مختصر عجائب الدنيا

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه

مختصر عجائب الدنيا

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه


المحقق: سيّد كسروي حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

قالوا : ينقطع نيلها ، ويجلو عنها أهلها.

فعند ذلك أمر أن يزبر (١) جميع ذلك على الأهرام والأفرويات ، وأن يكون لكل هرم روحانيا.

أما روحاني الهرم الغربي :

فهو في صورة امرأة عريانة حسنا مكشوفة الفرج ، لها ذؤابتان ، فإذا رآها إنسان ضحكت له واجتلبته بإيمائها ، ودعته إلى نفسها ، فإذا دنا منها استهوته فيختل عقله ويهيم على وجهه.

وقد أخبر جماعة أنهم رؤوا هذه الروحانية تدور حول الهرم وقت القائلة ، وعند غروب الشمس.

وروحاني الهرم الملون :

شيخ نوبي عليه برطلة وبيده مجمرة من مجامر الكنائس ، وكأنه يبخر ، وكذا في جميع الأفروثنات.

وأما بربا أخميم :

فمعروف عندها أن روحانيتهم غلام أسود عريان.

وبربا سمنون :

روحانيها في صورة شيخ طويل أشيب صغير اللحية.

وبربا قفط :

روحانيها جارية سوداء حاملة صبيا صغيرا أسود.

وبربا درندرة :

روحانيها في صورة إنسان رأسه رأس أسد وله / قرنان.

وبوصير :

روحانيها في صورة شيخ أبيض في زي راهب حامل مصحفا.

وعدي :

روحانيها في صورة داع مخلل بكساء وبيده عصا.

__________________

(١) فوقها في المخطوط علامة التصحيح وبالهامش صححت الكلمة بكلمة (يزيل) بغير خط الناسخ وما في المتن هو الصواب ، ومعناه : يكتب على الحجر.

٤١

وأما أهرام دهشور (١) :

فلها روحانيون يراهم الناس من قرب على طول الأيام ، ولهذا قرابين وأبخورات تظهر وتؤلف بين الناس وبين روحانيتها.

ثم أن سورند الملك تملك على قومه مائة وسبع سنين ودفن في الهرم الذي أعده لنفسه بعد أن طلي بالكافور ، وجعلوا عنده ما أعده من المال ، وفاخر الثياب ، والسلاح ، وغير ذلك ، فلما تولى ابنه هرجيب بعده بنى الهرم الأول من أهرام دهشور ، وأودع فيه من الكنوز ، والجواهر ، واللباس الفاخر الشيء الكثير.

تمّ الجزء الأول

__________________

(١) في المخطوط : هشور ، بدون الدال في أوله ، ويأتي على صواب بعد قليل.

٤٢

الجزء الثاني من عجائب الدنيا

نذكر فيه خلق آدم عليه‌السلام ، وحواء ، وذريتهما ، ثم نبي الله تعالى نوح عليه‌السلام وذريته ، وقسمة الأراضي ، وحديث السفينة ، والطوفان ، والبلبلة واليمامة ، وكهنة مصر ، شق ، وسطيح ، وغيرهما ، وذكر يأجوج ومأجوج وغير ذلك إن شاء الله تعالى.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ذكر خلق آدم عليه‌السلام وحواء وذريتهما

قال صاحب التاريخ :

أجمع أهل الأثر أن آدم عليه‌السلام خلق يوم الجمعة لست خلون من نيسان ، وكساه الله تعالى لباسا من ظفره وأسجد له الملائكة ، فلما تأخر إبليس لعنه الله وطرده وأخرجه من الجنة ، وسمي إبليس ، لأن الله تعالى أبلسه.

وخلق الله تعالى من آدم حواء ، وألبسها لباسه ، وأسكنها جنته لثلاث ساعات مضت من ذلك اليوم ، وأباح الله لهما جميع ما في الجنة إلا الشجرة.

قال أكثر أهل الأثر :

إنها البرّ ، وكانت الحبّة منه قدر الأترجة.

وألفت الحية آدم وحواء عليهما‌السلام ، وكانت من أحسن دواب الجنة ، كاسية ذات قوائم ، وكان إبليس خارج الجنة ، فلحقه من ذلك ـ أي بذلك الحسد ـ فأراد أن يحسن لهما / أكل الشجرة ، فاحتال على دخول الجنة بالحية فأدخلته ، فوسوس لهما ، فأكلت وأطعمت آدم فانكشط لباسهما إلى أطراف أصابعهما ، وهرب آدم في الجنة ، وتعلقت شجرة الأترج برأسه فقال الله تعالى : هذه الشجرة غذاء لكما ولذريتكما إلى يوم القيامة ، فاهبطا منها جميعا : آدم ، وحواء ، والحية ، وإبليس (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦].

وكانت إقامتهما في الجنة ثلاث ساعات ، وهو ربع يوم مائتان وخمسون سنة من سنين الدنيا ، فأهبط آدم عليه‌السلام على جبل سرانديب بالهند ، وكان عليه الورق المخصوف من الجنة فتحاتّ بالرياح فنبت منه بالهند أنواع الطيب والأفاويه التي لا توجد

٤٣

إلا هناك ، وفيه العود ، ودواب المسك وحوله أصناف الياقوت ، والماس ، وفي بحره مغائص اللؤلؤ. وسمى الله تعالى آدم : عليه‌السلام : عبد الله ، وكناه بأبي محمد ، وكان طويلا جعد الشعر أحسن من خلق ، فلما خرج من حسنه ولونه وطوله ، وكان يتكلم بالعربية ، فتحولت لغته إلى السريانية ، فلما تاب الله تعالى عليه رجع ذلك كله إليه.

وأهطبت حواء عليها‌السلام بجدّة ، وبيدها من جوهر الجنة ، فتناثرت من يدها ، فجميع الجواهر منها ونقص من لونها وحسنها.

وأهبط إبليس بنيسان ، والحية بأصبهان ، وقد جدّت قوائمها ، وذهب حسنها ونطقها. وكان مع آدم عليه‌السلام حين أهبط كفّا من البر ، وعصا من العوسج ، وقيل من آس الجنة ، وهي التي صارت إلى موسى عليه‌السلام ، وأنزل معه ثلاثين قضيبا من ثمر الجنة ، جعلها إكليلا على رأسه ، وأول شيء أكله في الأرض الكمثرى وبعد مائة سنة من هبوطه أتاه جبريل عليه‌السلام ليقنت بكلمات التوبة ، وهي :

«سبحانك لا إله إلا أنت ، عملت سوء وظلمت نفسي ، فاغفر لي وأنت خير الغافرين». وعلّم آدم عليه‌السلام استخراج الحديد وسبكه وعمل ... (١) والمطرقة والمسدبة ، وآلة الحرب ، والزراعة ، وألهم ما أحل له ولذريته من دواب / البحر ، وما حرم عليهم.

