الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

١
٢

٣
٤

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل خلق الله الصادق الأمين صاحب السيرة الزكية محمد بن عبد الله وعلى أله وصحبه وبعد :

علم التاريخ من العلوم الإنسانية التى لها دورا أساسى فى حياة الأمم والشعوب والحضارات على مر العصور والأحقاب والأزمنة ، بل لا يوجد شىء فى الوجود إلا وله تاريخ ، فلهذا حرصت كل الحرص على تقديم كتابا هاما للمكتبة العربية «الفوز بالمراد فى تاريخ بغداد» لسليمان الدخيل المؤرخ. فقبل تناولنا محتويات الكتاب نلقى الضوء على مدينة بغداد على مر العصور حتى سقوطها فى أيدى الأتراك فيقول الدكتور عصام عبد الرءوف فى كتابه الحواضر الإسلامية.

تمهيد : خطط بغداد وتطورها فى العصر العباسى الأول :

كان من الطبيعى ومن المنتظر أن يرفض العباسيون ـ بعد أن أقاموا دولتهم على أنقاض الدولة الأموية ـ الأبقاء على مدينة دمشق حاضرة للخلافة ذلك أن بلاد الشام كانت مقر بنى أميه ، وبها عصبيتهم من العنصر العربى الذى يناصرهم ، ويرفض انتقال الخلافة إلى غيرهم ، لذا نقل العباسيون حاضرة دولتهم إلى العراق قريبا من أنصارهم الفرس الذين أقاموا ملكهم على أكتافهم ، وبذل الفرس أموالهم ودمائهم فى سبيل إقامة صرح دولتهم ، يضاف إلى ذلك أن بلاد العراق غنية بمواردها الطبيعية ، وفى مأمن من غارات البيزنطيين لبعدها عن

٥

حدودهم (١). وأصبح العراق بعد انتقال قصبة الدولة اليه ـ حلقة الأتصال بين العنصرين العربى والإيرانى اللذين يتألف منهما الجماعة الإسلامية (٢).

ولم تكن كل من الكوفة والبصرة ـ وهما المدينتان الكبيرتان اللتان كانتا موجودتين منذ الفتح العربى الأول للعراق ـ تصلح لأن تكون حاضرة للدولة الجديدة ذلك أن أهل الكوفه كان معظمهم شيعة يعارضون الحكم العباسى بل ويسعون إلى نقل الخلافة للعلويين ، أما البصرة فلم تكن تصلح هى كذلك لوقوعها فى الجنوب لذلك أقام أبو العباس السفاح ـ أول خلفاء الدولة العباسية ـ فى الحيرة (٣). وفى سنة ١٣٤ ه‍ انتقل إلى الأنبار وبنى مدينة على شاطئ الفرات ، سماها الهاشمية نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف (٤) ، وتوفى أبو العباس قبل أن يتم بناء المدينة ، ولما ولى أبو جعفر المنصور الخلافة سنة ١٣٦ ه‍ لم يشأ أن يقيم فى مدينة أخيه وسلفه أبى العباس ، إذ بنى مدينة بين الكوفة والحيرة سماها الهاشمية أيضا ، وأقام بها لكنه لم يلبث أن كره سكناها لما ثارث عليه الراوندية (٥). كما أن قربها من الكوفة ـ ومعظم أهلها يناصر العلويين ـ جعلته لا يشعر بالطمأنينة ، لأنهم قد يثورون عليه فى أى وقت ، وفعلا أفسدوا جنده وأنصاره عليه (٦).

وعلى ذلك فقد عول المنصور على تأسيس حاضرة جديدة لدولته ، فخرج بنفسه يرتاد لها موضعا يتخذه مسكنا لنفسه وجنده وبنى به مدينته ، فبدا فانحدر إلى جرجرايا (٧) ثم صار إلى بغداد ، ثم مضى إلى الموصل ثم عاد إلى بغداد

__________________

(١) اليعقوبى : البلدان ص ٢٢١

(٢) ENCY of ISLAM : Art Baghdad

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ، حوادث سنة ١٣٤ ه‍.

(٤) le Strange : Beghdad during the Abbasid caliphote p. s

(٥) الراوندية قوم من أهل خراسان كانوا يقولون تناسخ الأرواح ، ويزعمون أن روح آدم أنتقل إلى رجل من كبارهم ، وأن ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو المنصور ، وطافوا : بقصره وقالوا : هذا نصر ربنا. فأمر المنصور بالقبض على رؤسائهم فغضب الباقون وثاروا عليه ، فأخذ المنصور ثورتهم ، ونكل بهم.

(٦) ابن طباطبا : الفحرى فى الآداب السلطانية ص ١٤٣.

(٧) بلد من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد (ياقوت : معجم البلدان ج ٣ ص.

