الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

مجلس الخليفة ، أما الخليفة نفسه فيجلس فى قبة مفروشة بأفخر أنواع الحرير المنسوج بالذهب (١).

حذا الخلفاء العباسيون حذو المنصور فى العناية بتشييد القصور الفخمة فشيد الخليفة المهدى قصرا بعيسى باذ شرقى بغداد ، وسماه قصر السلامة (٢).

كما شيد الرشيد قصرا على دجلة تأنق فى تجميله وزينه بأبهى معالم الزينة وأقام فيه أساطين الرخام (٣) وقام الأمين بتوسيع قصر باب الذهب ، بأن أضاف إليه مبانى جديدة. وكانت قصور الخلافة تكتنفها حدائق غناء تبلغ مساحتها ما يعادل مسيرة عدة ساعات ، ويطل القصر على ميدان فسيح يعرض فيه الجنود الذين كانت ثكناتهم تطل على الضفة اليسرى للنهر (٤).

كذلك تعددت قصورا أمراء البيت العباسى وتميزت بفخامة بنائها واستاعها مثال ذلك قصر عيسى بن على بن عبد الله بن العباس ، وكان يقع على أحد فروع نهر دجله ، وهو أول قصر بناه الهاشميون فى أيام المنصور ببغداد ، ولا أدل على سعته من أن المنصور زار عيسى بن على فى قصره ومعه أربعة آلاف رجل ، وكان عيسى بن على يقيم فيه ومعه عدة آلاف من عياله ومواليه (٥).

وكان لكل هاشمية من بنات البيت العباسى قصر منفرد ، وأعظم هذه القصور قصر السيده زبيده ، وكانت هذه القصور تضم من الخدم والغلمان أعدادا كبيرة مما يدل على حياة الترف والنعيم وجمال السلطان بالبهاء والإشراف (٦).

لم يقتصر تشييد القصور الفخمة على بنى العباس ، لكن سار على منوالهم الوزراء وكبار رجال الدولة وأهل الثراء ، فشيد البرامكة فى الجانب الشرقى من

__________________

(١) Hitti : Hist.of the Arabs p.٣٩٢.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ٦ ص ١٦٥.

(٣) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٧٥.

(٤) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٥) ياقوت : معجم البلدان ج ٧ ص ١٠٧.

(٦) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ١٧٣.

٨١

بغداد قصورا منيفة لهم بالشماسية فكان جعفر بن يحيى البرمكى يحب حياة اللهو لذا نصحه والده يحيى بن خالد بأن يتخذ لنفسه قصرا فى الرصافة يجمع فيه ندماءه وقيانه ، ويقضى معهم أوقات فراغه بيعدا عن الأعين ، لذلك شيد قصرا بالشماسية ، وأحاطه ببساتين ذات أرباض خصبة مربعة وفرش به من أنواع الأشجار ما يأتى بأطيب الثمار ، واتخذ لكل مقصورة فرش على مقدار أبنيتها ، «وكان هذا القصر من أحسن القصور وأبهاها وأحب المواقع إليه وأشهاها لا طلاله على نهر دجله» وكماله فى النظر واشتماله بالروض والشجر ، وزين هذا القصر بالرسوم والزخارف البديعة من الداخل والخارج ، وعليه صور من الجص المجسم (١) ، وقد حث يحيى بن خالد البرمكى ابنيه الفضل وجعفر على البناء فقال : لا شئ أبقى ذكرا من البناء ، فاتخذوا منه ما يبقى لكم ذكرا ، فشيد الفضل قصرا كذلك (٢).

ولقد اتصلت عمائر البرامكة فى حى لا يخالطهم فيه أحد فى الشماسية بالرصافة ، وبرز فيها قصر يحيى المعروف بقصر الطين ، الذى أنفق فى بنائه أموالا طائلة ، وحى البرامكة هذا كان قريبا من قرية البردان ، ولقد اشترى البرامكة الدور من أهل هذه القرية ، ووهبوها لمن يلوذ بهم من أهل العلم والأدب (٣).

ظل قصر جعفر بن يحيى ـ الذى سبقت الإشارة إليه ـ قائما حتى قتل الأمين وولى المأمون الخلافة. فأقام المأمون بمرو فى بداية خلافته وعهد إلى الحسن بن سهل بحكم العراق نيابة عنه ، ونزل فى القصر الجعفرى وأقام به ، ولما قدم المأمون من خراسان ، وأقام فى بغداد ، بقى الحسن بن سهل مقيما فى القصر المشار إليه وقام بتوسيعه وكتب أسم الحسن عليه وعرف بالقصر الحسنى بدلا من الجعفرى. على أن الحسن بن سهل خصص هذا القصر لابنته بوران بعد زواجها بالمأمون ، وأضاف إليه المأمون عددا من المبانى المجاورة (٤).

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢١٧.

(٢) ابن الساعى : نساء الخلفاء ص ٩٠ ـ ٧١.

(٣) المصدر السابق ذكره.

(٤) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٨٢

ويذكر ابن طيفور (١) أن الفضل والحسن ابنى سهل عنيا بالعمارة وكان لا ينزلان من المنازل إلا أطراف البلدان ، وقد أوضح الحسن السبب فى ذلك فقال ـ الأطراف منازل الأشراف ، ينتاولن ما يريدون بالقدرة ، ويتناولن ما يريدون بالحاجة.

عنى شعب بغداد بتشييد الدور الفخمة خصوصا أهل اليسار منهم وكانت تشتمل فى الغالب على طابقين ومبنية بالجص والآجر ، وتحاط بأسوار ، وأقاموا فيها أحواض ماء ، زرعوا حولها بعض الأشجار والزروع ، وأقاموا على الأحواض عمدا مزخرفة من الرخام ، معقودة بقباب من فوقها ، نقش عليها آيات قرآنية. أما العوام فكانت منازلهم بلا أسوار وتتكون فى الغالب من طابق واحد وتطل نوافذها على الشوارع مباشرة (٢).

أخذ العباسيون عن الفرس العمل على تخفيف حرارة الشمس صيفا فكانوا يغطون بيوتهم بطبقة من الطين. تجدد فى كل يوم ، يقضى أهل المنزل وقت الظهيرة فيه ويرصف حول البيت كميات كبيرة من القصب (٣).