وأمره تعالى بالمسير إلى مكة فمشى إليها ، وكان موضع قدميه عمرانا وما بينهما ، مفاوز ، ولما دخل آدم عليه‌السلام جدّة ، وجد حواء تبكي ، فقال لها : هذا عملك.

وأمر بطواف الكعبة فتلقته الملائكة بالأبطح ، وقالوا : حيّاك الله يا آدم ، لقد طفنا هذا البيت قبلك بألفي عام ، ولسنا بأول من حجه ، وعلمه جبريل عليه‌السلام المناسك.

ونزلت عليه إحدى وعشرين صحيفة ، وفرض عليه الصلاة والزكاة والغسل من الجنابة والوضوء للصلاة ، وفرض عليه الصوم.

وأمره الله تعالى بالزرع فزرع وحصد وطحن وخبز وأكل ، وقيل : هذا دأبك أنت وذريتك.

قال : رب ما بلغت هذا إلا بمشقة.

قال : هذا بخطيئتك.

وعقوبة الحيّة بقص جناحيها وحسم يديها ورجليها حتى مشت على بطنها وشق لسانها ، وخوّفها من الناس ، وعداوتهم لها ، والتراب طعامها ، وخروج لسانها عند قتلها.

__________________

(١) موضع النقط كلمة لم أتبين قراءتها هذا رسمها : (الغ اوة).

٤٤

وجمع الله تعالى بين آدم وحواء عليهما‌السلام بجمع ، وتعارفا بعرفات.

أول أولاد آدم عليه‌السلام ونسلهم هكذا إلى حين وفاته :

أول ما حملت حواء عليها‌السلام بقابيل ، وتوأمته أقليما ، وكانت تلد كل بطن توأما ، ثم ولدت هابيل وتوأمته ليودا ، فكان يشغل قابيل الحرث ، وهابيل رعي (١) الغنم ، فأراد هابيل أن يتزوج بأخت قابيل ، وقابيل بأخت هابيل ، وكانت أخت قابيل أجمل وأحسن من أخت (٢) قابيل ، وقال : أنا أحق منه بها ، فأمرهما (٣) آدم عليه‌السلام أن يقربا قربانا فمن قبل منه قربانه فهو أحق ، فعمد هابيل إلى أحسن غنمه وأسمنها فقربها ، وعمد قابيل إلى أخبث ما في زرعه ليقربه وكان ذلك يوم الجمعة بمنى ، فأقبلت النار وحملت قربان هابيل ، ولم تلتفت لقربان قابيل ، فغضب قابيل ، وهمّ بقتل أخيه ، فلما انصرفا من منى تحير في قتله ، فرأى إبليس ، ومعه طائر قد وضعه وشدخ رأسه بحجر ، فصبر إلى أن أخذ هابيل مضجعه عند غنمه / فأخذ حجرا وطرحه على رأسه فقتله ، وقد أصبح قابيل من النادمين ، وتحير كيف يواري أخيه ، فرأى غرابا يبحث في الأرض فواراه التراب ، وأنزل الله تعالى لآدم عليه‌السلام خيمة من خيام الجنة من ياقوتة حمراء نصبت له موضع الكعبة ، وبعد مائتين وثلاثين سنة من هبوطه ولد له شيث وتوأمته.

وقال أهل التاريخ : إن حواء ولدت مائة وعشرين بطنا.

وأمر آدم بكتب الصحف ، وعلّم دبغ الجلود وعمل المداد ، والكتابة ، وكتب ما أنزل الله تعالى من الصحف ، وعلم جميع الأسماء واللغات وحساب الأزمنة ، ومسير الكواكب ، وسأل الله أن يريه مثال الدنيا وما فيها من خير وشر ، فرأى برّا وبحرا ، فنظر وتأمل ، فعلم من يسكنها ويملكها من ولده وولد ولده مثل ذلك له كله حتى أنه أري صور الأنبياء عليهم‌السلام. ولما كثر ولده وولد ولده أمره الله تعالى أن يأمرهم وينهاهم ، وحين أرسله الله إلى ذريته كان عمره سبعمائة وسبعين سنة ، وأمره الله تعالى أن يسند وصيته عند وفاته لولده شيث عليه‌السلام ، وأن يعلمه جميع العلوم التي علمها.

وكان سبب وفاته عليه‌السلام لما انصرف هو وبنوه من الزراعة ، وكان قد توعك في بدنه حمّ ومرض إحدى وعشرين يوما ، وجعلت الملائكة عليهم‌السلام تخلف إليه ، فتزوره ، وقد اشتهى قطفا من عنب الجنة ، فوجه بعض بنيه لمن لقيه من الملائكة أن يأتيه بقطف من الجنة ، فهو في الطريق إذ لقيه جبريل عليه‌السلام ، فعزاه وقال : ارجع فإن

__________________

(١) في المخطوط : الرعي ، والألف واللام زائدة على الكلمة فحذفتهما ليستقيم السياق.

(٢) في المخطوط : فضربها ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : فأمرها ، وهو تحريف أيضا.

٤٥

أباك قد مات ، وكان عمره في ذلك الوقت تسعمائة وخمسين سنة ، وأتاه جبريل عليه‌السلام بكفن وحنوط من الجنة ، وعلّم ولده شيث كيف يغسله وكيف يحنطه ، وكيف يكفنه ، وقال له : هذه سنّة في موتاكم بعده ، ثم صلت عليه الملائكة في أبي قبيس ، ودفن بغار الكنز ، وكانت وفاته يوم / الجمعة ، ومات وقد بلغ ولده ، وولد ولده أربعون ألفا أهل بيته ، ورفعت خيمته وحزنت عليه حواء حزنا شديدا ، وعاشت بعده سنة ، ودفنت إلى جانبه ، بعد أن صلى عليها شيث عليه‌السلام.

ذكر من استخلف من بنيه بعده :

لما توفي آدم عليه‌السلام أسند وصيته إلى ولده شيث فكان فيه وفي بيته النبوة والدين والعبادة والقيام بحقوق الله تعالى وشرائعه وأنزل الله عليه تسعا وعشرين صحيفة ، وكان مسكنه فوق الجبل ومسكن بني قبيل أسفل الوادي ، وكان عمره تسعمائة وعشر سنين. ودفع وصيته إلى ولده مهليل وفي وقت مهليل بنيت الكعبة ، وكان عمره ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة.

وأوصى لولده بردا بن مهليل وعلمه جميع العلوم ، وأخبره بما يحدث في العالم من كتاب يسرّ الملكوت الذي أنزل على آدم عليه‌السلام ، وولد لبردا خنوخ ، وهو إدريس عليه‌السلام يكون عدو للآله ويكون له شأن عظيم ، وكان المتولي ذلك الوقت مخويل بن غزداء بن قابيل ، ثم أن إبليس جاء إلى مخويل في مملكته وقال له : قد ولد لبرد ولد ـ يعني إدريس ـ عليه‌السلام يكون عدوا للآله ، ويكون لهذا الولد شأن عظيم ، فقال : ألك قدرة على منعه عن آلهتنا؟

قال : سأحرص على ذلك.

