مختصر عجائب الدنيا

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه

مختصر عجائب الدنيا

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن وصيف شاه


المحقق: سيّد كسروي حسن
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦

فإن رأيتني أصبت فزد في بسط يدك ، وإن لم أكن أصبت وقليل ما أرسلت فأنت آثم على نفسك إن لم تعرفنا أمرك ، وأنت حدثتني لما كنت على قضائك لأمير [المؤمنين] الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس عن النبي أنه قال للزبير بن العوام : «يا زبير ، إن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش ، يبعث الله سبحانه لكل عبد بقدر إنفاقه ، فمن كثر كثّر له ، ومن قلل قلّل له».

نادرة :

ومما وقع لعبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه : أن رجلا أراد [أن](١) يخجله فأتى وجوه قريش وعظماءهم فقال : ـ يقول لكم عبد الله بن عباس تغدوا عندي اليوم ، فأتوه حتى ملأوا عليه الدار من كثرتهم.

[فقال](١) : ما هذا؟

فأخبروه ما قيل لهم. فذبح وطبخ وعمل شيئا عظيما ، ومد (٢) سماطا هائلا فأكلوا.

فقال : لو وكلنا به في موجودنا ما يقوم بمثل هذا كل يوم.

قالوا : نعم.

قال : فليتغد عندنا هؤلاء القوم في كل يوم. فكان كذلك.

وأنشد بعضهم في المعنى :

بكيت على الدنيا لفقد أناسها

وقد بكت الدنيا على فقدهم قبلي

فجئت أعزيها وقلت مسائلا

أهم خلفوا فرعا يشابه الأصل

فقالت سريعا : خلفوا بهائما

/ ومن دار إليهم شيء من الفضل

حكاية :

قال الأعمش : كانت لنا شاة نتقوّت (٣) من لبنها ، فمرضت (٤) فبلغ خيثمة بن عبد الرحمن خبر فقرنا ، ومرض الشاة. وكنا سكنى بجواره في تلك الأيام ، فدخل علينا

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٢) في المخطوط : صد ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : سعوت ، كذا رسمت.

(٤) في المخطوط : فمن ضت ، وهو تحريف.

٢٦١

وسألنا عن حال شاتنا ، وهل أكلت علفها أم لا؟ وكيف حال الأولاد لمرضها وفقد لبنها؟

وكان تحتي لبدة أجلس عليها ، فلما أراد الانصراف أدخل يده تحت اللبدة ، فلما ذهب أخذنا ما وضعه وما زال يعودنا ويسأل عن الشاة حتى تعافت. فكان جملة ما وصلنا به وهو يتفقد الشاة ويسأل عنها في أيام يسيرة ثلاثماية دينار حتى كنا نتمنى أن الشاة لا تبرأ من مرضها.

وقال بعضهم في المعنى :

لم أبك في زمن تبدو إساءته

إلا بكيت عليه حين أفقده

ولا جزعت على ميت فجعت به

إلا وكنت بسكني القبر أحسده

ولا دهمت زمانا في تقلبه

إلا وفي زمني قد صرت أحمده

فهو الزمان الذي فينا بوائقه

عمت نوازله بالصبر نعضده

وغير ذلك :

مما حكاه الأصمعي أنه قال : دخلت يوما على جعفر الوزير ، فنادمته ، فقال لي : يا أصمعي ، ألك زوجة؟

فقلت : لا.

فقال : ألا تتزوج؟

فقلت : أود ذلك لكن لا ترضى بي النساء؟

فقال : ولم ذلك؟

قلت : لبشاعة المنظر ، وبياض اللحية.

فقال : عزمت أن أهب لك جارية تتسرى بها.

فقبلت يده وقدمه.

فقال لبعض الخدم : ائتني بفلانة.

فخرجت جارية تفوق البدر حسنا كأنما هي من حور الجنة. فلما وقفت بين يديه قال لها : قد وهبتك فامضي معه. فلما علمت صحة المقال ، صرخت وضربت وجهها وقالت : يا سيدي ، أما تتقي الله في أمري ، اقتلني فأموت وأستريح ولا تعذبني بمثل هذا ، أما / تنظر لبشاعة وجهه وقبح منظره وبياض ذقنه ، أمثل هذا يتمتع بمثلي؟ ثم بكت بكاء شديدا. فلما رأى ذلك قال : يا أصمعي ، تأخذ لك مني ألف دينار ثمنها وتتركها؟

فقلت : نعم ، وإن لقيمتها الدنيا وما حوت من مال وزخرف ومتاع. فأمر لي بها فقبضتها.

٢٦٢

ثم قال : أتدري لماذا وهبتكها؟

قلت (١) : لا أدري.

قال : إنها في هذه الليلة أغضبتني ، فأردت عقوبتها بك ، ثم رحمتها لشدة بكائها وحرقتها ، فاشتريتها منك.