كذلك يسر الخلفاء وصول المياه إلى القصور والدور فأنشأوا جداول فى بغداد تأخذ من دجله والفرات ، وكانت الرحاب والشوارع تكنس وترش بأحسن نظام ، ولم يكن يسمح قط بالقاء القاذورات على جانبى الشوارع والأزقة ، وكانت الشوارع تضاء بالمصابيح ليلا (٤).

حرص أهل بغداد على تزيين مجالسهم بالفرش الفاخرة والأثاث وكانوا يكسون حيطان بيوتهم بالدبياج ، ويعنون بفرش الأشجار والأزهار فى حدائق منازلهم ، ويحليون الرياحين من بلاد الهند.

والخلاصة أن مدينة بغداد عظم فيها العمران فى العصر العباسى الأول حتى أن ضفتى دجلة أقيمت فيها القصور الفخمة والحدائق والمنتزهات البديعة والأسواق العامرة والحمامات الجميلة والمساجد الفخمة.

__________________

(١) فضائل بغداد : ص ٧٢

(٢) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه‍.

(٣) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٣.

(٤) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٨٣

(ب) المواكب والأعياد والمواسم

فاقت مواكب العباسيين مواكب الأمويين ، وتميزت بالروعة والبهاء ، وكان رجال الحرس يصحبون الخليفة المهدى فى موكبه مرتدين الأزياء الفخمة وبأيديهم الأسلحة ، ولكن الرشيد والمأمون كثيرا ما كانا يفضلان البساطة (١).

تجلت روعة مواكب الخلفاء العباسيين فى الجمع والأعياد ، فكان موكب الخليفة يتقدمه الغلمان ـ أى رجال الحرس على اختلاف طبقاتهم ـ يحملون الأعلام والمقارع وآلات الموسيقى المحلاة بالذهب ، ثم يليهم أمراء البيت العباسى على الخيول المطهمة ، ثم الخليفة ممتطيا جوادا ناصع البياض وبين يديه الأشراف وكبار رجال الدولة ، ويأتى بعدهم بقية الغلمان ، وكان الخليفة فى تلك المواكب يلبس القباء الأسود الذى يصل إلى الركبه ، ويتمتطق بمنطقة مرصعة بالجواهر ، ويتخذ عباءة سوداء ويلبس قلنسوة ، وقد زينت بجوهرة ثمينة ، وبيده قضيب رسول الله والخاتم. وتتدلى على صدره سلسلة ذهبية مرصعة بالجواهر الثمينة. أما القباء فكان مفتوحا عند الرقبة (٢).

وتجلت مظاهر الخلفاء العباسيين الخاصة التى تدل على سيادتهم الروحية فى مواكبهم المتجهة من بغداد إلى الحجاز للحج ، فحينما خرج المنصور فى إحدى السنوات للحج ، اجتمع حشد كبير من أهل العراق وخراسان وغيرهم من المتجهين لأداء فريضة الحج فى باب الكوفة ، وكل معه إبله ومؤوتنه ومتاعه ، واجتمع هناك فريق من الجند لحراسة الحجيج فى حلهم وترحالهم ، وسار الموكب وفى طليعته هو أوج تظلها قباب من الديباج ، وفيها يقيم أمر الحج ، ثم أذن للحج بالمسير ، فضرب بوق إيذانا بركوب الخليفة ، وجلس فى هودج وفى يده قضيب الخلافة ، وفى الأخرى الخاتم ، وعليه جبه وشى من فوقها بردة خضراء للرسول ، وبصحبه جماعة من الأمراء ورجال الدولة ، ومن خلفهم الإبل التى يركبها أهل بيته ، ولهم حرس خاص بهم يحملون الرايات السواد ، فلما وقف

__________________

(١) سيد أمير على : مختصر العرب ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٢) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٧.

٨٤

الأمراء ورجال الدولة لوداع الخليفة ، أوصاهم بالسهر على الرعية ثم نفخ فى البوق إيذانا بالنفير ، وزحف الحجيج وفى مقدمتهم هودج الخليفة (١).

ويصف لنا ابن قتيبة (٢) أحد مواكب الرشيد فى رحلة الحج فيقول : لما أعتزم الرشيد الحج أمر بتمهيد طريق ، الحج ، وذلك بإزالة العوائق من الطريق ، ولذلك حولت بعض القنوات ـ التى تعترض الطريق ـ عن مجراها ، وأزيلت المرتفعات والآكام التى تعرقل الطريق ، وردمت الخنادق ، حتى صار الطريق من بغداد إلى مكة المكرمة ممهدا وأمر بعمل محطات فى الطريق تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة أثنى عشر ميلا ، وفى كل محطة دار فرشت بالبسط الفاخرة ، ونصبت لها جدار بالستور وسمكها بأكسية الخز الرفيع الملون ، وعلى كل فرسخ من الطريق أقيمت قبة مفروشة ، وقد أحاط بها الأشجار التى تظللها ، وأقيمت الرواقات الكثيفة بها أنواع الطعام والشراب والفاكهة ، فكان يمشى ثلاثة أميال ثم ينزل فى قبة أمامها رواق فينال راحته ، ويصيب ما اشتهى من ألوان الطعام ، واقفه فى طريقه الوزراء والقواد وأمراء الأجناد والأعلام والفقهاء والعساكر قد صاروا منه بمعزل يحاذونه فى طريقه إذا نزل وكان فى تواقفه يتابع أمور دولته ، فيأتيه البريد بأخبار الأمصار والبلدان. ويصدر أوامره وتعليماته إلى بلدان دولته.

لم تقتصر مواكب الخلفاء على الخروج للصلاة أو الحج. وإنما اشتملت أيضا رحلات الخليفة إلى الصيد. فحينما كان يخرج الخليفة المهدى للصيد يحاط بفرسان من الحرس متقلدين سيوفهم ، يتبعهم عدد من الجند وطائفة من الغلمان (٣).

وكانت نساء الخلفاء يتنقلن فى مواكب خاصة بهن ، فالخيزران ـ أم الهادى والرشيد ـ كانت تنقل فى موكب عظيم من الغلمان المزينة ، والخيل عليها كسوة من الديباج والحلية الثقيلة من الفضه (٤).