وأن إدريس عليه‌السلام قد وكّل الله به ملائكة يحفظونه من كيد الشيطان وجنوده ، فلما ترعرع إدريس عليه‌السلام جعله أبوه خازن الهيكل وعلمه الصحف التي أنزلت على آدم وشيث ، فكان يكثر من درسها ولهذا (١) سمي إدريس ، وكان حريصا على فرائض الله تعالى ونبأه الله تعالى على رأس الأربعين ، ثم أن مخويل أرسل إلى برد ليرسل له ولده ، فامتنع ، فأرسل جيشا في طلبه ، فمنعه منه أعمامه (٢) ، ولم يكن بعد شيث وحي حتى نبأ الله تعالى إدريس عليه‌السلام وكان عمر برد سبعمائة وخمسين سنة ، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة ودفع إليه أبوه وصية (٣) جده / وعلومه.

__________________

(١) في المخطوط : وهذا ، والزيادة لضبط السياق.

(٢) في المخطوط : عمامه ، والزيادة لضبط السياق.

(٣) في المخطوط : وصيته ، وهو تحريف.

٤٦

وأما غرائيل فعلمه الحروف السريانية والنظر في علم الفلك ، فهو أول من كتب بعد شيث وقوّم الكواكب.

وإدريس عليه‌السلام أول من استعبد وسبى بني قابيل ، ووضع المكيال ، والميزان ، وأثار علم النجوم والطب ، وعمل الزيجات ـ وهو حساب غير حساب الهند (١) ـ وسأل الله تعالى فأراه الصور العالية ، وكانت الأرواح تخاطبه ، وعلم أسماء الصعود والهبوط ، ودوار الفلك ووقف على سعود الكواكب ونحوسها ، وعرف ما يأتي من الوقائع فزبر (٢) ذلك على الحجارة.

وله قصص مع ملك الموت عليه‌السلام ، ومات وعاش ورأى الجنة والنار ، ودخل الجنة ، وما خرج منها ، ولما رفع كان عمره ثلاثمائة سنة ، وكان يدعى هرمس باسم عطارد ، وكان له ولد اسمه ضاي علمه كتابه ، وهو الذي أخبر بأمر الطوفان وما يحدث بعده ، ودفع إدريس وصيته لابنه.

متوشلخ :

وأمر أخاه ضاي معاونته ، وكان ضاي قد بلغ مبلغا جليلا من العلم ، وكان إدريس عليه‌السلام أول من أمر بالجهاد في بني قابيل ، فجاهدهم ، وكان عمر متوشلخ تسعمائة واثنين وثلاثين سنة ، وأسند وصيته إلى ابنه.

لمك (٣) بن متوشلخ :

فأخذ الصحف ، وأقبل بني أبيه فوعظهم ومنعهم من التشبه لولد قابيل ، وهو الذي رأى كأن النار خرجت من فيه وأحرقت العالم ، ولما ولد للمك نوح كان لمك في ذلك الوقت درمسيل ابن مخويل ، وكان درمسيل يتجبر وطغى وقهر الملوك وناوأهم ودعاهم الشيطان إلى عبادة الكواكب ودين الصابئة ، فأجابه إلى ذلك ، وبنى الهياكل ، وجعل فيها أصناما وعبدها ، وقد استخرج المعادن والجواهر واللؤلؤ والمرجان ما لا جمعه غيره ، وكان شديدا على طلب نوح عليه‌السلام ، والله تعالى يحفظه منه وللمك ـ هوا نوح (٤) ـ والد نوح عاش ثلاثمائة سنة وكان قد رأى بعد رؤية النار كأنه فوق شجرة في وسط بحر لا عبر له ، فلما ولد له نوح سعت الكهنة / إلى ملكهم مخويل وعرفوه أن العالم يهلك

__________________

(١) ربما كانت : الهندسة ، فتحرفت.

(٢) أي : كتب.

(٣) في المخطوط : لملك ، والتصويب من سبائك الذهب.

(٤) قوله : هوا نوح ـ كذا وردت هذه الجملة وأحسبها زائدة على السياق فجعلتها بين علامتي الجملة الاعتراضية.

٤٧

في زمان هذا المولود ، وأنه سيكون له شأن عظيم ويعمر طويلا ، وقد كانوا رأوا في كتابهم : أنه سيأتي طوفان يغرق الأرض ومن عليها ، فأمر الملك مخويل ببناء المعاقل على رؤوس الجبال لكي يتحصنوا بها ، فعملوا سبع معاقل بعدد الأصنام التي كانت لهم وعلى أسمائها ، وزبروا فيها شيئا من علومهم ، وقيل أن الملك بناها لنفسه خاصة ونبأ الله نوحا عليه‌السلام على رأس الخمسين سنة بعد المائة ، وأرسله إلى قومه وكان نوح عليه‌السلام ، آدمي اللون في رأسه طول ، عظيم العينين ، دقيق الساقين والساعدين كثير لحم (١) الفخذين طويل اللحية ، طويلا ، واسع الصدر جسيما ، وهو أول نبي بعد إدريس ، وهو من أولي العزم من الرسل ، عاش ألف وأربعمائة وثلاثين سنة ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة.

قصة نوح عليه‌السلام مع الملك وبناء السفينة

لما بلغ من العمر مائة وخمسين سنة نبي وأرسل إلى قومه ، وعاش بعد الطوفان مائتي سنة ، وكانت شريعته التوحيد والصلاة والزكاة والحج ، ومجاهدة بني قابيل ، وكان يدعو قومه إلى الله تعالى ، ويذكرهم نعمته ، ويحذرهم نقمته ، وكانوا يخفون عن الملك أمره ، فإذا حضروا إلى هياكل أصنامهم واجتمعوا حضروا قام بينهم ونادى بأعلى صوته : قولوا : لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، ويدخلون رؤوسهم في ثيابهم تبرما بقوله ، وكان إذا ناداهم بلا إله إلا الله خرت الأصنام على وجوهها ويؤلمومه بالضرب ، فربما سقط من شدة الإيلام ، فلما طال عليهم الأمر ، وهم تارة يهددوه وتارة يضربونه ، ولم ينته عنهم رفعوا أمره إلى الملك مخويل ، فحبسه على أن يذبحه ويقربه لآلهتهم يوم عيدهم ، وهمّ أن يفعل بعد أن نادى في الناس أن يجتمعوا / لينظروا ، فدعا عليه فطاش عقله ، وحصل له ضربان وصداع في رأسه واشتغل عنه بنفسه فلازمه ذلك الحال ، ثم هلك في اليوم الثامن ، وكفاه الله مؤنته ، فتولى بعده ، ابنه درمسيل ، فأطلق نوح عليه‌السلام ، وقال : شأنك ونفسك ، ودع آلهتنا ، وزعم أنه مجنون ، فلما كان يوم عيدهم حضر نبي الله على عادته ، ونادى بأعلى صوته : قولوا : لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ، فسبها ، فتساقطت الأصنام ، فقاموا إليه فشجوا رأسه ، وسحبوه ، فاستغاث أهل السماء وأهل الأرض إلى الله تعالى ، فقال الله : كل ذلك بعيني ، وسآخذ له منهم ، فجاء إليه الملك وقال له : ألم أصفح عنك على أن لا تعاود؟ قال : بل أعاود ، فإني عبد مأمور ، فلا يسعني المخالفة.