ثم قال لها : هلا (٢) قلت شيئا في ذلك؟ فأنشدت ارتجالا :

لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا

لرأيته من دون قبح الأصمعي

شيخ بوجه كالح مستقبح

الله أكبر أن أراه بمضجعي

الموت دون صباح رؤية وجهه

وصباح قرد خير منه وأفلح

وغير ذلك مما وقع للكنتيجي مع المتوكل على الله مما هو متعلق بحسن التوكل على الله :

قال : ضاق حالي حتى لم يبق لي شيء أملكه سوى جارية لا يمكن بيعها. فدخلت دار المتوكل عازما أسأله شيئا ، فلما دخلت الدهليز لم تطاوعني نفسي السؤال ، قال : فحضرني أبيات ، فأخرجت الدواة وكتبت على الحائط هذه الأبيات :

الرزق مقسوم فأجمل في الطلب

يأتي بأسباب ومن غير سبب

فاسترزق الله ففي الله غنى

عن خلقه فليس في ذلك عجب

فإنما الرزق كظل شأنه

تطلبه سار وإن جئت طلب

قال : ثم رجعت من حيث أتيت. فركب المتوكل من ساعته ومعه وزيره (٣) الفتح ابن خاقان ، فمر على الكتابة وقرأها. ثم سأل من هناك عن من كتبها؟

فقيل : إنه الكنتيجي في هذه الساعة.

فقال : يصرف له بدرتين.

فحملوا إليه من ساعته. وهذا من حسن التوكل والإخلاص فيه وغير ذلك.

وقال المغيرة بن شعبة : أحب الإمرة (٤) / لثلاث خصال : لرفع مقام الأحباب ، وهدم عز الأعداء ، وقضاء المهمات لنفسي وإخواني.

وأكرهها لثلاث : لروعة البريد ، وذل العزل ، وشماتة الأعداء.

__________________

(١) في المخطوط : قال ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : هل ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : الوزيره ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : الامراة ، وهو تحريف.

٢٦٣

وقال بعضهم : ينبغي للعاقل أن يكون في الدنيا إحدى حالتين : إما في غاية من طلب الدنيا أو في الغاية من تركها. إما مع الملوك مكرما أو مع العباد معظما ، وما غير ذلك من هاتين (١) الحالتين دون ذلك فمن ابتغاه فألحقه بعالم البهائم الحيوانية ، وأخرجه عن حال الإنسانية ، وعده من البهائم المرسلة ، وأعدد له بردعة (٢) وسلسلة.

وقال أهل الفضل : خلق الله سبحانه وتعالى لكل إنسان قوة ثلاثة : ناطقية ، وغضبية ، وشهوانية.

فالناطقية هي التي شابه بها الملائكة ، فشابههم في النطق والذكر والتسبيح والعبادة.

والغضبية : إذا افرطت أخرجت صاحبها من حد الإنسانية وألحقته بعالم السباع الضواري والوحوش الكواسر ، فتراه يغضب كالأسد ، أو يثب كالنمر ، أو يغير كالذئب ، أو يحقد كالخنزير ، أو يرتعد كالقرد ، وقس على مثل هذا ما يشابهه من الوحوش حال تحرك غضبه.

والشهوانية : إذا أفرطت ألحقت صاحبها بعالم البهائم وأخرجته من عالم الإنسانية ، فإن البهائم ليس لها من الدنيا غرض غير الأكل والنكاح ، فاجهد أن تروض نفسك حتى تلحقها بالقوة الناطقية ، لتكون متشبها بالملائكة.

وصية حسنة

يا ولدي ، أراك قد عزمت على السفر ، فاسمع مقالي وانتصح بوصيتي تملك وثائق التدبير ، وتكون في غربتك ميسورا وتنقلب إلى أهلك مسرورا.

عليك بحسن الشمائل : فإنها تدل على الحرية.

ونقاء الأطراف : فإنها تدل على الملوكية.

ونظافة البدن : فإنها / تشهد بحسن المنشأ في النعمة.

وطيب الرائحة : فإنها من إظهار المروءة.

والأدب الحسن : فإنه يكسب المحبة والمودة.

وليكن عقلك سرا لدينك ، وقولك دون فعلك ولباسك دون قدرك.

والزم الحياء وغض بصرك عن عيوب الناس ، وخالقهم بخلق حسن ، واضبط للمقال ، واعتبر الجواب. فهذه وصيتي إليك وخليفتي عليك.

__________________

(١) في المخطوط : هذه ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : بروعه ، وهو تحريف.

٢٦٤

وقال المأمون :

لا شيء ألذّ من السفر مع السعة في الرزق لأنك تحل في كل يوم محلة لم تحلها قبل ، وتعاشر أناسا لم تعاشرهم من قبل ، وترى عجائب البلدان ، ومحاسن السكان ، وبديع الأقطار ، ومحاسن الآثار ، مما تزداد به فهما ، وتكسب منه علما. وليس بينك وبين بلدك نسبا ، فخيرهم ما أكسبك مالا ، وازداد إليك نوالا ، وأطيبهم ما كنت به ميسورا ، وتعود منه إلى أهلك مسرورا.

والرجل المقيم ببلده كالماء الراكد في محله ، إن تركه استجاد لونه وتغير ، وإن حركة تغير أو تكدر. ومثل المسافر كالسحاب الماطر قوم يرونه رحمة ، وقوم يعدوه نعمة ، فإذا طال مكثه ملوه وسألوا رحيله عنهم فبسطوا أكف الدعاء وقالوا : اللهم حوالينا ولا علينا.

ما قيل في حسن التوكل :

ومما وقع لبعض الناس من حسن التوكل على الله قال : ضاق حالي حتى لم يكن دينارا ولا درهما سوى دارا أسكنها وعبدا يخدمني ولا يمكن بيعهم فشكيت ما بي لصديق لي.