__________________

(١) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) الإمامه والسياسة ص ٢٢٣.

(٣) Gohn Glubb the Empire of the Arabs p.٤٦٢.

(٤) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٢٢.

٨٥

أهتم الخلفاء العباسيون بالاحتفال بالأعياد فى شئ كثير من الإبهة ، والأعياد نوعان دينية وتشمل عيد الفطر وعيد الأضحى وأعياد كان يحتفل بها أهل العراق قبل الإسلام.

كان الخلفاء يحتفلون بعيدى الفطر والأضحى أحتفالا دينيا فيؤدون صلاة العيد فى المسجد الجامع ، ويؤمون الناس فى الصلاة ، ويلقون خطبة العيد عليهم ، وفى ليالى هذا العيد تضاء الأنوار فى المدينة ، وفى العيد يركب الناس نهر دجله فى زوارق مطلية بأبهى الأصباغ والألوان ، ويتلالأ قصر الخلافة بضوء باهر ، ويلبيس الناس الطيالس السود ، وتقام الؤلائم للناس على مراتبهم (١).

أما الأعياد التى كان يحتفل بها أهل العراق من قبل الإسلام مسيحية تماما ، وكان أهل بغداد مسيحيين ومسلمين يحتفلون فى الأديرة بأعياد القديسين ، ويوم أحد الشعانين عيد كبير للعامة ، ويبدو أنه كان عيدا قديما من أعياد الأشجار ، والوصائف فى هذا العيد يظهرن فى قصر الخلافة مرتديات أفخر أنواع الثياب ، وفى أعناقهن صلبان من ذهب ، وبأيديهن قلوب النخل وأغصان الزيتون (٢).

وفى يوم عيد الفصح ، يقصد النصارى دير سمالو شرقى بغداد بباب الشماسية على نهر المهدى ، ويشاركهم احتفالهم أهل اللهو من المسلمين حيث تحف به المنتزهات ويحتفل النصارى بأحد أعيادهم فى دير الثعالب بالجانب الغربى من بغداد ، ويشاركهم المسلمون أيضا الأحتفال بهذا العيد ، ويشمل المكان الذى يقع فيه الدير البساتين التى تضم أنواع الأشجار والرياحين ، وهذا العيد كان فى آخر سبت من أيلول. (سبتمبر) (٣).

أما عيد دير أشمونى فكان في اليوم الثالث من تشرين الأول (٤) ، (أكتوبر) وهو من الأيام العظيمة فى بغداد ، يجتمع أهلها فيه وخصوصا أهل الطرب واللهو ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) متز : الحضارة الإسلامية ج ٢ ص ٢٧٨.

(٣) الشابستى : الديارات ص ٩.

(٤) المصدر السابق ص ١٦.

٨٦

ويتنافسون فيما يظهرونه هناك من زيهم ، ويباهون بما يعدونه لقصفهم ، ويعمرون شطه وديره وحاناته ويضرب لذوى البسطة منهم الخيم والفساطيط ، ويعزف القيان ويتمتع الناس هناك باللهو والطرب. ويكثر الغناء (١).

وأعياد النصارى ببغداد يقسمونها على أعياد معروفة فالأحد الأول منه عيد دير العاصية ، وهو على ميل من سمالو والأحد الثانى دير الزريقية والأحد الثالث دير الزندورد والأحد الرابع دير درمالس ، هذا وعيده أحسن عيد ، يجتمع نصارى بغداد إليه ، ولا يبقى أحد ممن يحب اللهو والطرب إلا تبعهم ، ويقيم الناس فيه الأيام الطوال (٢).

وكان هناك مواسم أخرى يحتفل بها العباسيون منها النوروز وهو أول أيام السنة عند الفرس ، وأحد مواسمهم القديمة ، وفد نهى العرب أهل فارس بعد الفتح ـ عن الاحتفال بهذا العيد ، غير أن العباسيين فى عصرهم الأول أباحوا الاحتفال به (٣) ، وكان الناس يتيادلون فيه الهدايا ، والخليفة يوزع على الناس أشياء منها صور مصنوعة من عنبر ٣١).

ويأتى بعد عيد النوروز بمائة وأربعة وتسعين يوما عيد المهرجان ويعتبر أول أيام الشتاء ، وظل إلى جانب النوروز أكبر الأعياد ، وكان الناس يتهادون فيه ، وتخلع فى هذا العيد على القواد وكبار رجال الدولة ملابس الشتاء ، وكان العامة يغيرون فيه الفرش والثياب ، وكثيرا من الملابس ، وكان هذا العيد يمتاز خاصة بأن الرعية يهدون فيه السلطان (٤).

(ج) الموسيقى والغناء والمجالس الاجتماعية

كانت مجالس الخلفاء العباسيين والآمراء والوزراء وكبار رجال الدولة تضم الندماء والمغنين ، فالندماء يقصون النوادر الآدبيه ويرون الأشعار ، أما المغنون

__________________

(١) الديارات للشابستى ص ٣٠.

(٢) المصدر السابق ص ٣.

(٣) متز : الحضارة الإسلامية ص ٢٨٧.

(٤) الجاحظ : التاج ص ١٤٦.

٨٧

فيؤدون أغانيهم. وقد يكون النديم مغنيا فى نفس الوقت مثل إسحاق بن إبراهيم الموصلى.

وصناعة الغناء هى تلحين الأشعار والموزونة بتقطيع الأصوات علي نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعا عند قطعة ، فيكون نغمه ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب ، وما يحدث عنه من الكيفية فى تلك الأصوات.

