مختصر عجائب الدنيا

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه

مختصر عجائب الدنيا

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه


المحقق: سيّد كسروي حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

يكون على يديه جوهر أخضر ، وأحمر منسوج بالذهب ، ومنهم من يكون راكبا أسدا موشحا بحيات عظام ، ومنهم من يعلوه قبة من نور ومن جوهر ، وكل واحد من هؤلاء يصنع من العجائب ما يدل عليه كوكبه ، فإذا دخلوا على الملك كذا ، والصواب كذا.

عنقاطر الكاهن :

حكى أهل مصر عنه حكايات كثيرة عجيبة ، وهو من ولد عرناب بن آدم ، وكان كاهنا عارفا بغرائب العجائب من المثلات ، ووضع الطلسمات ، وكان قبل الطوفان ، ونظر ، فعلم بمجيئه ، فأمر الشياطين أن تبني له خلف خط الاستواء بحيث أنه لا يلحقه ، فسار فبنى له القصر الذي في سفح جبل القمر ، وهو القصر النحاسي الذي فيه التماثيل النحاس خمس وثمانون تمثالا يخرج ماء النيل من حلوقها ، وينتصب في بطيحة ، فلما فرغوا منه أحب أن يراه في قبته ، فحملته الشياطين إليه ، فلما رأى إحكام بنيانه ، وزخرفة حيطانه ، وما فيها من النقوش ، وصور الكواكب ، والأفلاك ، وغير ذلك من صنوف العجائب ، أعجبه وشكرهم عليه ، وكان هذا له قصر يسرج من غير قناديل وتنصب فيه الموائد ، وعليها من سائر الأطعمة ولا يدرون من عملها ، وكذلك الأشربة يستعمل منها فلا تنقص ، في وسطه دكة من ماء جامد ، ترى حركته من وراء ماء جمد منه ، فأعجبه ، ورجع إلى مصر.

من غرائب وعجائب هرمس الأشموني

وهو هرمس الأول وهو الذي بنى بيت التماثيل / التي يعرف بها مقادير النيل عند جبل القمر وعمل هيكل الشمس ، وكان يختفي من الناس فلا يرونه وهو بينهم ، وهو الذي بنى الأشمونين لأشمون ، وبنى مدينة في شرق مصر وسماها هرمس بولس وطولها اثنا عشر ميلا ، وجعل عليها حصنا. وبنى مدينة ايصنا (١) واتخذ فيها الملاعب والأعلام.

وعمل في سفح الجبل الشرقي مدينة يقال لها : أو طيراطيس ، وفيها عجائب كثيرة ، وجعل لها أربعة أبواب لكل جهة باب ، وجعل على الباب الشرقي صورة غراب ، وعلى الباب الغربي صورة ثور ، وعلى الباب القبلي صورة أسد ، وعلى الباب البحري صورة كلب (٢) ، وجعل فيها روحانيات تنطق إذا قصدها القاصد ولا يستطيع أحد أن يدخلها حتى يستأذن الموكلين بها ، وغرس فيها شجرة تحمل من جميع الفواكه وعمل منارا طوله ثمانون ذراعا وعلى رأسه مرآة تتلون كل يوم بلون ، فإذا كان آخر الأسبوع عادت إلى لونها الأول هكذا على مدى الأيام.

__________________

(١) أحسبها مدينة إسنا التي نعرفها اليوم في صعيد مصر.

(٢) في المخطوط : شلب ، وأحسبه تحريف من الكلمة التي ذكرتها.

٦١

وكانت تلك المدينة تكسى من نورها وضوئها بياضا وخضرا ، وصفرا ، وزرقا وحمرا. وجعل حول المنارة ماءا كثيرا وولد فيه السمك وجعل الطلسمات حول المدينة من كل صنف تمنع المضار عنها ، وتسمى مدينة البؤس ـ يريد الشجر ـ وكانت فيه الشجر منصوبة على جبل بجانبها.

ومن عجائب الغرائب صا الملك

قال صاحب التاريخ : لما قسم تقطيم الأرض بينه وبين أخوته أشمون وأثريب وقفط ، خرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيرة ، وهو بلد البحيرة والإسكندرية حتى ينتهي برقة فنزل مدينة صا قبل أن تبنى الإسكندرية ، فلما ملك حيزة أمر بالعمارة ، وبناء المدينة وإظهار (١) العجائب فأول شيء بنى مدينة مهندسة من حد مدينة صا إلى لوبيه ومراقية ، ثم جعل على عبر البحر أعلاما وجعل على / رؤوس الأعلام مرائي من أخلاط شتى ، فكان منها ما يمنع من دواب البحر ، ومنها ما إذا قصدهم عدد من الجزائر الداخلة أحرقها شعاع الشمس ، ومنها ما يرى فيها أعداءهم في بلادهم ، وما يعملون فيها ويهيئون ، ومنها ما ينظر فيها إقليم مصر فيعلم ما يخصب فيها وما يجدب منها كل سنة. وجعل فيها حمامات توقد من نفسها. وعمل متنزهات ، ومستشرفات ، فكان كل يوم في موضع منها بمن يخصه من الحشم والخدم ، وجعل حولها بساتين محدقة ، وسرح فيها الطيور المغردة ، والوحوش المستأمنة ، والأزهار المطردة ، والرياض المونقة والمرائي المشوقة. وجعل شرف قصورها من حجارة ملونة تلمع لمعانا وبريقا إذا طلعت الشمس عليها ينعكس شعاعها على ما حولها ، ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا وقد استحكمه في هذه المدينة وكانت العمارة في رمال رشيد والإسكندرية ممتدة إلى برقة ، وكان المسافر في أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات ، ولا يسير فيها إلا في ظلال الأشجار. وجعل في تلك الصحارى قصورا وغرس فيها غروسا وساق إليها من ماء النيل أنهارا فكان الناس يسلكون في الجانب الغربي إلى حد المغرب في عمارة متصلة.

فلما تمادى الزمان ، وتعاقب الحدثان أباد الموت أهلها وتغيرت أحوالها وخربت ديارهم ، فلم يبق منها إلا الرسوم والخراب وكل ما على التراب تراب.

ومن عجائب الغرائب ... (٢) الكاهنة :

في مصاحف القبط أنها كانت تجلس في عريش النار ، فبماذا احتكم إليها أحد ،

__________________

(١) في هامش المخطوط : وأظهر.

(٢) لم أتبين اسم تلك الكاهنة حيث كتب بالمداد الأحمر الذي انمحى من المخطوط فوضعت مكانه نقط.

٦٢

وكان صادقا فيما يدعيه خاض تلك النار ، وإن كان كاذبا مبطلا أحرقته النار.

وكانت تتصور في صور شتى كيف أرادت ، وبنت لها قصرا احتجبت فيه عن الناس ، وجعلت في ذلك القصر أنابيب من نحاس / ظاهرة مجوفة وكتبت على كل أنبوب فنا من الفنون فيأتي الذي يحتكم إليها إلى ذلك الأنبوب المكتوب عليه ذلك الفن ويتكلم عليه بكلام خفي ما يريده ، ويجعل أذنه في ذلك الأنبوب فيأتيه منه الجواب الذي يريده.

فلم يزل ذلك القصر حتى أخربه بخت نصّر وهذا من العجائب.

من الغرائب والعجائب عرناق بن عنقاطر الكاهن :

وهذا تكهن بعد أبيه وعمل من العجائب شيئا كثيرا منها : شجرة من الصفر أغصانها من الحديد وبخطاطيف حادة إذا تقرب إليها الظالم أو الكاذب فرت إليه تلك الخطاطيف فتعلق به فتشق بدنه فلا تفارقه أو يرجع إلى الحق ويعترف بالظلم فيخرج من ظلامة ظلمه. وعمل صنما من صوّان أسود وسماه عبد قرويس ـ أي رجل ـ فكانوا يحتكمون إليه فمن زاغ عن الحق ثبت مكانه حتى ينصف عن نفسه ، ولو قام سنة ، والذي له ضرورة منهم يبخر ذلك الصنم ليلا وينظر إلى الكواكب ويذكره عرناق فيجد طلبته صباحا على باب منزله ، وربما غضب على أحد ، فيجعل ماءهم لا يشرب وسلط عليهم الوحوش والهوام.