فقال : لم لا تقصد شجرة الكرم فتجني من ثمرها؟

فقلت : ومن هو؟

قال : جعفر الوزير.

فلما كان وقت الظهر كتبت قصيدة وعزمت على الوقوف له بها. فلما دخلت دهليز داره عزت نفسي لعدم عادتي السؤال أحد غير الله. فلما هممت بالعود خطر (١) ببالي شيء اكتبه ، فأخرجت الدواة وكتبت / على بياض الحائط ما ألهمني الله أن أكتبه ، [وهو](٢) هذه الأبيات :

حلفت لا أبتغي رزقا بجهد عنا

يوما ولو حال بي في ذلك الحال

لم يخلق الله من خلق يضيعه

حقا والغيب للراجين مآل

ثم رجعت ، وإذا قد أقيمت صلاة الظهر بمدرسة الوزير ، فدخلت المدرسة وخرج الوزير للصلاة ، فقرأ (٣) الخط.

__________________

(١) في المخطوط : خضر ، وهو تحريف.

(٢) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٣) في المخطوط : قرأ ، وهو تحريف.

٢٦٥

فقال لمن كان هناك : من كتب هذا؟

فقيل : رجل دخل فكتب ، ثم خرج فدخل المدرسة يصلي.

فقال للقائل : تعرفه؟

قال : نعم.

فأمر له بألف دينار ، وقال : إذا خرج الرجل من الصلاة أعطهم له ، وقل (١) له : خذ هذا المال ، فقد أرسله ربك الذي أخلصت توكلك عليه ، وإذا نفذ ، فعد واكتب على حائطنا ، وادخل لعبادته (٢) يأتيك رزق الله. فكان ذلك دأبه.

وغير ذلك :

قال مروان بن حفصة : لقيت يزيد بن مزيد خارجا من عند المهدي فأخذت بعنان جواده ، وقلت (٣) له : إن قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت مائة ألف.

فقال : قل (٤) ، [ولك](٥) ما قلت.

فأنشدت :

يا أكرم الناس من عجم ومن عرب

بعد الخليفة يا ضرغامة العرب

أفنيت مالك تفنيه وتنهيه

يا آفة الفضة البيضاء والذهب

إن السنان وحد السيف لو نطقا

لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب

فأمر لي بها.

ومما وقع لأبي دلف أو قيس :

إن امرأة (٦) دخلت على أبي (٧) دلف ، وقيل على قيس بن سعد بن عبادة ، فقالت : أشكو إليك أيها الأمير الفئران (٨) بداري.

قال : ما أحسن هذه العبارة ، املؤوا لها بيتها دقيقا ، وسمنا ، ولحما (٩) ، وعسلا ،

__________________

(١) في المخطوط : وقله ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : لعبادة ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : وقال ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : وقال ، وهو تحريف.

(٥) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٦) في المخطوط : أمره ، وهو تحريف.

(٧) في المخطوط : أبو ، وهو تحريف.

(٨) في المخطوط : الغيران ، وهو تحريف.

(٩) في المخطوط : ولحملا ، وهو تحريف.

٢٦٦

حتى لا تبرح الفئران بدارها مقيمة.

ومما حكاه الأصمعي :

قال الأصمعي (١) : كنت عند الرشيد / إذ دخل عليه الموصلي فأنشده :

وأمرت (٢) بالبخل قلت لها أقصري

فليس إلى ما تأمرين سبيل

فعالي فعال المتكبرين تجملا

ومالي كما قد تعلمين قليل

فكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

وأرى أمير المؤمنين جميل

فقال له هارون : لله أبياتك فما أحسن أصولها ، وأبين فصولها ، وأقل فضولها ، يا غلام ، أعطه عشرين ألفا.

فقال : والله لا آخذ منها درهما.

قال : ولم ذلك؟

قال : لأن كلامك يا أمير المؤمنين خير من شعري.

فقال : أعطه يا غلام أربعين ألفا. فقبضها.

قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد لدراهم الملوك مني.

وغير ذلك :

ومما حكاه إبراهيم الشيباني قال : [قال](٣) عبد الله بن سويد بن منجوف كان لأبي مالا كثيرا ، فذهب جميعه حتى أصبح ما يملك درهما وركبه دين كثير ودارنا بالبصرة ، فخرج طالبا خراسان ، فلم يحصل على طائل. فبينما هو متفكر أين يتوجه وإذا غلامه قد أخذ بغلته وثياب بدنه وهرب ، فلم يبق له إلا ما هو لابسه ، فزاد همه وعظم كربه. فقام والدي ودخل على ساسان [ابن](٤) المنذر ، فشكا حاله وما حصل له بعد ذلك من غلامه.

فقال له ساسان : والله ليس لي قدرة على ما ترونه ، ولكن لعلي أحتال ، ولكن بحيلة يعود عليك منها نفعا.

ثم أخرج له كسوة حسنة وألبسه إياها عارية مستردة ، ثم قال له : امض بنا [إلى](٣)

__________________

(١) بعد هذه الكلمة في المخطوط كلمة : «قال» ، وهي زائدة عن السياق فحذفتها.

