مختصر عجائب الدنيا

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه

مختصر عجائب الدنيا

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه


المحقق: سيّد كسروي حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

ومما وقع للرشيد مع ابي نواس :

وذلك أن هارون الرشيد كان من جملة حظاياه واحدة كلما كانت ليلتها يأتيها فيراها في الحيض ، فيتركها ، ويذهب لغيرها ، فأعياها ذلك.

فلما طهرت من الحيض ولم تكن أتت نوبتها أرسلت خادمها للأمير وبصحبته ورقة فيها : زر ثوب أبيض ، وبعض حبات من حب الكزبرة اليابسة.

فلما دخل عليه الخادم بذلك لم يفهم معناه ، ولا من حضر مجلسه. فأرسل لأبي النواس ، فحضر ، فلما جلس رفع له الورقة بما فيها فأنشد ارتجالا :

بعثت إليك بزر ثوب أبيض

وببعض شيء من حبوب الكزبرا

فنظرتهم متأملا مرموزهم

ورفعتهم في راحتي متفكرا

فالزر زرني قد هلكت من الجفا

والكزبرة يا سيدي كسي برا

فانهض إليها عاجلا لتزورها

فوحق رأسك سيدي هذا جرى

قال : فقام من وقته ودخل إليها فوجد الأمر كما قال أبو نواس.

ونظير ذلك :

ونظير ما تقدم إلى أخويه مما وقع للملك العزيز بن السلطان صلاح الدين أيوب وذلك أنه كان يهوى بعض نساء الأمراء وكانت فريدة حسنها ، وكانت تحبه ويحبها ، فثم اطلع أبيه على ذلك ، فطلبه سرا ، وأقسم إن عاد لمثل ذلك قتله ، فتركها.

فلما لم يعد إليها أرسلت إليه أكرة من العنبر / فكسرها ، فإذا فيها ذر من ذهب ، فلم يفهم معنى ذلك فأرسله من ساعته للقاضي عبد الرحيم الفاضل وزير أبيه ، فلما نظر ذلك كتب إليه من ساعته يقول :

أهديت لك العنبر في وسطه

ذر من البتر ، ودقيق اللحام

فالزر والعنبر معناهما

زرني كذا مستخفيا في الظلام

فعلم المراد وزار في الظلام.

ومما وقع لأمير المؤمنين المعتمد على الله مع الأديب النحلي في كتابه المسمى بالذخيرة :

وذلك أنه مشت بين يدي الأمير حظية من حظاياه لم تقع العين على حسن مثلها عليها غلالة خز لا يكاد يفرق بينها وبين بدنها. وقد أسبلت من ورائها ذوائب كالليل.

وكان بين يديه باطيه مملوءة بماء الورد فصبته عليها فتشابه الكل لينا ورائحة ، وأدركت المعتمد رائحة الطرب وكمال الجمال وهيف القد والاعتدال فمال بعطفه الأدب فأنشد :

٣٠١

وهويت سالبة النفوس عزيزة

تختال في وشى الحرير الباهر

ثم تعذر عليه المقال ، فأرسل للأديب النحلي بذلك البيت لتكملته ، فكتب تحته من وقته من غير علم بالسبب يقول :

دقت محاسنها ودق أديمها

فتكاد تبصر باطنا من ظاهر

تندى بماء الورد مسبل شعرها

كالطل يسقط من جناح الطائر

قال : فلما وقف عليهم المعتمد اهتز طربا ورسم بمال جزيل حمل إليه.

ومما وقع للملك الناصر مع وزيره :

وذلك أن أبا عامر أحمد بن عبد الملك أهدى له مملوكا لم يكن له شبيه في زمانه ، فرآه الملك الناصر ، فقال لوزيره : أنّا لك هذا؟

قال : هو من عند الله.

فقال الملك الناصر : أتتحفونا بالنجوم وتستأثروا / دوننا بالأقمار؟! إن هذا لعجيب.

فاعتذر الوزير ، وأرسل هدية عظيمة ، وأرسل المملوك معها وقال : كن داخلا في الهدية ، ولو لا الضرورة ما سمحت بك نفسي. وكتب معه يقول هذين البيتين :

أمولاي هذا البدر سار لأفقكم

وللأفق أولى بالبدور من الأرض

أرضيكم بالروح وهي عزيزة

ولم أرى قبلي من بمهجته يرضى

قال : فأعجبه ما فعل الوزير ، وتمكنت عنده منزلته.

ثم أهديت للوزير جارية أحسن أهل زمانها ، فخاف أن يصل خبرها للسلطان ، فتكون قصتها كقصة المملوك. فأرسل هدية أعظم من الأولى ، وكتب معها هذه الأبيات :

أمولاي هذا من الشمس والبدر أولا

تقدم كيما يلتقي القمران

قرآن لعمري بالسعادة ناطق

فدم منهما في كوثر وجنان

فما لهما والله في الحسن ثالث

ولا لك في ملك البرية ثاني

قال : فعظمت مكانة الوزير عند السلطان وقالوا : إن عشق المملوك غالب عليه ولا يزال يهيج بذكره سيما في مقام أنسه ويقرع سنه على عدم الوصول إليه والتمتع به.

فقال السلطان للمتكلم : احذر أن تعرف أحدا ما عرفتني يروح رأسك.

ثم أن السلطان همّ في حيلة يرى بها صحة المقال من كذبه.

فكتب على لسان ذلك المملوك للوزير : اعلم يا مولاي أني كنت عندك في نعمة

٣٠٢

عظيمة وعيش هانىء ، وإن كنت عند السلطان مكرما فإني مشارك في النعمة ولست راض بذلك ، فتحيل في استعادتي منه أو اعطني إذنا حتى أحتال في زيارتك ولا بد من ذلك.

ثم بعث بالورقة مع صبي صغير وأوصاه أن يقول له : هذه من المملوك فلان.

