الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

تسند إليهم مهمة جباية الخراج ، ويوكل إليهم أيضا مهمة العمل فى بيت المال لخبرتهم المالية الواسعة ، وقد أتهم خالد البرمكى حين حكم عليه المنصور بأداء مبلغ من المال ، بأنه يودع أمواله عند أحد الجهابذة (١).

أدى ازدهار التجارة والعمليات التجارية إلى اتخاذ أساليب جديدة فى العمليات المالية ، تيسر للعملاء التعامل فى أمن وطمأنينة ويسر ، ومن هنا استعمل الناس السفاتج ، والسفتجة حواله خطاب يشمل على قيمة معينه من المال قابل للصرف من أى مكان من عملاء وجهابذه الشخص الذى له السفتجه ، فكانت تدفع النقود فى أى بلد من البلاد ويحصل صاحبها على سفتجه بقيمة ماله ، ويحملها معه فى رحلته الطويلة وهو آمن على ماله لأنه لم يكن يجوز صرف أى مبلغ إلا لصاحب السفتجه ، وقد استخدم التجار هذه الوسيلة لإنجاز عملياتهم التجارية ، وشاع استخدام السفاتج حتى أن أموال الجبايات من الولايات العباسية كانت ترسل إلى بغداد بسفاتج ، وكانت السفاتج تصرف فى أوقات محددة ، ولقد نظم الجهابذة التعامل بالسفاتج ، والسفتجه كانت تصرف فى موعدها مجانا ، أما إذا تأخر صرفها صرفت بعموله (١).

أما الصك ، فأشبه بالشيك فى عصرنا الحالى ، يثبت فيه قيمة القرض أو الأستحقاق ، وموعد استحقاق صرفه ، وقد استخدمه بعض الأفراد فى معاملاتهم ، وكان الجهابذة يصرفون هذه الصكوك لأصحاب الأموال المودعة لديهم نظير مبلغ معين من المال ، ويشهد على الصك عادة اثنين ثم يختم ، وفى بعض الأحيان يوقع عليه ضامن يتعهد بأنه يدفع قيمة الصك فى حالة عجز المدين عن دفع قيمته ، وفى بعض الأحيان كانت أرزاق الجند والموظفين تكتب قيمتها صكوكا يوقع عليها رؤساء دواوينهم : وأحيانا الخليفة ، ويصرفونها من بيت المال (٢) ، والصلات التى يقررها الخليفة فى بعض الأحيان يكتب بها صكوكا ، وجدير بالذكر أن الإمام العلوى محمد بن إبراهيم ركبه دين ، فقصد الفضل بن

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٠٠.

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٠٠.

(٢) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ١٢٣ ـ ١٢٤.

٤١

يحيى فقال له : قصرت بنا غلاتنا ، وأغفل أمرنا خليفتنا ، وتزايدت مؤونتنا ولزمنا دين احتجنا لأدائه إلى ألف ألف درهم ، فتوسط الفضل لدى الرشيد فى فك ضيق الرجل ، فكتب الرشيد صكا إلى محمد بن إبراهيم بالمبلغ الذى طلبه (١). واشترى الفضل بن يحيى ضيعه ، كتب بثمنها صكا إلى صاحبها (٢).

شاع استعمال الدرهم فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، على أن وزنه نقص قليلا عما كان عليه فى العهد الأموى ، وحرص العباسيون علي نقش أسمائهم على العملة التى بدأوا فى ضربها منذ فجر دولتهم (٣) ، فأبو العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس ـ ضرب درهما بالأنبار ، ونقص وزنه حبة واحدة ثم حبتين فى خلافه المنصور ، وظل الحال على ذلك حتى سنه ١٧٨ ه‍ حيث نقص ثلاث حبات وذلك فى عهد الخليفة الرشيد. ولم يستمر الحال على ذلك ، بل أخذ الدرهم فى النقصان ، ففى سنة ١٨٤ ه‍ بلغ النقص قيراطا وحبة ونصف (٤).

والأمر الجدير بالأعتبار فى هذه العملة هو وزنها لا قيمتها الأسمية ، وكان يشرف على دار ضرب النقود جعفر بن يحيى البرمكى فلما قتل ، فوض الرشيد أمر دار الضرب إلى السندى بن شاهك فضرب الدراهم على العيار الصحيح ، وحرص على نقاوة الذهب والفضة (٥).