٦

وضرب عسكره على الصراة ، وتدبر موقعها فاعجبه وقال : هذه دجله ليس بيننا وبين الصين شئ يأتينا فيها كل ما فى البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية (١) وما حول ذلك ، وهذه الفرات يجئ فيها كل شئ من الشام والرقة وما حول ذلك ، كما أنه لا حظ خصب البقعة التى تقع فيها بغداد ، الأمر الذى ييسر لسكانها رغد العيش ، يضاف إلى ذلك سهولة الدفاع عن موضوع بغداد ، فإن هاجمها أحد كانت دجلة والفرات وروافدهما خنادق لها ، فإذا خربت القناطر احتاج العدو إلى العبور ، لذلك فإن الهجوم عليها أمر صعب (٢).

أصاب المنصور فى اختياره لبغداد حاضرة لدولته ، وقد ذكر ابن خلدون فى مقدمته عن الشروط الواجب توافرها فى الحاضرة فقال : أما أن تقع على هضبة متوعرة من الجبل ، وأما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها بعد العبور ، وطيب الهواء للسلامة من الأمراض ، وقرب الزرع منها ليحصل الناس على الأقوات.

وكانت الأرض التى تقع فيها بغداد منذ القدم من أهم مراكز الحضارة ، وازدهرت فيها بصفة خاصة الثقافة الشرقية القديمة ، وكانت من أهم المراكز التجارية حيث تلتقى فيها عدة طرق تصلها بمختلف البلاد ، وشهدت هذه الأرض الحواضر (٣) عظيمة مثل بابل وسلوقية والمدائن وورثت بغداد هذه بل واستخدم فى بنائها انقاض مدينة المدائن التى تبعد عنها بضعة كيلو مترات (٤).

أحاط بتأسيس مدينة بغداد روايات من نسج الخيال رواها الكتاب العرب ، فذكروا أن رهبان الدير القريب من مدينة بغداد سأل المنصور عن الرجل الذى يريد بناء المدينة ، فقيل له المنصور ، فقال الراهب للرجل : اذهب إلى صاحبك وقل له لا يتعب نفسه فى بناء هذه المدينة ، فأنا نجد فى كتبنا أن رجلا اسمه

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ـ حوادث سنة ١٤٥ ه‍.

(٢) مقدمة : ابن خدون ص ٣٤٣.

(٣) Ency.of Islam.Art Baghdad

(٤) Hitti : Hist ,of the Arabs P.٢٤٢.

٧

مقلاص يبنى ههنا مدينة ، ويكون لها شأن من الشأن ، وأن غيره لا يتمكن من ذلك ، فجاء الرجل إلى المنصور وأخبره بما سمع ، فقال المنصور : أما والله كان اسمى مقلاصا ، أطلقته على مربية عجوز لى (١) والدليل على عدم صحة هذه الرواية أن الغيب لا يعلمه إلا الله.

ويرجع ترديد الكتاب العرب لهذه الرواية إلى أن الاعتقاد فى التنجيم كان شائعا فى ذلك العصر حتى أن المنصور وضع أساس مدينته فى الوقت الذى اختاره له المنجمون ، وبشروه بطول بقائها وكثرة عمارتها (٢) على أننا نلاحظ أن الأساطير أحاطت بتأسيس المدن الكبرى مثل أتينا وروما ودمشق.

كانت بغداد قبل تمصيرها قرية قديمة بناها بعض ملوك الساسانيين المتأخرين وتقع على الشاطئ الغربى لنهر دجلة فى أعلى المكان الذى يلتقى فيه نهر الفرات بدجله ، وكان يعقد بها سوق شهرى يأتيه التجار من بلاد الفرس والصين ، وتعرضت للغزو العربى سنة ١٣ ه‍ حينما هاجمها المثنى بن حارثة الشيبانى ، واستولى عليها ، وغنم من غزوها مغانم كثيرة (٣) ، وقد أثبت البحث الحديث وجود مدينة قديمة فى موضع بغداد أثبته المكتشف الإنجليزى السير هنرى رولنسون سنة ١٨٤٨ م ، وظهر اسم بختنصر الثانى على أحجار هذه المدينة ، وقامت فى هذا المكان أيضا مدينة تشبه فى تسميتها بغداد (٤).

اختلف الكتاب والمؤرخون حول معنى كلمة بغداد فيعتقد البعض أن بغداد كلمة فارسية تتركب من باغ ومعناها بستان وداد رجل ، وقيل أن بغ اسم لصنم وداد أعطى وقيل أن تسمية بغداد باغ داذوية لأن موضع بغداد كان باغا لرجل من الفرس يسمى داذويه ، ولكننا نرجح أن كلمة بغداد معناها عطية الله أو هبته (٥).

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٤٥ ه‍.

(٢) المصدر نفسه السابق حوادث سنة ١٤٥ ه‍.

(٣) le strange : Baghdad during the Abbasid Caliphate p. ٩

(٤) ياقوت : معجم البلدان ج ٢ ص ٢٣٢.