عجائب البلدان وغرائبها

قال المؤلف : خلف أصين الصين أمم كثيرة منهم عراة وأمم يلتحفون بشعورهم ، وزعر لا شعر لهم ، وشقر الشعور حمر الوجوه ، وأمم إذا طلعت الشمس عليهم هربوا إلى مغارات لهم يأوون إليها من حرها ، فإذا دارت الشمس إلى الجانب الغربي خرجوا يأكلون نباتا يشبه الكمأة ، ويأكلون خشاش الأرض ، ويجاورهم من ناحية الشمال أمم شقر عراة يتناكحون نكاح البهائم يجتمع على المرأة الواحدة جماعة فلا يمنعهم أحد.

ومن عجائب البرجان من ولد يونان بن ياقوت :

مملكتهم كبيرة متسعة ، وهم يحاربون الروم ، والصقالبة ، والترك ، ومملكة برجان عشرون يوما في ثلاثين يوما وعليها / سياج من خشب. وقراها دون السياج ، وأهلها مجوس ليس لهم كتاب ، ودوابهم معدة للحرب ، وهي ترتع في برج لهم لا تركب إلا وقت المحاربة ، ومن ركبها في غير وقت المحاربة قتلوه ، ويصطفوا في المحاربة صفوفا ، فأصحاب النشاب أول ، ومن ورائهم أصحاب الحراب ، ثم أصحاب السيوف ، فمن رجع عن وظيفته قتلوه ، وليس لأهل برجان ذهب ولا فضة ، وإنما بيعهم وشراؤهم بالبقر والغنم ، وإذا وقع بينهم وبين الروم الصلح ، أدت لأهل الروم الخراج ، وخراجهم

٦٣

الجواري والغلمان من سبي الصقالبة.

ومن عادة البرجان إذا مات لهم الميت عمدوا إلى ما ترك من خدم وحاشية جمعوهم وأوصوهم بوصايا ، ثم يحرقونهم مع الميت ، يقولون : نحرقهم في الدنيا فلا يحترقون في الآخرة. ولهم ناووس عظيم يدلون فيه الميت ، وكل من له كزوجته وخدمه ، فيموتوا عنده. ومن عادتهم إذا تاب العبد عندهم أمره سيده أن ينبطح وحده فيضربه ، وإن قام من غير أن يأمره أوجب عليه القتل ، ويورثوا النساء أكثر من الرجال.

ومن غرائبها الترك من ولد يافت :

وهم أجناس ، فمنهم أصحاب مدن وحصون ، وقوم في رؤوس الجبال ، وفي الوادي ، لهم خير من لبود ، شغلهم الصيد ، ومن لم يصد شيئا ودّجوا أوداجه ، وجعلوا دمها في مصران فيشويه ويأكله. ويأكلون الرخم ، والغربان ، وكل ذي مخلب. وليس لهم دين يعتقدونه ، ومنهم من هو على المجوسية ومنهم من تهودوا.

أكثر ملوكهم من البلغاء ، وملكهم الأكبر اسمه خاقان سريره ذهب ، وتاجه ومنطقته ذهب ، ولباسهم الحرير ، وقيل إن ملكهم الأعظم لا يكاد أن يظهر وإن طبهم لم يقم بين يديه أحد لشدة سطوته.

وفيهم سحر ، وعقد ، وشدة بأس. وللملك يوم يوقد له فيه نار عظيمة ويجتمع حولها كهنة ويتكلمون عليها / بكلام وهو ينظر فيرتفع منها وجه كبير مدور ملون ، فإن كان إلى الخضرة دلّ على الخصب ، وإن كان إلى البياض دلّ على الجدب ، وإن كان على الحمرة دلّ على الفتن ، وإراقة الدماء ، وإن كان على الصفرة دلّ على العلل ، والوباء ، وإن كان إلى السودا أقرب على موت الملك أو على سفر بعيد ، وربما يتجهز للسفر عند ذلك فرقا من الموت.

ومن عجائبها مملكة الروم :

وقد كان الروم الأول يونانيون (١) حكماء حتى غلب عليهم بنو عيصو بن إسحاق فسموا بالروم وبطل ذكر أولئك. ولما صار الأمر إلى قسطنطين قال بالنصرانية ، جمع الأساقفة وعمل المعمودية ، ثم تفرقوا ، وهم طبقات ، البطرك ، الأسقف ، والقس ، والشماس ، والمطران ، والدمشق صاحب العز.

ويصومون السبت والأحد من كل جمعة ، ولا يتزوج أحدهم إلا امرأة واحدة ، ولا

__________________

(١) في المخطوط على هذا الرسم : يوناين ، كتبت ما أظنه الصواب ، وما أظن أن الكلمة قد تحرفت عنه.

٦٤

يتسرى عليها ، ولا يتزوج عليها ، ولا يشرب الخمر ما يسكره ويعظموا الأحد ، يقولوا : إن المسيح قام من القبر ليلة الأحد ، ورفع إلى السماء يوم الأحد بعد اجتماعه مع الحواريين ، وطريقتهم أنهم لا يرون بالغسل من الجنابة ، ولا بالوضوء ، وإنما عبادتهم كلها بالنيات ، وإذا قبّل بعضهم بعضا وعانقه عزروه ، وليس لهم طلاق ولا يأكل ملكهم إلا على لحن الموسيقى ، وأكثر طعامهم الكردباجات والمدققات ، والإسفيدباجات ، وهم الأرغل.

وفيهم الطب ، والحكمة ، وعمل الصنعة ، والحذق ، والتصوير ، حتى أنهم يصورون صورا تضحك ضحك الفرح ، وصورا عليها الحزن ظاهرا. ويسمى ملكهم : الملك الرحيم.

ومن غرائبها الهند (١) :

وهم عدة أمم ، قوم نصارى ، ومجوسية ، وقوم يعبدون الشمس ، ولهم بحر يجري من المغرب إلى المشرق فيتصل إلى بحر آخر ناحية البلغار ، وهم في ناحية الشمال إلى الجنوب ، ولهم أنهار كثيرة ، وقلاع وكنائس فيها أجراس معلقة / يضربون بها كالنواقيس ، ولهم عقول وصناعات لطيفة من كل فن لطيف.

ومن عجائبها السند :

وهم يفترقون على قبائل شتى ولهم بيت الذهب ولهم البند المعلق الذي يمسك الواحد على فرس في صورة زحل ، وهم في مذاهبهم كإخوتهم من الهند في علومهم وسحرهم والرّقا ، وإباحة الزنا ، وحرق أنفسهم ، وهم في صفاء الألوان ، وعظم الأبدان ، وحسن الوجوه وكثرة الشعور كالهند.

مملكة الزنج (٢) :

وهم على البحر المالح ومملكتهم متسعة وهم من ولد سود بن كنعان اسم ملكهم الأكبر : كزنة بموضع يقال له تكند ، وهم على البحر ، يحددون أسنانهم ويبردونها حتى تدق ، طعامهم السمك ، ومع ذلك طيبين الأفواه نظاف الثغور ، عندهم فيلة يبيعون أنيابها من تجار البلدان ، ولهم جزائر يخرجون منها الودع فيتحلون به.

مملكة الكوكر :

وهي أعظم مدائن السودان ، وأجلها ملكا وقدرا وكل الملوك تعطي ملك كوكر حق

__________________

(١) هذه الكلمة غير ظاهرة وما كتبته أقرب شيء إليها والله أعلم.

(٢) الكلمة في المخطوط غير واضحة لأنها كتبت بالمداد الأحمر ، وقد انمحى ، وما كتب أقرب ما يكون لما بقي من أثر كتابتها والله أعلم.

