكانه : ثلاثة أذرع من الأرض ، حول الشاخص من كل جانب (١) ، فما وقع في الزائد على ذلك لا اعتبار به ، وإذا أصاب الشاخص فليتنبه له ، فإن كثيرا من الناس عنه غافلون.

[١٨٧] [وقت الرمى] :

ووقته : يوم النحر من طلوع فجره إلى فجر الثاني ، وفي الثاني : إلى فجر الثالث ، وفي الثالث : إلى الغروب ، وقيل : فيهما من الفجر أيضا ، ورجحه شيخنا الشيخ رحمه‌الله تعالى ، وسبقه إلى ذلك كثير من محققي المتأخرين ، والرابع : كالثالث.

[١٨٨] [صفة الحصاة] :

وعدد حصاه : سبع لكل واحدة ، مثل النواة أو الباقلاء أو أكبر بيسير.

__________________

(١) والأمر مختلف تماما الآن عن ما كان عليه الحال في أيام المؤلف رحمه‌الله تعالى ، حيث حصلت توسعة عظيمة في الجمرات ؛ تسهيلا لأداء فريضة الحج ، وذلك لكثرة الحجيج المطرد في الزيادة سنة عن أخرى ، مما أدى إلى الازدحام الشديد المؤدي إلى الدهس والموت ، فقد جددت الحكومة السعودية الجمرات ووسعتها وما حولها لمرات ، وبصورة لا يتصورها الخيال ، ولا زالت التوسعة مستمرة (سنة ١٤٢٧ ه‍) حتى تصل توسعة الجمرات وطريق المشاة إليها لعدة طوابق ، وجهات مختلفة للمشاة ، مما يقضي بإذن الله تعالى على ما يخافه الناس ... وبفضل الله عزوجل ثم بجهود ولاة الأمر بالسعودية يأتي اليوم الذي لا نسمع فيه شيئا من حوادث الجمرات المفجعة ، ويصبح الماضي تاريخا بإذن الله تعالى ، مع كتابة التاريخ لجهود ولاة الأمر بالحكومة السعودية بمداد من الذهب ، لسعيهم الحثيث وجهودهم المشكورة لإقامة المشروعات العظيمة لتسهيل وتيسير أداء فريضة الحج ، في جميع المشاعر والطرق المؤدية إليها ، وطرق مرور الحاج بين مكة والمدينة بل في جميع أنحاء المملكة ، فجزاهم الله تعالى عن المسلمين خير الجزاء وأجزل لهم المثوبة.

١٥٣

[١٨٩] [الشرط في الرمي] :

والشرط : الرمي أو الطرح ، لا الوضع ، وأن يكون ما يرمي به من جنس الأرض ، وأن يكون متفرقا ، ويكره أن يأخذ حجرا كبيرا فيكسره ، مع أنه يجوز.

[١٩٠] [كيفية الرمي] :

وكيفيته في اليوم الأول : أن يأتي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس ـ وهو السنة ـ يستقبلها ، ويرفع يديه بحيث يرى إبطه ويقول : بسم الله الله أكبر رغما للشيطان وحزبه ، ورضى للرحمن ، اللهم اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ، ويفعل هكذا مع كل حصاة.

وفي الثاني : يذهب بعد الزوال ويأتي للجمرة الأولى من أسفلها إلى ورائها ، ويقف مستقبل القبلة ، ويجعل أكثر الجمرة عن يمينه ، ويرمي كما تقدم.

وإذا فرغ تقدم إلى أمامها من جهة اليسار مستقبلا ، ويدعو بما تيسر له ولوالديه ومشايخه والمسلمين ، ويطيل الوقوف بالإخلاص بقدر عشرين آية وأكثر ، من غير أن يؤذي أحدا ؛ لأنه من أماكن الإجابة.

وكذا يفعل في الثانية إلا أنه يقف بعدها إلى جهة اليمين ؛ كيلا يؤذي ولا يؤذى.

ويرمي الثالثة كاليوم الأول ، ولا يقف ، وكل رمي بعده رمي فالركوب فيه أفضل ، وما لا فلا.

وإلى هنا انتهى الكلام على بيتي صاحب النهر ، وهذا تكلم في الزيادة.