ضرب المنصور الدنانير الهاشمية ، ويبلغ وزن الواحد منها مثقالا بصريا. وفى سنة ١٩١ ه‍ نقصت الدنانير الهاشمية نصف حبه ، ولكنها تبودلت على أعتبار أنها مثاقيل كاملة بالرغم من أنها لم تضرب بوزنها الصحيح إلا فترة قصيرة (٦) ، ونلاحظ أن اسعمال الدراهم فى بغداد كان أكثر شيوعا من الدنانير (٧).

__________________

(١) Kremer.Orient under the Califate ,p.٥١٤.

(٢) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٩٦.

(٣) المصدر السابق ص ٢١٤.

(٤) المقريزى : شذور العقود ص ٨.

(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٣٨.

(٦) المقزيزى : شذور العقود ص ٨.

(٧) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ٢٢٧.

٤٢

واستعملت فى بغداد أجزاء من الدراهم والدنانير مثل الثلث والربع والخمس والسدس ، كذلك ضرب العباسيون مضاعفات للعملة ، ففى عهد الخليفة المأمون ضربت دنانير قيمة الواحد منها دينارين ، وعليها الكتابة الآتية : ضرب العصر الحسنى لخريطة أمير المؤمنين ويذكر الجهشيارى (١) أن جعفر بن يحيى ضرب دنانير وزن كل دينار مائة دينار ودينار ، وعلى كل دينار من أحد جانبيه.

وأصفر من دار الملوك

يلوح على وجهه جعفر

ومن الجانب الأخر :

يزيد على مائة واحدا

إذا ناله معسر ييسر

واستعمل الناس فى معاملاتهم اليومية البسيطة أجزاءا من العملة الفضية مثل القيراط والحبة والدانق والطسوج ، كما استعملت الفلوس النحاسية (٢). كذلك شاع نظام المقايضة.

وكانت النقود تضرب فى دار ضرب النقود ، ولا يجوز أن تضرب فى غيرها خوفا من الغش والتزييف ، ويرى الماوردى (٣) وجوب تعامل الناس بالنقد المطبوع بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعه ، المأمون من تبديله وتلبيسه ، وكان من حق كل فرد أن يضرب ما معه من ذهب وفضة دنانير ودراهم.

ويجدر بنا أن نشير إلى المظهر العام للدينار الأموى ظل قائما فى عصر العباسيين بنفس العبارات المسجلة على وجه السكة الأموية ، وكانت دراهم المهدى مستدير الشكل ، وظهر عليها إسمه وقد نقش العباسيون منذ عهد المهدى اسمه واسمى ولديه موسى وهارون ، كما نقش الهادى اسمه واسم هارون على العملة (٤) وكان الرشيد أول خليفة نقش اسمه على الدنانير ، كما نقش اسم ابنيه

__________________

(١) الوزراء والكتاب ص ٢٤١.

(٢) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ٢٢٩.

(٣) الأحكام السلطانية ص ١٥٠.

(٤) المقريزى : شذور العقود ص ١٠.

٤٣

الأمين ، والمأمون ، ووهب الحقوق نفسها لوزرائه وولاته وعمال المال (١) وكان الرشيد لا يباشر بنفسه عيار الدراهم والدنانير ، وكان الخلفاء قبله يتناولون النظر فى العيار ، كما نقش الأمين اسمه على العملة مع أخيه المأمون ، ولو أنه أسقطه بعد ذلك ، ونقش اسمه ابنه موسى بعد أن بايعه بولاية العهد بدلا من المأمون ، وضربت فى عهد الأمين أنواع مختلفة من الدنانير ، وكتب على بعضها عبارة «ربى الله» وعلى الوجه الاخر «محمد رسول الله» (٢).

نقش المأمون أسمه ، وأسماء بعض أولاده ، وبعض عماله والمدينة التى ضربت العملة فيها ، وضرب دينارا كتب عليه اسم ولى عهده «على الرضا» وفى سنة ٢٠٧ ه‍ أضاف المأمون على السكة بعض الآيات القرآنية على وجه الدينار ، وأكملت عبارات أخرى على ظهر الدينار محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (٣).

وقد ضرب المعتصم أول دينار له سنة ٢١٩ ه‍ نقش عليه اسمه ولقبه ، واسم ولى عهده.