٦٥

الطاعة ، غانة ملكها عظيم الشأن ببلاده معادن الذهب يستخرجونه منها ويعملونها سبائك كاللبن. ولهم خط لا يتجاوز منه من صار إليهم ، ويجعلون الأمتعة والأكسية على ذلك الخط ، وينصرفون فيأتي أولئك السودان ومعهم الذهب فينزلونه عند الأمتعة وينصرفون ، فيأتي صاحب الأكسية فإن أرضاهم وإلا يأتي غيرهم فيزيدونهم حتى تتم المبايعة.

وهي مدينة كبيرة فيها أربع جوامع ، وشارع واحد يسافر فيه نصف يوم وأهل ذلك الشارع كلهم يضربون الذهب دنانير. وملك غانة تحب يده ملوك كثيرة ، وأرضهم كلها ذهب ظاهر على وجه الأرض.

مملكة برقة :

وهم قوم ينسبون إلى قوم بن حام لما نزل أخويه مصر نزل ولده وولدهم إلى ناحية الغرب فسكنوا من آخر عمل مصر ، وهو ما وراء / برقة إلى البحر الأخضر من شرقي بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين ببلاد السودان ، فمنهم لواتة نزلوا بأرض أجدابية ، وسرت نزلت مزانة ، بأرض ودّان ، ونزلت هوارة بأرض طرابلس ، ونزل قوم بقربها وهم بقوسه ، ثم تشعبت بهم الطرق فنزل قوم بناحية القيروان يقال لهم : برفشانة ، وآخرون إلى ناحية ناهرت ، وكتامة ، وسلجماسة ، وفارس ، وآخرون إلى ناحية طنجة ، وقوس الأقصار ، وقيل : إنهم لخم ، وجذام ، وكانت منازلهم فلسطين ، فأخرجهم منها بعض ملوك فارس. فلما نزلوا إلى مصر بكثيب ، منعهم ملوك مصر النزول ، فعبروا النيل ، وانتشروا في البلاد.

وقيل : هم من اليمن فمنعتهم ملوكهم المقام عندهم لخبر ذكر عندهم ، وكان منهم من سار إلى أرض من ملوك اليمن مثل أبرهة ذو المنار ، واقريقيس وغيرهما تخلف بالغرب قوم منهم باختيارهم فخالطوهم وتوالدوا معهم. وهذا الذي ذكرت من نسبهم إلى قيس أو إلى الغرب.

مملكة فزانة :

كبيرة يسار فيها يوما واحدا يوجد فيها آبار المومياء. وهي غبراء تتحرك مثل الزئبق ، وآبارها في بقعة واحدة مسيرتها نصف ميل بنوا عليها حصنا ، وهم يستعملونها ، والبلد اسمها نمراوه.

الزغاوة :

مملكة واسعة على النيل مما يحاذي النبوية وهم يحاربون أهل النبوية.

مملكة دمدم :

يسار إليها من كوكر على شاطىء بحر الملح مغربا وهؤلاء يأكل بعضهم بعضا ،

٦٦

ويأكلون الناس أحياء ، وتحت يدهم ملك مملوك ، وفي مدينتهم قلعة عظيمة وعليها صنم في صورة امرأة يتألهون له ويحجون إليه.

مملكة النوبة :

سميت باسم صاحبها نوبا بن قوط بن مصرام بن حام ، فلما صاروا مع مصرام إلى مصر ، ووثب القبط بمصر ، وهم بنو قبطيم بن مصرام وجه بإخوتهم ليتسعوا في البلاد فخرج / نوبا بن قوط بولده وأهله على غربي النيل فملكوا هناك مدينتهم العظماء نقلة ، وبلادهم بلاد نخل وكرم وزرع ، وقلد اتساع تلك المدينة مسيرة (١) شهرين ، دينهم النصرانية على دين اليعقوبية ، وفوق هؤلاء آلت :

النوبة الثانية :

من ناحية الصعيد ، وهم أعظم خطرا وأوسع ملكا وأصفى لونا ، ومسيرة مملكتهم ثلاثة أشهر ومدينتهم العظماء يقال لها سوبة. وهم نصارى ، والذهب عندهم كثير ظاهر على وجه الأرض ، ولهم نخل وكرم ، ولهم أجناس كثيرة ولهم ملوك.

مملكة يحّة :

وهي تلي النوبة ، وهي ممالك عدة ، وهم بين النيل وبحر الملح ، وأول ممالك اليحّة من حد أسوان ، وهي آخر عمل المسلمين ، ومدينتهم يقال لها : مجر ، وهم قبائل ، وفي بلادهم معادن الذهب ، والزبرجد ، والمسلمون يعملون عندهم في المعادن ، ووراء ذلك ممالك تتصل بهم الحبشة.

الحبشة :

من ولد حبش بن كوش بن حام ، وأكبر ممالكهم مملكة النجاشي ، وهو أكبر ملوكهم ، وجميع الممالك يعطونه الطاعة ويؤدون له الخراج.

الفندس :

وهم طوال ذووا أجسام وشعور ولحى ، وفي نسائهم الجمال ، ولهم النجابة والسحر والرّقى والطب ، وعمل الصناعات العجيبة والآلات المعجزة كالأشطرنج (٢) ، والنرد ، يحرقون أنفسهم ، ويبيحون الزنا حتى إن لهم سوقا لذلك.

__________________

(١) في المخطوط : مسيرق ، وهو تحريف.

(٢) ربما كان المراد : الشطرنج ، وهي اللعبة المعروفة.

٦٧

ومن عجائب مملكة الأندلس

قال أهل التاريخ :

إن في مملكة الأندلس أربعة وعشرين مدينة كان يملكها رجل واحد ، وكان دينهم دين الروم الصابئة ، وفي هياكلهم أصنام الكواكب ، ثم تنصرت الروم ، وتنصروا ، وكانت لهم (١) حكم ومعرفة ، وكان في مملكتهم بيت مغلوق قد احتكمه من كان قبلهم ، وقالوا : ما دام هذا مغلقا لا يملكنا عدو ، وعرف ذلك بينهم جيل بعد جيل ، وكان كل من ملك بلدهم وسمع بذلك احتكم عليه قفلا هكذا / إلى أربعة وعشرين قفلا على عدد من وليهم من الملوك ، ثم بعد ذلك ، وليهم رجل اسمه : لذريق ، وكان طماعا شرها قد ابتلي بمحبة المال وجمعه ، فلما استقر به الحال طاف بالمملكة وعرض آلة القتال ، ثم خزائن الذخائر ، وبيت المال ، ورأى ذلك الباب ، فأمر بفتحه فأخبروه بما قد تسامعوا به من قديم الزمان ، وتداول بينهم ، وأن يخلّيه على حاله مصلحة وصونا له ولبقاء مملكته ، فلم يلتفت إلى كلامهم ، وأبى إلا فتحه أو كسره ، فبلغ أهل المدينة فضاق بهم ذرعا وتشاءموا ، ثم أنهم اجتمعوا إليه وبذلوا له كثيرا من الأموال على أن يتركه على حاله ، فلم يقبل منهم ، فتفرقوا عنه ، فأحضر أرباب الصنائع فعجزوا ، فعالجوه أياما فلما فتحه وجد داخله فرسانا وركبانا فوق خيل شهب على صور العرب عليها عمائم حمر ، وفي تلك السنة فتحت الأندلس ، وتولى فتحها طارق بن نصير (٢) في سنة اثنين وتسعين أيام عبد الملك بن مروان ، ومسك لذريق فقتله ، وسبى وغنم.

ومن جملة ما وجدوه داخل ذلك البيت مرآة سليمان عليه‌السلام ، وكانت من ذهب عليها أطواق من جوهر ، مفصلة كالمرآة العجيبة التي ينظر منها الأقاليم السبعة ، وهي مدبرة من أخلاط ، وأواني من ذهب كأنه لسليمان عليه‌السلام ، والزبور مكتوب بخط يوناني جليل دفاته ذهب مفصل بجوهر ، واثنين وعشرين مصحفا من النورية محلاة بالذهب ، ومصحف محلى بفضة يتضمن منافع الأشجار والأحجار والدواب والطلسمات العجيبة ، فحملوا ذلك إلى الوليد. وأيضا مصحف فيه عمل الصنعة ، وأصناف اليواقيت ، ووجدوا فقاعة عظيمة من حجر أخضر مملوءة بإكسير الكيمياء مختومة بالذهب ، ولما فتحت هذه المدينة نزلها المسلمون فتفرقوا بمدنها إلى أن جاء إليها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك في سنة / ثلاث وثلاثين ومائة ، فغلب عليها وذريته فيها إلى اليوم.

