الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

الهامه ، وأطلق سراح أحد العلويين دون إذن الخليفة ، ـ عزله وو زجه فى السجن ، ولم يزل فى سجنه حتى أخرجه الرشيد فاقد البصر (١).

أزداد نفوذ الفرس فى عهد الخليفة الرشيد ، فقد استوزر كاتبه يحيى بن خالد ابن برمك ، وكان البرامكة قديما على دين المجوس ، ثم دخلوا فى الإسلام وحسن إسلامهم ، وقد كان خالد بن برمك من الشخصيات البارزة فى بغداد فى عهد الخليفة المنصور ، ومن أهل الرأى فيها ، وكان سخيا جليلا ، حتى قيل لم يكن يرلجليس خالد دار إلا وخالد بناها له ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له ، ولا دابة إلا وخالد حمله عليها ويرجع الفضل إلى يحيى بن خالد فى تولية الرشيد الخلافة (٢) ذلك أن الهادى اعتزم خلع أخيه الرشيد من ولايه العهد وتوليه ابنه موسى بدلا منه فتصدى له يحيى بن خالد ، وحذره بقوله : حملت الناس على نكث الإيمان ، ونقض العهود ، وتجرا الناس على مثل ذلك ، ولو تركت أخوك هارون على ولاية العهد ، ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد فى بيعته ، وحذره من اعتراض بنى هاشم. ولما ولى الرشيد قدر ليحيى بن خالد موقفه ، وعد هذا فضلا كبيرا من يحيى عليه (٣).

واستوزره الرشيد ، وكان يخاطبه بالأبوه ، وبلغ من ثقته به أن قال له : يا أبة أنت أجلستنى هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك ، وقد قلدتك أمر الرعيه ، وأخرجته من عنقى إليك ، فاحكم بما ترى واستعمل من شئت ، وأسقط من رأيت ، فإنى غير ناظر معك فى شئ (٤).

نهض يحيى بن خالد بأعباء الدولة أتم نهوض ، وسد الثغور ، وتدارك الخلل ، وجبئ الأموال ، وعمر الأطراف ، وأظهر رونق الخلافة وتصدى لمهمات المملكة ، وكان صائب الرأى حسن التدبير.

__________________

(١) المصدر السابق ص ١٦٦ ـ ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٢) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٥٠.

(٣) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٧٩ ـ ١٨٧٠.

(٤) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٢٧.

٦١

على أن نفوذ البرامكة ازداد فى بغداد وطغى على نفوذه الخليفة ، وقد أستاء الرشيد من ذلك وقال : استبد يحيى بالأمور دونى ، فالخلافة على الحقيقة له وليس له منها إلا أسمها (١).

كذلك وقف الرشيد على ميل البرامكة إلى التشيع ، وسعى أعداء البرامكة عند الرشيد ، وأوضحوا له استبدادهم بالملك وبأموال الدولة حتى أوغروا صدر الرشيد على البرامكة ، فنكل بهم ، وقد كانت نكبة البرامكة هزيمة الفرس ، وأدت إلى ضعفهم.

ظل الفرس بعيدين عن السلطة والنفوذ فى بغداد بقية عهد الرشيد وطوال عهد الأمين ، ودارت رحى الرب بين الأخوين الأمين والمأمون انتهت بمقتل الأمين وانتصار المأمون وتوليته الخلافة فعاد النفوذ الفارسى إلى قوته. فقد قرب المأمون الفرس إليه ، وأسند إليهم المناصب الهامة فى الدولة. وجدير بالذكر أن المأمون نشأ وترعرع فى أحضان الفرس ، فأمة فارسية ، وأشرف البرامكة وبنو سهل الفرس على تربيته (٢).

استوزر المأمون الفضل بن سهل الذى سمى ذو الرئاستين لجمعه بين السيف والقلم ، والفضل بن سهل من أولاد ملوك الفرس المجوس ، وكان قهرمانا ليحيى ابن خالد بن برمك ، ولما رأى الفضل نجابة المأمون فى صباه لزم ناحيته ، ودبر أموره ، وتنبأ بوصوله إلى الخلافة ، وكان سخيا كريما يجارى البرامكة فى جوده جليلا عالما بآداب الملوك (٣).

وقع المأمون تحت تأثيره وزيره الفارسى ، لذلك أحدث تغييرا جذريا فى نظام الخلافة ، فعهد إلى على بن موسى ، وكتب بذلك كتابا بخطة ، وأمر المأمون

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية ص ١٩٠.

Hitti : Hist of the Arabs p. ٠٨٢.

(٢) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية ص ١٧٩.

(٣) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٢٩.

٦٢

الناس يخلع لباس السواد ، ولبس الخضرة وكان هذا بخراسان فلما سمع العباسيون فى بغداد ذلك آثارهم نقل الخلافة من البيت العباس إلى البيت العلوى ، وخلعوا المأمون ، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدى ، ولما بلغ المأمون ذلك تخلص من وزيره الفضل بن سهل ، وكان يحجبه فى مرو عن سائر الناس ، ويمنع الأخبار عنه ، وسار إلى بغداد ، وأعاد لباس السواد وأرضى بنى هاشم ، على أنه استمر فى إسناد الوزاره إلى الفرس ، فقلد الحسن بن سهل وزارته ، وتزوج ابنته ، وكان أعظم الناس منزلة عند المأمون (١) على أن نفوذ الفرس لم يستمر طويلا ، فلما توفى المأمون ، وولى المعتصم الخلافة ، أبعد الفرس كما أبعد العرب ، واستعان بالترك.

وصفوة القول أن الفرس اشتركوا فى الحياة السياسية فى بغداد وكان لهم أثر أوضح فى إدارة أمور الدولة ، واشتركوا فى الجيش ، الذى كان يضم فرقة منهم ، وساهموا بنصيب كبير فى الحياة الفكرية لكن بعضهم لم يصح إسلامه فأظهروا نحلهم القديمة كالزندقة ، وبذل الخلفاء قصارى جهدهم فى تعقبهم واستئصال شأفتهم وكان هؤلاء الفرس قد دخلوا فى الإسلام ظاهرا ليستفيدوا من حقوق المواطن المسلم لكنهم ظلوا يخلصون لعقيدتهم القديمة ، ويعملون على بثها فى العلوم والآداب.