١٥٤

[١٩١]

١٦ ـ [منى من أماكن الإجابة]

[١٩٢] [تعريف منى](١) :

يصرف فيكتب بالألف ، وإذا منع من الصرف فيكتب بالياء ، والغالب التذكير والصرف ، وجزم الجوهري بتذكيره وصرفه (٢) ، وأنشد على تذكيره :

سقى منى ثم روّاه وساكنه

ومن ثوى فيه واهي الودق مغتبق

وجاء في تأنيثه للفرحي :

ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها

أسرّ من يومنا بالعرج أو طلل

وهي قرية بينها وبين مكة فرسخ (٣).

__________________

(١) ومنى : تذكر وتؤنث بحسب القصد إن قصد الموضع فمذكر ، وإن قصد غير الموضع فمؤنث ، وإن ذكّر صرف وكتب بالألف ، وإن لم يذكر لم يصرف وكتب بالياء ، والمختار تذكيره وتنوينه. قاله النووي. انتهى.

(٢) قال الجوهري : «منى مقصور : موضع بمكة ، وهو مذكر يصرف» الصحاح (منى).

(٣) ومنى «شعب طويل يبتدئ من ضفة وادي (محسّر) الغريبة ، وينتهي بجمرة العقبة ، ويحيط به جبلان : الجنوبي منهما اسمه الصابح ، والشمالي ثبير الأثبرة ، ووجها هذين الجبلين مما يلي منى منها» نيل المآرب ٢ / ٢٥٨.

ويبعد منى عن المسجد الحرام (٧ كم) (ومنى من الحرم بلا خلاف) وقد امتد البنيان حتى أصبح منى حيا من أحياء مكة المكرمة.

١٥٥

[١٩٣] [سبب التسمية بمنى] :

سميت بذلك ؛ لما يمنى فيها من الدماء ، أي : يراق ، وهو المشهور الذي ذكره جمهور اللغويين وغيرهم ، أو لأن جبريل ـ عليه‌السلام ـ لما أراد أن يفارق آدم ، قال له : تمنّ! قال : أتمنى الجنة ، فسميت بذلك لأمنية آدم. كذا قال ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أي : لما يمنى أي يقدر ، أو لاجتماع الناس بها ؛ لأن العرب تسمى كل مجتمع للناس منى ، أو لمنّ الله تعالى على الخليل بفداء ابنه عليهما‌السلام ، أو لمنّ الله تعالى على عباده بالمغفرة ، أو غير ذلك.

والمراد أنه يستجاب الدعاء فيها مطلقا ، أو في نصف ليلة البدر ـ على ما قاله النقاش ـ أو ليالي التشريق كلها ؛ لأنها من الأماكن الشريفة والمنازل المنيفة ، وظاهره أن جميع أماكنها محل الإجابة ؛ لأنها من المشاعر العظام ومنازل الأنبياء الكرام ، ومجمع الأولياء والحجاج ، ودعواتهم مستجابة ، فالدعاء هناك مستجاب بفيض فضل الوهاب لا سيما في أثناء العبادة ، خصوصا في مسجد الخيف.

وهل يختص ذلك بأيام المناسك أو يعم جميع السنة؟

كلا الأمرين ممكن ، والفضل واسع.

١٥٦

[١٩٤] [فضل أعمال منى] :

ومنى مكان شريف ، وله فضل منيف ، فمن فضلها : ما شرعه الله من العبادة التي يحصل بها أجر عظيم فيها.

وروي عن أنس ـ رضي‌الله‌عنه ـ مرفوعا : أنه يغفر له بكل حصاة رماها كبيرة من الكبائر الموبقات الموجبات. رواه سعيد بن منصور (١).

وتقدم عن زيد بن أرقم مرفوعا في الأضحية : (بكل عضو حسنة قالوا : والصوف؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة (٢)). رواه ابن ماجه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة رضي‌الله‌عنها : (فإنه يغفر لك عند أول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه) الحديث. رواه الحاكم مصححا (٣).

__________________

(١) رواه البزار وفيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٢٧٥.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٣١٢٧) ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٢٦١.

(٣) المستدرك ٤ / ٢٤٧.

١٥٧

[وهذا] ... وإن كان ليس من خصوصيات منى ، فقد يقاس عليه ثواب هدي القران والتمتع والتطوع ، والله أعلم.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (للحالق بكل شعرة سقطت عن رأسه نور يوم القيامة). رواه ابن حبان (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصاري ـ الذي سأله عن مشاعر الحج ـ : (إن لك بكل شعرة حلقتها حسنة ، ويمحى عنك بها خطيئة ، قيل : يا رسول الله ، فإن كانت الذنوب أقل من ذلك؟ قال : إذا يدخر لك ذلك). رواه أبن سعيد (٢).