فلما وصلت للوزير وقرأها / أحسّ بالبلاء ، وعلم أنها حيلة عليه ، وأن ذلك من حاسد تكلم فيه ، فكتب على ظهرها :

أمن بعد إحكام التجارة ينبغي

لمثلي وقوع الروح في غابة الأسد

وما أنا ممن يغلب الحب عقله

ولا جاهل قول الأعادي ذوي الحسد

فلو روحي كنت قد وهبتك طائعا

فكيف ترد الروح إن فارقت الجسد

وإني لعبد الذي أنت عبده

وأنت حرام ما حييت إلى الأبد

قال : فلما وقف الملك الناصر على الجواب عجب من فطنته ، ونكل بمن تكلم فيه ، وعظمت مكانته عنده.

ومما وقع للأمير محمد الأمين

وذلك أنه أرق ذات ليلة أرقا شديدا فوقع في نفسه أن يدخل مقاصير الحظايا ، ففعل ذلك ، فوصل إلى حجرة منها فدخلها ، فإذا فيها جارية صغيرة ليس في حظاياه مثلها ، فأعجبته وهي نائمة.

فلمسها من رجلها ليوقظها من نومها ، فانتبهت فلما رأته قامت قائمة له وقالت : يا أمين الله ما هذا الخبر؟

فأجابها :

هو ضيف طارق في أرضكم

هل تضيفوه إلى وقت السحر؟

فأجابته :

بسرور سيدي أخدم الضيف

ثم بروحي وسمعي والبصر

قال : فنام عندها تلك الليلة. فلما أصبح قال : من بالباب من الندماء؟

فقيل : أبو نواس.

[فقال](١) : ائذنوا له (٢).

فأذنوا له ، فدخل ، فلما جلس قال له الأمير : أجز مقال من قال : يا أمين الله ما هذا الخبر

__________________

(١) يتطلبه السياق.

(٢) في المخطوط : لنا ، وهو تحريف.

٣٠٣

فأنشد من ساعته بديها :

طال ليلي حين أوفاني السهر

فتفكرت فأحسنت الفكر

قمت أمشي نحو أتراب لهم

كل وجه مشرق يحكي القمر

بينهم جارية ما مثلها

صاغها الرحمن من بين البشر

/ فلمست الرجل منها موقظا

فرنت نحوي بطرق ذو حور

ثم قامت وهي لي قائلة :

يا أمين الله ما هذا الخبر؟

قلت : ضيف (١) طارق في أرضكم

هل تضيفوه إلى وقت السحر؟

فأجابت بسرور : سيدي أخدمه

ثم بالروح وسمعي والبصر

إن يكن ما قلت حقا صادقا

فبسعد منك ما أوردت الخبر

فنظر إليه الأمين مليا وقال : والله لو لا ثقتي بقصري وحرسه لساء ظني بها.

فقال : العفو يا أمير [المؤمنين] إنما هو سعدك يجري على لسان عبدك. فأنعم عليه بما لم يكن عادة بمثله.

ومما وقع لأمير [المؤمنين] المعتصم بالله :

وذلك أنه عرض عليه جواري فرأى فيهن جارية لم يكن في قصره مثلها ، لكنها صغيرة السن. فقال المعتصم : لو كانت أكبر من ذلك لكانت بغية الطالب.

فقالت : إن أذن الأمير في الجواب أجبته عن مقاله.

فقال : أذنت في ذلك.

فقالت :

مطيات السرور فوق عشر

إلى العشرين ثم دع المطايا

معاشر النساء مد الليالي

إذا أولدتهن من البلايا

وإن زادت على العشرين شيئا

فتلك رزية فدع الرزايا

وحسبك ناهد بكر لعوب

تدور بك الأماكن والزوايا

ومما وقع للأمير المأمون :

قال المدائني في تاريخه : أن المأمون كان له من الخطايا مائتا حظية من أحسن أهل زمانه ، وكان فيهن (٢) جاريتان أحسنهن (٣) جميعا ، وكان لهن (٤) من المعزة عنده ما ليس

__________________

(١) في المخطوط : ظيف ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : فيهم ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : أحسنهم ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : لهم ، وهو تحريف.

٣٠٤

لغيرهن من الحظايا. فبينما هو جالس يوما إذ اتاه بعض الخدم فأسر إليه شيء فقام لساعته ، وصعد إلى مكان مشرف على حجرة ماجن وإذا لؤلؤة تطرب / على عود ، وماجن ترقص وتغني بهذه الأبيات :

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ...............

 ............... (١)

قال : فنزل المأمون من مكانه الذي (٢) كان ينظرهم منه ، ويسمع مقالهم ، ثم قال للماجن (٣) : ويحك ما هذا المقال؟

فقالت : يا أمير [المؤمنين] ، ليس خاف عن علمك أنني شابة ومنغمة ولي ليلة بعد مائتا ليلة ، فما عسى أن تكون تلك الليلة؟

فقال لها : لسنا نغفل عنك من اليوم. ثم أراد الانصراف ، فأنشدته :

أتت بجرابها تكتال فيه

فراحت وهي فارغة الجرابا

فلا فتح أتاها منه نفع

ولا خير رأته ولا ثوابا

فضحك ، ثم رجع إليها وأقام عندها يومه.

ومما وقع من علم المأمون وكرمه :

وذلك أنه كان يوما جالسا في منظرة مطلة على الطريق فنظر من الشباك ، وإذا رجل بيده فحمة وهو يكتب بها على حائط القصر. فقال لبعض الخدم : انزل لهذا الرجل وامسك على يده ، وانظر ماذا كتب وائتني به.

__________________

(١) موضع النقط قصيدة لا يصلح أن يذكر منها بيت ولا شطر بيت بل ولا كلمة لشدة قبحها ولا أدري كيف سمح لنفسه المؤلف رحمنا الله وإياه أن ينقل تلك الكلمات بقلمه ، غفر الله لنا وله ، والله أسأل أن يرزقنا حسن الختام وأن يحفظنا ما أبقانا من الفعل والقول الفاحش إنه ولي ذلك والقادر عليه بفضله آمين.

(٢) في المخطوط : إليها ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : لماجن ، وهو تحريف.