__________________

(١) في المخطوط : له ، وهو تحريف.

(٢) كذا في المخطوط ، والمعروف طارق بن زياد.

٦٨

ومن عجائب المخلوقات يأجوج ومأجوج

قيل : إن يأجوج ومأجوج أمة لا يحصى عددها ، وقد زعم قوم : إن مقدار ربع العام من الأرض مائة وعشرون سنة ، وأن تسعين سنة ليأجوج ومأجوج منها ، واثني عشر للسودان ، وثمانية للروم ، وثلاث للعرب ، وسبعة لبقية الأمم.

وقال أصحاب التاريخ : إن يأجوج ومأجوج أربعين أمة مختلفو الخلق والعدد والأشكال ، ولكل أمة منهم ملك ولغة ، ومنهم من طوله شبر ، ومنهم من طوله ذراع ، وأطول ، ومنهم المشوّهون ، ومنهم من يفرش إحدى أذنيه تحته ويتغطى بالأخرى ، ومنهم من له أنياب وقرون ، وأذناب ، وقرونهم بارزة ، ومنهم من مشيه وثب كالغراب ، ومنهم من يأكل الحيات وحشائش الأرض ، ويأكلون كل ذات ناب ومخلب ، واللحم نيئا ، ويغير بعضهم على بعض ، ويأكل بعضهم بعضا ، ومنهم من كلامه تهتهة ، وفيهم شدة بأس وإقراء وبطش ، يغيرون على البلاد فيأخذونها ، فجاء ذو القرنين وعمل عليهم السد ، فمنعوا ، وسيفتحونه آخر الزمان ، وعندهم الزلازل كثيرا ، وقد سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوتهم ليلة أسري بي فلم يجيبوا».

ومن عجائب المخلوقات عناق ووالدها عوج الجبّار

عناق بنت آدم وهي من مشوهات الخلق ولها رأسان ، وفي كل يد عشرة أصابع ، ولكل إصبع ظفران كالمنجلين الحادين. وقيل : هي أول من بغى وعمل الفجور ، وجاهر بالمعاصي ، وكان مع آدم عليه‌السلام أسماء وعوذة ، فدفعها إلى حواء لتكون حفظا لها فنامت ، فأخذتها عناق ، فاستجلبت واستخدمت وأضلت كثيرا ، فدعا آدم أمته حوا ، فأرسل الله إليها أسدا عظيما مزق أعضاءها وأراح / الخلق منها.

وأما عوج :

لم يبلغ الطوفان منه إلى بعض جسده وعاش إلى زمن فرعون ، فلما رأى موسى عليه‌السلام أراد كيدهم ، فقطع صخرة على قدرهم وكانوا في زهاء (١) مائتي ألف فاحتملها على رأسه فأرسل الله له طيرا نقرها ، فنزلت من رأسه إلى عنقه ، فلم يتحرك من موضعه ، وأمر الله تعالى عزّ شأنه موسى بقتله ، فوثب وثبة عشرة أذرع فضربه بعصاه ، وكان طولها عشرة أذرع ، فمات لوقته ، وصار جسرا على النيل يعبر الناس والدواب عليه مدة طويلة. وقيل أنهم جروه بألف عجلة وألف ثور في كل يوم نصف ميل إلى أن طرحوه في بحر القلزم ، وقيل أنهم قطعوه وألقوه في البحر وترك في موضعه ، وردموا

__________________

(١) بالهامش : ما يزيد.

٦٩

عليه الصخور والرمال حتى صار كالجبل العظيم في صحراء مصر.

قصة إبراهيم وسارة عليهما‌السلام مع الملك طوطيس صاحب مصر

كان هذا الملك جبارا (١) عنيدا شديد البأس مهابا ، فلما جلس على سرير ملكه ، دخل إليه أشراف مملكته فهنأوه ودعوا له فأمرهم بالإقبال على مصالحهم ، ووعدهم ومناهم بالإحسان إليهم. والقبط تزعم أنه فرعون إبراهيم ، وأن الفراعنة سبعة هذا أولهم.

قال صاحب التاريخ : لما فارق إبراهيم النمروذ الجبار دخل مدينة مصر ومعه (٢) امرأته سارة وكانت أحسن نساء العالمين في وقتها ، وهي جدة يوسف عليه‌السلام فلما جاء أبواب مصر رآها بعض البوابين على فترة ، فرأى جمالا عظيما ، فسعى إلى الملك ، فأخبره بما رأى ، فأمر بعض وزرائه بالتوجه إليه ، فلما اجتمع بطوطيس ، قال له : ما هذه المرأة منك؟ قال : هذه أختي ، ثم التفت إليها فرأى حسنا كاملا ، وجمالا باهرا ، فأمر بإخراج إبراهيم عليه‌السلام دونها ، فخرج وهو يقول : اللهم لا تفضح نبيك في أهله ، وكشف الله تعالى لنبيه / سرادقات الجدر ، وستور الأبواب حتى رآهما ، فلما راودها قالت : ويلك! إن وضعت يدك (٣) عليّ هلكت.

قال : كيف؟

قالت : لي ربّ عظيم ، عليم ، قادر يمنعك عني. فمدّ يده لها ، فجفت.

فقال : إن ذهب عني ما أجد لم أعد. فعوفي ، ثم أنه راودها ثانيا.

فقالت : ها أنت قد جربت ، فلما مدّ يده إليها ثانيا جفت وضربت عليه أعضاؤه وأعصابه ضربا مؤلما ، فحلف لها إن عوفي خلّى سبيلها ، فعوفي لساعته.

فقال : يا سارة ، ربك ربّ عظيم لا يضيعك ، ثم أنه تأدب معها فاحترمها ، ثم سألها عن إبراهيم عليه‌السلام.

فقالت : هو قريني وزوجي.

قال : قد ذكر أنه أخوك!

قالت : صدق ، أراد الأخوة (٤) في الدين ، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا.

فقال : نعم الدين دينكم يا سارة ، ثم أنه أرسل سارة إلى ابنته حوريا وأمر بإكرامها

__________________

(١) في المخطوط : الجبارا ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : ومع ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : يدل ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : الآخرة ، وهو تحريف.

٧٠

وكانت بنت الملك من الحسن والجمال بمكان ، فأكرمت سارة وعظمتها ، وقامت بمجدها ، ثم أنها أضافتها ، وبسطت لها الأنس ، وحادثتها ، فلما رفعت المائدة عمدت حوريا إلى شيء من الذخائر النفيسة ، والجواهر الثمينة وجملة من عين المال ، فلما اجتمعت بإبراهيم عليه‌السلام قال : لا حاجة لنا في هذا ولا في شيء منه ، وأمرها برده عليها. فلما ردته تعجبت من أمرها ، وأخبرت الملك بذلك ، فقال : هؤلاء قوم كرام وبيت طاهر. وقال : يا حوريا ، احتالي في برّهما وإكرامهما كل حيلة ، فقدمت لسارة جارية من أحسن الجواري القبطية ، وهي هاجر أم إسماعيل عليه‌السلام.

ثم عمدت إلى سلال ملأتها حلوى ودست تحتها جوهرا ومالا كثيرا ، ودفعت إليها حليّا مصوغا مكللا ، ثم ودعتها ، فخرجوا من أرض مصر سائرين ، فلما (١) عرسوا عمدوا إلى الحلوى ليأكلوا منها فوجدوا تلك الجواهر فحفروا منه البئر الذي جعلها للسبيل ، وتصدق منه وأضاف وادخرت / منه سارة لبيتها. وكان دخول إبراهيم على الملك يوم الخميس ، ولما دخلوا مكة وجدوها جدبة ، فأرسلت هاجر فعرّفت الملك فأمر بحفر نهر في شرقي مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفر في البحر المالح ، وكان يحمل إلى مكة الغلال فتصل إلى جدة وتحمل من هناك إلى مكة. وأن جميع ما كان يصل إليها من البر في أيامه فهو منه ، وكانت العرب وجرهم وقبائلهم يسمون طوطيس الملك الصادوق ، وكان طوطيس قد سأل إبراهيم عليه‌السلام أن يدعو لبلده بالبركة والحفظ فدعا لها فمصر في دعائه.