الأتراك

إستاء المعتصم من الفرس والعرب ، ورأى ضرورة استبدالهم بعنصر آخر ، ليس له مطامح الفرس القومية ، ولا الأهواء السياسية التى للعرب يضاف إلى ذلك أن المعتصم أمه تركية ، وكان به صفات الآتراك من حيث الشجاعة وقوة البأس ، فضلا عن أن الأتراك يتميزون بالروح العسكرية.

جلب الأتراك إلى بغداد من بلاد ماوراء النهر ، وكانوا رجالا أشداء يعيشون

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢٠٢.

٦٣

رعاة وصيادين فى هضابهم وجبالهم العالية ، لذلك عرف عنهم. خشونة الطبع وقوة الشكيمة ، وأثرت هذه الحياة فى أخلاقهم لذا برعوا فى أساليب الحرب والقتال. وساعدهم على الأندماج فى مجتمع بغداد ، أعتناقهم الإسلام وتعلمهم اللغة العربية.

توافد الأتراك على بغداد بطرق شتى ، إما عن طريق وقوعهم فى أسر العرب الفاتحين ، وبيعوا فى الأسواق الرقيق ، وإما عن طريق إرسال ولاة الأقاليم التركية تركا ضمن الجبايات التى كانت ترسل إلى بغداد (١) ، وأما عن طريق هجرة كثير من الأتراك إلى بغداد بعد فتح بلادهم لتحسين أحوالهم المعيشية. وكانت بلاد ما وراء النهر خصوصا سمرقند أكبر أسواق تجارة الرقيق الأبيض. وكانوا مدربين تدريبا خاصا (٢).

توافد الأتراك بكثرة على مدينة بغداد منذ تأسيسها ، وازداد طلب الخلفاء لهم لأن مميزاتهم العسكرية تؤهلهم ـ كما قلنا ـ للعمل فى حراسة الخلفاء ، وكان المنصور أول من أستخدم الأتراك كحرس بل واعتمد عليهم كذلك فى الأعمال المدنية ، فالجهشيارى (٣) يذكر أن المنصور أمر حماد التركى ـ أحد كبار موظفيه ـ بتعديل نظام الضرائب فى السواد. وكان قصر الرشيد يضم بضعة مئات من الغلمان الترك (٤).

استكثر المعتصم من الترك حتى بلغ عددهم ثمانية آلاف رجل ، وتكون منهم فرق من الجيش يقودها قواد من الترك ، وكانت هذه الفرق فى عزله تامة عن بقية الجيش. وازداد نقوذ الترك فى بغداد ، وأصبح لهم السلطة والنفوذ فيها ، بينما ضعف أمر العرب والفرس.

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) ابن حوفل : المسالك والممالك ص ٢٦٨.

(٣) الوزراء والكتاب ص ١٣٤.

(٤) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ٢٣٠.

٦٤

وبذلك دخل فى نزاع العصبية عنصر قوى جديد ، فقد كان النزاع من قبل محصورا بين الفرس والعرب ، فأصبح بين العرب والفرس من ناحية والترك من ناحية أخرى ، ووجه الترك كل جهودهم للنيل من الفرس والمستبدين بالسلطان ، وبعد أن كانت الأحداث تنصل بأعلام الفرس كأبى مسلم الخراسانى والبرامكة وبنى سهل ظهر تاريخ مرتبط أحداثه بأشناس وايتاخ ، إذ كانوا القابضين على زمام الدولة والمتصرفين فى شئونها (١).

حافظ المعتصم على جنوده الترك ، وحرص على أن تبقى دماؤهم متميزة فجلب لهم نساءا من جنسهم ، وكان المعتصم ينفق على جنده الترك بسخاء ، وعنى بزيهم وألبسهم أنواع الدبياج والمناطق المذهبة وأتخذلهم ثكنات خاصة ، يعيشون فيها معيشة كريمة ، وقد خص المعتصم الأتراك بالنفوذ ـ كما قلنا ـ وجعل لهم مراكز كبيرة فى مجالات السياسة والحرب ، وأجزل عليهم الهبات والأرزاق وفضلهم على سائر جنوده (٢).

وكانت الأتراك تؤذى أهل بغداد بجريها للخيول فى الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك ، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لإمرأة أو شيخ كبير أو صبى أو ضرير (٣) وضاقت بغداد بعسكر المعتصم ، فتأذى منهم الناس ، وزاحموهم فى دورهم ، وتعرضوا للنساء فخشى المعتصم من أن تحدث فتنة فى بغداد بين جنده من ناحية وأهل بغداد العرب والفرس من ناحية أخرى.

لذلك نقل حاضرة دولته إلى سامرا ، ونقل إليها جنده الترك وقال : إن رابنى من عساكر بغداد حادث كنت بنجوة ، وكنت قادرا على أن آتيهم فى البر وفى الماء (٤).

يذكر بعض المؤرخين مثل الفخرى والسيوطى أن المعتصم قدم إليه رجل شيخ

__________________

(١) أحمد أمين : ظهر الإسلام ص ٦.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ٢. ص ٢٦٦.

(٣) المصدر السابق ج ٢ ص ٢٦٦.

(٤) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢١١.

٦٥

وقال له : جئتنا بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك ، والله لنقتلنك بسهام السحر ـ يعنى الدعاء ـ فسار المعتصم إلى موضع سامرا فبناها. وهذه الرواية متؤخرة لا يمكن قبولها لأن العمل الكبير الذى قام به المعتصم من حيث بناء مدينة جديدة يتخذها حاضرة لدولته لا يمكن القيام به خوفا من دعاء شيخ وإنما المعقول أن المعتصم رأى بنفسه بذور فتنة تؤدى إلى إضطراب أمور دولته وانقسام جيشه ، وكان يعرف ويدرك جيدا قوة بأس جنده الترك وتهورهم ، بدليل ما ذكره الطبرى من أن المعتصم شكى إلى نديمه إسحاق الموصلى من مغبة أصطناعه للترك (١).