قال : من أمرك؟ قال : إلهي ، قال : ومن إلهك؟ قال : رب السماوات والأرض وما

__________________

(١) في المخطوط : اللحم ، والألف واللام زيادة على السياق فحذفتهما.

٤٨

بينهما ، قال : وما الذي أمرك؟ قال : أدعوكم إلى عبادته. قال : إن لم نفعل؟ قال : الأمر إليه إن شاء أمهلكم ، وإن شاء أهلككم. قال : فاترك ما أنت فيه ، واعتزل عنا بنفسك ، قال : لا أستطيع ذلك ولا سبيل إليه ، فقام (١) بحبسه ، فسلط الله عليه بعض الجبابرة ، فنازعه وحاربه محاربة كثيرة فشغله ذلك عن أمر نوح عليه‌السلام ، وعرف أن الذي حصل بخطيئته ، فأمر بإطلاقه ، فعند ذلك صالح الذي كان يحاربه ، فزحف عنه ، وعاد درمسيل إلى ملكه. فلما استقر به الحال ، فكر في أمره مع نوح عليه‌السلام ، فأرسل وجوه مملكته إلى ملوك الأرض لجمع الكهان ومناظرته فشخصوا إليه من الآفاق فخرج إليهم ، وناظرهم ، فأظهره الله عليهم ، فآمن به فليمون ، وكان رأس كهان مصر ورائسهم ، وآمن به أهله وأتباعه ، وركب معه السفينة ، وتزوج من أهله وأوحى الله تعالى إليه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] فعند ذلك يئس منهم ، ودعا عليهم ، فانقطع نسلهم ، وقحطوا وجدبوا / وبطلت عمائرهم ، وخربت ديارهم وبلادهم.

بناء السفينة :

ثم أن الله تعالى أوحى إليه : (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [هود : ٣٧] ، وأخبره جبريل عليه‌السلام أن يبنيه على مثال صدر الدجاج ، فجمع احتياجاتها وأقام في عمارتها عشر سنين ، وجعلها من ساج ، وعمل طولها ثلاث مائة ذراع وارتفاعها من الأرض خمسين ذراعا ، وجعلها ثلاث طبقات ، وجعل في جانبها بابا ، وأقامت (٢) على الأرض بعد فراغها تسعة أشهر فكان قومه يمرون به ويرون السفينة فيضحكون منها وأخذوا ممن آمن به ثلاث نفر ، وقربوهم لآلهتهم فعند ذلك حقت عليهم كلمة العذاب وجاءهم من كل مكان ، وأمر الله تعالى نوحا أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين ، قال : يا رب ، وكيف لي بجمع ذلك؟ فأمر (٣) الله تعالى الرياح فجمعت له ذلك كله. فجعل في الطبق الأول : الدواب ، وسائر الوحوش والهوام والطيور.

وجعل في الطبق الثاني : طعامهم وشرابهم. وحمل معه جسد آدم عليه‌السلام في تابوت. وجعل في الطبقة العليا أهله وولده ومن آمن معه ، قيل أنهم كانوا أربعون رجلا ، وأربعون امرأة ، فصار الجميع في السفينة ، فاتصل الخبر للملك فضحك منه ، وقال : أين الماء الذي تسير فيه السفينة ، ثم ركب في نفر من أرباب دولته ودخلوا بيت أصنامهم فقعدوا ساعة ، ثم خرج وقد عزم على إحراق السفينة ومن فيها ، فجاء إليها فوجد رعبا

__________________

(١) في المخطوط : قام ، والزيادة لتوضيح السياق.

(٢) في المخطوط : أقامه ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : فأمره ، والهاء زائدة ، فحذفتها.

٤٩

شديدا لما شاهد نوح عليه‌السلام فلما سكن ما عنده قال له : أين الماء الذي تسير فيه يا نوح؟

قال : الآن تراه يأتيك من مكانك هذا. وفي الخبر : أن ماء الطوفان كان حارا محرقا ، فقال الملك لنوح عليه‌السلام : انزل من هذه السفينة أنت ومن معك وإلا أحرقتكم. فغضب نبي الله وقال له : ويلك ما أشد اغترارك بالله تعالى ، ارجع إلى الله وإلّا العذاب بين / يديك. فغاظه وأمر من معه أن يرموا السفينة بالنار ففعلوا فرجعت النار عليهم.

خبر الطوفان :

فلما وصلتهم النار أحرقت منهم جمعا كثيرا ، فاشتد خوف ملكهم ، وزاد رعبه ، وضاق به الرحب ، وعلم أنه هالك فيمن هلك ، وأتاه آت ، وقال له : بينما يشحر في تنور لها (١) نبع الماء من تحته ، فاطلب النجاة لنفسك ، فقال : وما مقدار ما نبع من تحت تنورها؟.

فقال له نوح عليه‌السلام : ويلك ، هذه علامة السخط ، وبهذا أخبرني ربي ، وآية ذلك : أن الأرض تتخلخل جميعها ويأتي الماء منها وستراه الآن ينبع من تحت قوائم فرسك. فحول فرسه من مكانها ، فرأى الماء ، فعدل بها إلى مكان آخر فرآه قد زاد وتكاثر ، فنكص على عقبه لينجو بنفسه وأهله وينتقل إلى الحصون التي عملها على رؤوس الجبال ، وهو في الطريق إذ الأرض قد تخلخلت ونبع الماء فساخت أرجل الدواب فترجلوا عنها. وقد تفتحت أبواب السماء بالماء (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] وصار بعضهم يصادم بعضا فيقع على وجهه وهم لا يدرون أين يتوجهون ، وصارت المرأة تحمل ولدها على كتفها فإذا ألجأها الماء طرحته عنها ، وكان ابن نوح من درمسيل فناداه : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) [هود : ٤٢] فأبى كما أخبر الله عنه ، وقد بلغ الماء رؤوس الجبال وعلي عليها أربعون ذراعا ، فأهلك الله الملك وأهله وعسكره ، وهلك بأمر رب نوح جميع من في الأرض ولم يسلم سوى السفينة وما فيها.

وقيل : إنها بقيت على الماء ستة أشهر وسارت شرقا وغربا وطافت مكان الكعبة وكان معهم خرزة يعرفون بها الليل والنهار ، إذا كان وقت الليل أضاءت ، فإذا جاء وقت النهار (٢) خمدت ، ويعرفون بها مواقيت الصلاة ، وفي التوراة : أن الله تعالى آلى على

__________________

(١) في المخطوط : تنورهما ، وهو تحريف.

(٢) إذا كان وقت الليل : هذه العبارة جاءت في المخطوط بعد الإشارة ووضع الناسخ عليها ما يفيد أنها تكررت منه سهوا.