٣٠٥

فنزل وقبض على الرجل ، وقال : أجب الأمير.

فقال : سألتك بالله أن تطلقني.

فقال : ما إلى هذا سبيل ، فإنه يراك وهو الذي أرسلني وأمرني بالقبض عليك.

فلما وصل به قال : ما كتب هذا على (١) حائطنا؟

قال : كتبت ما لا أقدر أن أقوله.

فقال : قل ولا بأس عليك.

فقال : كتبت :

يا قصر فيك الشؤم واللؤم

/ متى تعيش في أركانك البوم

يوم يعشش فيك يوم فرحي

أكون أول من ينعاك مرغوم

فقال : ويحك ما حملك على ما كتبت؟

فقال : يا أمير [المؤمنين] ، لم يخف عن علمك ما حواه قصرك من المال والخير والنعمة إلى غير ذلك ، وقد مررت به وأنا جائع ، فوقفت بإزائه ، وفكرت في نفسي وقلت : إذا كنت أنا جائع وهذا القصر عامر فلا فائدة لي في عمارته فلو كان خراب لما عدمت أن ألقى به رخامة أو مسمار أو غير ذلك فأبيعه وأسدّ به مجاعتي ، أو ما سمعت يا أمير [المؤمنين] مقال من قال هذه الأبيات :

إذا لم يكن للمرء في دولة امرء

نصيب ولا حظ دعا بزوالها

وما ذاك عن بغض ولا عن محبة

ولكن ير نفعه بانتقالها

فقال المأمون : لئن أسأت في الذنب ، لقد أحسنت في العذر.

ثم رسم له ألف دينار وقال : هي لك علينا في كل عام ما دام قصرنا عامر بنا.

فصار كل عام يقبض ذلك القدر منذ حياة المأمون فكان كثيرا ما يقول : لو يعلم الناس محبتي في العفو ما تقربوا إليّ إلا بالذنوب.

ومما ورد أيضا :

أن الأمير عبد الله المأمون وقف له أعرابي ، فقال : أطال الله بقاء أمير المؤمنين ، أنا رجل من العرب.

__________________

(١) في المخطوط : على هذا وفي ذلك تقديم وتأخير وقد وضع الناسخ فوق الكلمة الأولى حرف : (م) ، وعلى الثانية حرف (خ) يريد ما ذكرته فضبط النص على المراد ، والله الموفق والهادي للصواب بإذنه.

٣٠٦

فقال المأمون : ليس هذا بعجب.

فقال الأعرابي : وقد عزمت على الحج في هذا العام.

فقال له : يا أخ العرب الطريق أمامك.

فقال : أطلب الزاد والراحلة.

قال : تلقى ما تريد بالسوق.

فقال الأعرابي : السوق يطلب المال وأنا رجل فقير.

فقال : إن كنت فقيرا فلا يلزمك الحج.

فقال : يا أمير [المؤمنين] ، أنا جئتك أستفتيك أم جئتك أطلب نائلك وبرك؟

قال : فضحك منه المأمون وأمر له بما يكفيه ذهابا وإيابا.

ومما حكاه الأصمعي :

قال : طلبني الرشيد ليلة وقد أرق من نومه فقال لي : حدثني بما وقع لك من الغرائب.

فقلت : يا أمير [المؤمنين] كنت في العام (١) الماضي بالبصرة ، فجاء حرّ شديد وسط النهار وأنا مار في بعض أزقتها ، فدخلت دربا لأستظل فيه ، غير نافذ ، وإذا في صدر الدرب دكة عظيمة وفوقها شباك (٢) من نحاس أصفر ، فجلست على الدكة لأستريح وإذا كلام لطيف من داخل الشباك ، وإذا واحدة تقول : هذا رجل جلس على دكتنا ، وشمائله تنبىء عن فضل وفهم ، فدعوه يحكم بيننا.

وإذا قائل يقول : رضينا.

ففتح الشباك ، وخرج منه معصم أضاء منه الدرب ، وفي يدها ورقة ، ثم قالت : يا سيدي عظم الله شأنك إنّا ثلاث أخوات وقد عملنا (٣) أبياتا من الشعر ، ووضعنا رهانا (٤) ، وقد رضيناك حكما بيننا ، فانظر أيها (٥) الأحسن والأفصح والأغرل ، فاحكم الغالب منا.

قال : فتناولت الورقة وإذا فيها ما كتبوه مما نظموه ، فقرأته وتأملته وطلبت الدواة وكتبت ما ظهر لي الصواب فيه. فكتبت أقول :

__________________

(١) في المخطوط : العامة ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : شهاك ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : علمنا ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : رهنا ، وهو تحريف.

(٥) في المخطوط : أيهم ، وهو تحريف.

٣٠٧

/ أحدث عن خود تجمعن مرة

حديث امرء ساس الأمور وجربا

فقالت كعوب ذات ذل عزيزة

لها مبسم حلو المذاقة اشبنا

ألا فاقض يا هذا قضاء يسرنا

حكومة حق بالصواب وأعربا

كبيرتنا أبدت وهذا نظامها

بأول قرطاس بلفظ مهذبا

ومن بعدها الوسطى وثالثها أنا

صغيرة أخوتي وفينا تأدبا

الكبرى :

كبيرتهم قالت بلطف ورقة

كلام كسلك الدر بل هو أعجبا

/ عجبت له إذ زار في الليل مضجعي

ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

[الوسطى](١) :

ومن بعدها الوسطى أتت بتغزل

شبيه نسيم الروض بل هو أعذبا

وما زارني في النوم إلا خياله

فقلت له : أهلا وسهلا ومرحبا

[الصغرى](١) :

وأحسنت الصغرى وقالت مجيبة

لهن بقول كان أشهى وأقربا

بنفسي وأهلي من أرى كل ليلة

ضجيعي ورؤياه مع الوصل أطيبا

[الحكم](١) :

حكمت لصغراهن بالغلب دونهم

لأن الذي قالت أرق وأعذبا

ثم لما كتبت ذلك دفعت ما كتبت تحت ما كتبوا فلما وقفوا على ما حكمت به صارت صغيرتهن ترقص وتصفق فرحا لما غلبت. فلما هممت من ساعتي بالانصراف ، وإذا جارية خرجت ، وقالت : يا مولاي ، أجب مولاتي.