٦ ـ الدواوين المالية :

كان فى بغداد ديوانان لبيت المال أحدهما ديوان بيت المال العام وهو خزانة الدولة الذى يثبت فى سجلاتها أموال الدولة العامة التى ترد إليها من الولايات ، أما بيت المال الخاصة ، فهو خزانة الخليفة ، ويحمل إليه أنواع معينة من الأموال ، ويعتبر ديوان بيت المال العام من أهم الدواوين لأنه كان يضم دفاتر لكافة إيرادات الدولة العباسية ، ولديوان بيت المال المركزى فى بغداد فروع فى مختلف الولايات (٤) وإيراداته تشمل موارد الدولة الرئيسية وهى الخراج والمكوس وأموال المصادرات وهذه الموارد تنفق ـ كما أشرنا ـ فى أوجه مصارف الدولة ، مثل إعداد

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٠٤.

(٢) المقريزى : شذور العقود ص ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) عبد الرحمن فهمى : فجر السكة العربية ص ٨٣٤.

(٤) الخوارزمى : مفاتيح العلوم ص ٦٠.

٤٤

الجيوش وتجهيزها للغزو ، ودفع رواتب الموظفين ، وإصلاح شؤون الزراعة والرى.

وكانت لكل ولاية من الولايات العباسية بيت المال ـ كما أشرنا ـ وتتولى الولاية ـ جميع نفقاتها من إيراداتها الخاصة ، وإرسال فائض الأموال إلى بيت المال المركزى فى بغداد ، وكانت هذه الأموال ترسل كما أوضح الجهشيارى (١) نقدا عينا ، والكتب المتعلقة بالشئون المالية تعرض على صاحب ديوان المال قبل إرسالها إلى الديوان الأخرى ، واعتبر توقيع صاحب بيت المال على الصكوك والأوامر المالية من الأمور اللازمة لصحتها (٢).

عنى الخلفاء العباسيون عناية كبيرة بديوان بيت المال ، فحرص المنصور على وجود احتياطى فى بيت المال ، يفيد الدولة فيما عسى أن تتعرض له من طوارئ ، وخصص مكانا فى بغداد لبيت المال يقع إلى جوار قصر باب الذهب فى وسط بغداد (٣) وعين عليه الفرج بن فضاله التنوخى (٤).

ظل بيت المال يتضمن فائضا سنويا حتى ولى الرشيد الخلافة ، فأسند الإشراف على بيت المال إلى جعفر بن يحيى البرمكى ، فازدادت إيراداته بشكل ملحوظ ، فلما استخلف الأمين ونشبت الحرب بينه وبين المأمون استنقذ خزانة الدولة فى إرضاء أنصاره ، وفى الدفاع عن بغداد ، وظل بيت المال يعانى عجزا فى إيراداته حتى أستقرت خلافة المأمون ، ولما اختط المعتصم سامرا نقل إليها بيت المال.

ديوان النفقات :

اختص ديوان النفقات بالإشراف على نفقات الخلافة واحتياجاتها ، ويشترط على رئيسها أن يكون على دراية تامة بالحساب والمكاييل والموازين والأسعار ، وقد أشرف هذا الديوان على صرف استحقاقات رجال البلاط ، ومحاسبة التجار الذين

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٠٤.

(٢) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ١٠٠.

(٣) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤٠.

(٤) الجهشيارى : : الوزراء والكتاب ص ١١٢.

٤٥

يتعاملون مع قصور الخلافة مثل توريد احتياجات قصور الخلافة ، وكان من اختصاصه الإشراف على أعمال التشييد والتعمير التى يأمر بها الخليفة ومهمة صاحب هذا الديوان مرتبطة بيت المال العام والخاص إرتباطا وثيقا لأنه يتولى بنفسه الحصول على استحقاقات الخليفة من بيت المال (١) ، والإشراف على نفقاته وكان لهذا الديوان مبنى خاصا فى بغداد بالقرب من قصر الخليفة ودولى الإشراف عليه فى عهد المهدى يحيى بن خالد البرمكى ، وفى عهد الرشيد الفضل بن الربيع (٢).