٥٠

نفسه أن لا يعذب أمة بعدها بغرق ، وقال : إذا رأيتم / قوسي في السماء فاعلموا أنه أمان من الغرق.

وكان بين مهبط آدم عليه‌السلام ومجيء الطوفان ألفان ومئتان وستة وخمسون سنة ، فاستقرت السفينة على جبل الجودي شهرا ، وهو جبل بالجزيرة معروف ، ثم أن الله تعالى أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء ، وأقلعت السماء ولما مضى بعد هدوء المطر أربعون يوما فتح باب السفينة ، وأرسل من الطير غرابا ليأتيه بالخبر فلم يرجع ، فدعا عليه بالبعد وأن يكون طعامه الجيفة ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه بالخبر ، ورأى رجليها قد انصبغتا من الطين ، فدعا لها بالألفة والصباغ فيها من يومئذ ، ثم أرسلها بعد سبعة أيام ، فرجعت وفي منقارها ورقة خضراء من عشب الأرض ، وأمر الله تعالى نوحا أن يخرج من السفينة هو ومن معه.

وفي التوراة : أنهم لما استقروا على الأرض قال الله تعالى : أكثروا وانموا واملؤوا الأرض ، ولتكن هيبتكم على دوابها وعلى كل طير في السماء ، ونون في البحر ، قال الله تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨].

وقيل لنوح عليه‌السلام : كلوا مما رزقتكم حلالا طيبا واجتنبوا الرجس من الأوثان والميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغيري ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.

وكان مهبط نوح عليه‌السلام بعد أحد عشر شهرا ، ولما نزلوا من السفينة أمرهم نوح عليه‌السلام أن يتخذوا لهم مساكن (١) ، فبنوا ثمانين بيتا ، فصارت قرية تسمى قرية الثمانين إلى اليوم ، ثم أمرهم بالزرع وغرس الأشجار ، ولما عرضت عليهم الحبوب والثمار التي حملها معه لم ير الكرمة ، فعرفه جبريل عليه‌السلام أن إبليس أخذها ، فأحضره ، فقال جبريل عليه‌السلام : ما حملك على ما صنعت؟ قال : لي فيها شرب.

فقال له جبريل : اقتسماها ، فقال : أجعل له الربع ، قال : لا يكفيه ، قال : له / الثلثان ولي الثلث ، فما طبخ بالنار وذهب ثلثاه كان حلالا لك ولأولادك ، وما زاد على الثلث كان له ولأتباعه.

ذكر أولاد نوح عليه‌السلام :

جعل الله الرسالة والكتب المنزلة والنبوة ، ووصية نوح عليه‌السلام في ولده سام خاصة دون إخوته.

وأما أسماء أولاد سام وأولاد أولاده فأولهم :

__________________

(١) في المخطوط : مساكين ، وهو تحريف.

٥١

أرفخشد : وكان عمره أربعمائة وخمس وستين سنة ، وولد أرفخشد :

شالخ وغابر : وعاش شالخ أربعمائة وثلاثين سنة ، وولد غابر :

فالغ ، وقحطان بن فالغ : وولد فالغ :

يعرب : وقيل : هو أول من تكلم بالعربية وكان لسانهم السريانية ، وولد يعرب :

سبأ : وهو أول من سبى العرب ، وكان هو الملك على بني قحطان ، ثم ابنه يعرب ، وبعده سبأ :

وحمير بن سبأ : وسمي حمير لأنه كان له تاج مكلل بجوهر أحمر ، وكان يضيء على بعد منه.

وكهلان به سبأ : فمن كهلان وحمير كانت ملوك اليمن من التتابعة والأدواء ، ومنهم كان :

أبرهة ذو المنار ، وابن أبرهة ذو الأودغار : والأدواء جماعة غزوا الأمم وحولوا البلاد ، ومنهم :

اقريقيس الملك : الذي بلغ أقصى بلاد المغرب.

خبر إبراهيم عليه‌السلام مع النمرود

أبو إبراهيم آذر ، وولد إبراهيم إسماعيل ، وأم إسماعيل هاجر القبطية ، وولد له إسحاق من سارة بنت حران.

وكانت حياة إبراهيم عليه‌السلام مائة وخمسين أو سبعين سنة ، وكان النمروذ ملكا على بابل ، وهو من ولد كوش بن حام بن نوح ، فاجتمع إبراهيم عليه‌السلام بالنمروذ ، ولما رأى من كفره وتجبره فحاجه إبراهيم عليه‌السلام ، فقال له النمروذ : من ربك؟

قال : ربي الذي يحيي ويميت.

قال : أنا أحيي وأميت ، ودعى برجلين قتل أحدهما وأطلق الآخر.

فقال إبراهيم عليه‌السلام : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، ولم يحجه بعد ذلك ، فعمد إبراهيم عليه‌السلام إلى بيوت الأصنام فكسرها / فبلغ ذلك النمروذ فغضب ، وأمر أن تضرم له نار فيلقيه فيها ، فلما نصب المنجنيق ، قال له جبريل عليه‌السلام : ألك حاجة؟ قال : لا ، قال : سل ربّك ، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي. فجعلها الله بردا وسلاما ، وجاء ريح عظيم فنسف رمادها في أعين الكفار ، فاشتغلوا بأنفسهم ، وخرج منها إبراهيم عليه‌السلام سالما منعما ، وتوجه إلى حرّان ، فاجتمع بلوط عليه‌السلام وآمن به لوط ابن أخيه ، وسارة ابنة عمه.

٥٢

وكان عمر إبراهيم عليه‌السلام في ذلك الوقت سبعا وثلاثين سنة فتزوج بسارة بوحي أتاه وتبعه ثلاث نفر ممن آمن به. وأرسل الله تعالى له جبريل عليه‌السلام ، فعلمه صحف آدم ، وشيث وإدريس عليهم‌السلام ، وأنزل الله تعالى عليه عشر صحف بالعبرانية ، وكانت لغته (١) السريانية ، وكان في الصحف تسبيح وأمثال ، فسكن في الحرم ، وأنبع له زمزم ، ونبأه الله تعالى وأرسله للعماليق وجرهم ، وقبائل اليمن ينهاهم عن عبادة الأوثان ، فآمنت به طائفة منهم وغلب على الحرم ، وتزوج من جرهم ، وولد له اثنا عشر ذكرا. ومات وهو ابن مائة سنة وسبع ، وقيل : خمس وسبعين سنة ، وأوصى إلى ابنه إسماعيل ، فدبّر أمر البيت بعده.

ومن ولده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعرب العدنانية (٢) كلها من ولد إبراهيم عليه‌السلام.