(٥) le strange : Baghdad during the Abbasid Caliphate p ٢٧.

٨

وسميت بغداد أحيانا بغداد ، وأحيانا أخرى بغداد (١). على أنها اشتهرت باسم مدينة السلام ، واختلف المؤرخون كذلك حول هذه التسمية فبعضهم ذكر أنها سميت بهذا الإسم قبل أن يبنيها المنصور ، ويرى البعض أن اسمها اشتق من اسم نهر دجله المدعو نهر السلام. ولكن الأرجح أن المنصور رغب فى اطلاق تسمية عربية على بغداد فدعاها دار السلام ، لأن الله هو السلام أو لعل المقصود هنا الجنة فقد ورد فى القرآن الكريم عن الجنة (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام الآية ١٢٧.

«والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ، ومهما يكن من أمر فقد كان الشعراء والأدباء وسائر الناس يطلقون على الحاضرة الجديدة بغداد أو بغداد ، وأحيانا يطلقون عليه الزوراء لأن قبلتها غير مستقيمة ، يحتاج المصلى فى المصلى فى مسجدها الجامع إلى أن ينحرف جهة اليسار (٢) ، أو أن أبوابها الداخلة مزورة عن الأبواب الخارجية أى ليست على سمتها ، على أننا نلاحظ أن كثيرا ما كان يتردد ذكر دار السلام فى المكاتبات الرسمية وعلى العملة (٣).

تأسست مدينة بغداد فى موضع عدة قرى منها بغداد والمخرم وبستان القس والعتيقة ، وحرص المنصور على أن يطمئن على أحوال هذه القرى الصحية والمعيشية ، فاستدعى رؤساءها وسألهم عن أحوال قراهم ، فطمأنوه على حسن اختياره ، ولم يكتف بذلك بل عهد إلى بعض رجاله بأن يبيتوا فى هذه القرى ، ويدرسوا أحوالها ، فلما انتهوا من مهمتهم ، قدموا على المنصور ، وأجمعوا على أفضلية هذه عما سواها فازداد المنصور تفاؤلا بنجاح المشروع الذى أقدم عليه (٤).

__________________

(١) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٢٦.

Hitti : Hist. of the Arabs p. ٢٩٢

(٢) الفخرى فى الأداب السلطانية ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٤٥ ه‍.

(٤) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ١٧ ـ ١٨.

٩

عول المنصور على الإستفادة بكافة الخبرات الموجودة فى مملكته فى انجاز مشروعه الكبير ، فاستدعى إليه من كل بلد من بلدان دولته المهندسين ، وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالزرع والمساحة وقسمة الأرضين والبنائين والفعلة والصناع من الحدادين والحفارين والنجارين حتى أجتمع لديه على ما قيل ـ نحو مائة ألف من أرباب المهن والصناعات ، وحدد لهم رواتب وأجور معلومة ، وأسند مهمة الإشراف على عملية البناء إلى رجال ممن يثق بهم من ذوى الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطأة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت (١).

أشرف المنصور بنفسه على تخطيط مدينته الجديدة ، فأمر بوضع خطوط بالمرماد تمثل رسم المدينة الهندسى الذى أقره ، ودخل من كل باب من أبوابها وعبر فى فصلانها وطاقاتها ورحابها ، وشاهد تخطيطها على الطبيعة ، ولم يكتف بذلك ، بل أمر بوضع حب من القطن على الخطوط المرسومة فى موضع بغداد ، وصب ، النفظ عليها ونظر إلى موضع المدينة ، والنار تشتعل ، فشاهد رسمها ، واطمأن إلى حسنه وقال : «الحمد لله الذى أخرها لى» وأغفل عنها كل من تقدمنى «والله لأبننيها ثم اسكنها أيام حياتى ، ويسكنها ولدى من بعدى ، ثم لتكونن أعمر مدينة فى الأرض» (٢).

افتتح المنصور مشروع تأسيس مدينته فى يوم تاريخى مشهود حضره كبار رجال الدولة (٣) ، ووضع أول لبنة بيده وقال : «بسم الله والحمد لله ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (٤) ثم أمر عماله بأن يبدأوا فى البناء على بركة الله».

على أن بناء بغداد لم يقدر له أن يتم سريعا ، فلما بلغ سور بغداد مقدار

__________________

(١) ابن الأثير : الكامل فى التاريخ حوادث سنة ١٤٥ ه‍.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤١.

(٣) Hitti : Hist.of the Arabs p.٢٤٢.

(٤) le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٩

١٠

قامة ، أمر المنصور بوقف البناء بعد أن نمى إلى علمه انتقاض محمد ذى النفس الزكية بالمدينة المنورة عليه ، وأقام بالكوفة حتى فرغ من قمع ثورة العلويين بقيادة الأخوين محمد وإبراهيم ، وعاد إلى بغداد ليستأنف عملية البناء ، وكان مولاه أسلم قد أحرق ما أعد لبناء المدينة من الخشب والساج خوفا من أن ينتصر العلويين ويزحفوا إلى بغداد ويستولوا على أدوات بنائها (١).