فدخلت معها إلى دار لم أر مثلها ، وفيها من النعمة ما يعجز الإنسان عن وصفه.

فوضع لي طعام فاخر ، فأكلت ، فلما فرغت من الأكل دفع لي صرة فيها عشرون دينارا ، وقالت : هذا ما كان معقودا عليه الرهان ، فأنت أولى به. فأخذته وانصرفت.

ومما وقع لعبد الله بن طاهر مع دعبل الشاعر :

قال : وقف دعبل وهو راكب في حراقة في دجلة ، وأشار إليه بقصة ، فأمر بأخذها فإذا فيها. وقالت :

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة توضيحية على غرار ما ساق في الكبرى.

٣٠٨

عجبت لحراقة حملت

بحرا عظيما كيف لا تغرق

وأعجب من ذا أن من تحتها

بحر وآخر من فوقها مطبق

تسير بهذا وتمشي بذا

وكل إلى بر السلامة أسبق

وأعجب من ذاك عيدانها

إذا مستها كيف لا تورق

قال : فأمر له بألف دينار ، وجارية وفرس.

ومما وقع [لجعفر الوزير مع محبين] :

قال حماد : نزل جعفر من عند الرشيد ليلا وهو سائر نحو داره ، وإذا صاحب الشرطة وأعوانه ومعهم شاب في غاية الجمال وجارية / تفوق الهلال. فلما نظره (١) صاحب الشرطة نزل عن فرسه وقبل قدم (٢) جعفر فقال له : ما هؤلاء؟

فقال : أصلح الله الوزير ، وجدنا هذا وهذه مجتمعين ولم يكن لهما محرم.

فقال جعفر للشاب : أحق ما قال؟

فقال : نعم ، وو الله يا مولانا لقد طال غرامي بها منذ سنين ولم يكن لنا الاجتماع معها إلا هذه الليلة. فعند الاجتماع حصل ما نحن فيه ، ثم بكى وتحسر وأنشد :

تمنيت من ربي أفوز بقربها

فلما تهيأ لي المنا عاقه العسر

وبالله إيمانا لم اثم ريبة

وما كان غير اللفظ والضحك والشرب

فدونكما جلدي ولا تجلدونها

فكم من حرام كان من دونه ستر

قال حماد : وصارت الجارية تبكي.

فقال لها جعفر : وأنت ما يبكيك؟

فقالت : أبكي لمصيبة عمت وداهية ألمت وكيف احتلت حتى خرجت؟ وكيف بلينا بهذه المحنة؟

فقال لها جعفر : أتحبينه؟

فقالت : ولو لا المحبة لما غررت بنفسي.

فقال : أحرة أنت أم مملوكة؟

فقالت (٣) : بل مملوكة.

__________________

(١) في المخطوط : نظر ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : قدم قبل ، وهو تقديم وتأخير.

(٣) في المخطوط : فقال ، وهو تحريف.

٣٠٩

فقال : ومن سيدك؟

فقالت : فلان.

فأمر بهما لداره مكرمين. فلما أصبح طلب سيدها ، ودفع له ثمنها ثم أنه كساهما معا كسوة حسنة ووهبها له فقبلا يده ، ثم أن الجارية أنشدت تقول :

لقد جدت يا ابن الأكرمين بنعمة

جمعت بها شمل المحبين في ستر

فلا زلت للإحسان لهفا وملجأ

وقد حل ما قد كان منك على الشكر

فعش في أمان ما حييت ونعمة

وعز وإقبال وخير مدى الدهر

قال : فأعجب الوزير فصاحتها مع حسن صباحتها وأمر لهما بمال يعيشان فيه مدى حياتهما. فرحم الله الكرام.

ومن محاسن الجود ما وقع من عبد الله بن معمر :

/ وذلك أن فتى كان ذا مال ونعمة فسلبه الدهر ما كان معه حتى لم يكن يملك غير جارية لا تقع العين على حسن مثلها ، قد كملت حسنا ومعنى ، جمعت بين الفضل والأدب وآلات المسموع ، ومحاضرة الشعر ، والمنادمة ، وغير ذلك. فلما افتقر سيدها وضاق حاله قال لها : يا قرة عيني ترين ما نحن فيه من ضيق الحال وضنك (١) المعيشة ، فإن رأيتي أن أبيعك لأحد من أهل النعمة تنتفعي أنت بالنعمة وأتوسع أنا بالثمن ، وو الله إن فراق روحي أهون عليّ من فراقك. فبكت واغتمت (٢) غير أنها لم تر بدّا من ذلك ، فاستشار سيدها رجلا من ذوي العقول (٣) ، فأشار عليه أن يعرضها على عبد الله بن معمر ، ففعل. فلما رآها كادت تأخذ بمجامع قلبه ، وهاله ما رأى من حسنها.

فقال لسيدها : كم رجوت ثمنها؟

فقال : ألف دينار.

فقال : لك ذلك وفرس من مراكيبي بسرج من ذهب ، وبدلة من ملابسي ، أرضيت؟

قال : أرضاك الله ، قد رضيت ، فأمر له بذلك.

وأمر بها (٤) لداره ، فوقفت الجارية بجانب الستارة وبكت بكاء شديدا ، ثم أشارت لسيدها تقول هذه الأبيات :

__________________

(١) في المخطوط : ظنك ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : أغتمه ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : المعقول ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : فأمر به ، وهو تحريف.

