عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]

عدّة الإنابة في أماكن الإجابة

المؤلف:

السيّد عفيف الدين أبي السيادة عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمّد أمين ميرغني الحسني المتّقي المكّي الطائفي الحنفي [ المحجوب ]


المحقق: د. عبدالله نذير أحمد مزّي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المكتبة المكيّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٨

وفعلهم ذلك لم يقل به أحد من العلماء ، فيرفع يديه من غير إرسال ، ويحمد الله تعالى ويثني عليه ، ويكبر ثلاثا ، ويهلّل ، ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يدعو له وللمسلمين بما شاء.

والحاصل : أنه إذا رفع يديه يقول : الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الحمد لله على ما هدانا ، الحمد لله على ما أولانا ، الحمد لله على ما ألهمنا ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلّا الله وحده ، صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، لا إله إلّا الله ولا نعبد إلّا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، اللهم إنك قلت ادعوني استجب لكم ، وإنك لا تخلف الميعاد ، وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني مسلما ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ، اللهم اغفر لي ولوالديّ ولمشايخي وللمسلمين أجمعين ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، ويكرر ذلك ثلاثا ، ويطيل القيام بقدر سورة من طوال المفصل أو بقدر خمس وعشرين آية من القرآن ، وما يقال في السعي تقدم.

ويفعل في المروة كالصفا إلّا أنه يحتاج إلى الصعود عليها ؛ لأن أدنى المروة تحت العقد المشرف عليها ، فمن وقف على أول درجة منها أو على أرضها بعد العقد ، فقد حصل المقصود.

١٢١

[١٦١]

١٠ ـ [من أماكن إجابة الدعاء زمزم]

وزمزم : ـ كجعفر ـ : بئر عند الكعبة معروفة وهو علم منقول ، وقيل : مرتجل ، سميت بذلك لكثرة مائها ، إذ الزّم الكثير ، أو لضم هاجر أم إسماعيل لمائها حين انفجرت ، والزمّ : الضّم ، أو لزمة جبريل ، أي : تكلمه عند فجره لها ، أو لأن الفرس لما كانت تحج تزمزم عندها ، والزمزم : صوت تخرجه الفرس من خياشيمها ، وقيل غير ذلك.

[١٦٢] [متى تستجاب عند زمزم] :

والمراد : أن مما يستجاب فيه الدعاء عند الوقوف على قرب بئرها ، أو مع شرب مائها ، فإن ماء زمزم لما شرب له ، كذا قال الملا علي.

وظاهره : أن الإجابة تكون مع القرب ولو لم يشرب ، ومع الشرب ولو لم يقرب ؛ ولذا قال بعض العلماء : ينبغي أن يكون ذلك عند شربها ولو بالصين ، وذلك وإن استبعد ، ففضل الله عظيم ، واستظهر بعض الشافعية : أنها تكون بالقرب مع الشرب.

وعلى ذلك فهل هي قبل الشرب أو بعده؟ الظاهر : الإطلاق ؛ لأن ذلك لشرف المكان أو الماء ، وقيده النقاش بعد الغروب والله أعلم بغيبه.

١٢٢

١٢٣

[١٦٣] [فضل بئر زمزم] :

وزمزم : بئر شريفة وعظيمة ، وهي أشرف آبار الدنيا.

وعن علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه قال : «خير واديين في الناس : وادي مكة ، وواد بالهند الذي هبط به آدم عليه‌السلام ، ومنه يؤتى بهذا الطيب الذي يتطيب به الناس ، وشر واديين في الناس : واد بالأحقاف ، وواد بحضرموت يقال له : برهوت ، وخير بئر في الناس زمزم ، وشر بئر في الناس برهوت» (١). وأمّا ماؤها فورد في فضله أحاديث كثيرة وآثار شهيرة ، فمنها ما رواه الطبراني وغيره : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى زمزم فنزعوا له دلوا فشرب ، ثم مجّ في الدلو ثم صبه في زمزم ، ثم قال : (لو لا أن تغلبوا عليها لنزعت معكم (٢)). وفي رواية : أنه غسل وجهه وتمضمض منه ثم أعاده فيها.