ومهما يكن من أمر فقد استأنف المنصور بناء مدينة بغداد ، وجعلها مدورة ، ويذكر اليعقوبى (٢) أنه لا يعرف فى جميع أقطار الدنيا مدينة مدورة غيرها.

وبنيت المدينة مدورة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع (٣).

أحاط المنصور مدينته بسورين ، وجعل للبلدة أربعة أبواب للسور الداخلى ونظير لهذه الأبواب بالسور الخارجى ، وأول هذه الأبواب باب خراسان ويسمى باب الدولة لاقبال الدولة العباسية من خراسان ، والثانى باب الكوفة وهو تلقاء الكوفة ، والثالث باب الشام وهو من ناحية الغرب ، والرابع باب البصرة وهو بمقربة من دجله (٣) فكان القادم إلى بغداد أو من الشرق يدخل من باب خراسان ، والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة ، والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام ، والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة (٤) ، وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر مسافة تقدر بميل (٥).

عنى المنصور بتحصين مدينته ، فأحكم بناء السورين ، وجعل للمدينة أبوابا متينة من واسط والكوفة والشام ، ونصبها على أبواب خراسان والكوفة

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٤٦ ه‍.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤.

(٣) le strange : Baghdad during the Abbassid Coliphate p. ٩

(٤) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(٥) ياقوت معجم البلدان ج ٢ ص ٢٣٥.

١١

والبصرة ، أما باب الشام فقد صنع فى بغداد ، وكان أضعف الأبواب (١).

أقيم على كل باب من الأبواب الأربعة سواء السور الداخلى أو أبواب السور الخارجى طاقات ، وعلى كل باب من أبواب السور الداخلى قبه معقودة مذهبة ، ويصعد إلى هذه القباب على عقود مبنية بالجص والآجر ، وبعضها باللبن ، ولكل باب من هذه الأبواب التى على السور الداخلى قائد فى ألف جندى ، يتولون مراقبة القادمين والخارجين من المدينة وتمكنهم القباب على الأبواب من رصد الحركة المتجهة إلي بغداد من مساقات بعيدة (٢).

حرص المنصور على تقوية وسائل الدفاع عن مدينته ، فشيد لها سورين ـ كما قلنا ـ سور داخلى وسور خارجى ، ويحيط بالسور الخارجى من الخارج خندق عميق أحكم بناؤه ، وله حافتين بالجص والأحر ، وأجرى فيه الماء تأخذ من نهر كرخايا ، وكان عرض السور الداخلى من أسفله خمسون ذراعا ومن أعلاه عشرون ذراعا ، ويطلق عليه اليعقوبى السور الأعظم ، أو سور المدينة ، أما السور الخارجى فكان إرتفاعه ثلاثون ذراعا وعرضه كعرض السور الداخلى ، وبين السورين فصيل ، وكان يسمى سور الفصيل ، وعلى السور أبراج ، وبنيت عليه شرافات ، وبين حائط السور حائط الفصيل مائة ذراع (٣).

قلنا أن مدينة بغداد بنيت مدورة ، وكان قطرها من باب خراسان إلى باب الكوفة ٢٠٥ ذراع ومن باب البصرة إلى باب الشام كذلك ، واتخذ المنصور المسجد الجامع وقصره فى الرحبة التى هى فى وسط المدينة أو بعبارة أخرى مركز الدائرة للمدينة (٤) وعنى المنصور تشييد قصره وسماه باب الذهب ، وكان فى وسطه القبة الخضراء ، التى كانت ترى من أطراف بغداد ، وكان على رأس القبة

__________________

(١) Hitti : Hist.of the Arabs p.٣٩٢.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٤٠.

الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسى ج ٢ ص ٣٧١.

(٤) le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٧١

١٢

تمثال على صورة فارس فى يد رمح ، وتحت القبة مجلس بمستوى سطح الأرض مساحته عشرة أمتار فى مثلها ، وفى صدر المجلس الأسفل ايوان عظيم على الطراز الفارسى ، وارتفعت القبة الخضراء على علو يزيد على ثمانين ذراعا ليشرف منها على جهات المدينة وما يجاورها من البساتين ، كما أنه عنى بتجميلها بالرسوم البديعة ليكون منها للدلالة على سعة ملكه والشهادة باقتدار على عظائم الأعمال ، فظهرت وكأنها أكليل من نور قد تدلى على قصر السلام (١).