٣١٠

هنيئا لك المال الذي قد أفسدته

ولم يبق في كفي غير التفكري

أقول لنفسي وهي في غمراتها

أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري

إذا لم يكن للمرء في الدهر حيلة

ولم تجدي بدّا من الصبر فاصبري

فلما فرغت من إنشادها بكى سيدها بكاءا شديدا ثم أجابها بقول هذه الأبيات :

أروح بهم من فراقك مؤلم

أناجي به قلب قليل التصبر

/ ولو لا قعود الدهر بإلف لم يكن

يفرقنا سوى الموت فاعذري

سلام عليكم لا زيارة بعده

ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فقال عبد الله بن معمر حين سمع ما وقع بينهما (١) : قد شئت خذها وما أعطيناك بارك الله لك فيهم.

قال : فسرّا (٢) بذلك وقبلا يديه ، وأخذا المال والفرس والقماش ، وانصرف لداره.

فرحم الله الكرام.

ومما حكاه سعد بن أسلم الباهلي :

قال : سلب من والدي ماله وأناخ عليه الفقر وركبه الدين ، وعول على الهرب وترك العيال ، وكان ذلك في زمان خلافة الرشيد.

ولازمته غرماؤه بالطلب فضاقت حيله فقصد عبد الله بن مالك الخزاعي ليمده برأيه فيما يصنع.

فقال : يا أخي لا يقدر على دفع ما نزل بك إلا البرامكة.

فقال : ومن يقدر على تبكرهم ومقابلة سطواتهم؟

فقال : ينبغي أن تتحمل المشقة لقضاء حاجتك.

قال : فنهضت من عنده ، ومضيت إلى الفضل ، وجعفر ولدا خالد بن يحيى البرمكي فلما أذن لي بالدخول والجلوس قصصت عليهما قضيتي وما أنا فيه من الفقر والدّين.

فقالا : أعانك الله على همك وقضى عنك دينك.

فقمت من عندهما ، ورجعت إلى عبد الله بن مالك ، ضيق الصدر نادما على ما فعلت من بذل ماء وجهي ، ورجوعي بالحرمان وأعلمته بمقالهما.

__________________

(١) في المخطوط : بينهم ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : فسرّ ، وهو تحريف.

٣١١

فقال : بالله يا أخي ، أقم عندي اليوم لننظر ما يقدر الله سبحانه في أمرك.

فما كان غير ساعة من نهار ، وإذا بغلامي قد أقبل وقال : ببابك بغال بأحمالها ، ومعهم رجل يسأل عنك. وقال : أنا قاصد من الفضل وجعفر.

فقال عبد (١) الله : أرجو أن يكون جاءك خيرهما (٢) فقم.

وأسرعت وإذا ببابي رجل ومعه ورقة مكتوب / فيها : اعلم أنه لما توجهت من عندنا ركبنا للأمير وأعلمناه بحالك ، فأمر لك بمائة ألف درهم.

فقلنا : هذه الدراهم للدين ، فما له ومن أين ينفق؟ فرسم لك بثمانمائة ألف درهم وجهزنا لك من مالنا ألف ألف درهم ، يصير جملة الواصل إليك ألف ألف وتسعمائة ألف درهم. فأصلح بذلك حالك ، واقض دينك وإن عاد لك الفقر ، فاستنجد بنا عليه ، والسلام.

فقضبت ذلك ورجعت وأعلمت عبد الله بن مالك ، فحمد الله ، وسار معي إلى عند الفضل وجعفر ، وقبلت أيديهما فقالا لي : لا ذنب لنا إنما الذنب لك ، كيف لا تعلمنا حالك في بدايته حتى نكون عونك على ريب زمانك؟. فرحم الله الكرام وأسكنهم فسيح الجنان.

ما وقع بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الخزاعي :

[وذلك من] تنافس وعداوة باطنية بسبب تقدمه عند الرشيد حتى كانوا يقولون : إنه يسحره ، فولاه الرشيد مدينة أرمينية.

ثم أن رجلا من أهل الحذق أناخ عليه الفقر من العراقيين ، فعمد إلى تزوير كتاب على لسان يحيى بن خالد لعبد الله بن مالك الخزاعي وتوجه به إلى أرمينية واجتمع بحاجبه ورفع له الكتاب. فدخل به عليه ، فلما قرأه أنكره لعلمه أن يحيى لا يكاتبه لما بينهما ، وتحقق أنه زور ، فأحضر الرجل ، وقال : من أرسلك بهذا؟ ومن كتبه؟

فقال : الوزير يحيى بن خالد. فقال : كذبت ، إن هذا زور ، ثم أمر بالترسيم على الرجل.

وقال : كن كذلك حتى يرد جواب الوزير فإن كنت صادقا قضيت حاجتك كأحسن ما يكون ، وإن كنت كاذبا أمثل بك أقبح مثلة.

ثم جهز قاصده لبغداد ، وبصحبته الكتاب المزور. فلما دخل به القاصد على يحيى

__________________

(١) في المخطوط : عند الله ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : خيرهم ، وهو تحريف.

٣١٢

وأعلمه بالقصة فقال يحيى لمن حضر مجلسه : ما نفعل بمن زور خطنا؟

فقال / واحد : نقطع يده.

وقال آخر : يصلب حتى لا يجسر غيره أن يفعل مثل فعله.

وتكلم كل واحد بمثل هذا.

فقال : أف لكم من أناس ، ويحكم ، رجل أناخ عليه الفقر والفاقة فاستحى أن يسألنا بمضي بما يشابه خطنا ليستر فقره منا ويستعير جاهنا فتقولون (١) ما قلتم؟!

ثم كتب لعبد الله من ساعته : إن الرجل جاءك من عندنا والكتاب بخطنا ، فتفضل عليه بما فيه مع ما يناله من برك وخيرك ، وأرسله إلينا مكرما ، فإنا لا نقوم له بجزاء كونه كان سببا لإزالة ما بيننا من الوحشة ، فكتب وكتبنا لك.

فلما وصل القاصد ، وقرأ كتابه طلب الرجل فإذا به من الهم يشبه الموتى.

فقال له : لا بأس عليك ، فقد ظهر صدقك ، وأعطاه ما في الكتاب ورسم له بمائة ألف درهم ، وعشرة رؤوس من الخيل وخلعة ووجهه ليحيى.