انتشر الغناء فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، وأقبل أهل بغداد عليه ـ على اختلاف مستوياتهم ـ بشغف شديد ، وزاد من شغف الناس به ، إقبال الكثير من الطرب واللهو من بلاد الإسلام على بغداد. وإقامتهم بها ، وعرض فنهم فيها ، وكان بعض الخلفاء فى العصر العباسى الأول يتحرج من الظهور للمغنين ، فلما ولى المنصور الخلافة شغل بإقرار الأمور فى دولته ، والقضاء على أعدائها ، لذلك لم يكن له فى اللهو والطرب مجال ، ولم ير فى دار المنصور لهو ولا غناء ، ولم يظهر لنديم قط. وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعا ، وبين الستارة والندماء مثلها (١). أما المهدى فكان فى أول الأمر لا يحتجب عن الندماء ، تشبهها بأبيه المنصور ، وظل على ذلك نحوا من سنة ، ثم ظهر لهم فأشار عليه أحد خاصته بأن يحتجب عنهم تشبها بأبيه فرفض وقال. إنما اللذة فى مشاهدة السرور ، وفى الدنو ممن سرنى.

وكان محبا للنمادمة لا يترك جليسه إلا عن ضرورة (٢) ومن أشهر ندمائه مروان ابن أبى حفصة ، كان يأتى باب المهدى على برذون قيمته عشرة آلاف دينار والسرج واللجام المزينين ، ولباسه الخز والوشى ورائحة المسك والطيب تفوح منه (٣).

والحقيقة أن المهدى شجع أهل بغداد على الإقبال على الغناء واللهو ، إلا أنه رفض أن يتجاوزوا باللهو حدود ما أمر به الله ، ولكن الأمور سارت على غير

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٤٢٣.

(٢) المصدر السابق ص ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ٧٧.

٨٨

ما رسمه ، فقد شاع شعر بشار بن برد فى عهد المهدى بما فيه من مجون وعبث وغزل مكشوف حتى ضج رجال بغداد من شعره ، وشكوا إلى المهدى لأنهم خافوا على نسائهم وبناتهم ، فتدخل المهدى ونهى بشار عن الغزل بالنساء (١).

وكان الهادى يستمع إلى الغناء ويجزل عليه العطاء (٢). أما الرشيد فقد شغف بمجالس الطرب والغناء ، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنيين ما اجتمع على باب الرشيد ، وكان يصل كل واحد منهم بأجزل صلة ، ويرفعه إلا أعلى مرتبه ، وكان فاضلا شاعرا راوية للأخبار والآثار والأشعار (٢) وكثيرا ما يتلثم فيحضر مجالس العلماء وهو لا يعرف ، ولقد قسم الأيام والليالى قليلة للوزراء يذاكرهم أمور الناس ، ويشاورهم فى أمور الدولة الداخلية والخارجية ، وليلة الكتاب يتفقد أعمالهم ، ويرتب الناس ما ظهر من صلاح أحوال المسلمين وليلة للقواد أمراء الأجناد يذاكرهم أمر الأمصار ويسألهم عن الاخبار ، ويذاكرهم العلم ويدارسهم الفقه ـ وكان من أعلمهم ـ وليلة للقراء والعباد يتصفح وجوههم. ويتعظ برؤيتهم ، ويستمع لمواعظهم ، ويرفق قلبه لكلامهم ، وليلة لاهل بيته يأنس بهم وباشرهم ، وليلة يخلو فيها بنفسه لا يعلم أحد قرب أو بعد ما يصنع ، ولا يشك أحد أنه يخلو فيها بربه يسأله خلاص نفسه وفكاك رقه (٣).

وجعل الرشيد للمغنين مراتب وطبقات ، فكان إبراهيم الموصلى وابن جامع وزلزل فى الطبقة الأولى ، والطبقة الثانية سليم بن سلام وعمرو الغزال ، والطبقة الثالثة أصحاب المعازف والطنايبر وعلى قدر ذلك كانت تخرج جوائزهم وصلاتهم ، وإذا أجاد أحد المغنين والموسيقيين الأداء أمر الخليفة بترقيته إلى المرتبة التى تعلو مرتبته فرقى الرشيد برصوما الزامر من الطبقة الثانية إلى الطبقة الأولى بعد أن أطرب الرشيد (٤).

__________________

(١) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ١١١.

(٢) الجاحظ : التاج ص ٣٥.

(٢) الجاحظ : التاج ص ٣٥.

(٣) ابن قتيبة : الإمامة والسياسة ج ١ ص ٢٩٧.

(٤) الجاحظ : التاج ص ٤١.

٨٩

ومن أبرز ندماء الرشيد الشاعر أبو العتاهيه ، كان لا يفارق الرشيد فى سفر ولا حضر ، إلا فى طريق الحج ، وكان يجرى عليه فى كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والصلات ، وقد أعجب بشعره اللطيف المعانى السهل الألفاظ ، القليل التكلف ، وكثر شعره فى الزهد والأمثال (١).

ولا أوافق الأستاذ أحمد أمين فيما ذهب إليه (٢) من أن أزدياد ونفوذ الفرس فى عهد الرشيد ، وما عرف عنهم من ميل إلى اللهو والسرور ، نشروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة وما كان فيها من حضارة ولهو وعبث ، لأن الغناء كان منتشرا قبل عهد الرشيد فى بغداد ، وفى دمشق إبان الحكم الأموى (٣) ، حقيقة بلغ الترف والنعيم فى بغداد فى عهد الرشيد أقصاه ، إلا أن الفضل فى ذلك يرجع إلى ما بلغته الدولة العباسية من سعة وغنى واستقرار ، ومساهمة عناصر السكان على اختلاف أجناسهم فى ازدهار الحياة العامه (٤).

وكان الأمين لا يحتجب عن الندماء ، ويجزل عليهم العطايا ، ويقضى أجل أوقاته فى الاستمتاع بضروب اللهو ، وعلى الرغم من أن أخباره وضع أكثرها فى عهد المأمون للإساءة إليه ، والحط من قدره ، فإننا لا نستطيع أن ننكر ميله إلى اللهو ، يؤيد ذلك ما ذكره الطبرى (٥) من أن الأمين لما ولى الخلافة وجه إلى جميع البلدان فى طلب الملهين ، وضمهم إليه ، وأجرى لهم الأرزاق ، كما أمر ببناء مجالس لمنتزهاته ، ومواضع لهوه وخلوته بقصر الخلد وقصور اللهو ، واقتنى الوحوش والسباع والطيور وأنفق أموالا طائلة فى بناء سفن على شكل بعض الحيوانات ، كالأسد والفيل والعقاب وغير ذلك ، وقسم ما فى بيوت الأموال من الجوهر على جلسائه ومحدثيه (٦).