وعرّف إبراهيم الملك أن ولده سيملكونها ويصير أمرها إليهم قرنا بعد قرن إلى آخر الزمان ـ يعني ولد إبراهيم عليه‌السلام ـ ثم أن طوطيس لما أن تمادى أمره فتك في حكمه ، وقتل كثيرا من نسائه وبني عمه وخدمه وأقربائه ، وكثيرا من الحكماء والكهنة ، وأباد الناس واستعبدهم ، فكان حريصا على الولد ، فلم يرزق غير ابنته حوريا ، وكانت عاقلة حكيمة ، تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء ، فلما رأت من كثرة تجبره بالناس وظلمه أبغضته ، وأبغضت العام والخاص من أهل بلده ، ثم أن ابنته حوريا سمّته ، فمات ، فاجتمع رأي الوزراء والأمراء على تولية ابنته لما رأوا من إنكارها من أفعال أبيها ، وشفقتها على الناس ، فأجلسوها مكانه فلما :

جلست حوريا بنت طوطيس على سرير الملك :

استقر بها الحال وغدت واعظة ووهبت وولت وعزلت ، ثم بعد ذلك أخذت في جمع الأموال وحفظها حتى قيل إنها جمعت ما لم يجمع غيرها وكذا من الجواهر ،

__________________

(١) في المخطوط : فلا ، وهو تحريف.

٧١

والفصوص ، والطيب والأفاق وما هو لائق بالمملكة ، وصالح الرعية ، ثم أنها قدمت أرباب المملكة مثل الوزراء ، والحجاب وأرباب الوظائف والنواب ، ثم الكهنة ، والسحرة ، وأرباب العلوم والحكمة ، فرفعت أقدارهم ، وزادت معلومهم. ثم أنها أمرت بتجديد آلهتها ، وتجديد الهياكل / وتعظيمها ، فمن دخل تحت طاعتها قربته وأكرمته ، ومن خالفها بعثته إلى أتريب وأهانته ، وكان :

ملك أتريب يقال له : أندلس

عقد على رأسه تاج الملك ، وانتمى إليه جماعة من بني عمه. فلما بلغ حوريا أمره جهزت جيشا وأرسلته لمحاربته ، فسمع ذلك ملك أتريب فعلم أنه لا طاقة له عليها ، لما بلغت من اتساع مملكتها وكثرة جيشها ، ومع ذلك سحرها ، وكهانتها ، ومكيدتها ، وكثرة حيلها ، فأرسل قائدا يريد الصلح معها ، والسمع والطاعة لها ، وأرغبها بالمال والتحف والهدايا ، وخطبها ، فلما وصل إليها ذلك كله قبلته ، ثم قيل لها : إنه يريد منك أن تنعمي له بالزواج ، فإن رضيتيه فهو عبد ، وإن أبيتيه فهو ردّ ، فعمدت إلى طيب الطعام والشراب فمدت الموائد ، ونصبت الأخوان وهيأت فيه من سائر الألوان ، ودعت الناس أجمعين من أرباب مملكتها الخاص منهم والعام ، فأكلوا وشربوا ، ثم بذلت لهم الأموال ، ووهبت وأوسعت ، وأتحفت كل قوم ما يليق بهم فدعوا لها بدوام عزها وملكها.

ثم أنها عرّفتهم بأمر انداخس ، فقالوا : يلزم من هذا أنه يتولى أمرنا ، وتكوني من تحت أمره ورأيه يعلو على رأيك ، ولكن بقي رأي الملكة فيما تراه ، فمنهم من رأى بالتزويج ، ومنهم من لم ير لهذه العلة.

ثم أنها جهزت جيشا كثيرا وعسكرا عديدا ، وأمرتهم بمحاربة انداخس وسبي من خالفها وخرج من تحت طاعتها.

فخرجوا في جيش كثيف ، فوجدوا ملك أتريب قد خرج إليهم في عسكر عديد فهزموه وقتلوا كثيرا من أصحابه ، فانهزم عنهم طالبا ناحية الشام. وكان بها الكنعانيون ولد عمليق ، فاجتمع انداخس بمملكتهم واستغات ، وأخبروه بخبره مع عسكر حوريا ، ثم أنه جعل يرغبه في ملك مصر ويحرضه على أخذها وضمن له فتحها ، فانصاع له طامعا فيما ضمن له.

/ فجهز جيشا عظيما إلى مصر طامعا بها فبلغ حوريا أمرهم وما اجتمعوا عليه بكيدهم ومكرهم فجمعت العساكر والشجعان وأرباب القتال وأصحاب الحيل والحكم والسحرة ، وفتحت دار السلاح ، فأفرغتها للعساكر ، وأعطت لكل ذي فن ما يليق به ، القسي لأصحاب النشاب ، والعيدان والرماح للأبطال ، وأرضت الجميع بالخوذ والدروع

٧٢

والزرد والدرق والكفوف ، وما هو معد للقتال ، واستشارتهم فردوا الأمر إليها ، ففتحت خزائنها وأثارت ذخائرها ، وقالت : خذوا ما تحتاجون إليه من الأموال ، فكل ما ترونه في تصرفكم ، وجميع ما احتجتموه منه دونكم. فازدادوا في محبتها وأذعنوا لطاعتها ، ثم أنهم ركبوا خيولهم ، واستعدوا لقتال عدوهم ، ثم بلغها أن أنداخس وجيشه وتوابعهم وملك الشام وعسكره قائمين ، وقد قاربوا الدخول إليهم ، وكان قائدهم واحد من عظمائهم اسمه : جيرون.

فاستدركت فرطها وأفكرت في حيلة تأخذهم بها ظئيرا لها من عقلاء النساء ، فقالت : اذهبي إلى جيرون ، فتلطفي في خطابك له ، وتأدبي معه ، فإن الملوك لا يخاطبون إلا بالأدب ، أو يسرع إلى المخاطب العطب ، فقولي : إنني قد سمعت بمعرفته وشجاعته وكرمه ، وإنني قد رغبت في تزوجه ، فإن فعل سلمت له الملك ، وإن لم يرض بنا فالبيداء تجمعنا.

فاجتمعت بالقائد ، ففرح فرحا عظيما وقال : أخبريها أنني تحت أمرها ، ومهما اختارته فهو كائن لها ، وعلى حسب اختيارها. فأرسلت له سمّا فدسته في طعام فأكله انداخس ، فمات من وقته ، وأرسل جيرون لها بخبره وإنجاز ما وعدته به.

فقالت : إنه لا ينبغي لي ذلك في بادىء أمرك لكن حتى تظهر أنت قوتك وشجاعتك وكرمك وطاعتك وحكمتك ، وتبني لنا مدينة تكون سببا لجمعنا ومنعنا لأعدائنا ، وأنني لا أريد زواجك حتى تظهر لي قوتك وإعجازك. وكان افتخارهم في ذلك الزمان بكثرة / البنيان وعمل التماثيل ونصب الأعلام.

فقال : ولها ذلك.

فأرسلت تأمره أن ينتقل هو ومن معه من العساكر والجيوش وأتباعهم إلى غربي مصر فامتثل لقولها ، وعمل بمقتضى رأيها ، وبنى لها مدينة في صحراء الغرب وسماها : قندومة ، وأجرى لها نهرا من النيل كبيرا وغرس حولها شجرا كثيرا ، وأقام فيها منارا عاليا ، وعمل فوقه منظرا ظريفا ومجلسا لطيفا وصفحه بالذهب والفضة ، وفرش أرضه بالزجاج المسبوك ، والرخام الملون ، وأبدع في عمله ومع ذلك كانت ترسل فتمدّه بالأموال وتوسع عليه لأجل العمال.