فلما دخل أكرمه وأعطاه مثل عطاء عبد الله بن مالك ولم يفاتحه فيما فعل ولم يسأله عنه. فرحم الله الكرام.

هدية الملك الأركن :

أهدى الأركن ملك اللان لكسرى ملك الفرس بهدية عظيمة يطول شرحها ، فمن محاسنها سيف طوله خمسة أشبار كلون النحاس الأحمر يعمل في الحديد كما يعمل القدوم في الخشب. وصحفة (٢) من ياقوت أخضر تسع منّا من الطعام ، وكأسا من الزمرد يسع رطلا من الشراب ، وألف درة لا قيمة لها ، وقنديل من المها فيه ياقوتة حمراء قدر بيضة الحمام إذا علق ذلك القنديل وحوله من الشموع ما لا حد لعدده غلب نوره على تلك الشموع وكساها نوره حمرة باهرة ، ودروعا ورماحا ، ودرقا إلى غير ذلك مما يطول شرحه.

موعظة :

قال ابن حازم الزاهد : إنما بيني وبين الملوك / يوما واحدا أمس مضى عني وعنهم فهم لا يجدون لذته ، وأنا لا أجد شدته.

وأنا وإياهم على وجل من غد ، وما ندري ما الله فاعل فيه.

__________________

(١) في المخطوط : فتقوا. وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : صفحة. وهو تحريف.

٣١٣

وليس إلا اليوم الذي نحن فيه وما عسى أن يكون من يوم واحد.

هجو في قاضي :

قاض غدا يخبرنا حكمه

بأنه في النار ذات السعير

قد جعل البرطيل حلاله

ما يرتضي منه بقدر يسير

من مائة يأخذ ثلثينها

وثلثها يبكي عليه كثير

ولم يزل ملتفتا نحوه

بمكره حتى إليه يصير

تغزّل :

وشادن مرّ بي كالبدر طلعته

تأملت وجها منه يبدي العجائب

فلما رآني ناظرا نحو وجهه

تولى فعقلي مع توليه ذاهب

فما نلت منه غير بائده

بعيناي عيناه وأمري خائب

عبرة :

صل من تحب وإن أبدى معابته

فأطيب العيش وصل بين عينين (١)

واقطع مودة من في الناس تبغضه

فقل ما تسع الدنيا بغيضين (٢)

في خليفة بخيل :

ومما حكاه التنوخي قال : حدثني أبا محمد عبد الله بن حمدون قال : نادمت الأمير ليلة ، فحصل له سرور ، فلما همّ بالانصراف قال :

ـ أدخل يدك تحت الطراحة وخذ ما هنالك.

فأدخلت يدي فإذا به دينار واحد.

فقلت : يا أمير ، إنه دينار واحد.

فقال : خذه ولا أزيدك شيئا غيره ، ولا تسمح نفسي أن أعطيك أكثر من هذا ، ولكني أحتال لك بحيلة تأخذ بها خمسة آلاف دينار مع ما ينالك غيرها.

فقبلت قدمه.

ثم قال : إذا كان غد ودخل الوزير القاسم بن عبيد الله ، فإني أسارك في أذنك وأنظر إليه مغضبا ، فاخرج ولا تبرح الدهليز ، فإذا خرج فإنه يخاطبك خطابا حسنا / ثم

__________________

(١) في المخطوط : العين. والتصويب من هامشه.

(٢) في المخطوط : يغيظين. وهو تحريف.

٣١٤

يدعوك لداره ، ويسألك عن ذلك فاشكو له فقرك ، وقلة تفقد الأمير وخذ ما يعطيك ولا تقع عينك على شيء إلا وتطلبه منه ، فإنه لا يمنعك إياه حتى تستوفي ما ينالك ، بعد هذا [يسألك](١) عن نظري إليه ومسارتي إياك ، فاصدقه الحديث على شرحه وإياك أن تكذبه وعرفه أن ذلك حيلة لبلوغ منفعتك.

قال : ففعلت ما أمرني به الأمير ، فكان الحال كما قال الأمير.

فخرج الوزير فرآني جالس في الدهليز ، فقال : يا أبا محمد ، ما هذا الجفاء لا تزورنا ولا نراك ولا تسألني حاجة؟

فقلت : أنا خادم الوزير وعبده ، فأخذني بصحبته لداره ورفع محلي وأكرمني ، ثم سألني عن حالي ، فشكوت له الفقر والعيال وقلة الحظ من الأمير وإمساك يده في العطاء.

فقال : يا أبا محمد ، لا تخف ما شكوت بعد اليوم ، فمالي مالك ونعمتي عائدة عليك ، ولو عرفتني حالك قبل اليوم لما نالك شيء مما شكوت.

ثم أمر مباشريه بتعاطي أحوال الوزير في ذلك اليوم وقال : ـ لا يدخل اليوم عليّ منكم أحد فإني أريد [أن](٢) أحظى بمنادمة أبا محمد اليوم.

ثم أمر بالسماط فمد ، ثم بالحلاوات والفواكه إلى غير ذلك ، ثم جاءوا بالشراب ، فدفع لي ثلاثة آلاف دينار فأخذتها ، وأحضر ثيابا من ملابسه ومركوبا من مراكيبه بسرج من ذهب.

وكان بين يديه طبق من ذهب فيه الرياحين وطست من فضة وإبريق مثله ، وباطية من بلور ، وقدح مثله مزبكين بالذهب مرصعين بالمعادن النفيسة. وصرت كلما رأيت شيئا حسنا طلبته وهو لا يمنعني شيئا.

فلما صار إلى ما ذكرناه أقبل عليّ وقال : يا أبا محمد ، أسألك عن شيء ، وأطلب منك الصدق فيه ، وتحلف لي بالله ، وبالطلاق والعتق (٣) / تصدقني عن ما أسألك؟

فحلفت له ، فقال : بأي شيء سارك الأمير حين قدومي ، فإني رأيته يسارك وينظر إليّ مغضبا (٤)؟

فصدقته عن كل ما صدر من الأمير.