حديث البلبلة

قال صاحب التاريخ : كان الناس بعد الطوفان مجتمعين في مكان واحد من أرض بابل ، لغتهم السريانية ، وذلك في زمن فالغ ، وإليه كانت الوصية ، فأجمعوا أمرهم ورأيهم على أن يبنوا صرحا يكون حصنا لهم من الآفات ، فنهاهم فالغ ، فلم يطيعوا ، وجمعوا من الحجارة والرصاص واللبان والشمع والكلس الشيء الكثير ، وكانت بيوتهم إحدى وسبعين بيتا فأسسوا صرحا بهذه الأخلاط ونزلوا فيه سفلا عميقا وشيدوه تشييدا وثيقا وعلّوه علوا رفيعا وزادوا ، وفرغ واطمأنت نفوسهم به على أنه حصين / لهم ولعقبهم بعدهم إلى آخر الزمان ، فثابوا مطمئنين على أنه لا يبلى مدى الأيام ، فأرسل الله تعالى في جوف تلك الليلة صيحة عظيمة هدمته في طرفة عين ، وغشيهم ريح وظلمة شديدة حتى أن بعضهم لا يرى بعضا.

فأقاموا كذلك ثلاثا ثم لاح لهم نور فبان لهم اثنا وسبعون طريقا وأصبح كل يتكلمون بلسان غير لسان الآخرين ، فكان كل لسان تملك طريقا ، والريح تدفعهم ، فسلك قحطان ، وعاد ، وثمود ، وعملاق ، وطسم ، وجديس طريقا ، وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي وساقتهم الريح إلى اليمن ، وجازت عاد إلى الأحقاف ، ونزل ثمود بن غابر في ولده ناحية الحجر ، وقصد جديس أخو ثمود اليمامة ، ثم شخص طسم بن لاود ابن أرم بن سام فاتبعهم ، ثم شخص عمليق بأرض الحرم ، وعبد طخم بن أرم الطائف.

وسار جرهم بن قحطان بولده ، فنزلوا مكة فهؤلاء نسلهم ، وهم العرب العرباء ، والعاربة ، وبنو إسماعيل يقال لهم : العرب المستعربة لأنهم تعلموا منهم ، فتكلموا بلغتهم.

__________________

(١) في المخطوط : لغة ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : العدانية ، وهو تحريف.

٥٣

وأرسل الله تعالى هودا إلى قبائل عاد :

وهم بالأحقاف أحقاف الرمل وملكهم الخلجان بن الوهم ، وكانوا يعبدون أصناما لهم فكذبوا هودا عليه‌السلام ، فدعا عليهم ، فأمسك الله تعالى عليهم المطر ثلاث سنين ، فأجدبهم ذلك ووجهوا إلى مكة جماعة استسقوا لهم في الحرم. ولم تزل الأمم تعظ البيت ، وكان موضعهم بعد الطوفان ربوة حمراء ، وأهلهم العماليق ، وسيدهم معاوية بن بكر ، وكان في الرّفد الذين توجهوا للاستسقاء : قيل بن غزر ، وزيد بن سعد ، ولقيم بن هزال ، ولقمان بن عاد ، فنزلوا على معاوية بن بكر بمكة ، فأقاموا عنده شهرا يأكلون ويشربون ، والجرادتان تغنيان لهم ، وهما قينتان كانتا لمعاوية ، فلما طال أمرهم أشفق عليهم معاوية لأنهم أخواله فخاف عليهم الهلاك / فعمل شعرا وأمر الجرادتان فقالتاه (١) :

ألا يا قيل ويحك قم فهيم

لعل الله يسقيكوا غماما

فتسقى أرض عاد إن عادا

قد أصبحوا ما ينبسون الكلاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم تماما

فقبح وفدكم من وفد قوم

ولا ألقوا التحية والسلاما

فلما سمع القوم ذلك انتبهوا واستسقوا ، فنشأ لهم ثلاث سحابات على ألوان مختلفة : بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ونودي قيل : اختر لقومك ، فقال : أما البيضاء : فإنها جهام قد أفرغت ماؤها ، والحمراء : ريح ، والسوداء : غيث ، فاختار السوداء. فنودوا : قد اخترت رمادا لا يبقي من عاد أحدا لا والدا منها ولا ولدا.

ودخلت الريح على عاد من واديهم ، فأقامت سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي دائمة ، حتى هلكوا ، فلما انصرف الوفد من الاستسقاء نودوا : إن عادا قد هلكت فاختاروا لأنفسكم ، فاختار قيل أن يلحق بقومه ، فأقلته (٢) الريح فأهلكته ، واختار زيد برا وصدقا فأعطي ذلك لأنه كان مؤمنا بهود عليه‌السلام ، واختار لقيم حياة ألف سنة ، لا يمرض ولا يهرم ، فأعطي ، واختار لقمان بن عاد عمر سبع أنسر ، فأعطي ، فكان يأخذ النسر صغيرا فيربيه حتى يهلك ، فيأخذ عمره وكان آخرها لبد (٣). فضربت العرب به الأمثال ، قال الأعشى :

أو لم تر لقمان قد أهلكه

ما قتات من سنة وشهر

__________________

(١) في المخطوط : فقالاه ، وهو سهو.

(٢) في المخطوط : فاقتله ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : لبلد ، وهو تحريف ، والمثل مشهور في موسوعة الأمثال التي قمت بتأليفها وهو : جاء أجل على لبد ، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد وغير ذلك من الأمثال.

٥٤

وبقايا نسر كلما انقضت

أيامه عاد إلى نسر

وقال النابغة :

أضحت خلا وأضحى أهلها احتملوا

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

 / خبر اليمامة

وهو صاحب الجو ، وكانت أمها كاهنة ، وكان لها رأي ، وكانت من جديس ، وطسم ، وجديا ، وكانوا بمكان واحد ، فتغلبت طسم على جديس ، وملك الجميع الأسود ابن عقار الطسمي وكان فاسقا يتقزع النساء قبل أزواجهن ، فاحتال عليه جديس فقتلوه ، وقتلوا كثيرا من طسم ، فاستنصرت بقايا طسم بحسان بن تبع الحميري ، فغزا جديسا طالبا لأخذ ثأر طسم ، وكانت اليمامة امرأة زرقاء العين ، وعينها الواحدة أكبر من الأخرى إذا أغمضت الكبرى رأت بالصغرى على الفراسخ والأمد البعيد.