وروي أن الذي نزع له الدلو : العباس رضي‌الله‌عنه.

وروى الواقدي أنه نزع لنفسه. وهو ضعيف.

[١٦٤] [حديث زمزم لما شرب له] :

وروى جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (ماء زمزم لما شرب له) ، قال العلامة الجلال السيوطي رحمه‌الله تعالى : هذا الحديث أخرجه ابن ماجه ، وأخرجه الخطيب في التاريخ بسند صححه الدمياطي ، والمنذري ، وضعّفه النووي ، وحسّنه ابن حجر بوروده من طريق جابر ، وورد من حديث ابن عباس ، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ، قال الشيخ ابن الجزري رحمه

__________________

(١) أخرجه الأزرقي ٢ / ٥٥ ، وقال ابن حجر في الدراية : «روى الأزرقي من طريق ابن طاووس عن أبيه مرسلا» ٢ / ٣٠.

(٢) أخرجه الأزرقي ٢ / ٥١.

١٢٤

الله تعالى في الحصن الحصين : «ولما أتى الإمام الحجة عبد الله بن المبارك زمزم استقى منه شربة ثم استقبل القبلة ، ثم قال : اللهم إن ابن أبي الموالي حدثني ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ماء زمزم لما شرب له (١) ، وهذا أشربه لعطشي يوم القيامة ثم

شرب) هذا سند صحيح والراوي عن ابن المبارك ذلك سويد بن سعيد ثقة. وروى له مسلم في صحيحه وابن أبي الموالي ثقة ، روى له البخاري في صحيحه ، فصح الحديث والحمد لله ، انتهى.

قال : وفيه تأمل وبين وجهه ، والحاصل أن الحديث فيه كلام كثير ، وقد ألّف الحافظ ابن حجر فيه جزءا ، وحاصل ما ذكره أنه مختلف فيه ، فضعفه جماعة ، وصححه آخرون ، قال : والصواب أنه حسن ؛ لشواهده ، وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير : قال شيخنا يعني الجلال السيوطي : هذا الحديث مشهور على الألسنة كثيرا ، واختلف الحفاظ فيه ، فمنهم : من صححه ، ومنهم من حسّنه ، ومنهم من ضعّفه ، والمعتمد الأول ، وجازف من قال : حديث (الباذنجان لما أكل منه (٢)) فإن حديث الباذنجان موضوع كذبا. ا ه.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما مرفوعا : (ماء زمزم لما شرب له ، فإن شربته تستشفي شفاك الله ، وإن شربته مستعيذا أعاذك الله ، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله ، وإن شربته لشبعك أشبعك الله ، وهي هزمة جبريل ، وسقيا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٠٦٢) ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ٥ / ١٤٨ ؛ والدارقطني في السنن ٢ / ٢٨٩ ؛ ومصنف ابن أبي شيبة ٣ / ٢٧٤.

(٢) أورده الشوكاني في الفوائد وقال : «باطل لا أصل له باتفاق العلماء» ١ / ٩٠.

١٢٥

إسماعيل (١)) ، ومما بلغ من الصحة والحسن (إنها شفاء سقم (٢)) ، رواه الطبراني ، وفي صحيح مسلم : (إنها مباركة وإنها طعام طعم (٣)) ، وضبط بعض العلماء : طعم بفتح الطاء وكسر العين ، وبعضهم بضم الطاء وسكون العين ، قال الكازروني وهي طعام طعم ، أي : طعام طاعمين كثير في الأكل ؛ لأن طعم جمع طعوم ، وهو كثير الأكل.

وقال العلقمي : وإنها طعام طعم بالإضافة ، والطعام اسم لما يطعم ، فكأنه قال : طعام إشباع ، أو طعام شبع من إضافة الشيء إلى صفته.