__________________

(١) ما بين المعقوفين يتطلبه السياق.

(٢) ما بين المعقوفين يتطلبه السياق.

(٣) الحلف بالطلاق بدعة مصرية يبدو من هذا المؤلف أنه قديمة فوق الاربعمائة عام حيث أن هذا نسخ عام ١٠٩٠ والتأليف من قبله.

(٤) في المخطوط مغظبا. وهو تحريف.

٣١٥

فقال : لقد فرجت عني عظيم كربة ولكن لا أدعك تمضي حتى أكمل لك ما قاله الأمير. فأحضر لي ألفي دينار أخرى ، فانصرفت بكل ما معي لداري.

فلما كان من الغد دخلت على الأمير قبل الوزير ، فسألني ، فحكيت له ما وقع.

فقال : احفظ ما حصل لك فلا يقع لك بعدها مثلها.

في التطفل :

قيل : مر طفيلي على قوم يأكلون فلم يعزموه فوقف يصلي.

فقيل له : ما هذه الصلاة؟

فقال : الاستخارة إما في قتالكم أو الدعاء عليكم.

فقالوا له : دع ما عزمت عليه ، وتقدم فكل.

مثله :

جاء طفيلي إلى عرس فوجد الباب مغلقا والبواب من ورائه فمضى للسوق واشترى صحونا ورهن خاتمه عند التاجر وجاء بهم ودق الباب.

فقال البواب : من أنت؟

فقال : أما تعرفني؟ أرسلوني أشتري لهم صحونا وقد جئت بها. ففتح له فدخل فوضعها في زاوية الدار ، وأكل ثم حمل الصحون وخرج.

فقال له البواب : قد رجعت بالصحون!

فقال : إنهم يطلبون أكبر منها.

فخرج وأعادها لصاحبها وأخذ الخاتم وانصرف.

وصية :

إن ترمك الغربة في معشر قد اجتمع الناس على بغضهم ، فدارهم ما دمت في دارهم ، وراضهم ما دمت في أرضهم.

حكاية أمير المؤمنين المهدي

أخبرنا أبو الحسن عن خلاد قال : قال شريك القاضي : ـ بعث إليّ المهدي في يوم صائف شديد الحر فدخلت عليه ، فإذا هو في بركة مملوءة بماء الورد ، جالس فيها على كرسي مرصع بالجوهر النفيس ، فأمر لي بكرسي فنصب لي / خارج البركة ، ثم قال : حدثني.

٣١٦

فحدثته ما شاء الله ، ثم دعا بثوب ، فاستتر به ، ولبس ثيابه ، وتحول إلى مجلس عظيم ، ثم دعاني فحضرت.

فأتي له بمائدة عليها خمسة أواني فيها شيء شبيه بالثلج بياضا يفوح منه رائحة ذكية.

فقال : كل.

فلم أدري ما هو ، ولا كيف يؤكل.

فقلت : إن من السنة يا أمير [المؤمنين] أن يأكل ربّ المنزل ثم الضيف.

فأكل ، وأكلت ، فلم أر شيئا أطيب منه.

فقلت : ما هذا يا أمير [المؤمنين]؟

[فقال](١) : إنه المخ بالسكر يتخذ لنا. ثم أتي بشراب شديد الحمرة فشرب منه وناولني.

فقلت : لا أشرب من هذا.

قال : اشرب لا أم لك.

فشربت ، فلم أر شيئا أطيب منه ولا أبرد.

فقلت : ما هذا يا أمير [المؤمنين]؟

قال : إنه يتخذ من عصارة ماء الرمان الحلواني والتفاح اللبناني والعسل الكحتاوي مختوم بالثلج والكافور.

فقلت : جمع الله لك مع نعيم الدنيا الآخرة ، ثم استأذنت بالانصراف.

حكاية عن المأمون :

ومما (٢) حكاه ابن المحسن عن ابن خلاد قال : دخل الحسن بن سهل على عبد الله المأمون وكان وزيره فقال : يا حسن ، عليك بالمروءة.

فقال الحسن : لم أعلم مراد أمير المؤمنين بهذا المقال حتى أجيبه.

ثم قال : عليك بعمرو بن مسعدة ، فتعلم منه.

قال : فمضيت نحوه ، فإذا في داره صناع يبنون ، وهو جالس [على](٣) طوبة ينظر إليهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين يتطلبه السياق.

(٢) في المخطوط وممن وهو تحريف.

(٣) ما بين المعقوفين يتطلبه السياق.

٣١٧

فقلت له : إن الأمير أرسلني إليك لتعلمني المروءة.

فدعى بطوبة فوضعها وأمرني بالجلوس عليها وتحدث ساعة ، وقد استليت غضبا من تقصيره في أمري.

ثم قال لأحد عبيده : هات ما عندك يؤكل ، فجاء بطبق لطيف عليه رغيفان وثلاث سكارج في أحدها / جبن وفي الأخرى عسل ، وفي الأخرى ملح ، فأكلنا ، ثم رفع.

فجاء الخادم بالوضوء ، فتوضأنا ، ثم صلينا الظهر.

وقال : إن رأيت أن تعود إلينا في يوم مثله فافعل.

فقمت ولم أدر جوابا ولا أودّعه. ودخلت على الأمير ، ولم أذكر له شيئا من ذلك.

فلما كان اليوم الذي وعدني لقائه صرت إليه فاستودى لي عليه فتلقاني من باب الدار وعانقني ، وقبّل بين عيناي وقدمني أمامه ومشى خلفي ، ثم أقعدني في صدر إيوانه ، وقد فرشت الدار بأمتعة فاخرة وزينت بأنواع الزينة ، وتأدب معي أدبا عظيما.

ثم جاء السماط ، وقدمت الموائد وعليها من ألوان الأطعمة ما لا يحصى كثرة وحسنا ، وجاءت بعده أنواع الفواكه في أطباق الذهب والفضة.