وصفوة القول أن عناصر السكان فى بغداد كانت تتكون ـ كما رأينا ـ من العرب والفرس والترك ، وأنهكت العناصر العربية والفارسية قواها بالصراع الذى دار بينهما حول الاستئثار بالسلطة والنفوذ ، وظهر الترك أخيرا على مسرح الأحداث ، وحلوا محل العرب والفرس. غير أن أزدياد نفوذهم فى بغداد أدى إلى طغيانهم فنقل المعتصم حاضرة دولته من بغداد إلي سامرا ، ففقدت بغداد مركز السيادة على العالم الإسلامى ، وتأثرت الحياة الأجتماعية والأقتصادية فى بغداد نتيجة لذلك ، وزادت نقمة أهل بغداد على الترك ، وتجلى ذلك فى الأحاديث التى وضعها المحدثون فى ذم الترك تعبيرا عن شعورهم وشعور أهل بلدهم.

وكما أنقسم أهل بغداد إلى عرب وفرس وترك ، أنقسم المسلمون فيها إلى سنة وشيعة : فأما أهل السنة فلهم المركز الأول فى بغداد لأن السنة مذهب الدولة الرسمى ، وعاش فى بغداد كبار أئمة السنة ، وصنفوا فيها المصنفات القيمة ، مثل أبى حنيفة النعمان وأبى يوسف وأحمد بن حنبل.

أما الشيعة فى بغداد فعلى الرغم من أن الخلفاء العباسيين كانوا فى عداء مع العلويين ـ حتى لا يكاد يخلو عهد خليفة منهم من غير أن يثور عليه أحد الشيعة

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢٢٧ ه‍.

٦٦

ـ فقد عاش فى بغداد فريق منهم دون أن يتعرض لآضطهاد العباسيين ، وكان وزراء العباسيين الفرس يميلون إلي العلويين ، ويحاولون أبعادهم عن بطش بنى العباس ، بل ويسعون لدى الخلفاء للنظر فى احتياجاتهم وتلبيتها ، وظهر طالبيون فى بغداد وصلوا إلى أعلى المناصب ، فيقطين دخل فى خدمة أبى العباس والمنصور ـ وكان شيعيا ـ وكان ابنه على يحمل الأموال إلى أبى جعفر محمد بن على (١) ، ووفد على بغداد وأقام بها فترة من الوقت الإمام الشافعى ، وكان شديدا فى التشيع ، وحضر ذات يوم مجلسا فيه بعض الطالبيين. فقال لا أتكلم فى مجلس يحضره أحدهم ، وهم أحق بالكلام ولهم الرياسة والفضل (٢) ، على أن ازدياد خطر العلويين فى عهد الرشيد دفعة إلى إخراج الطالبيين من بغداد إلى المدينة المنوره (٣).

ومما لا شك فيه أن العلويين انتعشوا فى عهد المأمون فقد نقل ـ كما ذكرنا ـ ولاية العهد إلى على بن موسى ، وأمر الناس بلبس الخضرة بدلا من السواد.

لكن على بن موسى لم يلبث أن توفى. وعاد المأمون إلى بغداد ، وأمر الناس بالعودة إلى لبس السواد. وظهر فى بغداد علويون لهم نشاط علمى كبير مثل الواقدى ، ولى القضاء المأمون ، وكان عالما بالمغازى والسير والفتوح واختلاف الناس فى الحديث والفقه (٤). وأوصى المأمون آخاه المعتصم بالعلويين خيرا.

ب ـ أهل الذمة

شكل أهل الذمة فى بغداد فى العصر العباسى الأول عنصرا هاما من عناصر المجتمع. والواقع كانت معاملة الخلفاء ورجال الدولة لهم تتم عن عدل وتسامح وكرم ، وأطلق الخلفاء لرؤسائهم الروحيين مباشرة أمور وشئون أبناء ملتهم ، وكان

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٣١٤.

(٢) المصدر السابق ص ٢٩٥.

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٢١ ه‍.

(٤) ابن النديم : الفهرست ص ١٤٤.

٦٧

رئيس النصارى فى بغداد يسمى الجاثليق ، ويعينه الخليفة بعد استشارة كبار الأساقفة ، ويتم تعيينه بعهد أو منشور يتضمن الحقوق والامتيازات التى تمنحها الدولة له ـ أى للجاثليق ـ وتمنحه الحق فى مراجعة حكومة بغداد فى الأمور التى تتعلق بالمسيحيين الرعايا (١).

وكان الجاثليق الجديد إذا تم تعيينه ، يسير بحفاوة إلى قصر الخلافة وهناك يمنحه الخليفة عهد توليته ، ويتضمن حقوقه فى مباشرة سلطاته ثم تلقى عليه الخلع الثمينه ، وبعد ذلك يتوجه إلى المدائن ، وتصحبه فرقة من الجنود وجماعة من القسس والأساقفة ، وكبار رجال الدولة حيث يزور ضريح مارى فى ديره ، وفقا للتقاليد المتبعة فى ذلك ثم يعود إلى بغداد ، ويقيم فى كنيسة دار الروم ـ مقره الرسمى ـ (٢).

قلنا إن الجاثليق كان من حقه مباشرة شئون النصارى ، وإصدار قرارات تعيين أقضل القسس والأساقفة وسائر رجال الكنيسة ومن حقه معاقبة النصارى ، وذلك بفرض الغرامات عليهم ، وإصدار قرار الحرمان على من يستحق منهم ، غير أن الأحكام الجنائية الكبيرة كالإعلام لا تدخل فى إختصاصاته ، إنما كانت من حق الحكومة (٣) ومن أبرز من ولى منصب الجاثليق فى بغداد طيمثاوس الأول (٧٨٠ م ـ ٨٣٢ م) وقد كان على علاقة وثيقة بالخلفاء العباسيين الخمسة الأول الذين عاصرهم ولقى منهم كل رعاية وتقدير ، وكان الخليفة موسى الهادى يستدعيه إلى قصره ويحاوره فى مسائل الدين ، ويجيبه بما يتفق مع وجهة نظره (٤).