__________________

(١) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ٦٣.

(٢) ضحى الإسلام ج ١ ص ١١١.

(٣) انظر : الإدارة المركزية للدولة الأموية ١٢٥.

(٤) Gohn Glubb : The Empire of the Arabs p.٩٧٢.

(٥) تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٨ ه‍.

(٦) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٨.

٩٠

كانت شخصية المأمون تخالف شخصية الأمين ، فقد عرف المأمون منذ حداثته بالجد والحرص على طلب العلم والتفقه فيه حتى أصبح حجة فى المسائل العلمية والفلسفية ، ولما قدم بغداد ظل بها ما يقرب من عشرين شهرا لا يستمع إلى للغناء ، ثم سمعه من ولاء ستار متشبها بالرشيد ، واستمر كذلك سبع سنين ثم ظهر للمغنين والملهين (١).

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أشهر المغنين فى بغداد فى العصر العباسى الأول.

وذكرنا أن إبراهيم الموصل كان من المقربين إلى الرشيد لبراعته فى الغناء ، وأصله فارسى ، تعلم الغناء فى الموصلى ، تم صار إلى الرى وتعلم فيها أيضا ، وتعلم الغناء العربى والفارسى ، وأعجب به كثير من الناس ، والتفوا حوله حتى أن الرشيد قال : ما أعرف أحدا أكثر أصدقاء من إبراهيم (٢) يصنع فيحسن ، وكان بمنزله خطيب أو شاعر أو كاتب يتقن مهنته ، فضلا عن أنه كان شاعرا وأديبا حتى قيل إن إبراهيم بستان فيه جميع الثمار والرياحين (٣).

ولم يكن الناس يعلمون الجوارى الغناء ، وأول من علهم إبراهيم فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ، ورفع من أقدارهن ، وكان يضع اللحن ، ويكرره لتستوى له أجزاؤه ، وجواريه يضربن عليه ، صنع إبراهيم الموصلى تسعمائة لحن ، تفوق فى ثلاثمائة منها على جميع الموسيقيين المعاصرين والسابقين عليه (٤).

لما ولى الرشيد الخلافة وجلس بعد فراغه من إحكام الأمور ، دخل عليه المغنون ، وأول من غناه إبراهيم الموصلى ، فشقف به ، وكان الرشيد يعقد مجالس المغنيين ، ويطلب منهم أن يبرز كل واحد منهم ألحانه ، وفضل إبراهيم الموصلى على غيره ، وبلغ من محبته لأغانيه ، أنه كان يذهب إليه فى منزله ، ويطلب منه أن يغنيه من ألحانه (٥) وكان لكل واحد من المغنيين مذهب فى الألحان التى

__________________

(١) الجاحظ : التاج ص ٤٣.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ١٦٩.

(٣) ابن عبد ربه : العقد الفريد ج ٤ ص ١٠٨.

(٤) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ١٨٧.

(٥) المصدر السابق ج ٥ ص ٢٣٠.

٩١

يختارها لأغانيه ، ولم يكن أحد يتصرف فى مذاهب الأغانى مثل إبراهيم الموصلى ابنه إسحاق وترك إبراهيم الموصلى بعد وفاته ثروة قدرت بأربعة وعشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهى عشرة آلاف درهم وسوى غلات ضياعه (١).

كذلك اشتهر فى الغناء فى بغداد إسحاق بن إبراهيم الموصلى والرشيد شغف به لأنه كان على جانب كبير من المقدرة العلمية والأدبية والرواية ، وكان شاعرا مجيدا ، وعلى ذلك نقول إنه لم يكن مغنيا بارعا فحسب بل عالما وأديبا وشاعرا.

ويذكر صاحب كتاب الأغانى أن إسحق لم يكن له نظير فى الغناء ، فإنه لحق من مضى فيه ، وسبق من بقى ، فهو إمام أهل صناعته جميعا ورأسهم ومعلمهم.

يعرف ذلك عنه الخاص والعام ، وكان إسحاق الموصلى يحدث الرشيد بأحاديث القيان والمغنين تارة وبأخبار العرب وأيامها تارة أخرى ، ويتفوق على غيره من المغنين فى مجالس الغناء (٢).

كان إسحاق رغم تفوقه فى الغناء لا يحب أن يوصف بأنه مغنى وبلغ من تقدير الخليفة المأمون له أن قال. لو لا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء فإنه أولى به وأحق ، وقد روى الحديث ولقى أهله مثل مالك بن أنس ، وهو الذى صحح أجناس الغناء وطرقه ، وميزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ، ولا تعلق به أحد بعده ، وصنف كتابا فى الألحان رتب فيه جميع طرقه والأجناس ، وجمع الغناء القديم وألحق به الغناء الحديث إلى آخر أيامه بما فى ذلك أقوال العلماء الأقدمين من اليونان مثل أقليدس وغيره من أهل العلم بالموسيقى ، وتفهم ما أفنوا فى بحثه الأيام والليالى. ومن أقوال إسحاق فى الغناء : إن الإيقاع من الغناء بمنزلة العروض من أشعر ، «والمغنى الحاذق من تمكن من أنفاسه ، ولطف فى اختلاسه وتفرغ فى أجناسه (٣).

وكان الخليفة الواثق من أكثر العلماء تقديرا لإسحاق ، وكان إذا صنع شيئا من

__________________

(١) المصدر السابق ج ٥ ص ١٦٤.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ٢٦٧ ـ ٢٦٩.

(٣) ابن خرداذبه : مختارات من كتاب اللهو والملاهى ص ٥٥.

٩٢

الألحان عرضه على إسحق فيصلحه ، وقال إسحاق : ما وصلنى أحد بمثل ما وصلنى به الواثق (١) ، وبلغ من تقدير الواثق لإسحاق أنه قال : ما عنانى إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد فى ملكى (٢) وكان الواثق أعلم الخلفاء بالغناء ، وصنع مائة لحن ، وهو أحذق من غنى بضرب العود (٣).