وقال الجوهري : والطعم بالضم الطعام ، وبالفتح ما يشتهى (٤).

[١٦٥] [ما ورد في ماء زمزم] :

وعن ابن عباس [رضي‌الله‌عنهما] : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (الحمّى من جهنم فأبردوها بماء زمزم) رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان ، وفي البخاري بالشك بالماء أو بماء زمزم (٥).

وعنه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم (٦)) أخرجه الطبراني في معجمه بسند من رجاله ثقات وصححه ابن حبان.

__________________

(١) أخرجه الدارقطني في السنن ٢ / ٢٨٩ ؛ وعبد الرزاق في المصنف ٥ / ١١٨.

(٢) أخرجه البيهقي في معرفة السنن ٤ / ١٥١ ؛ المطالب العالية ٧ / ١٣٧.

(٣) أخرجه مسلم (٢٤٧٣).

(٤) الصحاح : (طعم).

(٥) أخرجه البخاري (بالشك) (٣٢٦١) ، (٥٧٢٣).

(٦) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٩٨ ؛ وقال الهيثمي : «رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وصححه ابن حبان» ٣ / ٢٨٦.

١٢٦

وعنه أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم (١)) رواه البخاري في التاريخ ، وابن ماجه والحاكم.

وعنه أيضا : (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يتحف الرجل ، سقاه من زمزم (٢)) رواه ابن أبي شيبة عن ابن عدي ، قال في الجواهر : وهذا إسناد صحيح.

ويروى أن في بعض كتب الله المنزلة : «زمزم لا تنزف ولا تذم ، ولا يعمد عليها فيتضلع منها ابتغاء بركتها ، إلّا خرجت منه مثلي ما شرب من الداء ، وأحدثت له شفاء ، والنظر إليها عبادة ، والطهور منها يحط الخطايا حطّا ، وما امتلأ جوف عبد مؤمن من ماء زمزم إلّا ملأه الله علما وبرا» (٣).

وعن وهب بن منبه أنه قال : (والذي نفسي بيده إن زمزم لفي كتاب الله تعالى مضنونة ، وإنها لفي كتاب الله برّة ، وإنها لفي كتاب الله شراب الأبرار ، وإنها لفي كتاب الله طعام طعم وشفاء سقم (٤)).

وثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ـ لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها ما بين أربعين يوما وليلة ليس له طعام غيرها : (إنها طعام طعم (٥)) ، وزاد غير مسلم بإسناده و (شفاء سقم).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٠٦١) ؛ والدارقطني ٢ / ٢٨٨ ؛ والبيهقي في الكبرى ٥ / ١٤٧.

(٢) أورده المناوي في التيسير وقال : «غريب والمحفوظ وقفه» ٢ / ٢٣٧.

(٣) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة ٢ / ٥١.

(٤) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٥ / ١١٧.

(٥) أخرجه مسلم (٢٤٧٣).

١٢٧

وعنه أيضا قال : (لما قدمت مكة مكثت أربعة عشر يوما بلياليها ، ومالي طعام ولا شراب غير زمزم ، حتى تكسّرت عكن بطني ، وما أجد على كبدي سخفة الجوع) ـ بفتح السين المهملة وضمها وسكون الخاء المعجمة ـ يعني : رقته وهزاله ، وقيل : هي الخفة التي تعتري الإنسان إذا جاع.

وعن ابن عباس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ قال : «كان أهل مكة لا يسابقهم أحد إلّا سبقوه ، ولا يصارعهم أحد إلّا صرعوه ، حتى رغبوا عن زمزم ، فأصابهم المرض في أرجلهم» (١).

وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال : «إلياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ، ويحجان في كل سنة ، ويشربان من ماء زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل» (٢).

[١٦٦] [شرب الأئمة زمزم لنيل العلم] :

وفضائله كثيرة ، فمنها : ما لا يحصى كم شربه من الأئمة العارفين لأمور نالوها : فلقد نقل عن الإمام الشافعي أنه قال : شربته لثلاث : للرمي فكنت أصيب العشرة من العشرة والتسعة من العشرة ، وللعلم فهذا أنا كما ترون ، ولدخول الجنة وأرجوها.