فلما فرغ من بنائها أرسلت تخبره أن لها مدينة قد خربت أكثرها على أن تجدد ما دثر فيها ، وأن يشيد حصونها ، فإذا أتم صلاحها ، أرسل عرّفني حتى أنتقل إلى مدينتك التي أنشأتها ، واقسم جيشك أثلاثا وأنفذهم طائفة بعد طائفة.

وكان قد أخذ بناء الإسكندرية الثانية وقد نفذ جميع ما معه من المال قبل إتمامها

٧٣

فسمعت حوريا فأرسلت له مائة ألف فاعل فأقاموا مدة يبنون أنهارا فتخرج أشكال من البحر في الليل فيهدمون ذلك فلا يصبح له أثر ، فأعياه ذلك ، وحير في أمره. وكانت حوريا أرسلت له ألف رأس لبون يأكل منها هو والفعلاء والصناع والمهندسين فسلمها لمن يرعاها. فكان يطوف بها من ناحيته من ذلك البحر فيطلع له في الليل جارية حسناء ، فيراودها الراعي فتقول له : إن صرعتك فلي من أغنامك شاتين ، وإن صرعتني فدونك والذي تريد ، فقعدت عدة ليالي تطلع له وتصرعه ، فتأخذ منها هكذا حتى راحت على أكثر من نصفها ، فمر به جيرون يوما وسأله عن غنمه ، وما جمع من أصوافها وألبانها ، فأخبره بما جرى له مع الجارية.

فقال : ومتى يكون خروجها إليك؟

قال : أول الليل.

قال : أعطني ما عليك من اللباس. فلبسه وجلس (١) ، فلما / خرجت قال لها ما قال.

فقالت : صارعني ، فصرعها ، فقالت : إن كان ولا بد ، فصاحبي الأول أحق ، فردها إليه ، وقال له : سلها عن أمر هذا البنيان ، وهل في ثباته من حيلة ، فلما قال لها ، دلتهم على أشياء فعلوها ، فامتنعت الأشكال وتم له البنيان. ثم أن جيرون قال للراعي : قل للجارية إن المال جميعه نفذ ، وانظر ماذا تجيبك؟ فأخبرها ، فقالت : إن المدينة التي خربت فيها ملعب مستدير حوله سبعة أعمدة على رأسها تماثيل من صفر قيام يقرب كل تمثال منها ثورا سمينا ، ويلطخ العمود الذي تحته بدم الثور ، ويبخره بشعرات ذنبه وشيء من نحاسة قرونه ، وأظلافه ، ويقول له : هذا قربانك على أن تطلق لي ما عندك ، فإذا فعلت ذلك فقس من كل عمود إلى الجهة التي هي تجاه التمثال مائة ذراع ثم احفر ، ويكون ذلك في امتلاء القمر ، واستقامة زحل ، فإنك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة ، فالطخها بمرارة الثور فتنفتح ، فتنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا ، في آخره خزانة مقفلة ومفتاح تحت عتبة الباب ، فخذه ، والطخ الباب بما بقي معك من مرارة الثور ودمه ، ويبخر بنحاسة قرونه وأظلافه وشعره ، وادخل الباب بعد أن تخرج الرياح التي فيه ، فتستقبل صنما في عنقه لوح من صخر معلق مزبور (٢) فيه جميع ما في الخزانة من مال وجوهر وأعجوبة وتمثال ، فاحمل منه ما شئت ، وهناك ميت ، فلا يتعرض له ولا لما عليه ، وهكذا تفعل بكل عمود وتمثاله ، فإنك تجد مثل ذلك ، وهذه نواويس سبع ملوك وكنوزها.

__________________

(١) في المخطوط : جالس ، وهو تحريف.

(٢) أي : مكتوب.

٧٤

ففعل كما قالت ، فنقل منها مالا كثيرا ووجد في ذلك المكان درع من زرود ، وهو من ذهب مختوم بطين من ذهب فيه مكحلة من زبرجد ، فيه زرور أخضر وميلها عرق من جوهر أحمر من اكتحل / من ذلك الزرور ، وكان أشيبا عاد شعره أسود يصير ناظرا لأصناف الروحانيين. ووجد تمثال نمس من ذهب إذا ظهر تغيرت السماء وأمطرت.

ووجد تمثال غراب من حجر من استخبره عن شيء صوت وأجابه. فضم ذلك جميعه إليه واستغنى غناء كثيرا. فبلغ حوريا أمره ، فشق عليها ذلك وكادها وما كان غرضها إلا أن تبعده وهلاكه ونفاذ ما معه.

وعند جيرون أنها على ظاهر كلامها أولا من أمر تزويجها إياه وجلوسه على سرير مملكتها ، وقالوا في المثل السائر : «قلب الأسد مأمون وقلب الآدمي مسمون» (١). ثم أن جيرون أرسل يعلمها بإتمام البناء ، وتمهيد البلاد لتجهز للمسير إليه من غير تأخير ولا مهلة ، بل تسرع في النقلة. فلما وصل إليها الخبر أخذت منه الحذر ، ثم أنها قالت : لا تؤخذ القلاع إلا بالحيل ، ولا تخدع الملوك إلا بالتحف. فعمدت إلى أفخر ما عندها من الفرش ، وقالت لرسولها : قل له يجعل هذا في المجلس الذي يجلس عليه ثم يقسم الجيش أثلاثا ، وينفذ إليّ ثلثا بعد ثلث ، فإذا بلغ ثلث الطريق انفذ إليّ الثلث الآخر ، هكذا إلى أن أصل إليك ، والجيش يقدمني ، ويخلفني ، فيكون ذلك حفظا لي ، فخرة لك ، فإذا وصلت إليك ، فلا تدع عندك أحدا في المجلس غير صبية للخدمة فإني موافية بجوار يكفينك الخدمة ولا أحتشمهن إذا خلوت معك. وحملت جهازا كثيرا يليق بالملوك مع أموال كثيرة وركبت في جيشها ، فلما علم بمسيرها أرسل الثلث الأول ، فلما رأتهم أشارت إلى جواريها ، استنزلتهم ثم ميدت طعاما وسمّته ، فأكلوا ، فلم يصبح منهم متحرك ، وهكذا فعلت ببقية الجيش.

فدخلت إليه هي والساحرة التي أرسلتها له لما قدم مصر ، فسألها عن العسكر ، قالت : وكلتهم بحفظ ملكي ، وغمزت الساحرة فنفخت في وجهه نفخة أبهتته /. ثم رشت عليه شيئا معها ارتعدت منه مفاصله ثم أنها خلصت رأسه وأرسلت بها إلى قصرها ، وشربت من دمه ، وقالت : دماء الملوك شفاء ، ونصبتها ، وحملت جميع تلك الأموال إلى منف ، وأقامت منارا بمدينة بالإسكندرية ، وزبرت عليها اسمها واسمه وما عملت معه ، وأرّخته ووصل خبرها الملوك الذين يتاخمون بلدها ، فعند ذلك أهابوها وأذعنوا لها ، وقدموا لها التحف والهدايا الثمينة ، وعملت بمصر عجائب كثيرة ، وبنت على حدّ مصر من ناحية بلاد النوبة حصنا عظيما ، وقنطرة يجري من تحتها ماء النيل ، فلما اعتلّت أوصت ووهبت وأعطت وقلدت ابنة عمها.

__________________

(١) راجع : موسوعة الأمثال العربية والعامية ، من تأليفي.

٧٥

دليفة بنت مامور

وكانت عذراء من عقلاء النساء وكبرائهن فسلمت إليها مفاتيح خزائنها وكنزها وأطلعتها على جميع ذخائرها ، وأوصتها أن تضمد جسدها بالكافور ، وتحمله إلى المدينة التي بنيت لها في صحراء الغرب ، وكانت قد عملت لها فيها ناووسا مرخما ، وعملت فيه عجائب كثيرة ، ونقلت إليه أصنام الكواكب ، وزينته ، وأسكنت المدينة كثيرا من الكهنة ، وأهل الفنون ، فلم تزل حتى أخربها بخت نصّر.