ومما لا شك فيه أن إسحاق الموصلى لم يبلغ ما بلغه من إتقان للغناء إلا بفضل دراسته لهذا الفن دراسة واعية فقد تتلمذ على أبيه ، وعلى منصور زلزل ـ المغنى المشهور ـ واتفق على تعليمه مائة ألف درهم (٤). ونبغ فى الغناء ـ كما ذكرنا ـ ، ومجالس المنادمة فكان «لا يمل جليسه مجلسه ، ولا تمج الآذان حديثه ، إن حدثك الهاك وإن ناظرك أفادك ، وإن غناك أطربك».

تتلمذ فى مدرسة إبراهيم وإسحاق الموصلى الموسيقية كثير من هواة الغناء ، نخص بالذكر منهم علويه ، كان مغنيا حاذقا صانعا متقنا ، برع فى الغناء ، وغنى للأمين ، وعرفت ألحانه بالجودة وحسن السبك (٥).

وكذلك نبغ محمد الرف ، وكان إسحاق الموصلى يرفع من قدره ويبرزه فى مجالس الخلفاء (٦).

كذلك حرص كبار رجال الدولة على عقد الغناء ، وتقريب المغنين لهم أسوة بالخلفاء ، فكان جعفر بن يحيى البرمكى ـ وزير الرشيد ـ له ظرف وأدب غناء وضرب بالطبل ، وكان يأخذ بأجزال حظ من كل فن من الأدب ، ويأمر الجوارى بالمثول بين يديه فى الغناء ، ويغنى فى مجالس لهوه وطربه (٧) ، وجعفر من ندماء

__________________

(١) المصدر السابق ج ٩ ص ٢٨٢.

(٢) المصدر السابق ج ٥ ص ٢٨١.

(٣) المصدر السابق ج ٩ ص ٢٩٣.

(٤) المصدر السابق ج ٥ ص ٢٦٩.

(٥) الأصفهانى : الأغانى ج ١٤ ص ١٧٨.

(٦) ابن خرداذية : مختارات من كتاب اللهو والملاهى ص ٥٥.

(٧) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ٤٠٧.

٩٣

الرشيد ، وكان أبوه ينهاه عن منادمته ، ويأمره بترك الأنس به ، لأنه كان لا يأمن أن ترجع العاقبة عليه منه (١).

بلغ الشغف بالغناء فى بغداد حدا جعل العمل به لا يقتصر على عامة الناس بل تجاوزه إلى أمراء البيت العباسى ، وكان أولهم وأتقنهم صنعة فى الغناء إبراهيم ابن المهدى ، فإنه كان لا يستتر منه ، وفى أول أمره كان يغنى من وراء ستار إلا إذا جلس مع الرشيد والأمين من بعده فى خلوه ، ولما أمنه المأمون ظهر بالغناء ، وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم بالغناء وأحسنهم صوتا ، وهو من المعدودين فى طيب الصوت خاصة ، وأصبح الناس ينقسمون فى الغناء طائفتين ، فمن كان منهم على مذهب إسحاق وأصحابه يفضل الغناء القديم ويعظم الإقدام عليه (٢) ومن اعتز بمذهب إبراهيم بن المهدى مثل مخارق إنما يغنى الغناء الجديد (٣). وكان أديبا شاعرا راوية للشعر وأيام العرب فصيحا ، فكان يغنى طربا لا تكسبا ويغنى لنفسه لا للناس. وقد شغف به الناس فى بغداد حتى قال بعضهم : لم ير فى جاهلية ولا إسلام أحسن غناءا من إبراهيم بن المهدى (٤) وكان يحتفظ بدفاتر الغناء (٥) وتجلت مقدرة إبراهيم فى مجالس الخلفاء ، ففى مجلس المأمون والمعتصم يغنى المغنون ، ويغنى هو ، فإذا ابتدأ لم يبق من الغلمان وخدم القصر وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار أحد إلا ترك ما فى يده ، وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما كان فيه ما دام يغنى حتى إذا أمسك وتغنى غيره رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه (٦).

وكان صالح بن الرشيد يحتفظ بدفاتر للغناء ، وبطرحها على جواريه وغلمانه

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٢ ه‍.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ١١١.

(٣) الأصفهانى : الأغانى ج ٦ ص ١٧٥.

(٤) المصدر السابق ج ١١ ص ١٢٦.

(٥) المصدر السابق ج ١١ ص ١٤٠.

(٦) المصدر السابق ج ١١ ص ١٦٢.

٩٤

لغناء ما يستجيده منها (١) أما أبو عيسى الرشيد فكان من أحسن الناس غناء وقيل انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد ، ومن أولاد الرشيد إلى محمد وأبى عيسى وكان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء (٢). وكان عبد الله بن موسى الهادى من أضرب الناس بالعود وأحسنهم غناءا (٣).

واشتهر فى الغناء بعض أميرات البيت العباسى مثل عليه بنت المهدى ، وأمها أم ولد مغنية. وكانت من أحسن الناس وأظرفهم ، تقول الشعر الجيد وتلحنه أحسن تلحين ، وبلغ من ولعها بالشعر أنها كانت تراسل من تختصه بالأشعار (٤).

كذلك ظهر مغنون من كبار البيوتات فى بغداد ، فقد كان عبد الله بن العباس ابن الفضل بن الربيع مغنيا ماهرا وماجنا يعيش عيشة لهو وخلاعة (٥).

وعلى الرغم من انتشار الغناء فى بغداد فى مجالس الخلفاء والأمراء ورجال الدولة وسائر الأهلين إلا أنه لقى معارضة من العناصر المحافظة وخصوصا أصحاب الطيالس من رجال الدين ، بل إن الخلفاء المحبين للهو ، كرهوا أن ينشأ أبناؤهم على محبته ، فالخليفة المهدى عاقب ابن جامع والحرانى ـ المغنين ـ لأنقطاعهما إلى ولى عهده الهادى ، ولما ولى هذا الخليفة استدعى إليه ابن جامع ، وضعه إلى مجلس منادمته (٦).

وظهر ندماء انقطعوا لبعض الأسر الكبيرة مثل الفضل الرقاشى الذى اقتصر على انشاد البرامكة الشعر دون غيرهم ، وكانوا يفضلونه على سائر الشعراء ، ويروون أولادهم أشعاره ، ويدونونها تعصبا له ، وحفظا لخدمته ، وتنويها بإسمه ،

__________________

(١) المصدر السابق ج ٧ ص ١٠٦.

(٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٨٧.

(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٩٤.

(٤) المصدر السابق ج ١١ ص ١٦٢.

(٥) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ١٩٤.

(٦) الأصفهانى : الأغانى ج ٦ ص ٢٩٢.

٩٥

وتشجيعا له على الاستمرار فى نشاطه فحفظ ذلك لهم ، فلما نكبوا صار إليهم فى حبسهم ، وأقام معهم بقية أيامهم ينشدهم ويسامرهم ، ثم رثاهم فأكثر فى الإشادة بمحاسنهم وجودهم ومآثرهم ، فأذاع منها ما كان مستورا (١).

ولقد رأينا أن الجوارى فى بغداد اشتغلن بالغناء ، وبرز منهن كثيرات مثل عاتكة ، وبلغ من شهرتها وحسن غنائها أن المغنيين فى مجلس الرشيد كانوا يغنون من ألحانها ، وكانت عاتكة تتقن الضرب بالعود ، ومن أحسن المغنيات غناءا وأروجهم ، وكان مخارق مملوكا لعاتكة ، وهى علمته للغناء ، ودربته على استعمال العود ثم باعته ، فانتقل من رجل إلى رجل حتى صار إلى الرشيد وكان حسن الأداء طيب الصوت (٢).

وكانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة ، وبها نشأت وتأدبت وغنت ، وأخذت عن إسحاق الموصلى وعن أبيه وعن المغنية المشهورة بزل ، وبلغ من شهرتها بالغناء أن الخليفة المأمون كان يبعث إليها فتجيئه وتغنيه ، فلما انتقل الخليفة المعتصم إلى سامرا أرسل إليها ، وأنزلها فى دار سميت الدمشقى ، ولكنها كانت ترفض الأبتعاد عن بغداد طويلا ، فكانت تستأذنه فى الذهاب إلى بغداد فيأذن لها ، وتقضى بمدينة السلام بعض الوقت ثم تعود إلى سامرا (٣).

من هذا نرى أن الموسيقى والغناء انتشرا فى بغداد انتشارا واسعا وأقبل كثير من الناس عليهما من طبقات مختلفة حتى أن شعر الشعراء كان إلا النزر اليسير ، داعرا ، ولم يقاس أهل بغداد من البؤس والشقاء إلا إبان الفتنة بين الأمين (٤) والمأمون.

اهتم الخلفاء العباسيون بعقد مجالس الغناء بمظاهر البذخ والروعة فيتخذ

__________________

(١) المصدر السابق ج ٦ ص ٢٤٥.

(٢) المصدر السابق ج ٦ ص ٢٦٠ ـ ٢٦٢.

(٣) الأصفهانى : الأغانى ج ٧ ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٤) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٧.

٩٦

الخليفة مجلسه فى صدر الإيوان فى القصر وبين يديه الحرس فى أثواب زاهية ، ويقف حوله عن يمين ويسار كبار رجال الدولة وكثيرا ما كانت الأميرات وسيدات الطبقة الراقية فى بغداد يشتركن فى حفلات موسيقية خاصة ، وأحيانا يحضر نساء قصر الخلافة مجلس غناء الخليفة. وفى هذه الحالة يجلسن خلف الستارة (١) وكان مجلس الرشيد فى بعض الأحيان يضم ألف جارية فى أحسن زى من كل نوع من أنواع الثياب ، يتخذن الحلى والجواهر (٢).

كذلك عنى كبار رجال الدولة وسائر أفراد الشعب بعقد مجالس للطرب والغناء ، وبعض هذه المجالس

يعقد فى الحدائق والبساتين يجتمع فيها أهل الطرب ، ويقضى الناس وقتا ممتعا : بل كان الملاحون يغنون فى الزلالات ، وأعجب الرشيد بغنائهم ، وأمر الشعراء بآن يقولوا شعرا يغنيه هؤلاء الملاحون (٣) وبالجملة كانت أيام الرشيد من حسنها كأنها أعراس. وكان الأمين يعقد مجالس غنائه فى قبة اتخذ لها فراشا مبطنا بأبدع الحرير والديباج المنسوج بالذهب (٤).

قلنا إن حياة الناس فى بغداد فى الفتنة التى حدثت بين الأمين والمأمون قد عمها البؤس والشقاء حتى خربت الديار ، وعفت الآثار ، وارتفعت الأسعار ، وقاتل الأخ أخاه والإبن أباه وهدمت المنازل ، وأحرقت الديار وانتهبت الأموال ، فلما عادت السكينة ، وعم الأمن والسلام ربوع بغداد ، شعر الناس أنهم فى حاجة أن يعوضوا ما فقدوا ، فلهوا ، وأفرطوا فى اللهو والطرب (٥).

وقد لعب المال دورا كبيرا فى ازدهار الفنون فى بغداد ، فتنوعت مصادر الثروة ، والمال خير وسيلة لازدهار اللهو ويسير جنبا إلى جنب مع الترف ، فيكون

__________________

(١) الأصفهانى : الأغانى ج ٦ ص ٣١٠.

(٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٦٢.

(٣) المصدر السابق ج ٤ ص ١٠٢.

(٤) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٠٩.

(٥) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٨ ه‍.

٩٧

الترف حيث يكون المال وكل نابغ فى فن أو مذهب يذهب إلى بغداد لعرض شعره أو غنائه ، فقصدها أناس كثيرون من بلدان مختلفة من بلاد الفرس وبلاد الهند والروم وغيرهم. ومن هؤلاء كثيرون تبغوا فى مجالات مختلفة فى اللهو والغناء ، ووجدوا الحياة فى بغداد حقلا خصبا تبرز فيه مواهبهم ، ويقدرون فنهم أحسن تقدير ، فعرضت كل أمة فنها وأنواع حضارتها فكان فى ذلك معرض عام ، وأخذ أهل بغداد من كل لون من ألوان الفنون بحظ وافر ، وأخذت البلاد الأخرى تقتبس الفن من بغداد (١).