وقيل لابن إسحاق من أين أوتيت العلم؟ فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ماء زمزم لما شرب له) وإني لما شربته سألت الله علما نافعا.

__________________

(١) الأزرقي في أخبار مكة ٢ / ٤٦.

(٢) المطالب العالية ١٤ / ٢٧٨ ، وقال : «ضعيف جدا».

١٢٨

وذكر الحافظ ابن حجر عن نفسه وقال : شربته مرة وسألت الله وأنا في بداية طلب الحديث أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث ، ثم حججت بعده مدة تقرب من عشرين سنة وأنا أجد في نفسي المزيد على تلك الرتبة ، فسألته أعلى منها فأرجو الله أن أنال ذلك.

وذكر العلامة شمس الدين بن علي الداودي المالكي في ترجمة شيخه الجلال السيوطي ما نصه : ولما حج شرب ماء زمزم لأمور ، منها : أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني ، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر ، إلى أن قال : والذي نفسي بيده إن الذي أعتقده وأدين الله به ، أن الرتبة التي وصل إليها من العلوم واطلع عليها لم يصل إليها أحد ، ولا وقف عليها غيره من مشايخه فضلا عن غيرهم هم دونه.

ومكث والد الشيخ ابن الجزري أربعين عاما لا يولد له ولد ، فشربه بنية أن يرزقه الله ولدا صالحا ، فولد له الشيخ محمد الجزري.

وناهيك به علما وصلاحا.

[١٦٧] [مما يروى ويحكى في شفاء المرضى بشرب زمزم] :

وحصر بعضهم بالبول في ليلة ظلماء في المطاف ، وتعذر خروجه من المسجد ، فشربها وتضلع منها فذهب منه إلى الصباح.

واعترضت إبرة في حلق إنسان ، فصار لا يطبق فمه ، فشربه بجهد ، وغلبت عيناه فنام ، وانتبه وليس به بأس.

وحصل لبعضهم عمى ، فشربه وغسل عينيه فبرأ منه.

١٢٩

وحصل لعالم كبير من أهل اليمن استسقاء عظيم ، واشتد به ، فذهب إلى طبيب فلما رآه أعرض عنه وقال : هذا يمكث ثلاثة أيام ، فألقى الله بباله أن يشرب ماء زمزم بنية ، عملا بالحديث ، فقصدها فتضلع منها ، فأحس بشيء في جوفه ، فبادر إلى جهة مدرسة قايتباي فأسهل كثيرا ، ثم عاد وشرب وتضلع ، ثم أسهل كذلك ، فشفاه الله تعالى. وبينما في بعض الأيام برباط ربيع يغسل ثوبه وإذا بالطبيب رآه فقال : أنت صاحب تلك العلة؟! قال : نعم ، فقال : بم تداويت؟ قال : بماء زمزم ، فقال الطبيب : لطف بك الله.

وكان في باطن العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني دبلة قدر البطيخة ، وكان قد أجمع حكماء مصر على أن يشقوا جنبه ، ويخرجوها ، فألهمه الله تعالى أن يشربه بنية الشفاء ، فحصل له بعد الشراب حرارة ، طبختها وأخرجتها سوداء مقطعة مهبرة حتى ملأت طشتا.

حكي ذلك في العهود ، والأخبار من هذا كثيرة ، وهي مؤيدة للحديث السابق ، مع أنه صحيح الإسناد كما سبق ، ولم يصنف ابن الجوزي في ذكره في الموضوعات ، لكونه إما صحيحا وإما حسنا.

[١٦٨] [مزايا وفوائد زمزم] :

وذكر بعضهم أن أحد الأبدال مقيم بزمزم يؤمّن لمن شرب منها ودعا عندها.