(٢) في المخطوط : امرءة ، وهو تحريف.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٤) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

٢٦٧

باب والي خراسان ، فلما وصلنا / وقفنا بالباب ، ودخل وحده. فلم يلبث (١) أن خرج لي حاجب الأمير ، فأذن لي بالدخول ، فدخلت ، فإذا حصين جالس إلى جانبه. فسلمت على الوالي سلاما يليق به فرد سلامه ، ثم أقبل عليه حصين وقال : أصلح الله الأمير ، إن هذا علي بن سويد / سيد فتيان بن وائل ، وابن سيد كهولها ، وأكثر الناس مالا ، وأحسنهم حالا ، وقد تحمل بي على الأمير في حاجة له.

فقال الأمير : حاجة مقضية.

قال : إنه يسألك أن تمد يدك في ماله ، ومراكبه ، ودوابه ، وسلاحه ، ومواشيه. وأن تأخذ ما أحببت من كل ذلك قصدا لصداقتك. وأن يكون كأسوة من يكون مشمولا برعايتك.

فقال الأمير : والله لا فعلت ذلك ، بل نحن أولى بزيادة ماله ونعمه ، فلسنا محتاجون لما سألك فيه ، فقد (٢) صار إكرامه واجب علينا.

فقال ساسان : قد أعفيناك أيها الأمير مما لست تقبله ، ونحن نقبل برك ، ونفتخر بمكارمك.

فقال الأمير : أسألك أن تسأله قبول برنا فإنا نحب أن نرى ذلك متصلا به.

فأقبل ساسان على أبي وقال : إن الأمير لم يزد ما سألته فيه من مالك ، ونعمتك نقصا بك ، ولكن محبة وقصد مودة ، وهو يسألك بفضلك قبول ما يهديه لك ، وأن لا ترد شيئا مما يأمر لك به.

قال : فسكت والدي ، فعند ذلك دعا له بمال جزيل ونعمة عظيمة وخيلا وعبيدا حتى ضاقت الدار بعطائه.

قال : فلما خرجنا من عنده ، قلت : لله درك أبا ساسان ، لقد أريتني من حيلتك عجبا.

قال : امض يا ابن أخي ، فإن عمك أعلم بالناس منك ، اعلم أن الناس أراهم علموا أن معك غرارة من مال محشو لك غرارة مثلها ، وإن علموا أنك فقير أبعدوك وأغلقوا أبوابهم دونك ودون فقرك ، فقد قال بعض ذوي العرفان شعرا :

لا تظهرن الفقر يوما واجتهد

أن تبده يوما وأنت فقير

فمشي وقم صدرا عريضا شامخا

يصير أمرك بينهن خطير

فخرج من البصرة فقيرا ، وعاد بمال خيره موفور.

__________________

(١) في المخطوط : لبث ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : فقل ، وهو تحريف.

٢٦٨

/ ومما وقع [لأبي](١) دلامة :

ومما حكاه إبراهيم الشيباني أيضا ولد لأبي دلامة ابنة ليلا ، فأوقد السراج وقعد يخيط خريطة من أديم.

فلما أصبح طواها وحملها في يده وأدخل (٢) علاقتها (٣) في أصبعه ثم (٤) توجه نحو أمير [المؤمنين] المهدي ، واستأذن (٥) عليه فأذن له.

فلما وقف بين يديه أنشده :

لو كان يقعد فوق الشمس من مركب

قوما لقيل : اقعدوا يا آل عباس

ثم ارتفعوا مع شعاع الشمس في درج

إلى السماء فأنتم أكرم الناس

فقال له المهدي : يا أبا دلامة ، فما الذي أقدمك علينا؟

قال : ولدت لي جارية في هذه الليلة يا أمير [المؤمنين](٦).

[قال](٧) : فهل قلت فيها شيئا؟

فأنشده ارتجالا :

فما ولدت مريم أم عيسى

ولم يكفلك لقمان الحكيم

ولكن قد تضمك أم سوء

إلى لبانها وأب لئيم

قال : فضحك منه المهدي وقال : فما تريد أن أعينك في تربيتها يا أبا دلامة؟

قال : تملأ في هذه الخريطة دراهما وألقاها بين يدي أمير [المؤمنين](١).

فقال له المهدي : وما عسى أن تسع هذه من الدراهم؟

قال : يا أمير المؤمنين ، من لم يقنع بالقليل لا ينتفع (٨) بالكثير.

فأمر المهدي أن تملأ له ذهبا. فأخذه وانصرف ، فلما وصل داره عدها فإذا (٩) هي أربعة آلاف دينار.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط من المخطوط.

(٢) في المخطوط : وأرحل ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : عقلاقتها ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : نحو ، وهو تحريف.

(٥) في المخطوط : استبادن ، وهو تحريف.

(٦) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٧) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٨) في المخطوط : يقنع ، وهو تحريف.

(٩) في المخطوط : إذا ، وهو تحريف.

٢٦٩

ومما حكي :

أن الربيعة الرقي مدح يزيد بن حاتم ، وكان والي مصر ، فلم يعطه شيئا ، فلما آيسه توجه من مصر مسافرا عند خروجه من مصر بغير شيء [أنشد] :

أراني صفر الكف من مال ابن حاتم

أسير بلا زاد وفقد دراهم

فليت أن خفيه ملأهم بمكنة

ترابا ولا عودي كعود المآتم

قال : فبلغ ذلك يزيد بن حاتم ، فأرسل في طلبه فلما وقف / بين يديه قال له : أنت القائل أراني صفر الكف؟

فقال : نعم.