أما اليهود فلهم رئيس خاص ، يلقب أحيانا بلقب ملك ، يدفع له أهل ملته الضرائب ، وكان نصف ما يحصل من اليهود يعطى لرئيسهم ،

__________________

(١) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ٤٢.

(٢) روفائيل بأبو إسحاق : تاريخ نصارى العراق ص ٦٧.

(٣) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ٤٢.

(٤) المصدر السابق ص ٦٨.

٦٨

ويرسل النصف الآخر إلى بيت المال بخلاف ما كان الحال عليه بالنسبة للنصارى الذين كانوا يؤدون الضرائب لبيت المال مباشرة (١).

أذن الخلفاء العباسيون للنصارى واليهود بتشييد كنائس ودور عبادة لهم ، فوافق الخليفة المهدى على تشييد كنيسة للنصارى فى محلة الروم بالجانب الشرقى من بغداد ـ الرصافة ـ وتقضى القاعدة الفقهية بترك البيع والكنائس لأهل الذمة ، وبخروج النصارى بالصلبان أيام أعيادهم ، ومن حق أهل الذمة على المسلمين حقن دمائهم ، ويقاتل المسلمون من ناوأهم من عدوهم ، ويذبوا عنهم (٢).

وبلغ من تسامح بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم. ويأمر بصيانتها ، ففى أيام الرشيد كان النصارى يخرجون فى بغداد يوم عيد الفصح فى موكب كبير وبين أيديهم الصليب ، إلا أنهم كانوا يخرجون بلا رايات (٣) ، وكان أهل الذمة يقيمون حفلاتهم الدينية بحرية تامة يظهر فيها اللهو والطرب ، ويبلغ السرور أقصاه ، ويشاركهم المسلمون فى هذه الاحتفالات. وكان الخليفة المأمون يهتم بالنظر فى أمور أهل الذمة ، ويعقد مجلسا استشاريا يتألف من ممثلى جميع الطوائف ، ويستمع إلى مطالبهم ، ويعمل على تحقيقها (٤).

ولا أدل على تسامح الخلفاء من أنهم تركوا أرقاءهم وجواربهم على ملتهم ، وكان المهدى جارية نصرانية ، ترتدى رداءها القومى وتعلق فى صدرها صليبا من ذهب (٥).

وكانت الأديرة المسيحية منتشرة فى جميع أنحاء بغداد حتى لم تخل منها ناحية ، ويقم فيها للنصارى شعائرهم الدينية فى أمن وطمأنينة ، وتحاط بالأسوار العالية والأبواب الحديدية وتأوى اللاجئ إليها والمجتاز بها ، وأقام رهبانها دور

__________________

(١) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ٥٨.

(٢) أبو يوسف : الخراج ص ٨٠.

(٣) روفائيل بأبو إسحق : تاريخ نصارى العراق ص ٢٠.

(٤) المصدر السابق.

(٥) ابن رسته : الأعلاق النفسية ص ٢١٣.

٦٩

ضيافة لمبيت الزوار ، وعابرى السبيل ، ويقضى للنصارى فى بغداد أعيادهم فى ديارات معروفة ، ولا يبقى أحد من يحب اللهو إلا تبعهم ، والواقع أن الديارات كانت أماكن مناسبة جدا للنزهة والترفيه ، فكانت تقع فى أماكن غاصة بالبساتين والشجر والنخل والرياحين ، لذلك حرص المسلمون من أهل بغداد على قضاء أوقات فراغهم بها ، وعقد مجالس اللهو هناك (١) ومن أقرب الديارات إلى مدينة بغداد دير قوطا فى قرية البردان على شاطئ دجله ، ويفصله عن بغداد بساتين ومنتزهات متتابعة (٢).

ومن أشهر بيع بغداد بيعة سمالو وبيعة درب دينار ، وبيعة درب القراطيس ، وبيعة سوق الثلاثاء (٣) ، على أن الحرب بين قوات الأمين وقوات المأمون قد ألحقت الكثير من التخريب والتدمير بكنائس بغداد وأديرتها (٤).

ساهم أهل الذمة فى بغداد فى إزدهار الحركة العلمية فى العصر العباسى الأول ونشر المعرفة ، فأسسوا المدارس وقاموا بالتدريس لأبناء كبار رجال بغداد ، وترجموا الكتب من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ذلك أن الخلفاء العباسيين الأوائل عنوا بترجمة الكتب العلمية واستعانوا بأهل الذمة فى حركة الترجمة هذه ، وقدر الخلفاء جهودهم ومنحوهم الرواتب الجزيلة ، وكان الخلفاء يرسلون العلماء الموثوق بهم من أهل الذمة إلى الدولة البيزنطية لابتياع طرائف الكتب وغرائب المصنفات فى الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب ويعهدون إلى التراجمة من أهل الذمة بنقل هذه الكتب إلى العربية (٥).

ومن أشهر من ساهم فى حركة الترجمة بنصيب موفور من أهل الذمة ، حنين ابن إسحاق ، نشأ على حب العلم ، وتتلمذ على الطبيب الحاذق يوحنا بن

__________________

(١) الشابستى : الديارات ص ٣ ، ٩ ، ١٦ ، ١٨ ، ٣٠.

(٢) المصدر السابق ص ٤١.

(٣) روفائيل بأبو إسحق : تاريخ نصارى العراق ص ٦٩.

(٤) ابن النديم : الفهرست : ص ٣٣٩.

(٥) Hitti : Hist.of the Arabs.p.٧٢٣.

٧٠

ماسوية ، وتوجه إلى الدولة البيزنطية وأقام بها فترة من الوقت درس خلالها اللغة اليونانية ، وعاد إلى العراق ودرس اللغة العربية دراسة مستفيضة على الخليل بن أحمد ، ثم عاد إلى بغداد ، ومكنته معرفته القوية باللغتين اليونانية والعربية من القيام بنشاط كبير فى حركة الترجمة ، فنقل كتاب أقليدس وكتاب المجسطى لبطليموس وكتاب أبولونيوس فى المخروطات ولخص مؤلفات أفلاطون وسقراط وجالينوس ، ونقلها إلى العربية ، ولم يكن مجرد مترجم للكتب التى أشرنا إليها ، بل كان يعلق عليها ، ويوضح ما فيها ، ويلخص ما يحتاج إلى تلخيص ، وبيوبها ، وبالجملة كان خير ما قدم خلاصة الفكر اليونانى إلى المثقفين العرب ، وبالإضافة إلى ما قام به من ترجمة ، فقد صنف أكثر من خمسة وعشرين كتابا (١).