ومنها : أنه يبرد الحمى ، ويذهب الصداع ، ويقوي القلب ، ويسكن الروع ، ولذا قال الحافظ العراقي : إن الحكمة في غسل صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليقوى بها على رؤية ملكوت السموات والأرض ، والجنة والنار ، وهي الأشربة المفرحة ، وفيها ما في الأمراق من التغذية والتقوية.

١٣٠

ومنها : أن جميع المياه العذبة ترفع وتفور قبل يوم القيامة إلّا زمزم. ذكره الضحاك.

ومنها : أنه كان يحلو في ليلة النصف من شعبان ويطيب ، ويقال : إن عين السلوان تتصل بزمزم تلك الليلة ، ويفيض ماؤها إلى رأس البئر ، لكن لا يرى ذلك إلّا العارفون.

ومنها : أن من حثاه على رأسه لا تلحقه زلة أبدا. كما نقله الفاسي وغيره.

ومنها : أنه لا يجتمع هو وجهنم في جوف عبد. كما نقله المحب الطبري.

ومنها : أن النظر فيه عبادة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خمس من العبادة : النظر إلى المصحف ، والنظر إلى الكعبة ، والنظر إلى الوالدين ، والنظر في زمزم ، وهي تحط الخطايا ، والنظر في وجه العالم (١)). رواه الدارقطني. وقيل : النظر إليها ساعة كعبادة سنة والنظر في بئرها يجلو البصر ، ويحط الخطايا.

ومنها : اجتماع أرواح المسلمين فيها.

[١٦٩] [خصائص زمزم] :

كما ورد لها أسماء كثيرة (٢) ، ومنها : أنه لا يردّ ماؤها كما لا يرد الطيب ،

__________________

(١) وأورده المناوي في الفيض ٣ / ٤٦٠.

(٢) «ومن أسماء زمزم : هزمة جبريل ، وسقيا الله إسماعيل ، وبركة ، وسيّدة ، ونافعة ، ومضنونة ، وعونة ، وبشرى ، وصافية ، وبرّة ، وعصمة ، وسالمة ، وميمونة ، ومباركة ، وكافية ، وعافية ، ومغذية ، وطاهرة ، وقرميّة ، ومروية ، ومؤنسة ، وطعام طعم ، وشفاء سقم». هداية السالك ١ / ٧٩ ـ ٨٠.

١٣١

ولا يشرب شيء من المياه قائما إلّا هو ، وفضل وضوئه ومغاسله : أنه إذا خيف ضرر ماء يقول عليه : يا ماء ماء زمزم يقرئك السلام ، فإنه يأمن ضرر ذلك الماء ، ذكره الشيخ زرّوق في نصائحه.

والحاصل : أنه شراب الأبرار.

[١٧٠] [زمزم أفضل المياه] :

وسيد المياه وأفضلها كلها طبا وشرعا ، حتى قال بعض العلماء : هي أفضل من ماء الكوثر ، إلّا ما نبع من بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوقف في كونه أفضل من ماء الكوثر بعضهم كالعلامة السيوطي ، والفخر بن ظهيرة ، وقد سئل الجلال السيوطي عن ذلك بما صورته :

يا غرة في جهة الدهر أفتنا

لا زلت تفتي كل من جال يسأل

في زمزم أو ماء كوثر حشرنا

ما منها يا ذا المعالي أفضل

جوزيت بالإحسان عنا كلنا

وبجنة المأوى جزاؤك أكمل

فأجاب بما صورته :

لله حمدي والصلاة على النب

ي محمد من للبرية يفضل

ما جاءنا خبر بذلك ثابت

فالوقف عن خوض بذلك أجمل

هذا جواب ابن السيوطي راجيا

من ربه التثبيت فيما يسأل

ومال في رسالته (ساجعة الحرم) إلى تفضيل زمزم على الكوثر ، وله قول ثالث بتفضيل الكوثر عليها ؛ لأنه عطية الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، بخلاف زمزم فإنه عطية لإسماعيل عليه‌السلام ؛ وللتصريح بالكوثر في القرآن

١٣٢

مع الإسناد إلى نون العظمة مع خصوصيته أنه من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا.