فقال : والله لأعطينك ملىء خفي مالا. ثم أمر بنزع خفيه وملأهما (١) له ذهبا ، فأخذه (٢) وعاد لأهله.

قال بعضهم :

لا تقربن لسلطان على عمل

واصبح على وحل تمشي على وحل

كل التراب ولا تعمل له عملا

فالشر أجمعه في ذلك العمل

وقال بعضهم :

من يعش يكبر ومن يكبر (٣) يمت

والمنايا لا تبالي من أتت

رحم الله امرؤ أنصف من نفسه

أو قال خيرا أو صمت

وقال بعضهم :

طب (٤) على الوحدة نفسا

وارضى بالوحشة أنسا

قد حوى الوقت أناس

قيمة الأحسن فلسا

ومثله :

الخير والشر مزداد ومنتقص

فالخير منتقص والشر مزداد

وما أسائل عن قوم عرفتهموا

ذوي الفضائل إلا قيل قد بادوا

__________________

(١) في المخطوط : ملأهم ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : فأخذهم ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : يدبر ، وهو تحريف وهو من شعر أبي العتاهية.

(٤) في المخطوط : طلب ، وهو تحريف.

٢٧٠

شكوى ووصية

كتب رجل إلى (١) صديق له حكيما يشكو إليه ريب زمانه ، وضيق حاله ، ويسأله رأيه ، فرد له الجواب [فقال](٢) : اعلم يا أخي إنما الناس بين رجلين : فواحد قدّمه سعده ، وآخر أخره حظه.

فارضى بالحالة التي أنت عليها وإن كانت دون قدرك وأملك اختيارا منك ورضا وإن لم ترض اختيارا رضيت غصبا كارها غير مأجور.

ومن كلام أهل الفضل :

الناس على دين ملوكهم في الخير والشر. قال أبو حازم : الملك كالسوق مهما نفق فيه جلب إليه.

قيل : / ولما ظفر عمر بن الخطاب بتاج كسرى وسواريه قال : إن الذي أدى هذا لأمين.

فقال له رجل : يا أمير [المؤمنين] ، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله ، فإن رتعت رتعوا.

قيل :

ودخل مروان بن الحكم صنيعة له ، فأنكر شيئا من عامله (٣) عليها ووكيله.

فقال له : إني لأظنك تخونني؟

فقال له : أتظن ذلك ولا تستيقنه؟

قال : أو تفعل؟

قال : نعم والله إني لأخونك وإنك لتخون أمير [المؤمنين] وأن أمير [المؤمنين] ليخون الله ورسوله ، فلعنة الله على أشر الثلاثة منا ، ثم أنشده ارتجالا :

إن الخيانة بعضها من بعضها

والناس فيها خائن للخائن

وكذا الأمانة بعضها من بعضها

بت في أمان إن دعيت بآمن

وفي السر وكتمانه :

قال بعضهم : في كتمان السر نفع عظيم ، وحصن منيع ، فكل ما كتمته عن عدوك فلا تظهر عليه صديقك.

__________________

(١) في المخطوط : لي ، وهو تحريف.

(٢) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٣) في المخطوط : عالمه ، وهو تحريف.

٢٧١

وفي معناه :

صن السر ولا تودعه

من أودع السر فقد ضيعه

فصدرك إذا لم يسع سره

فكيف يسعه صدر مستودعه

حكاية العجلي :

ومما حكي عن إبراهيم العجلي الشاعر : أنه قدم على هشام فأنشده شعرا حتى انتهى إلى قوله : والشمس في جو كعين الأحول وكان هشام أحول ، فأغضبه ذلك ، فأمر بطرده ، فطرد ، فأمل الرجعة ، فكان يأوي إلى مسجد بالقرب من دار هشام ، فأرق هشام ذات ليلة ، فقال لحاجبه : ائتني برجل عربي فصيح يحدثني ويسامرني وينشدني.

قال : فخرج الحاجب في طلب ما سأل ، فلقي العجلي ، فأتى به.

فلما وقف بين يديه قال له : أين كنت منذ أقصيناك؟

قال : حيث لقيني حاجبك ، بالمسجد.

قال : فمن كان أتى مثواك؟

قال : رجلين كلبيا وثعلبيا ، أتغدى / عند أحدهما ، وأتعشى عند الآخر.

فنادمه ، فلما انتهى من ذلك قال له : هل لك من ولد؟

فقال : ابنتان (١) يا أمير المؤمنين.

فقال له : هلا زوجتهما؟

قال : زوجت إحداهما ، وبقيت الأخرى.

قال : فبما أوصيت التي تزوجت ليلة أهديتها لزوجها؟

قال : أوصيتها :

سبي الحماة وبالغي في سبها

وإن شكت فاسرعي إليها

ثم اقرعي بالعود مرفقيها

في كل يوم وانزلي عليها

ثم قال له : هل أوصيتها بغير هذا؟

فقال :

__________________

(١) قبل هذه الكلمة كلمة : هل ، وهي زائدة على السياق فحذفتها.

٢٧٢

أوصيت بنتي بالأنام برا

والكلب خيرا والحماة شرا

واضربيها مرة وأخرى

ألحي عميهم بشر اطرا

وإن كسوكي ذهبا وطرا

حتى يروا حلو الحياة مرا

قال هشام : ما هكذا أوصى يعقوبا ولده.