وقيل : إنها كانت ترى فلك القمر فتخبر عنه بأشياء عجيبة ، وكان اتصل بجديس انتصار طسم بحسان ، فقالوا لليمامة : انظري لنا ، فنظرت ثم قالت : أقسم بمهب الريح والأكام والبطاح والمساء والصباح ليأتين من حمير الجيش الرداح ، فلا ترون بعدها الفلاح ، فكذبوها ، وانتهروها ، فلما قرب حسان ومن معه قالوا : إن اليمامة فيهم وستخبرهم بأمرك ، فقال لأصحابه : ليحملن كل واحد منكم غصن من شجرة ، فقالت (١) : أتتكن الشجر تخبط المدر ، فاستعملوا منها بحذر ، فقالوا لها في اليوم الثاني ، قالت : أرى رجلا في كفيه كتف (٢) أو يخصف نعلا ، وكان حسان يكن نهارا ويسير نهارا ، ففاجأهم فقتلهم وهدم منازلهم ، وقال لليمامة : هلّا عرفتيهم بمسيري؟ قالت : قد فعلت لو قبلوا ، فقتلها فاعوّر ومنع من النوم ، وفيها قالت الشعراء منهم كثيرا الأعشى :

بانت فامسكي حبلها انقطعا

ما خطرت ذات أشغار كنظرتها

حقا كما صدق الربعي إذ سجعا

قالت : أرى في كفه كتف (٣) أو

يخصف النعل لهفي آية صنعا

فكذبوها بما قالت فصبحهم

ذو آل حسان يرجى الموت والسرعا

فاستنزلوا آل جدس (٤) من منازلهم

وقد هدموا شاخص البنيان فاتضعا

__________________

(١) في المخطوط : فقال ، وهو تحريف ظاهر.

(٢) في المخطوط : ليف ، وهو تحريف ، وراجع كتاب «موسوعة الأمثال العربية والعامية» تأليفي.

(٣) في المخطوط : ليف ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : جو ، والتصويب من هامشه والقصة ذكرتها في تحقيقي لكتاب «أسماء المغتالين من الأشراق في الجاهلية والإسلام» لمحمد بن حبيب.

٥٥

فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثمد

من الزمد يحسبه حاما بنق

ويلقيه مثل الزجاجة لم يكد

قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا فحسبوه فألفوه كما

كما حسبت تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد ، فكملت مائة حمامتنا وأسرعت حسابه في ذلك العدد.

خبر شق وسطيح بعجائب التأويل

قال صاحب التاريخ :

قد بلغ سطيح من الكهانة ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده ، ولهذا سمي : كاهن الكهان ، وكان يخبر عن الغيوب بالعجائب كما علمه الله تعالى رأى ربيعة بن النضر اللخمي رؤيا (١) هالته ، فجمع الكهنة وأصحاب القيافة ، وقال لهم : أخبروني بما رأيت ، فقالوا : وما رأيت؟

قال : لا أبدي ولا أعيد.

قالوا : هذه حالة سطيح ، وشق ، فأرسل إليهما ، فأول من قدم سطيح ، فأكرمه وطلب منه التأويل.

فقال : أقسم بالشفق ، والليل إذا غسق ، والقمر إذا اتسق ، وطارق إذا طرق لقد رأيت جممه تخرج من ظلمة فوقعت في أرض بهمة يأكل منه كل ذات جمجمة.

فتعجب من ذلك وتأدب معه ، ثم قال له : يا سيدي ، وما تأويلها؟

قال : أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن بأرضكم جيش ، وليملكن ما بين أتين إلى حرش. فقال ربيعة : إن هذا الغائط ، فهل هو كائن في زماننا؟

قال : لا بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.

قال : فهل يدوم ملكهم؟

قال : لا ينقطع بعد سبع وسبعين ، ثم يقتلون بها أجمعين ، ويخرجوا منها هاربين.

قال : فمن يلي ذلك؟

قال : ابن ذي يزن غلام رحب العطن يخرجون عليهم من عدن فلا يترك منهم أحد في اليمن.

__________________

(١) في المخطوط : رأيا ، وهو تحريف.

٥٦

قال : فما يصنع باليمن؟

قال : يملك بعدهم منهم ذوو أخطار من رجال أحرار.

/ قال : فيدوم ذلك أو ينقطع؟

قال : بل ينقطع.

قال : ومن يقطعه؟

قال : نبي ذكي أمين قوي يأتيه الوحي من قبل العلي.

قال : وممن هذا النبي؟

قال : من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، يكون الملك له في قومه إلى آخر الدهر.

قال : وهل للدهر من آخر؟

قال : يوم هو فيه انفطار السماء والوقوف للقضاء بالسعادة والشقاء.

قال : وأي يوم هو؟

قال : يوم يجمع الأولون والآخرون ، ويسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون.

قال : أحق ما تخبرني (١) به يا سطيح؟

قال : نعم ، والشفق والغسق ، والقمر إذا اتسق إن الذي أنبأتك به لحق.

ومن أخباره :

أنه كان لعبد المطلب مال مدفون بالطائف يقال له : ذو الهرم ، فادعته ثقيف ليأخذوه ، فسمع ، فجاءهم ، فقام إليه جندب بن حارث فخاصمه فخرج عبد المطلب ومعه جماعة ، والحارث ، وخرج جندب ومعه جماعة من ثقيف ، قاصدين سطيح على أن يخبرهم بصاحب المال ، فطال عليهم الطريق ففرغ الماء الذي لعبد المطلب ، فطلب شربة من ثقيف ، فلم يسقوه ، فصبروا فغلبهم العطش ، ثم أنهم عجزوا عن المسير ، فقعدوا في الطريق : ففجر الله لهم عينا من تحت حرّان ، فشربوا وسقوا مطاياهم ، وساروا فنفذ الماء من جندب وجماعته ، فطلبوا من عبد المطلب الماء فمنعهم ابنه الحارث ، فقال له عبد المطلب : اسقهم فإن الكرم ثقيل المحمل ، فسقاهم ، وساروا فعمدوا إلى جرادة ، فقطعوا رأسها وجعلوه في جلد مزادة ، وعلقوه في قلادة كلب (٢) يقال له : سوار ، وساروا حتى دخلوا على سطيح.

__________________

(١) في المخطوط : تخبرون ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : الكلب ، وهو تحريف.

٥٧

فقال : ما جاء بكم؟

قالوا : نحتكم إليك في شيء وخبأنا لك شيئا فأخبرنا.

قال : خبأتم رأس جرادة في جلد مزادة في عنق سوار ذي القلادة.

قالوا : أصبت ، فأخبرنا بما اختصمنا به إليك؟

قال : أحلف بالنور والظلم ، والبيت والحرم إن الدفين ذو الهرم لهذا جدّ / النبي ذو الكرم فقضى لعبد المطلب.

ومن أخباره :

أن كسرى أنو وير رأى في منامه أنه قد سقط من قصره ستة عشر شرافة ، فارتاع لذلك فوجه إلى المؤبّد يعرفه بما رأى.

فقال : أرجو أن يكون خيرا ، ولقد رأيت ما يشبه هذا من خمود النيران ، وقلع بيوتها في أشياء ذكرها ، قال : فما الرأي؟

قال : بلغني أن في بلاد العرب كاهن يقال له سطيح يخبرنا بالشيء قبل كونه ، فإن رأى الملك أن يرسل إليه ، وكان بباب كسرى رجل يقال له عبد المسيح ، وهو من رهط سطيح وكان ذا عقل وحزم.