فإن قيل : هذه الفضيلة لعينه ، أم للبقية؟

فالجواب : أنها لعينه ، وإلّا لزم حصولها لغيرها لو حفرت بالمسجد ، ولا قائل بهذا ، أجاب الفخر العلامة ابن ظهيرة في منسكه والله أعلم.

وللشيخ العلامة بدر الدين أحمد بن محمد المصري أبيات في مدح زمزم ، منها قوله :

شفيت يا زمزم داء السقيم

فأنت أصفى ما تعاطى النديم

وكم رضيع لك أشواقه

إليك بعد الشيب مثل الفطيم

وقوله :

ماء زمزم الطيبة المخبر

يا من علت غورا على المشتري

وقوله :

رضيع أخلافك لا يشتهي

فطامه إلّا لدى الكوثرى

بالله قولوا لنيل مصر

بأنني عنه في غنائي

بزمزم العذب عند بيت

مخلق الستر بالوفاء

[١٧١] [عيون زمزم] :

فائدة : أخرج الأزرقي : أن في بئر زمزم ثلاثة عيون : عين حذاء الركن الأسود ، وعين حذاء أبي قبيس والصفا ، وعين حذاء المروة (١).

__________________

(١) الأزرقي ٢ / ٦١ ؛ الفاكهي ٢ / ٧٤.

١٣٣

ونقل الفاكهي : عن العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه ، عن كعب الأحبار : أن العين التي من الحجر الأسود هي أغزر العيون الثلاثة.

قال الفخر بن ظهيرة رحمه‌الله تعالى : إنها من عيون الجنة.

وقال بعضهم : عمق البئر ستة وستون ذراعا ، وعرض رأسها أربع في أربع بالذراع التي هي أربع وعشرون أصبعا ، وبينها وبين البيت ثلاثة وثلاثون ذراعا (١).

[١٧٢] [آداب ودعاء شرب زمزم] :

تتمة : يستحب شرب ماء زمزم ، والإكثار منه ، والتضلع به ، وينبغي لمن أراد شربه أن ينزع الدلو بنفسه إن تيسر ، وأن يكون الدلو مما يلي الحجر الأسود ، ويأخذ بيمينه ، ويستقبل القبلة ويقول : اللهم إنه بلغني عن نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (ماء زمزم لما شرب له) اللهم إني أشربه لكذا ، ويعيّن مراده ويقول : بسم الله والحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، وكان ابن عباس رضي‌الله‌عنهما إذا شرب ماء زمزم قال : اللهم إني أسألك

__________________

(١) بئر زمزم :

تقع على بعد ٢١ م من الكعبة المشرفة ، وأفادت الدراسات الحديثة أن العيون المغذية للبئر تضخ ما بين ١١ إلى ٥ ، ١٨ لترا من الماء في الثانية» .. ومن العيون المغذية فتحة في اتجاه الحجر الأسود بطول ٧٥ سم وارتفاع ٣٠ سم ويتدفق منها القدر الأكبر من الماء وهناك فتحة باتجاه المكبرية بطول ٧٠ سم وارتفاع ٣٠ سم ، وفتحات صغيرة أخرى باتجاه الصفا والمروة. وفيما يلي معلومات عن البئر :

فتحة البئر تحت المطاف ٥٦ ، ١ م ، عمق البئر من الفتحة ٣٠ م ، عمق مستوى الماء من الفتحة ٤ م ، عمق العيون المغذية ١٣ م ، من العيون إلى القعر ١٧ م ، القطر يتراوح بين ٤٦ ، ١ و ٦٦ ، ٢ م. ولتوسعة المطاف أزيل البناء الذي كان يغطي البئر ، ونقل مكان شرب ماء زمزم. انظر مكة المكرمة قديما وحديثا ، ص ٧٨ وما بعدها.