فقال العجلي : إني لست كيعقوب ولا ولدي كولده.

قال : فما حال الأخرى؟

قال : هي طلامة التي أقول هذه الأبيات :

كأن طلامة لما تراها نظرت

شبه العفاريت في شكل إذا

الرأس قمل وصيبان مجمعة

حافين أرجلها في الحي إن خطرت

قال هشام : أعطه خمسمائة دينار ، فلما حضرت قال له هشام : خذهم واشتري بهم نعلان يمنعاها الحفا في الحي ، وأمر له بكسوة فاخرة وصرفه.

وقال بعضهم :

إنما الدنيا طعام ... ومدام وغلام

فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام

قيل :

أتى (١) يوم الربيع على المنصور ، فقيل (٢) : وفد الشعراء ببابك ، وهم كثير ، وقد طالت أيامهم ، ونفذت نفقاتهم.

فقال : أخرج إليهم ، وأقرهم عينا ، وقل لهم : من مدح الأمير فلا يشبه بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ، ولا بالحية فإنما هي دابة تأكل التراب ، ولا بالجبل فإنما هو حجر أصم ولا / بالبحر فإنما هو ماء مالح لا خير فيه فمن كان في شعره شيء من ذلك فلا يدخل (٣).

فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فلم ينصرف ، واستأذن (٤) له الربيع ، فأذن له ، فلما وقف بين يديه أنشده :

__________________

(١) في المخطوط : إنه ، وهو تحريف.

(٢) جاء بعدها في المخطوط كلمة : السلام ، وهي زائدة على السياق فحذفتها.

(٣) في المخطوط : فليدخل ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : وفاستاذن ، وهو تحريف.

٢٧٣

له لحظات عن خوافي سريرة

إذا كرّها فيها عفاف ونائل

له طينة بيضاء من آل هاشم

إذا اسود من لون التراب القبائل

إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى

وإن قال إني فاعل فهو فاعل

فقال له أمير [المؤمنين] : حسبك إلى هنا ، ويكفي. ثم أمر له بخمسة آلاف دينار ، ثم قال له : احتفظ بها يا إبراهيم ، فليس لك عندنا بعد اليوم غيرها.

فقال (١) : بأبي أنت وأمي ، أحفظها حتى آتيك بها على الصراط وأعرضها عليك ، ثم انصرف.

ومما حكي :

أنه ورد على الحجاج بن يوسف الثقفي (٢) سليك بن السلكة ، فقال : أيها الأمير ، أعرني سمعك ، واغضض عني بصرك ، واكفف عني عزمك ، فإن سمعت خطأ فدونك والعقوبة.

قال : قل.

فقال : عصا عاص من عرض عشيرتنا كمنعة الأمير ، ما له من راتب بيت المال [ولا](٣) لأهله وأنا من جملتهم ، فهل يؤخذ البريء بالسقيم؟

قال : هذه العادة من شيم الملوك ، أما سمعت قول الشاعر؟ وأنشده :

جانيك من يجني عليك وقد

يغري السليم مبارك الجرب

ولرب مأخوذ بذنب عشيرة

ونجا بنفسه صاحب الذنب

فقال : أصلح الله الأمير ، إني سمعت الله سبحانه وتعالى قال غير هذا.

قال : وما ذلك؟

قال : يقول الله جل ثناؤه في كتابه العزيز إخبارا عن نبيه يوسف صلوات الله عليه : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً / لَظالِمُونَ) [يوسف : ٧٩].

قال : فطلب الحجاج يزيد بن مسلم ، وقال : أطلق لهذا راتبه ، وأحسن جائزته ، ثم أمر مناديه ينادي : صدق الله ورسوله وكذا الشاعر في مقاله.

__________________

(١) في المخطوط : فقلت ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : تقفي ، وقد نقص من أوله أداة التعريف ، فأضفتها.

(٣) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

٢٧٤

حكاية :

ومما حكاه ابن الزناد عن هشام بن عروة قال : ولى إسماعيل بن عامر لعمرو بن أصبغ الأهواز فلما عزل بعد مدة وقدم عليه قال : ما قدر ما جئت به من عملك؟

فقال : والله مائتا درهم وثيابي وليسوا منها.

قال : كيف ذلك؟

قال : وليتني عملا أهله طائفتان مسلمين وأهل ذمة ، فالمسلمين لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وكل مسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه إلا بحق الإسلام ، وأهل الذمة يؤدون الجزية ، فأين أضع يدي؟ وأين آخذ؟

قال : فأمر له بعشرين ألفا فقبضها ، ووعده غير ذلك.

قيل لبعضهم :

ما السرور؟

قال : من طال عمره في العافية وكان له من الرزق ، وكفى ما يكفيه مدة حياته ، ورأى في عدوه ما يسره ، فهذا هو السرور.

وصف في فرس مسابق :

جاء الجواد وجمع الخيل تتبعه

وهنا على رسمه منها وما انتهر

وخلف الريح حسرى وهي تتبعه

ومرّ يختطف الأبصار والنظر

وصف السيف والحسام :

كأن على افرنده موج لجّة

تسير على حافاته وتجول

حسام يعادي الروح حتى كأنه

من الله في قبض النفوس رسول

وقيل لأعرابي :

ما لك لا تغزو العدو؟

فقال للقائل : قد علمت أن ليس لك عقل أتأمرني أن أقاتل من لا أعرفه ولا يعرفني ، ولا بيني وبينه عداوة؟!