ومن أبرز مترجمى المأمون من أهل الذمة يوحنا بن البطريق ، وكان أمينا على ترجمة الكتب العلمية حسن التأدية للمعانى ، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب (٢) ، وعنى المأمون بعقد مجالس علمية فى قصره يناظر فيها العلماء على اختلاف تخصصاتهم ، وكان أغلب علماء العلوم العقلية من أهل الذمة (٣).

من أبرز المهن التى عمل بها أهل الذمة فى بغداد ـ لا سيما النصارى ـ مهنة الطب ، فقد برعوا فى تشخيص الأمراض ، ووصف العلاج الناجع لها ونقلوا الكتب الطبية من اللغة اليونانية إلى العربية ، وانكبوا على دراستها ، وإضافة الجديد لها مما يتمشى مع خلاصة تجاربهم وقراءاتهم. ومن أشهر أطباء المنصور جيورجيس بن بختيشوع استدعاه المنصور لما ألم به مرض شديد ، وكان رئيسا لمستشفى جنديسابور فحضر إليه مع تلميذه عيسى بن شهلاتا ، ودعا للمنصور بالفارسية والعربية ، فأعجب المنصور من حسن منطقه ، وعالج المنصور وأحسن علاجه ، فأمر له بخلعة جليلة ، وأمر بإنزاله فى أجمل موضع وأكرمه كما يكرم

__________________

(١) القفطى : إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص ١٤٤.

(٢) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٣٣٦ ، ٣٣٩.

(٣) المصدر السابق ٢١٤.

٧١

أخص الأهل (١) وجدير بالذكر أن المنصور ، دعا طبيبه إلى اعتناق الإسلام ، فرفض الطبيب وقال : أنا دين آبائى أموت ، وحيث يكون آبائى أحب أن أكون إما فى الجنة أو فى جهنم (٢).

على كل قدر المنصور طبيبه أحسن تقدير ، وأهداه ثلاث جوار روميات مع منحة قدرها ثلاثة آلاف دينار ، ولما مرض هذا الطبيب زاره المنصور ، وأمر بحمله إلى دار العامة ، ووافق على رغبته فى العودة إلى بلده ، وأنفذ معه خادما ، ومنحه عشرة آلاف دينار واتخذ المنصور من بعده عيسى بن شهلانا طبيبا خاصا له بعد أن وقف على مهارته (٣) لكن هذا الطبيب استغل صلته الوثيقة بالخلافة ، وآذى بنى قومه من النصارى ، فلم يقبل المنصور منه ذلك ، وعاقبه ونفاه (٤).

ووفد على الرشيد الطبيب بختيشوع بن جيورجيس من أطباء جنديسابور ، فأكرمه وخلع عليه خلعة سنية ، ووهب له مالا وأخيرا جعله رئيس الأطباء ودخل ابنه جبريل فى خدمة البرامكة ، ومما يجدر ذكره أن جبريل هذا عالج الأمين والمأمون ، وكانت رواتبه سبعمائة ألف وأربعة وثلاثين درهم سنويا ، وأحصى ما ربحه من الرشيد فكان ثلاثمائه ألف وثمانين مليونا من الدراهم (٥).

ومن أساتذة الطب فى عهد الرشيد يوحنا بن ماسوية النصرانى السريانى ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة ، وكان موضع تقدير الناس فى بغداد ، وله مصنفات قيمة ، وكان يعقد مجالس علمية يتناول فيها خلاصة معرفته ، وقد وفد إليه طلاب العلم للإستفادة من علمه ، والاستزادة من معرفته (٦).

كما عالج بختيشوع بن جبريل المأمون والمعتصم والواثق (٧) وجالسهم ونادمهم ونال منهم العطايا السنية ، وصنف كتبا فى الطب.

__________________

(١) Hitti : Hist ,of the Arabs p.٣٦٣.

(٢) ابن أبى اصبيعة : عيون الأنباء فى طبقات الأطباء ج ١ ص ١٢٥.

(٣) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٢١٥.

(٤) المصدر السابق ج ٢١٥.

(٥) المصدر السابق ص ٢٢٦.

(٦) القفطى : إخبار العلماء بأخبار العلماء ص ٧١ ـ ٧٢.

(٧) المصدر السابق ص ٩٩ ـ ١٠٠.

٧٢

ومن أبرز الأطباء النصارى فى بغداد سهل بن سابور ، ومن أطباء المأمون جبريل الكحال ، وكان يتقاضى راتبا شهريا قدره ألف درهم ، وكان أول من يدخل إليه فى كل يوم (١) ، كان سلموية عالما بصناعة الطب وعالج المعتصم مرضه ، وبلغ من اعتزاز المعتصم به أن هذا الطبيب لما توفى قال المعتصم : سألحق به لأنه كان يمسك حياتى ، ويدير جسمى وامتنع عن الطعام فى ذلك اليوم بل أمر بإحضار جنازته إلى قصره ، وأن يصلى عليه بالشمع والبخور وفقا للرسوم الجنائزية المتبعة عند المسيحيين (٢).

كذلك شغل أهل الذمة فى بغداد ، وظائف التنجيم لمعرفتهم بأمور الكواكب والنجوم ، ومن أبرز من عمل هذا المجال ، ما شاء الله اليهودى الذى كان منجما للمنصور ، وكان أوحد زمانه فى رصد النجوم (٣) وكان للخليفة المهدى منجم نصرانى يسمى توفيل بن توما ، وبلغ من ثقته به أن جعله رئيس منجميه ، وصنف وترجم بعض الكتب فى هذا المجال (٤) ، وكان سند بن على ـ وهو يهودى ـ منجما للمأمون ، ودخل فى الإسلام ، وهو فى جملة الراصدين ، ثم أهلته كفاءته إلى أن أصبح على الأرصاد كلها (٥).