اتخذ المنصور ومعظم خلفاؤه فى العصر العباسى الأول قصر باب الذهب أو قصر السلام مقرا لهم ، ولم يقم فيه الخليفة الرشيد غير أن الأمين اتخذه مقرا له وأضاف إليه بناءا جديدا ، واعتصم الأمين بهذا القصر أثناء حصار قوات المأمون لبغداد وتعرض القصر للتخريب والتدمير من ضربات طاهر بن الحسين العنيفة.

أما القبة الخضراء فظلت قائمة على حالها ، وبلغت مساحة قصر باب الذهب ٠٠٠ ، ١٦٠ ذراعا مربعا (٢).

روعى فى تأسيس المدينة الإسلامية بناء مسجد جامع لها ، فأنشاؤه يدل على طابعها الإسلامى ، وقد أقام المنصور مسجد بغداد الجامع مجاورا لقصر باب الذهب وكان محرابه منحرفا عن القبلة ، وبناه المنصور باللبن ، ذلك أنه شيد بعد بناء القصر ، ولكى يكون وضعه متناسبا مع وضع القصر أصبح منحرفا محرابه عن القبله وكان سقف المسجد قائما على أساطين من خشب ، ولكل أسطوانه تاج مدور مصنوع من قطعة خشب ، وبقى هذا الجامع بهذه الصورة حتى ولى الرشيد الخلافة فعول على تجديده سنة ١٩٢ ه‍ ، فأمر بهدمه وأعاده بنائه بالجص والآجر ، وكتب عليه اسم الرشيد وذكر اسماء بنائيه ومشيديه وتاريخ البناء وقد تم ذلك سنة ١٩٣ ه‍ وصار يعرف هذا الجامع بالصحن العتيق (٣).

قلنا أن مركز الدائرة بها القصر والمسجد الجامع ، ولم يكن حولهما بناء ولا دار

__________________

(١) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤١.

(٢) le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٩١

(٣) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٧٦.

١٣

ولا مسكن لأحد إلا دار من ناحية باب الشام للحرس وسقيفه كبيرة ممتدة على عمد مبنية بالآجر والجص ، يجلس فى أحداهما صاحب الشرطة وفى الأخرى صاحب الحرس ، وحول الرحبه تدور منازل أولاد المنصور الأصاغر ومماليكه وبيت المال وخزانة السلاح وديوان الرسائل وديوان الخراج وديوان الخاتم وديوان الجند وديوان الحوائج وديوان النفقات ومطبخ العامة (١).

على أن المنصور لم يكف بقصر باب الذهب ، إنما عول على إتخاذ قصر آخر له باطراف المدينة ، ولعل المنصور بعد أن شيد مدينة بغداد شعر أنه منعزل فى قصر باب الذهب فى وسط المدينة لتزايد السكان من حوله ، فأقام لنفسه قصر الخلد ، وأصبح أجمل المواضع التى ببغداد ويقع على الضفة الغربية مما يلى باب خراسان ، وسماه الخلد نسبة إلى حدائقه الواسعة وتشبيهها بجنة الخلد وما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق وغرض غريب ومراد عجيب ، وفضل الرشيد الإقامة فيه بدلا من قصر باب الذهب ، وعاش فيه طوال خلافته تقريبا (٢).

اشتملت مدينة بغداد على أربع شوارع رئيسية ، تفرعت من أبواب السور الداخلى الذى يحيط بالرحبة ، وهذه الشوارع تتخذ صورة محاور الدائرة ، ويتجه إلى خارج المدينة وتنتهى عند الخندق (٣) ، وقد أقيمت على جانبى هذه الشوارع الأبنية العالية التى بنيت على نمط واحد وأحسن تنسيقها ، وتفرعت من هذه الشوارع سكسكا (٤) ودروبا عرفت باسم قواد المنصور ومواليه أو الإسم الذى يغلب على سكان السكة أو الدرب. وعلى سبيل المثال لا الحصر ، الشارع الممتد من باب البصرة إلى باب الكوفة تتفرع منه سكة المطبق ، والمطبق سجن بغداد ، وثيق البنيان محكم السور ، والشارع من باب البصرة إلى باب خراسان سكة

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية ص ٢٢١.

le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٦٢.

(٢) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٧٥.

(٣) le strange : Baghdad during the Abbasid Coliphate p. ٢٣.

(٤) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤١.

١٤

الحرس وسكة الربيع وهكذا ، ومن باب الكوفة إلى باب الشام شارع يخرج منه سكة العلاء وسكة نافع ... الخ.

والشارع من باب الكوفة إلى باب خراسان يتفرع منه سكة الحكم بن يوسف وسكة صاعد مولى أبى جعفر.

وفى كل سكة من هذه السكك جلة القواد الموثوق بهم وجلة موالى الخليفة المنصور ، ومن احتاج إليهم فى مهام الأمور ، وحرص المنصور بأن يراعى فى تخطيط السكك والدروب ما يحتاجه الناس من مرافق كالمساجد والحمامات والأسواق وأن تتسع هذه السكك لإقامة المساكن والمنازل والمساجد.