والله إني لأكره أن أموت على فراش فأركب فرسا / وأسعى (١) إليه إن من يفعل ذلك كعديم العقل ، كاره لروحه ، فمنع عاجل ، ويقفل (٢) بيننا باب الدرب في الكرم.

__________________

(١) في المخطوط : واسعا ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : ويغفل ، وهو تحريف.

٢٧٥

قيل :

إن الفضل بن يحيى سار إلى خراسان بأمر أمير المؤمنين ، فتقدم إليه فتى كان سافر نحو الكوفة ، فقطع عليه الطريق ، وأخذ ما كان معه ، فمسك عنان جواد الفضل [و](١) أنشده :

سأرسل بيتا ليس في الشعر مثله

يقطع أعناق البيوت الشوارده

أقام الندى واليأس في كل منزل

أقام به الفضل بن يحيى بن خالده

قال : فأمر له بمائة ألف ، فقبضها وانصرف.

وغير ذلك :

مما وقع لمروان بن أبي حفصة ، فإنه عمل بيتين في محمد الأمين ولد زبيدة وأرسلهما إليها ، وإذا هم :

لله يا عقيلة (٢) درك [أم](١) جعفر

ماذا ولدت في العلى والسؤدد

إن الخلافة قد تبين نورها

للناظرين على جبين محمد

قال : فأمرت أن يملأوا فمه درّا مع مزيد من العطاء ، ففعلوا له ذلك.

وغير ذلك :

قيل : وقف رجل لأبي طوق وقد خرج لمتنزه له في الرحبة ، فناوله رقعة ، وقال : أيها الأمير إن فيها جميع حاجتي فأخذها ، فإذا فيها :

جعلتك دنياي فإن أنت جدت لي

بخير وإلا فالسلام على الدنيا

فقال له : والله لأصدّقن ظنك ، فأعطاه حتى أغناه.

ومما وقع لأبي نواس وعمر بن شيبة :

ومما حكاه عمر بن شيبة قال : كنت في المسجد الجامع بالبصرة جالسا إذ دخل عليّ أبو نواس لابسا جبّة جديدة تتلألأ (٣) نورا.

فقلت له : من أين لك هذه؟

فلم يخبرني ، فقدرت أنه (٤) أخذها من موسى بن عمران التاجر لأنه دخل من باب

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٢) في متن المخطوط : عقيلي. والتصويب من هامشه وبخط الناسخ.

(٣) في المخطوط : تتلا ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : أن ، وهو تحريف.

٢٧٦

بني تميم وهو لجهة داره ، فقمت إلى موسى ، فوجدته قد لبس جبّة خز جديدة / في غاية الحسن. فوقفت في طريقه معارضا ، فوقف لي ، فقلت له : كيف أصبحت يا أبا عمران؟

قال : بخير.

فقلت له :

يا أكرم الإخوان للإخوان

فقال : أسمعك الله خيرا.

فقلت له :

إن لي حاجة فرأيك فيها

إن تقضها فأنت فوز زمان

فقال : قلها على اسم الله.

قلت له :

جبة من جبابك الخز كيما

لا يراني الشتاء حيث يراني

فقال : خذها على بركة الله ، ومد كمها فنزعها ، ولبستها ، ثم دخلت على أبي نواس.

فقال : من أين لك هذه؟

فقلت : من حيث جاءت جبتك هذه التي أنت لابسها.

فقال : لله درك كيف عرفته؟!

نصيحة :

اسعد بمالك في الحياة فإنما

يأخذه بعدك مصلح أو مفسد

فإذا جمعت لمفسد لم تغنه

وأخو الصلاح قليله يتزيد

ومما وقع من المبالغة في الكرم :

ومما حكاه أبو اليقظان [قال](١) : كان عروة أخا أبي بلال من الكرم والمروءة على حد لا نهاية له ، فغضب عليه عبد الملك بن زياد ، فقطع يده ورجله ، وصلبه على باب داره.

فقال عروة لأهله : أكرموا هؤلاء الموكلين بي ، واحسنوا إليهم ، فإنهم أضيافكم.

فرحم الله من هذه فعاله.

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

٢٧٧

وقال بعضهم في معنى ذلك :

وما ابن آدم إلا ذكر صالحه

وذكر سيئه يسري به الكلم

أما سمعت بناس بارا جمعهم

جاءت بأخبارهم من بعدهم أمم

نصيحة :

بين السؤال والاعتذارات غنى

ذل يفوق ذل الجريمة (١)

كيف بي إذا سألت حاجتي للئيم

وردّني فتلك عندي غريمة

نصيحة بعض الحكماء :

لا تطلب حاجتك من كذاب فإنه / يقربها ويبعدها فعلا. ولا من أحمق ، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك ، واصحب العاقل وشاوره في أمورك ، فإن العاقل لا يشير إلا بالصلاح ، ولا يأمر إلا بما يمكن ، ولا يطلب ما لا يمكن ، ولا يرد عن ما يمكن.