أندمج أهل الذمة فى المجتمع العربى فى بغداد ولم يقتصر نشاطهم على الترجمة أو الأشتغال بالطب والفلك بل أنكبوا على دراسة اللغة العربية وآدابها ، وصنف رجال منهم كناب أدبية مثل حبيب أبو رائطة التكريتى والجاثليق طيثماوس ، وعرف أيضا من شعراء وأدباء النصارى أبو قابوس ، وانقطع إلى البرامكة ، واشتهر كذلك عيسى بن فرخنشاه ـ وكان من

__________________

(١) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٢٣٩.

(٢) المصدر السابق ٢٤٠ ، ٢٤٣.

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ٣٣٩.

(٤) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٢٢٠.

(٥) ابن النديم : الفهرست ص ٣٤٠.

٧٣

أهل بغداد ومن كتاب الدواوين (١) وكان إتقان أهل الذمة للغتين العربية واليونانية سببا فى إسناد الخلفاء لهم السفارات الدبلوماسية إلى الدولة البيزنطية وغيرها (٢).

كذلك اشتغل أهل الذمة فى الدواوين ، وكان لعدم إخلاص بعضهم فى تأدية واجباته أثره فى ارتياب فى اخلاصهم فموسى ـ وهو ذمى ـ أحد اثنين كلفهما المنصور بجباية الخراج ـ ولما ساءت سيرته ، غضب منه المنصور وعزله. وأمر بمعاقبة كل عامل أو والى يستعمل كاتبا من أهل الذمة (٣) وعلى الرغم من أن الرشيد عرف بتسامحه مع أهل الذمة إلا أنه أمرهم بألا يتشبهوا بالمسلمين فى لباسهم وركوبهم (٤) ومما لا شك فيه أن هذا الإجراء ليس اضطهادا من الخليفة لأهل الذمة ، أو امتهانا لهم ، بدليل أن القاضى أبا يوسف الذى حث الرشيد على اتخاذ هذا الإجراء هو نفسه الذى حث الرشيد على حسن معاملة أهل الذمة فقال للخليفة : ينبغى أن تتقدم بالرفق بأهل الذمة والتفقد لهم حتى لا يظلموا أو يؤذوا ، ولا يكلفوا فوق طاقتهم ، ولا يؤخذ شئ من أموالهم بحق يجب عليهم (٥).

ومهما يكن من أمر فقد كان عدد النصارى فى بغداد أكثر بكثير من عدد اليهود ، وأشتغل اليهود بالتجارة والصناعة ، ونبغ بعضهم فى الطب ، كما كانوا على صلة وثيقة بالخلافة وكبار رجال الدولة لاشتغالهم بتجارة المجوهرات.

انفصلت الطوائف الدينية عن بعضها تمام الأنفصال ، فلم يقع تزواج بين المسلمين وغير المسلمين ، ولا يمكن للمسيحى أن يعتنق اليهودية ، ولا يستطيع اليهودى أن يدخل فى المسيحية ، واقتصر التغيير فى الدين على الدخول فى الإسلام فقط ، ولا يجوز للمسيحى أن يرث اليهودى ، ولا اليهودى أن يرث

__________________

(١) روفائيل بأبو إسحق : تاريخ نصارى العراق ص ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٣٤.

(٣) الخراج ص ٧٢.

(٤) المصدر السابق ص ٧١.

(٥) Hitti : Hist.of the Arabs P.٢٥٣.

٧٤

المسيحى ولا يرث المسيحى واليهودى المسلم ، والمسلم لا يرث المسيحى أو اليهودى وفى ذلك قال الرسول : «لا يتوارث أهل ملتين» (١).

(ح) الرقيق :

كثر الرقيق فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، وساعد على كثرته الانتصارات الكثيرة التى كانت تحرزها الدوله الإسلامية على أعدائها وما يتبع ذلك من استخواذها على مغانم كثيرة ، من بين هذه الغنائم الأسرى (٢) ، وكانت بعض الولايات الإسلامية ترسل إلى بغداد رقيقا كجزء من الأتاوة المفروضة عليها (٣). فضلا عن أن الرقيق يجلب من الأسواق.

كذلك امتلات قصور الخلفاء وكبار رجال الدولة بالرقيق من أجناس مختلفة منها الأبيض والأسود والأصفر تختلف فى لغاتها وعاداتها وتقاليدها (٤) ، ولم ينظر الخلفاء العباسيون إلى الأرقاء نظرة امتهان وازدارء ، ولا أدل على ذلك من أن كثيرا منهم كانوا أبناء أمهات وقعن فى أيدى آبائهن عن طريق الأسر أو الأسترفاق ، بل إن بعض كبار رجال الدولة كانوا يتخذون الإماء من غير العرب ، ويفضلونهن على العربيات الحرائر (٥).

ومما يجدر ذكره أن الخليفة المنصور أمه أم ولد يقال لها سلامة البربرية (٦) كذلك كان الهادى والرشيد والمأمون والمعتصم من أمهات أولاد ولم يكن من خلفاء العصر العباسى الأول من أم عربية حرة سوى المهدى والأمين وقد ينجب الرجل ذرية بعضها من أولاد الجوارى والبعض الآخر من أولاد الحرائر. فيفخر أولاد الحرائر على أولاد الجوارى ، فالامين كان يفخر على المأمون بأنه لم يجر فى عروقه دم رقيق (٧).

__________________

(١) متز : الحضارة الإسلامية ص ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) الماوردى : الأحكام السلطانية ص ١٣٨.

(٣) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٨٣.

(٤) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٩٨.

(٥) محمد جمال الدين سرور : تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرق ص ١٩٤.

(٦) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٢٣.

(٧) المصدر السابق ج ٢ ص ٢٤٣.