ولكى ييسر المنصور أمر تشييد مدينته ، قسم المدينة إلى أربعة أرباض أى نواحى ، وعهد إلى أربعة من رجاله المقربين إليه بأن يشرف كل واحد منهم على تأسيس ربض ، ومنحه الأموال اللازمة لتأسيس ربضه ، وأمرهم بأن يتوسعوا فى إقامة الأسواق فى الأرباض بحيث يكون فى كل ربض سوق جامعة يضم مختلف التجارات وأن يجعلوا لكل ربض من السكك والدروب النافذة وغير النافذة ما يعتدل بها المنازل ، وأمرهم بأن يجعلوا عرض الشارع خمسين ذراعا ، والدرب ستة عشر ذراعا وأن يبنوا فى جميع الأرباض المساجد والحمامات ما يكتفى بها فى كل ناحية ومحله ، وأمر أن يجعلوا من قطائع القواد والجند ذراعا معلوما للتجار يبنونه وينزلونه هم وأهل البلدان الأخرى (١).

ولما فرغ المنصور من عمارة بغداد أقطع أعيان دولته قطائع من الأرض رغبة فى تخفيف الضغط على بغداد من جهة ومكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة من جهة أخرى ، وسرعان ما عمرت هذه القطائع وازدحمت بالسكان وأصبحت كل قطعة منها تعرف باسم الرجل أو الطائفة التى تسكنها ، فمن بينها قطيعة العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس على الصراة وقطيعة الصحابة وهم من سائر قبائل العرب من قريش والأنصار وربيعة ومضر ، وكانت على

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية ص ٢٢١.

١٥

الصراة أيضا ، وقطيعة الربيع بن يونس ـ مولى المنصور ـ وكان بها تجار خراسان من البزازين ، وقطيعة صالح بن المنصور وقطيعة الحرب بن عبد الله ـ أحد أصحاب المنصور ـ وسرعان ما اتسعت هذه القطائع ، وازداد إقبال الناس على سكناها ، وظلت تحمل اسم أصحابها مثل العباسية والصالحية والحربية (١).

حرص المنصور على توفير المياه بأرض بغداد ، فأمر بشق قناة تأخذ من نهر كرخايا ـ أحد روافد الفرات ـ تمر بداخل بغداد ، وقناة أخرى تأخذ من دجلة مباشرة ، وسماها دجيل ، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهر يقال له نهر الدجاج وأدى توفر المياة إلى غرس الناس النخيل الذى جلب من البصرة وغرسوا الأشجار ، فأثمرت وأينعت ، وبذلك أمتلأت المدينة وضواحيها بالحدائق والمنتزهات البديعة (٢). وعنيت الحكومة فى بغداد بنظافة المدينة ، فلم يكن يسمح قط بإلقاء القاذورات على جانبى الطرق أو الأزقة ، وأنما كانت الشوراع تكنس وترش بأحسن نظام (٣).

يبالغ اليعقوبى (٤) فى ذكر عدد مساجد وحمامات وأسواق بغداد فيذكر أن المساجد كانت ثلاثين ألفا ، والحمامات عشرة آلاف ، وهذه الأرقام مشكوك فى صحتها. لأن مدينة بغداد بتصميمها ومساحتها لا يمكن بحال من الأحوال أن تتسع لهذه الأرقام التى ذكرها اليعقوبى ، على أننا نعتقد أن ما رواه اليعقوبى يدل على كثرة مرافق هذه المدينة.

على كل حال عنى المنصور بتأسيس مدينته ، وأقام لها المرافق الضرورية والأسواق فى كل ربض ، على أن المنصور عاد فأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ خارج المدينة ، وجعل لكل تجارة شوارع معلومة وصفوفا فى تلك الشوارع وحوانيت ، ويرجع السبب فى نقل المنصور الأسواق من داخل المدينة إلى

__________________

(١) اليعقوبى : البلدان ص ٢٥٠.

(٢) ياقوت : معجم البلدان ج ٢ ص ٢٣٦.

(٣) المصدر السابق ذكره ج ٢ ص ٢٣٦.

(٤) البلدان ص ٢٥١.

١٦

خارجها إلى أنه خشى أن يضم الغرباء الذين يبيتون فى السوق جواسيس ، وجعل مدينته للشرطة والحرس وسائر السكان. وكان الكرخ ـ وهو السوق الذى اختاره المنصور ـ يقع ما بين الصراة ونهر عيسى ، ثم أمر ببناء مسجد فى السوق الجديد ، ولما كثر الناس ضاقت عليهم هذه الأسواق ، فبنوا أسواقا من أموالهم حتى اتسع الكرخ (١). ومع ذلك فقد أمر المنصور بأن يبقى فى كل ربض يقال واحد لبيع الأشياء اليومية التى لا غنى للناس عنها. وبمرور الزمن اتسعت بغداد حتى صار الكرخ فى وسطها (٢).