وقال بعضهم :

قال لي : ترضى بوعد كاذب

قلت : إن لم يكن بريح فنفس

وإن يكن نار عظيم وقدها

لم نجدها يرض منها بقبس

وفي التلويح :

أمر بتسليم عليك مطالبا

لما أنا محتاج إليه مسلما

وفي لفظ :

تسليمي عليك كفاية

عن القول بالتصريح فيه والتمام

مذمة :

يا كريم اللسان من غير فعل

ليت في راحتيك جود لسانك

مواعيد عرقوب حفظت جميعها

وليس لعرقوب كمثل بنانك

ومثله :

وجاء دون أقربه السحاب

ووعد مثل ما لمع السراب

وتسويف يكل الصبر عنه

ومطل ما يقوم له حساب

__________________

(١) في المخطوط : دل يفوق دل الحريمه ، وفيه سقط في النقط.

٢٧٨

وفي تأخير الوعد :

بماذا أنا ثان عليك وإنني

أرى منك وعدا قد بنيت على فسدا

فكم حاجة أبغي لديك نوالها

سألتك فيها قلت في الحال لا غدا

فهل هو يوم الحشر أو غد يومنا

وما قدر يوم طال بالخلف موعدا

ومما حكي عن عبد الملك :

وكان قدم له قوس شديد القوس (١) فطلب وجوه قومه وشدادهم (٢) ليمدوه ، فلم يقدر منهم أحد يمده.

فدخل خالد العبسي ، وكان رجلا شديدا فأخذ القوس وقاوى نفسه ليجذبه فضرط من قوة القوس ، فكاد يموت من الخجل. قال : فأمر له عبد الملك بأربعين ألف درهم وكان الأخطل الشاعر حاضرا ، فأنشد بديها :

أيضرط خالدا من مد قوس

فيعطيه الأمير بها نذور

فيا لك ضرطة جبرت كسيرا (٣)

ويا لك ضرطة أغنت فقيرا

فود القوم لو ضرطوا / جميعا

ونالوا (٤) من عطاياك اليسيرا

قال : فضحك عبد الملك وأمر له بأربعة آلاف درهم.

ومما وقع للحجاج من اعتماد الظلم :

قال : عزم الحجاج على الحج ، فخطب الناس ، فقال في خطبته : إني قد استخلفت عليكم محمدا أخي وليس له رغبة فيكم لأنكم لستم تستأهلوه ، وقد أوصيته فيكم يا أهل العراق خلاف وصية رسول الله بالأنصار ، فإنه وصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ، وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم ، أما إنه إذا وليت عنكم داهية تقولوا : لا أحسن الله له ، ولا ألقاه في طريقه خيرا ، ولا أرانا وجهه ، وإني معجل لكم جواب مقالكم قبل أن تقولوه ، لا أحسن الله إليكم ، ولا أعقبكم خيرا وستعلمون ما يحل بكم عند عودي إليكم. ثم نزل عن المنبر ، فانصرف الناس منه على وجل.

__________________

(١) في المخطوط : القود ، وهو تحريف.

(٢) في المخطوط : وشجونهم ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : كثيرا ، وهو تحريف.

(٤) في المخطوط : ونادوا ، وهو تحريف.

٢٧٩

ومما حكي أيضا عن الحجاج :

قال : قدم عليه ابن عم له من بوادي العرب [من](١) ثقيف ، فرآه يولي الناس ولايات حكم ، فقال للحجاج : وليني حكما مثل ما تولي هؤلاء للحضر.

فقال : إن هؤلاء يكتبون ويحسبون ، وأنت لا تكتب ولا تحسب (٢).

فقال : والله إني لأحسب منهم.

فقال له الحجاج : أقسم أربعة دراهم بين ثلاثة أنفس بلا شيء ولا زال يكرر هذه القسمة إلى أن قال : أنا أعطي أيها الأمير الرابع من عندي.

فضحك الحجاج منه ، ثم قال الحجاج : إن أهل أصفهان انكسر عندهم خراج ثلاث سنوات كلما أرسلنا لهم وال عجزوه فلا رميناهم بهذا البدوي.

فكتب له عهدا وأمر له بما يحتاج إليه وأرسله إلى أصفهان ، فلما / وصلها خرج أهل البلد لملتقاه ، فرجعوا به ، وقالوا : هذا رجل بدوي ما يعرف ما نعمل معه فنستريح.

فلما استقر بدار الإمارة بأصفهان ، فلما جمع أهل البلد قال : ما بالكم تغضبون أميركم وتكسرون خراجكم؟

فقالوا : جور من كان قبلكم وظلمه من العمال.

فقال : فما الذي فيه صلاحكم؟

قالوا : تمهلنا بالخراج ثمانية أشهر ونجمعه لك.

فقال : القديم والجديد؟

قالوا : نعم.

وفي ظنهم خلاف ذلك ، وأنهم يفعلوا معه كما فعلوا بمن كان قبله لأن طمعهم في هذا أكثر ممن (٣) تقدم.

فقال : أمهلكم عشرة أشهر زيادة عنها إن أردتم. فشكروا له وخرجوا من عنده ، فلما قرب الأجل رآهم غير ملتفتين لجمع المال ولا لهم همة لذلك ، فلما طال الأمر ومضت العشرة أشهر طالبهم بالمال.

فقالوا : أيها الأمير ، إن زرعنا وأرضنا لم يحصل منها نفع كما تقدم لها من سنين.

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة يتطلبها السياق.

(٢) في المخطوط : لا تكسب ، وهو تحريف.

(٣) في المخطوط : مما ، وهو تحريف.

٢٨٠