٧٥

على أن الجارية أو الأمة قد أتيحت لها الفرصة للانتقال إلى مرتبة أعلى من مرتبه الرق. فإذا أنجبت من سيدها سميت أم ولد وصارت فى وضع أرفع شأنا من وضع الامة ، فلا يجوز لسيدها أن يبيعها أو يهبها وإنما تبقى حلاله ، وإذا توفى سيدها ، صارت حرة ، ينطبق عليها أحكام الميراث ، والطفل الذى يولد من أمة يكون حرا.

انتشرت تجارة الرقيق فى بغداد ، فكان بها محلة تسمى دار الرقيق (١) وكان بالرصافة ـ الجانب الشرقى من بغداد ـ محلة دار الروم نسبة إلى سكانها الذين قدموا إليها فى عهد المهدى أسرى من بلاد الروم ، واشتهر كثير من تجار الرقيق فى بغداد من النخاسين ، وسبب شهرتهم كثرة ما كان يفد عليهم من الشعراء والأدباء لابتياع الجوارى الحسان ، وكان بالكرخ نخاس يسمى أبو عمير له جوار قيان لهن ظرف ، وكذلك أبو خطاب النخاس ، ومنهم حرب بن عمير ، وله جارية مغنية يفد إليها الشعراء وأهل الأدب فى بغداد للاستماع إليها (٢).

والنخاس ينادى لمن حوله من الراغبين ، ويصف لهم الجارية بعد الجارية بأحسن ما يكون من أوصاف الحسن والجمال. ومن بينهن جوار عليهن اللباس الفاخر ويتخذن العصائب المحلاة بالدر والجواهر ، وكان على تجار الرقيق عامل من قبل الحكومه يشرف على أعمالهم ، ويراقب تجارتهم ، يسمى قيم الرقيق.

قلنا إن الرقيق تنوعت أجناسه وألوانه ، وأحسن أنواع الرقيق ، النوع الأبيض ، وكان من الترك أو الصقالبة ، والصقالبة يفضلون على الترك ويقول الخوارزمى (٣) : ويستخدم التركى عند غيبة الصقلبى. وأكثر ما يجلب من بلاد البلغار ، وكانت سمرقند أكبر مراكز تجارة الرقيق الأبيض ، وخير رقيق بلاد ما وراء من تربيتها ، وكان أهلها يتخذون من تهذيب وتربية الرقيق صناعة يعيشون منها.

ولقد كان لكل نوع من أنواع الرقيق صفات خاصة ، فالهنديات عرفن بالطاعة

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ج ٨ ص ٤٧.

(٢) الأصفهانى : الأغانى. ج ٤١ ص ١٩٩.

(٣) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ٢٢٧.

٧٦

والهدوء وإتقان مباشرة الشؤون المنزلية والاشغال اليدوية ، واشتهرت مولدات المدينة بالمرح والميل إلى اللهو ، وعرفت السودانيات بالميل إلى الرقص وألوان الطرب ، والمغربيات والتركيات عرفن بإتقان الشؤون المنزلية ، والعبد الرومى يجيد تدبير المنزل ويحب النظام ويميل إلى القصر فى الانفاق ، والعبد الروى ويجيد الفنون الجميلة ، والأرمن فيهم خشونة فى الطبع. على أن الرقيق المجلوب من بلاد السند كثرت جرائمهم مع سادتهم ، ققل إقبال الناس على شرائهم ، لذلك رخص سعرهم (١).

انتشرت فى بغداد ظاهرة تعليم الجوارى الغناء ، وكانت الجارية إذا أتقنت الغناء تباع بثمن مرتفع جدا ، وأول من عنى عناية كبيرة بتعليم الجوارى الغناء إبراهيم الموصلى ، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن ، وكان بعض الناس يبعثون بجواريهم إلى إبراهيم وإبنه إسحاق لتعلم الغناء ، فإذا برعت فيه ، استطاع سيدها أن يبيعها بثمن مرتفع (٢) وكان عند إبراهيم الموصلى العديد من الجوارى يتقن الغناء من ألحانه ، فبيعت جارية هندية تعلمت الغناء على أيدى إبراهيم الموصلى بمائتى ألف درهم (٣).

وبلغ من حرص الناس على تعليم الجوارى للغناء أن بعض وجوه أهل خراسان كانوا يرسلون غلمانهم إلى إسحاق الموصلى ليعلمهم الغناء وكان يعلم الغلام منهم اللحن بألف درهم (٤).

وجدير بالذكر أن إبراهيم الموصلى وابنه إسحاق علما جارية مولدة صفراء تسمى قلم الصالحية الغناء ، وبرعت فيه حتى ابتكرت حوالى عشرين لحنا ، واشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار (٥) ، وكانت شارية جارية تعلمت الغناء حتى أنفنته ، فاشتراها إسحاق الموصلى بثلاثمائة دينار ، ولما تدربت على الغناء

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٥٨.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ٧ ص ١٧٠ ـ ٢٩٤.

(٣) المصدر السابق ج ٥ ص ١٢٧.

(٤) المصدر السابق ج ٥ ص ٢٧٩.

(٥) المصدر السابق ج ١٢ ص ٣٤٢.

٧٧

اشتراها ، إبراهيم بن المهدى بعد سنة بثلائمائة ألف دينار ، واشتراها المعتصم بعد ذلك بخمسة آلاف وخمسمائة دينار (١).

وكان للمهدى جارية من أصل فارسى ، تعلمت فى الطائف وتتفقت وأنجبت إبراهيم بن المهدى وكان رجلا أدبيا دينا شاعرا راوية للشعر وأيام العرب فصيحا خطيبا (٢) ، وكانت مكنونة من أبرز الجوارى فى الغناء ، نشأت فى المدينة ، وأتقنت الغناء ، واشتراها بمائة ألف درهم (٣) ، فغلبت عليه ، وأنجبت عليه ، وكانت شاعرة أيضا تتقن الغناء ولها ألحان كثيرة (٤). والواقع أن كبار الموسيقيين فى بغداد قد تخرج على أيديهم الكثير من الأرقاء والجوارى ، ومن أبرز هؤلاء الأرقاء عبد أسود يقال له زرياب ، كان مطبوعا على الغناء ، إبراهيم الموصلى ، وربما حضر به مجلس الرشيد يغنى فيه ، ثم انتقل إلى خدمة بنى الأغلب فى القيروان ، وغضب عليه زيادة الله فغادر القيروان ، وقصد الأندلس ودخل فى خدمة الأمير عبد الرحمن بن الحكم ، وذاع صيته (٥).