لم يكتف المنصور بتأسيس مدينة على الضفة الغربية لدجلة ، بل عول سنة ١٥١ ه‍ ، على توسيعها ، وذلك بإقامة مدينة جديدة على الجانب الشرقى لدجلة ، وأقامها فعلا وسماها الرصافة ، وعمل لها سورا وخندقا ومسجدا جامعا وقصرا ، وأجرى لها الماء ، ويرجع السبب فيما شرع فيه المنصور أنه خشى من اجتماع جنده فى مكان واحد ، أقصد الضفة الغربية ، فرأى تفريقهم على جانبى دجلة ، فإذا ثار عليه جند الضفة الغربية ضربهم بجند الضفة الشرقية ، وأمر أبنه المهدى بالإقامة فى الرصافة مع عسكره ، وأقطع المنصور أخوته وقواده نواحى فى البلدة الجديدة ، وتنافس الناس فى النزول بالرصافة لمحبتهم المهدى ولاتساعة عليهم بالأموال والعطايا ، ولأن الرصافة كانت أوسع الجانبين أرضا. ذلك أن الناس قد سبقوا إلى الجانب الغربى ، ولم تلبث أن عمرت الرصافة بالأسواق ومنازل التجار والجند وسائر الناس (٣).

اتسع الجانب الشرقى من بغداد واستقرت فيه الأسر الغنية وأتباعها من الموالى والعبيد الذين يبلغ تعدادهم بضعة آلاف ، وشيدت فى الرصافة قصور فخمة أهمها قصر جعفر بن يحيى البرمكى ، وأتخذه للهو والطرب وكان القصر فى موقع حسن لإطاله على دجله وصار إلى المأمون منزل صيده وقنصه ، وبنى حوله

__________________

(١) ياقوت : معجم البلدان ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٢٣٦.

(٣) ياقوت : معجم البلدان ج ٤ ص ٢٥٤.

١٧

وقريبا منه منازل لخاصته وأصحابه وحاشيته سميت بالمأمونية (١). كذلك توسع الناس فى البناء فى القسم الشرقى ، فبنوا فيه القصور المنيفة والمنازل المزخرفة ، اتخذوا الأسواق والمساجد والحمامات ، وأقطع المهدى رجاله مواضع بها ، وبنواحيها ، ونشأت فى الرصافة عدة محلات أهمها أبى حنيفة وبها مقبرة الإمام أبو حنيفة ومحلة باب الطاق ، والطاق قسما من أقسام قصر لإحدى بنات المنصور ، ثم صار فى زمن الرشيد مجمعا للشعراء ، وإلى جوار هذا الطاق سوق الصاغة ودار صاحب شرطة المهدى ، كذلك نشأت محلة دار الروم نسبة إلى أسرى الروم الذى أنزلوا فيها فى عهد الخليفة المهدى ، فشيدوا هناك ضيعة ودورا لهم.

وازدهرت محلة الشماسية فى عهد الرشيد لأن البرامكة اتخذوا قصورهم بها ، فشيد يحيى بن خالد قصره المعروف بقصر الطين بها ، كذلك اتخذوا ولديه جعفر والفضل قصرين هناك. وامتدت قطائع البرامكة من الشماسية حتى البردان (٢).

كذلك برزت محلات أخرى فى الرصافة نخص بالذكر منها سوق الثلاثاء ، وقد نشأت إلى جوار هذه المحلة محلتان على ضفاف دجله تسمى إحداهما محلة دار دينار الكبرى والأخرى دار دينار الصغرى نسبة إلى دينار بن عبد الله ـ من موالى الرشيد ـ وكان من أجل القواد فى زمن المأمون.

وصفوة القول أن بغداد صارت من أمهات المدن الإسلامية ، بل والعالمية فى العصر العباسى الأول ، ومركز العلم والثقافة ، وأهم مراكز النشاط التجارى فى العالم ، وكثرت ثروتها وازدهرت فى عهد الخليفة الرشيد ، وتجلى ذلك فى بلوغ العمران بها غايته وازدحام الناس بانحائها ، وتموجهم كالبحر فى أرجائها ، حتى قيل أن تعدادهم زاد على مليون ونصف نسمة (٣). وهذا العدد الهائل يدل على أنه ليس فى المدن أعين ولا أيسر من الموضع الذى يتكوفون فيه تكوف الرمال (٤).

__________________

(١) ابن الساعى : نساء الخلفاء ص ٧١.

(٢) اين الساعى : نساء الخلفاء ص ٧١.

(٣) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٩٣.

(٤) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٩٣.