وروى ابن الحاج في منسكه عن أبي سهل بن يونس ـ الرجل الصالح ـ أنه قال : (كأني في سفينة تجري على وجه الأرض ، [فقلت : سبحان الله ، سفينة تجري على وجه الأرض!!] فقال : فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقفزت من موضعي وقلت : يا رسول الله استغفر لي ، فقال لي : حججت؟ فقلت : نعم ، فقال : حلقت رأسك بمنى؟ قلت : نعم ، قال : رأس حلقت بمنى لا تمسه النار أبدا (٣)).

ومن ذلك ما فيها من المآثر الشريفة ، ولو لم يكن إلا ذلك لكفى.

__________________

(١) أخرجه ابن حبان في صحيحه ٥ / ٢٠٧.

(٢) انظر : مجمع الزوائد ٣ / ٢٧٥ ، وسبق تخريجه.

(٣) أورده ابن جماعة في هداية السالك ١ / ٩٩ ، ١٠٠.

١٥٨

[١٩٥] [فضل مسجد الخيف] :

فأعظم مآثرها : مسجد الخيف وهو معروف مشهور (١) ، وسمي به لأنه ناحية من منى ، والخيف : الناحية ، أو لأنه هبوط وارتفاع في سفح الجبل ، أو لانحداره عن غلظ الجبل ، وارتفاعه عن مسيل الماء ، والخيف كذلك.

وهو مسجد عظيم الفضل ، ووردت في فضله أحاديث ، فمنها ما أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد :

__________________

(١) مسجد الخيف ـ بفتح الخاء وسكون الياء ـ وكان هذا المسجد موضع اهتمام وعناية الخلفاء والأمراء والملوك على مر التاريخ ، وآخر تعمير وتوسعة لهذا المسجد العظيم كانت في سنة ١٤٠٧ ه‍ : وهي توسعة خادم الحرمين الشريفين (الملك فهد بن عبد العزيز رحمه‌الله تعالى) فزيد في المسجد مساحات شاسعة ، فأصبحت مساحة المسجد أضعاف أضعاف ما كان عليه قبل ذلك ، كما أضيفت المرافق الهامة لراحة الحجاج بمشعر منى ، حيث يقضي الحجيج معظم أوقات الحج بمنى.

١٥٩

مسجد الخيف ، والمسجد الحرام ، ومسجدي (١)). وإسناده ضعيف كما نص عليه الحفّاظ ، وإنما ذكرته لغرابته ، ولجواز العمل به في فضائل الأعمال ، كما ذكره النووي وغيره من علماء الحديث. كذا قال الشيخ محمد بن جابر الظهيري.

وأخرج أيضا في الكبير عن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ قال : «صلّى في مسجد الخيف سبعون نبيا ، منهم موسى» رواه الأزرقي أيضا (٢) ، وعن مجاهد : «خمسة وسبعون نبيا».

وأنه قال : «وإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة فيه فافعل» (٣).

وفي مسند البزار ، من حديث عبد الله بن العاص ـ رضي‌الله‌عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا (٤)). وروى الفاكهي بسنده إلى عروة بن الزبير : أن آدم عليه‌السلام دفن بمسجد الخيف بعد أن صلّى عليه جبريل بمكة بالكعبة.

[١٩٦] [فضل الصلاة بمسجد الخيف] :

وروى العلامة صاحب القاموس في كتابه (الوصل والمنى في فضل منى) عن أبي هريرة ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه كان يقول : «لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد منى كل سبت» ، وذكر ابن ظهيرة أن سنده جيد. وروى الأزرقي عن أبي هريرة بلفظ : «لو كنت من أهل مكة لأتيت مسجد الخيف كل سبت» ،

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٢ / ٣٣٧.

(٢) الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٤٥٢ وقال الهيثمي : «رواه الأوسط وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط» ٣ / ٢٢٦ ؛ الأزرقي ١ / ٦٩.

(٣) رواه الفاكهي في أخبار مكة ٤ / ٢٦٨ ، وقال محققه (إسناده حسن).

(٤) وأورده الهيثمي في المجمع وقال : رجاله ثقات ٣ / ٢٩٧.

١٦٠