ومن الجوارى ظهرت شاعرات يتقن الشعر ، وأول من اشتهر منهن بقول الشعر فى الدولة العباسية عنان بيعت بمائة ألف درهم ، ولم يزل فحول الشعراء فى عصرها يلتقون بها فى منزل مولاها فيتقارضونها الشعر وتنتصف منهن (٦).

اشتغل الرقيق والجوارى عند سادتهم فى جمع الأعمال التى تدر عليهم الربح ، فمنهم من عمل فى زراعة أرض سيده. ومنهم من اشتغل بالصناعة ، ومنهم من عمل فى الحراسة أو فى الخدمة المنزلية ، على أن أهم الأعمال التى أسندت إليهم كانت الجندية ، فقد اشترى الخليفة المعتصم الرقيق الأبيض ، وأدخله فى جيشه ، وعنى به حتى بلغ عددهم بضعة آلاف (٧).

__________________

(١) المصدر السابق ج ٤ ص ٢٦٩.

(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ١١٢.

(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٦٢.

(٤) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٩٤.

(٥) ابن عبد ربه : العقد الفريد ج ٤ ص ١١٠.

(٦) المصدر السابق ذكره ونفس الصفحة.

(٧) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢٢١ ه‍.

John Glub. Empire of the Arabs p. ٣٤٣.

٧٨

قلنا إن الرقيق كثر فى بغداد حتى كانت قصور الخلفاء والأمراء ورجال الدولة تضم الألوف منهم ، ولقد رغب الأسلام فى عتق العبيد. لذلك أقبل الناس على ذلك تقربا إلى الله ، فكانت ريطة ابنة أبى العباس تشترى رقيقا للعتق (١) وأوصى الخليفة المعتصم قبل وفاته بعتق ثمانية آلاف من مماليكه (٢) بل كان العبد يستطيع أن يشترى حريته ، بدفع قدر من المال.

أثر الجوارى تأثيرا كبيرا فى ازدهار الفنون الجميلة فى بغداد ، لأن الناس حرصوا على أن تجمع الجوارى بين الجمال الخلقى والجمال الفنى ، فأخذوا يعلمون الجوارى فنون الرقص واللبس إلي غير ذلك من ضروب الفن ، وسرعان ما لقن المغنون جواريهم ألحانهم ، وطريقة غنائهم (٣).

وظهرت جوار أتقن كنابة الأشعار الرقيقة والعبارات اللطيفة تطريزا على الثياب ، وبعضهن أحب الأزهار وتغنى بها فقلدهن فيها الناس (٤).

وكان للجوارى فضل آخر ، إذ أنهم ـ كما رأينا ـ من بلاد مختلفة روميات وتركيات وهنديات وصقليات وغير ذلك ، وحاولن إدخال عاداتهن ، وأدى ذلك إلى انقسام الناس إلى طائفتين ، طائفة تتعصب للقديم ، وأخرى تفضل الجديد الذى أدخل عليه نغمات رومية أو تركية أو هندية أو نحو ذلك (٥).

وقد تأثر الإنتاج الأدبى بكثرة الرقيق ، فألف بعض الكتاب كتبا فى تجارة الرقيق ، وذكر أوصاف الرقيق من كل جنس وحاول بعضهم وضع قواعد للجمال ، كما تكلم بعضهم فى الألوان وحسنها.

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢١١.

(٢) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ٢٢٣.

(٣) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ٩٤.

(٤) المصدر السابق ذكره.

(٥) محمد جمال سرور : تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرق ص ١٧٠.

٧٩

٢ ـ الحياة العامة فى بغداد

(أ) القصور والدور فى بغداد فى العصر العباسى الأول :

عنى الخلفاء والأمراء العباسيون ومن يلوذ بهم من الوزراء والأباء والعلماء بتشييد القصور الفخمة فى مدينة السلام ، وبلغت درجة من الاتساع جعلتها أشبه بمدن كبيرة ، واشتملت على دور واسعة وقاعات ذات قباب وأروقة وبساتين (١).

وأول القصور التى شيدت فى بغداد قصر باب الذهب ذى القبة الخضراء وارتفاعها ثمانون ذراعا ، ويمكن منها الإشراف على نواحى بغداد المختلفة وما يحيط بها من حدائق وبساتين ، وبدت كأنها «إكليل من نور قد تدلى على مدينة السلام (٢)» وعلى رأس القبة ظهر تمثال على صورة فارس فى يده رمح ، وتحت القبة مجلس بمستوى سطح الأرض مساحته عشرة أمتار فى مثلها. وفى صدر إيوان عظيم على الطراز الفارسى ، وكان يسمى قصر السلام (٣).

على أن المنصور شيد قصرا آخر على أطراف بغداد وسماه الخلد نسبة إلى حدائقه الواسعة (٤) ويقع على دجله تجاه خراسان وتأنق فى بنائه وتجميله ، وبنيت حوله الدور حتى أصبح القصر وما حوله من عمائر يعرف بالخلد (٥) وكان بهذا القصر قباب بديعة الشكل وبأبوابه مسامير من ذهب وفضة «كما تخللته العمد الكثيرة الفخمة ، التى زينها المنصور بالرسوم البديعة ، والصور الجميلة وكان مجلسه فى هذا القصر مفروشا بالرخام يتوسطه قضبان ذهبية ، وفرش بالبسط والديباح التى نقش عليها أبيات شعرية فى مدح الخليفة ، وفى المجلس كراسى فخمة مرصعة باللؤلؤ معدة لجلوس كبار رجال الدولة الذين يحظون بالجلوس فى

__________________

(١) محمد جمال سرور : تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرق ص ١٧٥.

(٢) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام

John Glubb. The Empire of the Arabs p. ٣٤٢.

(٣) الفخرى فى الأداب السلطانية ص ٢٢١.

(٤) Hitti : Hist.of the Arabs p.٣٩٢.

(٥) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٧٥.

٨٠