١٣٤

علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء ، ـ وزاد بعضهم ـ وسقم ، واغسل قلبي من كل ذنب ، واملأه من خشيتك ، واروني يوم العطش الأكبر يا أرحم الراحمين ، ويتنفس ثلاثا ، ويسمي الله تعالى في ابتداء كل مرة ، ويحمده في فراغها ، ولا يشربه مجرّبا بل مخلصا.

وروي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : «كنت جالسا عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : من أين جئت؟ قال : من زمزم ، قال : فشربت منها كما ينبغي؟ قال : وكيف ينبغي؟ قال : إذا شربت منها فاستقبل الكعبة ، واذكر اسم الله ، وتنفس ثلاثا ، وتضلع منها ، فإذا فرغت فاحمد الله» (١) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم (٢)) رواه ابن ماجه واللفظ له ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح على شرط الشيخين.

[١٧٣] [الوضوء والغسل والاستنجاء بزمزم] :

قال في المنسك الكبير : ولا بأس بالاغتسال والتوضؤ بماء زمزم ، ولا يكره عند الثلاثة خلافا لأحمد ، ثم عن أحمد أنه يكره ، وقيل يحرم ، وقيل يكره الغسل لا الوضوء.

وعن بعض أصحابه : يستحب الوضوء به ، وينبغي أن لا يستعمل إلّا على شيء طاهر على وجه التبرك وتجديد الوضوء.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ٥ / ١٠٧.

(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٠٦١) ؛ والدارقطني ٢ / ٨٨.

١٣٥

وأما إزالة النجاسة به كالاستنجاء ونحوه فذكر بعض العلماء تحريم ذلك ، وبعضهم كراهته ، ويقال : إنه استنجى به بعض الناس فحدث به الباسور (١).

وذكر الفاكهي : «أن أهل مكة كانوا يغسلون موتاهم بماء زمزم ، إذا فرغوا من الغسل تبركا به» (٢) ، وأن أسماء بنت أبي بكر غسلت ابنها عبد الله بن الزبير بماء زمزم رضي‌الله‌عنهم.

[١٧٤] [نقل زمزم] :

ويستحب نقله إلى البلاد ، وروى الترمذي عن عائشة رضي‌الله‌عنها : (أنها كانت تحمله وتخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحمله (٣) ، وكان يصبه على المرضى ويسقيهم ، وأنه حنّك به الحسن والحسين (٤)).

__________________

(١) انظر : حاشية ابن عابدين ، ٧ / ٤٧٥ (الطبعة المحققة) دار الثقافة والتراث (ط ، الأولى ١٤٢١ ه‍).

(٢) الفاكهي ٢ / ٤٨.

(٣) الترمذي (٩٦٣) وقال : «هذا حديث حسن غريب» ؛ الفاكهي ٢ / ٤٩.

(٤) الفاكهي ٢ / ٤٩.

١٣٦

[١٧٥]

١١ ـ [من أماكن الإجابة مقام إبراهيم عليه‌السلام]

مقام : أي مما يستجاب فيه الدعاء خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام ، إما مطلقا على ما عرف ، أو بقيد وقت السحر كما ذكره النقاش.

وهل ذلك بالقرب منه ، أو بما يصدق عليه خلف المقام الذي خصه العرف بما فرش خلفه من حجارة الرخام؟ الأخير أنسب بمذهبنا.

وهل يختص بمن فرغ من ركعتي الطواف ، أم لا؟ جزم الملّا علي إلى الأول ، والأحسن الإطلاق إنشاء الله تعالى ؛ لأن ذلك لشرف المحل ، ولله الإكرام والفضل.

والمقام في اللغة : موضع قدم القائم. هي حجارة ، وكان يقوم عليها [إبراهيم عليه‌السلام] حين نزوله وركوبه من الإبل حين يأتي إلى زيارة هاجر وولدها إسماعيل عليه‌السلام.

وذكر القاضي في تفسيره : أن الحجر الذي فيه أثر قدميه ، هو الموضع الذي كان فيه حين قام ودعا الناس إلى الحج.