١٨

على أن مدينة بغداد لم تنعم بازدهارها طويلا ، بل تعرضت بعد عامين من وفاة الرشيد إلى التخريب والتدمير ، ذلك أن الخلاف نشب بين الأمين والمأمون ـ ولدى الرشيد ـ وما لبث أن تطور هذا الخلاف إلى حرب بين الأخوين ، وحاصرت قوات المأمون بغداد ، أربعة أشهر بقيادة هرثمة بن أعين وطاهر بن الحسين ـ قائدى المأمون ـ وعزل هرثمة الجانب الشرقى عن الجانب الغربى ، وهدم سوره ، بينما حاصر طاهر بن الحسين الجانب الشرقى (١).

واشتبكت قوات طاهر بن الحسين مع قوات الأمين فى معارك متعددة كان من نتيجتها تدمير حى الحربية بعد أن رمى بالنفط والنيران والمنجنيقات وأرسل طاهر إلى أهل الأرباض يطلب منهم التسليم ، فمن أجابه كف عنه ، ومن لم يجبه ودخل فى طاعته قاتله وأحرق منزله ، وظل يغدو ويروح بفرسانه وقواده ورجالته ، ويشن هجماته على بغداد ونواحيها حتى أوحشت مدينة المنصور ، وخاف الناس أن تبقى خرابا ، وأسمى طاهر الأرباض التى خالفه أهلها ومدينة أبى جعفر الشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث ، وأستولى على كل أملاك من خالفه من بنى هاشم والقواد والموالى ، فذلوا وانكسروا وانقادوا ، واشتد القتال وضعف أنصار الأمين ، وتعرضت المدينة للسلب والنهب حيث واتت الفوضى التى حلت بالمدينة الفرصة للصوص وقطاع الطرق والرعاع وأهل السوقه لسلب الناس والاعتداء عليهم ، وهدم طاهر بعض قناطر بغداد ، وشن هجماته (٢) على الكرخ ، وحاصر بغداد ، وهاجم قصر أم جعفر وقصر الخلد ونصب المنجنيقات خلف سور بغداد ، وقذف المدينة ، وتفرق جنده فى السكك والطرق لا يلوى منهم أحد على أحد ، وتحصن محمد الأمين بالمدينة هو وأنصاره ، وشدد طاهر الحصار ، وفى سنة ١٩٨ ه‍ وقع الأمين فى الأسر بعد أن حوصر فى قصر الخلد ، ولم يلبث أن قتل ، وتوقفت الحرب بعد أن تحولت بغداد

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٨ ه‍.

(٢) المصدر السابق ذكره حوادث سنة ١٩٨ ه‍.

١٩

إلى خرائب ورماد حتى أتت النيران على أحياء باكملها ودمرت هذه الحرب قصرى الخلافة ، باب الذهب فى وسط المدينة ، والخلد على دجلة (١).

وكان لمقتل الأمين أثر سئ فى نفوس أهل بغداد ، فاشتدت معارضتهم للمأمون وثاروا على وزيره الحسن بن سهل حتى غادر بغداد سنة ٢٠١ ه‍ ، وزاد أهل بغداد ، معارضة المأمون حين بايع لعلى الرضا بولاية العهد وأمر الناس يلبس الخضرة ـ شعار العلويين ـ بدلا من السواد ـ شعار العباسيين ـ لذلك بايعوا إبراهيم بن المهدى ولقبوه المبارك وظل يحكم بغداد مدى عامين ، غير أن خيانة قواده له ، وتمردهم عليه أجبرته على تسليم المدينة وزمام الحكم إلى المأمون ، ونزل المأمون بالجانب الشرقى حيث نقل إليه مقر حكمه فى قصر من قصور البرامكة وقام بتوسيعه (٢).

وقدر لبغداد أن تنزل عن مركزها الممتاز بعد أن انتقلت حاضرة الدولة إلى سامرا ، ذلك أن المعتصم جمع جيشا من الترك بلغ عدة آلاف وألبسهم أنواع الدبياج ، والمناطق الذهبية والحلية المذهبة ، وأبانهم عن سائر جنوده ، وكان الأتراك يؤذون الناس بمدينة السلام بجريها الخيول فى الأسواق ، وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك (٣) وضاقت بهم بغداد وتأذى بهم الناس بعد أن زاحموهم فى دورهم وتعرضوا بالنساء ، فتذمر أهل بغداد وتقدموا بالشكوى إلى المعتصم ، فرأى الخليفة ضرورة الإنتقال من بغداد مع عسكره ، ووقع اختياره على سامرا ، وشيدها سنة ٢٢١ ه‍ ، وأتخذها حاضرة بدلا من بغداد. وبذلك فقدت بغداد أهميتها كحاضرة إسلامية كبرى.

حقيقة ظلت بغداد محتفظة بقدر كبير من النشاط الأدبى والإزدهار الإقتصادى ، لكن انتقال حاضرة الخلافة عنها ، أفقدها السيادة على المملكة الإسلامية الكبرى.

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ١٦٦.

(٢) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية س ١١١.

(٣) المصدر السابق ذكره.

٢٠