فقال كسرى : عليّ بعبد المسيح ، فلما حضر أرسله إلى سطيح ، وقال : ستخبره عن الرؤيا والتأويل ، وارجع سريعا ، فركب عبد المسيح راحلته وجدّ في السير حتى أناخ مطيته على باب سطيح ، وقال ليسمعه أصم أو يسمع عطريف اليمن ، يا فاضل الخطة أعيت من ومن ، فسمعه من داخل منزله فأجابه عبد المسيح على حال مشيخ يسأل عن خمود النيران ، ورؤيا المؤبّدان ، وسقوط الإيوان لأخبره عن البرهان :

أما عدد الشرفات فيلي مثلها ملوك وملكات ، ولخمود النيران ينقضي ملكهم على طول الزمان وذلك عند ظهور صاحب التلاوة والقضيب ، والهراوة ، فتنقضي آثارهم ، وتملك العرب ديارهم ، وهناك ينقضي أمر سطيح ، ويوارى جسده الضريح ، فلا تكون الدنيا له بدار ، ولا يقر له فيها قرار.

فوعى كلامه وعرفه ، وأخذ راحلته فأسرع رجعته ، فعرف كسرى الخبر فتعجب من أمره المعتبر.

فقال : المدة طويلة وفي الأمر سعة لدفع الهم ، ولعل ذلك لا يكون.

وانقضى ملكهم في خلافة عمر ، وقيل إن سطيح عاش أربعمائة سنة.

وأما شق :

فهو ابن خويل بن أرم بن سام ، وهو أول كاهن كان بالعرب العاربة.

٥٨

ورام أبو الجبابرة من : عاد ، وثمود ، وجديس / ويقال : إن شق كان بشق في وجهه ، وعين واحدة في جبهته.

ويقال : إن الدجال من ولده ، وقيل : بل هو الدجال بعينه ، وأنه محبوس في بعض جزائر البحر. ويقال : إنه إذا خرج دعا الناس إلى عبادته ، ويكون معه جبلان أحدهما أخضر يسميه الجنة تفوح له رائحة طيبة ، والآخر أسود يخرج منه دخان ورائحته خبيثة يسميه النار ، فمن أطاعه ألبسه الحرير وطيب رائحته وحسّن وجهه ، ومن (١) خالفه بضد ذلك ، وغالب من يتبعه اليهود.

وأما خبره مع ربيعة :

فإنه قدم عليه بعد سطيح ، فأكرمه وقال : أنبئني يا شق.

قال : رأيت جمجمة خرجت طلمة ، فوقعت بين روضة وأكمة فأكل منها كل ذات نسمة. فقال : أحلف بما بين الحرتين من إنسان ، ليملكن بلادكم السودان ، وليغلبن على كل طفلة البنات ، وليملكن ما بين آتيين إلى حرّان.

قال ربيعة : في زماننا هذا؟

قال : بل بعده بزمان ويستنفذكم عظيم ذو الشأن ، وقد هنتم من قبله أشد الهوان.

قال : ومن هذا؟

قال : غلام من ذي هرن فلا يترك أحدا منهم باليمن.

قال : فهل يدوم ملكه؟

قال : بل ينقطع برسول مرسل من بني عدن يأتي بالحق والعدل ، ومن أهل الدين والفضل. ويكون الملك فيهم إلى يوم الفصل.

وقال : وما يوم الفصل؟

قال : يوم يدعى فيه من السماء بدعوات يسمعها الأحياء والأموات ، فيجتمع فيه الخلق للميقات يكون لمن اتقى الفوز والخيرات ، ولمن كفر الويل الترحات.

قال : أحق ما تقول يا شق؟

قال : إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض ، إن الذي أنبأتك به لحق محض لا كذب فيه ولا نقض ، فوصله.

__________________

(١) جاء في المخطوط بعدها كلمة «جعله». ثم وضع الناسخ فوقها (ح) يريد زيادة هذه الكلمة ، فحذفتها.

٥٩

ومما حكي من عجائب مصر وكهنتها

قال صاحب التاريخ :

إن كهنة مصر أعظم الكهان علما ، وأجلهم بالكهانة حذقا وفهما ، وكان حكماء اليونان يصفونهم بذلك ، ويشهدون لهم به فيقولون : أخبرنا حكماء مصر بكذا / واستفدنا منهم كذا ، وكان هؤلاء ينحون في كهانتهم بحق الكواكب ، ويزعمون أنها التي تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب ، وهي التي علمتهم أسرار الطبائع ودلتهم على العلوم المكنونة ، فعملوا الطلسمات المانعة ، والنوامس الدارعة ، وولدوا الولادات الناطقة ، والصور المتحركة ، وشيدوا العالي من البنيان ، وزبروا علومهم في الصلب من الصوّان وانفردوا بعمل البواني ، ومنعوا بها الأعداء عن بلدهم.

وعجائبهم ظاهرة ، وحكمهم واضحة ، وكانت مصر خمسا وثمانين كورة منها سفل الأرض خمسا وأربعون ، وفي الصعيد أربعون ، وكان في كل كورة رئيس من الكهنة ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصة فرعون ، لما أشار على أصحابه بجمعهم (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) [الأعراف : ١١١ ـ ١١٢] ، وكان منهم الذين يتعبدون للكواكب السبعة المدبرة لكل كوكب سبع سنين ، فإذا بلغ هذه المرتبة سمي فاطرا ، ويصير جليسا للملك ، فيصدر عن رأيه ، ويقوم لقيامه ويدخل كل يوم على الملك ، ويجلس إلى جانبه ، ثم تدخل الكهنة ، وأرباب الصنائع فيقفوا بإزاء الفاطر ، وكل واحد من الكهنة منفرد بكوكب لا يتعداه ، ويسمى عبد كوكب ، كما كانت العرب تسمى بعبد شمس ، ثم إن الفاطر يسأل كل كاهن منهم أين صاحبك اليوم ـ يعني كوكبه الذي انطبع به ـ فيقول : في البرج الفلاني في الدرجة الفلانية ، في دقيقة كذا ، حتى إذا علم مستقر الكواكب.

قال : ينبغي للملك أن يعمل في هذا اليوم كذا ، ويصنع بنيان كذا ، ويوجه الجيش إلى ناحية كذا ، ويأكل كذا ، ويجامع في وقت كذا ، والكاتب يكتب ما يقول له الفاطر.

ثم يسأل أرباب الصنائع ، فيقول : انقش أنت صورة كذا على حجر كذا ، واغرس أنت كذا ، واصنع أنت كذا إلى آخرهم. فيعرف كلا منهم مرتبته ويصدروا عن رأيه ، فيأتون دار الحكمة ويفعلون ما قاله / وكذلك الملك لا يخرج عن رأيه ، ويؤرخ ذلك اليوم في الديوان ويودع في خزانة الملك ، وعلى هذا كانت تجري أمورهم. وكان الملك إذا عراه أمر يجمعهم خارج منف فيصطف لهم الناس شارع المدينة فيدخل الفاطر ، والكهان ركبانا يقدم بعضهم بعضا ، ويضرب الطبل قدامهم ، فيدخل كل واحد منهم أعجوبته ، فمنهم من يعلو وجهه نور كنور الشمس ، فلا يستطاع النظر إليه ، ومنهم من

٦٠