وأما دليفة : فإنها جلست على سرير مملكتها وأحسنت إلى الناس ووضعت عنهم خراج السنة فأحبوها ، وتيامنوا بها واجتمعت الكلمة.

وكان ملك أتريب خلف ابن أخته واسمه : أيمين ، فلما سمع بأمر دليفة ، غار على ملك خاله ، وأخذ في أخذ ثأره ، فجمع جيشا كثيرا. وجهزت دليفة عسكرا كثيفا ، وكانت السحرة تظهر بينهم التحاييل الهائلة والعجائب البينة والأصوات المرجفة.

فتلاقوا ، وأقاموا مدة والحروب ثائرة بينهم ، وهلك منهم خلق كثير ، وكان ذلك بالعريش ، فانهزم أصحاب دليفة إلى منف فتبعها أصحاب أيمين ، وقصوا آثارها ، فنزلت ببلاد الصعيد بالأشمونين في جمع كثير من جيوشها / وأنفذت جيشا لجيش أيمين ، فالتقوا بناحية الفيوم ، واستنجدت دليفة بأهل مدائن الصعيد ، فأطاعوا ، فخرجوا على أيمين ، وحاربوه حتى أنزلوهم على منف ، وهزموهم حتى ركبوا المراكب وعدوا البحر إلى ناحية الخوف. فلما تمادى بهم الأمر اصطلحوا على أن يقسموا البلاد بينهما فكل منهما أجاب إلى ذلك. ثم أن دليفة غدرت فعمدت إلى ما عندها من الخزائن والذخائر والأموال ففرقتها على الجيش وأثاروا الحرب بينهم ثانيا ، فأقاموا على ذلك ثلاثة أشهر فظهر أيمين عليها فزحفت عنهم إلى ناحية قوص فسار خلفها فضاق عليها أمرها فأسمّت نفسها فماتت لوقتها.

وملك ايمين :

فلما استقر به الأمر طغى وتجبّر ، وتفلّت على الناس ، وقهر واستولى على كثير ممن حاربه فقتلهم ، وسلب نعمتهم. وكان أمر مصر رفع إلى الوليد ، وقالوا : قد آل حكمها وملكها للنساء ، فوجه إليها غلاما له اسمه عون ، وجيش معه جيش كثير يكشف خبر مصر ، فدخل إليها وقطن بها واحتوى على شيء من أموالها وفتك بها وظلم فكان على ذلك برهة من الزمان ، فاستبطأه الوليد وقال : لعله هلك ، فإنه بلغني أن مصر كثيرة الطلسمات والسحرة والمهالك ، ثم اتصل خبره أنه مقيم بها ، وأنه فعل كذا وفعل كذا ، وذكروا عنه أشياء كثيرة ارتكبها ، فتجهز للمسير إليه ، فسمع عون بمسيره إليه ، وكان

٧٦

يخافه خوفا شديدا ، فخرج إليه فلاقاه فأراد أن يسطو به ، فحلف له أنه كان على المسير إليه ، وإنما أراد تمهيد البلاد وإصلاحها ، وتوطئة أهلها وأخذ أموالها وكان :

الوليد :

رجلا جبارا عنيدا مفتريا فقتل منها جماعة من سحرتها وكهنتها ، ثم خطر له أن يسير منها مغربا حتى يقف على مصب النيل ويجروا بناحية ، فأقام ثلاث سنين يستعد لخروجه حتى هيىء كل ما يحتاج إليه من عدة وسلاح وغيره من زاد مبلغ ومتاع.

/ فخرج في جيش كثيف وما يتبعهم من أتباع ، ومتفرجين ، وغلمان ، واستخلف عونا مكانه ، فتبعه من تبعه وما تخلف عنه إلا قليل ، وسار سيرا مجدا ، فجعل لا يمر بأمة إلا أبادها وأخذ أموالها ، فأقام في سفره عدة سنين ، وجاز على أمم من السودان ، ومرّ على أرض الذهب وهي آخر بلاد علوة ينبت فيها الذهب قضبانا ، حتى وصل إلى البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل من أنهار تجري وتخرج من تحت جبل القمر ، ثم سار حتى بلغ هيكل الشمس فدخله ، وخوطب فيه ، ثم سار حتى بلغ جبل القمر ، وهو جبل شاهق زائد العلو ، وهو خارج عن خط الاستواء لا يطلع عليه شمس ولا قمر ، فتأمل الجبل فرأى ماء النيل يخرج من تحته ويمر في طرائق كالأنهار الدقاق ، فينتهي حظيرتين ، ثم يخرج منها إلى نهرين ، ثم ينتهي إلى نهر آخر ، ثم يجوز خط الاستواء. وذكر قوم أن نهر مهرام مثل النيل يزيد وينقص فيه تماسيح وأسماك مثل أسماك النيل ، وهو يخرج من تحت جبل القمر.

وحكي عن الوليد :

أنه وصل القصر الذي فيه تماثيل النحاس التي عملها هرمس الأول في وقته يورد شير الأول بن قفطين بن مصريم بن حام بن نوح عليه‌السلام ، وهي خمس وثمانون صورة جعلها جامعة لماء يخرج من ماء النيل بمعاقد ومصاب مدبرة وقنوات يجري الماء فيها ، وينصب إليها إذا خرج من تحت جبل القمر حتى يدخل تلك الصورة فيخرج من هذه الصورة ينصب إلى الأنهار التي ذكرناها ، ثم تصير منها إلى البطيحتين ، ثم ينتهي إلى البطيحتين الجامعة للماء الذي يخرج من تحت جبل القمر ، وجعل لتلك الصور مقادير من الماء الذي يكون لصلاح البلد التي تمر بها فينتفع به أهلها دون الفساد ، وذلك الانتهاء المصلح ، ثمانية عشر ذراعا بالذراع الذي مقداره اثنتان وثلاثون / إصبعا ، فما زاد عن هذا المقدار عدل عن يمين تلك الصور ويصار إلى مشارب تخرج عن يمين القصر ويساره ، وتصب في رمال وغياض من خلف خط الاستواء. فلا ينتفع بها ، ولو لا هكذا لغرّق الماء البلدان التي يمر عليها ، فسبحان مقدر الأشياء ومدبرها لا إله إلا هو.

٧٧

وقد ذكر قوم من أهل الأثر :

أن الأنهار الأربعة تخرج من أصل واحد من قبة في أرض الذهب التي من وراء البحر المظلم : سيحون ، وجيحون ، والفرات ونيل مصر.

قيل : تلك القبة من زبرجد ، وأرض الذهب من أرض الجنة ، وأن الماء من قبل أن يسلك البحر المظلم أحلى من العسل ، وأزكى رائحة من رائحة الكافور.

والوليد لما رأى جبل القمر وعلوه أحب أن يصعد إليه فصعده في جمع من قومه ، فلما بلغ منتهاه أشرف منه على البحر الزفتي ، وهو بحر منتن الرائحة قبيح المنظر ، ورأى النيل يجري فوقه كالخيوط ، فأصابه من ذلك البحر رائحة خبيثة أهلكت كثيرا من قومه ، فأسرع ومن معه النزول ، ولم ير شمسا ولا قمرا ، وإنما هو نور أحمر كنور الشمس عند مغيبها.

ويقال (١) : أن رجلا من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم اسمه : حائر قطع البحر المظلم ماشيا عليه لا يلتصق بقدميه منه شيء ، وكان فيما ذكر عنه نبيا قد أوتي حكمة ، وقد سأل الله تعالى أن يريه منتهى النيل ، فأجاب له وأعطاه قوة على ذلك ، فقيل أنه أقام يمشي عليه ثلاثين سنة في عمران ، وعشرين سنة في خراب.