على أن ما تحدثنا عنه من شغف أهل بغداد باللهو والمجون لا يمنع من ابراز حقيقة ، أن هذا اللهو لم يكن إلا جانبا من حياة الناس فقط المعقدة حقيقة كثر الغناء والطرب فى بغداد لكن الناس جميعا لم يكن كلهم يحيون هذه الحياة ، ولا يغيب عن أذهاننا أن الأخبار التى أوردها صاحب كتاب الأغانى فى كتابه لا تخلو من مبالغة ظاهرة ليكسب من وراء أخباره مالا أو جاها أو تشويقا لسامعيه ،.

وكان هناك تفاوت كبير بين طبقات الناس ، لذلك انقسم السكان فى بغداد إلى فريقين ، فرقة يتمثل فيها نزعة اللهو ، وفرقة تفضل الزهد ، ويمثل الأولى أبو نواس ، والثانية أبو العتاهية ، ذلك أن قوما يئسوا من الغنى ورأو أن نفوسهم لا تطاوعهم فى القرب من ذوى الجاه ، أو حاولوا ذلك وفشلوا ، فلجأوا إلى القناعة يروضون أنفسهم عليها ، وكثيرون زهدوا تدينا (٢).

على كل حال أدى الإفراط فى اللهو إلى ظهور عناصر مفسدة للإخلاق فى بغداد ، ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس إيذاءا شديدا ، وأظهروا الفسق وقطع الطريق ، وأخذوا النساء والغلمان علانية من الطرق فكانوا يخطفون الطفل من أبيه ولا يردوه إليه إلا إذا أدى لهم كثيرا من المال ، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى ويرهبون أهلها ، ويأخذون ما استطاعوا من ممتلكاتهم لا سلطان يمنعهم ولا يقدر على ذلك ، لأن أمير بغداد ، كان يعتز بهم ،

__________________

(١) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٥.

(٢) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

٩٨

وكانوا بطانته ، ولا يمنعهم من فسق يرتكبونه ، وكان الناس منهم فى بلاء عظيم ، وازداد نهبهم لقرى بغداد.

ولم يستجب أمير بغداد لنداء أهلها بحمايتهم ، وظلت الفوضى سائدة ببغداد لذلك لم يكن هناك بد من أن يعتمد أهل بغداد على أنفسهم فى حماية ممتلكاتهم ونسائهم وأبنائهم : فقام صلحاء كل ربض وكل درب. وتدارسوا وسائل القضاء على المفسدين ، ونهض نفر منهم يدعو الناس إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، وتزعم هذه الحركة سهل بن سلامة الأنصارى الذى علق مصحفا فى عنقه ، واجتمع حوله الناس ، وبايعوه على ما اعتزم عليه «وطاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها يتصدى للشطار ، ويقاتل المفسدين (١).

نخرج من ذلك إلى القول بأن الحياة فى بغداد لم تكن كلها مجون ولهو كما يصور ذلك بعض الأدباء ، بل كان اللهو والطرب جانبا من جوانب الحياة الإجتماعية ، وعرف طريقه فى قصور الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة وفى بيوت تجار الرقيق والقيان وغير ذلك «وكره فريق من أهل بغداد هذا النوع من الحياة واستنكروه ، وعكفوا على المساجد يقضون فيها أوقات فراغهم حيث يستمعون إلى الفقهاء ورجال العلم ، ويستفيدون منهم ، وفريق من الناس زهد فى الدنيا والحياة المترفه التى نعم بها الكثير من البغداديين ، ولا يغيب عن الأذهان أن طبقة رجال الدين والأدب كانت تأتى فى المحل الأول من الأهمية والإعتبار قبل طبقة المغنيين والموسيقيين ، ومن ثم نظر الناس إلى رجال الدين ونظرة الأدب تختلف كل الإختلاف عن نظرتهم إلى أهل اللهو والطرب ، بل ترى بعض الفقهاء يتجنب الحديث مع الموسقيين والمغنيين ، ويتحرج منهم ، إسحاق الموصلى يكره أن يوصف بأنه مغنى.

وبهذه المناسبة نذكر أن بعض الكتاب قد أفرط فى وصف حياة الرشيد كانت

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢٠١ ه‍.

٩٩

فى معظمها لهو وطرب ، وهؤلاء الكتاب اعتمدوا فيما كتبوه على كتب الأدب التى لا تخلو من مبالغة ـ كما ـ ذكرنا ـ ذلك أن الرشيد كان يغزو سنة ويحج سنة فى الغالب ، ويقود الجيوش للقضاء على الفتن الداخلية وكان رجلا عمليا فى حياته ، وأبعد ما يكون عن الأستهتار ، بدليل أنه لم يقبل أن يبقى مسلوب السلطة ، وأمور الدولة فى أيدى البرامكة ، لذا تراه ينكل بهم ويسترد سلطانه ، ولو كان ـ كما صوره بعض الكتاب ـ لعكف على اللهو والطرق ـ تاركا أمور الدولة فى أيدى البرامكة. ولم تكن حياة اللهو والطرب سوى جانبا من حياة الرشيد ، ولم تحل بينه وبين تأدية مهماته وأعبائه.

على كل حال تطوع بعض الرجال فى بغداد للقضاء على المفاسد ، فأمروا الناس بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فسالم بن سالم البلخى لم يخش فى دعوته أحد ، حتى أنه أنكر على الرشيد وشنع عليه ، فحبسه وقيده (١) كذلك نقم أسد ابن يزيد على الأمين لعبه وتهاونه فى أمر الرعية ، وارتكابه للصيد وغيره فى هذا الوقت (٢).

* * *

وينبغى أن نشير هنا إلى أن المنصور ـ مؤسس الدولة العباسية لم يهتم بمجالس اللهو والطرب لأن شغله الشاغل انحصر فى توطيد الأمن والنظام فى ربوع دولته ، فكان فى أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والولايات والعزل والنظر فى مصالح العامه ، فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر ، فإذا صلاه جلس لأهل بيته ، ونظر فى مصالحهم الخاصة ، فإذا صلى العشاء نظر فى الكتب والرسائل الواردة من الآفاق ، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل ، ثم يقوم إلى أهله فينام فى فراشه إلى الثلث الأخير ، ليقوم فى

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١ ص ١٥٦.

(٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ٢٣٥.

١٠٠