ثم جيء بعد ذلك بآلة الشراب في أواني البلور المسبك بالذهب المرصع بالمعادن النفيسة ، والشراب متخذ من ماء الرمان المضاف إليه من البهارات والمسك ما لا وصف لحسنه وطيبه فشربنا والوصائف يحفون بنا من كل جانب للخدمة. فلما أردت الانصراف حمل معي جميع ما حضر من آنية الذهب والفضة والأمتعة والخدم حتى لم يدع شيئا مما وقعت عيني عليه إلا حمله معي.

وقدم لي جوادا بسرج من ذهب مرصع ثم قال : إذا زارك أخوك بغير عزيمة فلا تتكلف له واقتصر على ما يكون حاضرا ، وإذا دعوته لضيافتك ، فاحتفل له ولا تدع من قدرتك شيئا وافعل كفعلنا معك يوم زيارتك لنا وكما فعلنا بك يوم دعوناك.

فلما أن دخلت على أمير المؤمنين وأعلمته بفعله أولا وأخيرا فقال : تعلم هذه المروءة الكاملة.

بناء دار جعفر

/ قال الجاحظ : أتى يحيى بن خالد ولده جعفر وهو يبني داره ببغداد.

فقال له : أراك تغطي الذهب بالفضة في دارك ـ معناه : تغطي الآجر بالجص؟!

فقال : هو كما أشرت فهل ترى عيبا؟

قال : نعم.

٣١٨

قال : وما العيب؟

قال : مخالطتها لدور السوقة.

فأمر بهدمها ، وبنى في مكان لم يخالطه فيه السوقة.

ومما وقع من كرم خالد بن برمك :

أنه لم يكن له صديق ولا نديم ولا جليس إلا وبنى له دارا لسكنه على حسب مقدار كلامهم وأزواجهم بسراري من ماله ، وجهزهم وأوقف عليهم ما يكفيهم ويزيد عنهم لهم ولأولادهم ونسلهم وعقبهم.

عبرة :

قال : كان بعض أحداث البصرة له كوخ ، يأوي إليه من جريد النخل على شاطىء نهر البصرة ، فكانت تأتيه بعض شباب البصرة يشربون عنده ، فإذا طلع الخمر في رؤوسهم يقولون : غدا تبني كوخك بالآجر والجص حتى يكون كأحسن دار في البصرة ، ثم إذا ذهبوا من عنده لم يفعلوا شيئا. فلما طال مطلهم وأتوا يشربون عنده فلما شربوا قالوا له كعادتهم. فأنشد :

لنا كوخ يهدم كل يوم

ويبنى ثم يصبح هدم خص

إذا مادت الأقداح قالوا :

غدا يبنى بآجر وجص

وكيف يشيد البنيان قوم

يلاقون الشقاء بغير ممص

فعار أن تقولوا قول زور

وسدوا جوع بطن غير خمص

قال : فلما انصرفوا من عنده لم يعودوا له.

وصية :

لما خرج عبد الله بن طاهر من بغداد متوجها نحو خراسان قال لولده : يا بني ، إن عاشرت أحدا في بغداد فلا تعاشر أحدا غير أحمد بن يوسف الكاتب فإن له مروءة / عظيمة.

فلما ودع أباه وعاد توجه نحو دار أحمد بن يوسف ، فدخل عليه ، فلما طال جلوسه عنده أمر بإحضار الأكل فأكل ، فحضر سماطا لطيفا وألوانا حسنة ، فأكلوا فلما همّ بالانصراف ، فقال له : إن رأى الأمير أن يشرف عبده في غد فليفعل.

فنهض وهو متعجب من وصف أبيه فيه وأراد نصيحته وحط مقداره فلم يترك أميرا ولا قائدا ولا رئيسا إلا وعرفه أنه في دعوة أحمد بن يوسف ، فلما أصبحوا توجهوا نحو دار ابن يوسف.

٣١٩

فلما دخلوها وجدوا من الفرش وأنواعه ما حار عقله ومن معه وعظمه وفخره ، فرأوا ملكا عظيما ، ومن الغلمان والخدم ما أهالهم.

فنصب ثلاث موائد (١) مسبكات بالذهب مرصعات بالمعادن ، على كل مائدة ألوان لا تشبه غيرها تحملها ثلاثمائة وصيفة. والأطعمة في صحاف الذهب والفضة ، والأواني من الصيني. فلما رفعت الموائد قال ابن طاهر :

ـ هل أكل الغلمان شيئا؟

قال : قد مدّ لهم موائد ليست مما فضل مما كان بين أيديهم.

فقال ابن طاهر : يا أبا الحسن شتان بين يومك وأمسك.

فقال : أيها الأمير ، ذاك لمن حضر بغير عزيمة ، وأما يومنا هذا فإنه المروءة وهذه مروءتي.

فخرج من عنده متعجبا مما رآه وكذلك من كان معه.

في الكرم :

ومما نقله ابن خلاد في تاريخه : أن محمد بن نصر بن بسام ممن أجمع الناس على كرمه وعظيم مروءته وسخاءه ، فبلغ ذلك أمير [المؤمنين] الموفق ذلك ، فعجب مما سمع ، وأحب أن يرى ذلك من غير علمه. فركب الموفق إلى داره وقت غدائه على حين غفلة من علمه ليشاهد ما سمع ، فدخل داره من غير إذن وجعل يطوف / فيها فأفضى إلى مطبخ وقد فرغ الطباخ من شغله ، فرأى من القدور والشنانير ما أهالهم كثرة وحسنا وعاد إلى الدار ، فدخل مطبخا آخر فإذا فيه مثل ما قبله وطباخين جواري.

فقال : ما هذا يا أبا جعفر؟

قال : هذا برسم العيال من الخدم.

فقال : هل غير هذا؟

فقال : نعم ، مطبخ آخر.

فقال : أرني إياه.

فلما رآه إذا هو مثل ما قبله.

قال : وما هذا؟

فقال : للغلمان والحاشية.

__________________

(١) في المخطوط مائدة وهو تحريف.

٣٢٠