وقيل : لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه‌السلام عن رفع الحجارة ، قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه.

وقيل : إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة ، فقالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى

١٣٧

غسلت الشق الآخر ، فبقى أثر قدميه عليه ، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس وابن مسعود رضي‌الله‌عنهم.

وذكر الأزرقي : «أنه لما فرغ من التأذين جعله قبله ، فكان يصلي إليه مستقبل الباب» (١) ، قال الملّا علي : قال في البحر والذي رجحه العلماء أن المقام كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملصقا بالبيت ، قال ابن جماعة : وهو الصحيح ، وذكر الأزرقي : «أن موضع المقام هو الذي به اليوم في الجاهلية وعهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبي بكر ، وعمر رضي‌الله‌عنهما» (٢). انتهى.

والأظهر : أنه كان ملصقا بالبيت ، ثم أخر عن مقامه لحكمة هنالك تقتضي ذلك ، وأيّا ، فالآية توجب أنه أين يوجد فهو المصلى وهو المدعى ا. ه كلامه.

وقال الملّا علي ـ رحمه‌الله ـ في الكبير : وأما ترجيح صاحب البحر لذلك القول فالله أعلم بمستنده في ذلك. قال ابن حجر ـ في شرح البخاري ـ : وقد روى الأزرقي في أخبار مكة بأسانيد صحيحة : أن المقام كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن ، حتى جاء سيل في خلافة عمر رضي‌الله‌عنه ؛ فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة ، فأتى به فربط بأستار الكعبة حتى قدم عمر ، فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول ، فأعاده إليه فاستقر ثمّ إلى الآن ، وروي عن بعض العلماء : أنه كان عند الكعبة موضع الحفرة ا. ه.

__________________

(١) الأزرقي ٢ / ٣٠ ؛ الفاكهي ١ / ٤٤٣.

(٢) الأزرقي ٢ / ٣٦.

١٣٨

١٣٩

أقول : ومستند صاحب البحر وغيره ما ذكر مالك في المدونة : أن المقام في عهد إبراهيم كان في مكانه اليوم ، وكانت قريش في الجاهلية ألصقته بالبيت خوفا من السيول ، واستمر كذلك في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهد أبي بكر ، فلما ولّي عمر رضي‌الله‌عنه رده إلى موضعه الآن.

واعترضه المحب الطبري : بأن سياق حديث جابر الصحيح الطويل ، وما روي نحوه يشهد لما قاله الأزرقي (١).

وردّ بأنه يمكن حمله على قول مالك ، ولا منافاة بين ذلك والله أعلم بما هنالك. وذكر الأزرقي رضي‌الله‌عنه : أن ذرع المقام ذراع ، وأن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع (٢).

وروى ابن جماعة : أنه حرّر مقدار ارتفاعه من الأرض : فكان نصف ذراع وربع وثمن ، بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه ، وأعلى المقام مربع من كل جهة نصف ذراع وربع ، وموضع غوص القدمين ملبس بالفضة ، وعمقه من فوقها سبع قراريط ونصف قيراط بالذراع المتقدم ، وهذا آخر الكلام عليه (٣).

[١٧٦] [فضل المقام] :

وأما فضله فعظيم ، قال تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧].

__________________

(١) انظر : القرى لقاصد أم القرى ص ٣٤٤ ، ٣٤٥.

(٢) الأزرقي ٢ / ٣٩.

(٣) وتكملة تحرير ابن جماعة «.. والمقام اليوم في صندوق من حديد ، حوله شباك من حديد ... وطول الشباك إلى جهة الكعبة خمسة أذرع إلّا قيراطين .. ومن صدر الشباك الذي داخله المقام إلى شاذروان الكعبة عشرون ذراعا وثلثا ذراع وثمن ذراع ، وكل ذلك بالذراع المتقدم ذكره» هداية السالك ٣ / ١٣٥١.

١٤٠