وقيل : أن الوليد أقام في غيبته أربعين سنة وأنه لما رجع من مسيره أتى مصر سبع سنين تجبر عون وطغى ، وادعى أنه ملك مصر ، ولم يذكر أنه غلام للوليد ولا اعترف بذلك ، وإنما هو أخوه وقد قلده المملكة عند مسيره ، فجمع الناس وأعطاهم وأجازهم وبذل لهم ووالاهم فأحبوه ، ودعوا له ، ثم بعد مدة يسيرة (٢) عندما تم له الأمر عمد / إلى نساء سائر الملوك ولأولادهم فاستباحهم وغصب الناس أموالهم وقتل منهم خلقا كثيرا.

وكان مع ذلك يكرم الكهنة فلا يفارقهم إلا أوقات ضروراتهم. ثم أن عون رأى في منامه الوليد وهو يزجره ويقول من أمرك أن تتسمى باسم الملوك وتحكم من غير حكم ، وتتعرض لنساء الملوك وأولادهم وقتل النساء ، وأخذ أموالهم ، أما علمت أنه من فعل ذلك بغير حق وجب عليه القتل. ثم أنه استحضر قدورا من نحاس فملئت زيتا وأحمى عليها على أن يغمس عونا فيها ، فجاء طائر في صورة عقاب اختطف عونا وعلا به في الجو وجعله في كوة على رأس جبل ، ثم سقط إلى واد فيه جيفة منتنة فانتبه مرعوبا.

وكان إذا ذكر له الوليد يرعد (٣) من شدة خوفه منه ومن فظاظته وشدة بطشه ، فازداد برؤيته

__________________

(١) في المخطوط : ويقول ، وهو تحريف.

(٢) تكررت هذه الكلمة في المخطوط ، فحذفت التكرار.

(٣) في المخطوط : يرشد ، وهو تحريف.

٧٨

هذا المنام خوفا وفزعا. ولما أن طالت غيبة الوليد ظن أنه بهت ، فلما رأى المنام أيقن بحياته فعزم على أن يجمع مالا ويخرج من مصر ، ثم أنه استشار السحرة والكهنة ، فقالوا : نحن نمنعه منك على أن تسمع منا.

قالوا : تعمل صورة عقاب فتتعبد له ، فقد رأيت في منامك منه ما رأيت ، على أن تفعل ذلك. قال عون : ولقد قال لي حين حملني : احفظ هذا ولا تنسه.

فعمل تمثال عقاب من ذهب وعيناه جوهرتان ووشحه بأصناف الفصوص ، وعمل له هيكلا عظيما لطيفا وعلقه في صدر ذلك الهيكل وأرخى عليه ستائر (١) الحرير ، وبخره وقربه له حتى صوت ، وتعبد له عون ودعا الناس لذلك ، ثم بنى له مدينة عجيبة فعند بنائها لم يدع فاعلا ولا صانعا ولا مهندسا ممن له خبرة بالبناء ، ونحت إلا وأرسله للعمل به.

المدينة التي بناها عون في صحراء الغرب :

لما فرغ من تصوير التمثال أمره شيطانه أن يبني له مدينة فتكون حرزا ، فأمر عون بجمع كل ساحر وصانع ، فلما اجتمعوا أمر أصحابه أن يبنى / له مدينة في صحراء الغرب ، فاختاروا له أرضا سهلة حسنة الاستواء ، ويكون المدخل إليها من بين هجول صعبة ، وجبال وعرة ، وقريبة من مغيض الماء التي هي اليوم الفيّوم فإنها كانت مغيضا لمياه النيل حتى أصلحها نبي الله يوسف عليه‌السلام ، وإنما أراد عون بذلك أن لا يجري الماء إلى المدينة منها على الصنعة التي أرادها ، فعند ذلك لم يدع بمصر صانعا ولا فاعلا ولا مهندسا ولا من له خبرة بنحت الصخور وتأليفها وبناء القصور وتشييدها إلا وجه به إليهم ، وأنفذ منهم من جيشه ألف رجل وسبعمائة ساحر يعاونوهم بالروحانيين الذين هم في طاعتهم ، وحمل لهم على العجل زادا يكفيهم شهورا حتى تم لهم البناء ، وهي اليوم واضحة في صحراء الغرب يقصدها الطالبية مشهورة بطريق العجل.

فلما فرغوا من إحكام البناء خط المدينة فرسخين في مثلها وحفروا في الوسط بئرا جعلوا فيه صورة خنزير نحاس جمع من أخلاط مديرة ونصب (٢) على قاعدة نحاس وجعلوا وجهه إلى الشرق ، وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وشرفه ، وذبحوا له خنزيرا ، ولطخوا وجهه بدمه ، وبخروه بشيء من شعره ، وأخذوا من شعره وعظمه ولحمه ودمه ومرارته فجمعوه وجعلوه في جوف ذلك الخنزير النحاس وجعلوا في أذنيه شيئا من مرارته ، وأحرقوا بقيته ، وجعلوا رماده في قلّة من نحاس تجاه ذلك الخنزير ، ونقشوا عليه

__________________

(١) في المخطوط : سائر ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : ونصبوا ، وهو تحريف.

٧٩

آيات زحل ، ثم شقوا في الأرض اخدودا من الجهات الأربع ومدوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة ، وعملوا على أفواهها مسالب تجتلب الرياح إليها ، ثم سدوا البئر وعملوا عليها قبة مرتفعة على عمد تشرف على حيطان تلك المدينة ، وجعلوا منها شوارع منها بباب من أبواب المدينة ، وفصلوا الطرقات والمنازل وجعلوا حول القبة / تماثيل كالبنيان ، وكالفرسان ، صنعوها من نحاس وبيدها حراب ، ووجهوها مقابل تلك الأبواب.

وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود ، وفوقه أحمر ، وفوقه أصفر ، وفوقه أخضر ، وفوق الكل أخضر وأبيض يشف شبيه بالرصاص المصبوب بين الحجارة وقلوبها أعمدة من حديد مثل بناء الأهرام ، وجعل له حصنا طوله ستون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا وسورا محكما ، ونصب على كل باب من أبوابها في أعالي سورها تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط ، مجوف ناشر الجناحين ، وجعلوا على كل ركن من أركان ذلك الحصن صورة فارس بيده حربة وجهه خارج المدينة. ثم ساق إلى ناحية الباب الشرقي ماء ينحدر في سبب إلى الباب الغربي ويخرج منه إلى صهاريج هناك ، وكذلك من الجنوبي إلى الشمالي (١).

وأخذوا من ذكور العقبان فذبحوها وقربوها للتماثيل ، ولطخوها بدمها ، واجتلب الرياح إلى أفواه التماثيل بحكمة كهانتها ، وكانت إذا دخلتها سمع لها أصواتا شديدة مزعجة وضمدها بعقاقير وحولها بعفاريت تمنع الداخل إليها إلا أن يكون من أهلها.

ونصب العقاب الذي كان يتعبد له تحت القبة وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان ، وصور ، في كل ركن منها صورة شيطان ، وجعلها على عمد تديرها. فكان العقاب يدور إلى كل جهة من الجهات الأربع يقيم في كل جهة ثلاثة أشهر. فلما انتهى بناؤها وتم إحكامها حمل إليها جميع الذخائر والخزائن بما فيها من الأموال والفصوص الثمينة والجواهر المخزونة بمصر ، وكل ما في خزائن الملوك من التماثيل والحكمة وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك. وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة والتجار والصّناع ، وقسم تلك المساكن بينهم ، وجعل أهل كل فن على حدتها لا يختلطون بغيرها.

/ وجعل لها ربضا يحيط بها ، وبنى فيها مساكن لأهل المهن والزراعة ، وعقد على الأنهار التي استحكمها تجر الماء إلى المدينة قناطر يمشى عليها إلى داخل تلك المدينة وجعل الماء يدور حول الربض ، ونصب عليها أعلاما ، وأقام بها حرسا ، وغرس وراء ذلك مما يتصل بقفارها النخيل والكروم ، وأصناف الشجر على أقسام مقسومة ، ومن وراء

__________________

(١) في المخطوط : الشمال ، وهو تحريف.

٨٠