ديوان الخراج :

يحتفظ ديوان الخراج بسجلات يدون فيها تقديرات الخراج على مناطق الدولة المختلفة ، والتعديلات التى قد تطرا عليها ، وتحديد أنواع الأراضى فى كل منطقة من حيث أرض خراج وأرض عشر وأرض صوافى .. الخ ويرجع إليها صاحب هذا الديوان عند جباية الخراج ، وكان لديوان الخراج المركزى فى بغداد فروع فى سائر الولايات ، ويشرف صاحبه على مبالغ الخراج الواردة من الولايات إلى ديوان الخراج المركزى فى بغداد.

كان يعمل فى ديوان الخراج عدد من الكتاب الذين يباشرون أمور السجلات ، وموظفون يقومون بجباية الخراج من نواحى الأقاليم وكان المساحون يقومون بمسح الأرض وتحديد الجزء المزروع منها ، ويقدرون كمية المحصول الناتج منها ، وكان عامل الخراج يتبع الخليفة مباشرة وسجلاته التى يدون فيها الخراج وتقديراته ، والجبايات التى ترد إلى ديوانه تسمى قانون الخراج (٣).

وكان على عامل الخراج أن يراعى الرفق فى الأستيفاء ، والصبر على الزراع حتى يتيسر لهم أداء ما عليهم وأعفاء من يستحق الأعفاء ، ويجب على عامل

__________________

(١) محمد جمال الدين سرور : تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرقى ٩ ص ١٠٠.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ٢٤٠.

(٣) الخوارزمى : مفاتيح العلوم ص ٥٤.

٤٦

الخراج الدراية التامة بالحساب والمساحة ، وأن يكون معروفا بالعدالة والأمانة ، ولا نخاف من جور فى حكم إذا حكم (١).

أسندت إدارة ديوان الخراج إلى خالد بن برمك ، فنظم شؤونه بحنكة ودراية ، وعامل الناس برفق ، وأجرى المهدى ـ كما أشرنا ـ تعديلا فى الخراج ، فأحل نظام المقاسمة محل المساحة ، وتطلب ذلك زيادة العمل فى ديوان الخراج ، حيث أصبح على عامل الخراج أن يقدر قيمة المحاصيل ويحدد أماكن خزنها ، ويقدر قيمة المقاسمة على أساس ذلك ، ويحصل منها حصة الحكومة ، وقد أنشأ المهدى ديوان زمام الخراج لضبط حسابات الجبايات والإيرادات (٢).

وقد أشرف على ديوان الخراج فى عهد الرشيد يحيى بن خالد البرمكى ، وأجاز الخليفة له أن يكتب إلى عمال الخراج فى الولايات دون الرجوع له ، وحرص الخلفاء العباسيون على إتباع منهج السلف فى تقدير الخراج والجزية وسائر أمور الدولة المالية ، لذلك طلب الرشيد من الفقيه أبى يوسف تصنيف كتاب فى الخراج يحدد فيه ما يجب اتباعه فى الأوراق المالية ، فصنف أبو يوسف كتاب الخراج.

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) أبو يوسف : الخراج ص ٧٠.

٤٧
٤٨

الحياة الأجتماعية فى بغداد

فى العصر العباسى الأول

١ ـ عناصر السكان وأثرها فى الحياة الاجتماعية.

(أ) العرب والفرس والترك.

(ب) أهل الذمة.

(ج) الرقيق.

٢ ـ الحياة العامة فى بغداد

(أ) القصور والدور فى بغداد فى العصر العباسى الأول.

(ب) المواكب والأعياد والمواسم.

(ج) الموسيقى والغناء وأنواع التسلية.

(د) المرأة فى بغداد وأثرها فى المجتمع.

(ه) الأخلاق والعادات.

٤٩
٥٠

ويقول أستاذنا الجليل الدكتور عصام عبد الرءوف فى كتابه الحواضر الإسلامية عن :

الحياة الاجتماعية فى بغداد فى العصر العباسى الأول

١ ـ عناصر السكان وأثرها فى الحياة الأجتماعية :

(أ) العرب والفرس والترك.

العرب :

أنقسم شعب بغداد إلى عناصر رئيسية هى العرب والفرس والترك وينقسم العرب إلي قيسيه ويمينة ، وأنقسم السكان عموما إلى مسلمين وأهل ذمة ، والمسلمون انقسموا إلى سنة وشيعة.

قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس ، وكان من الطبيعى أن ينالوا حظوة فى دولة بنى العباس ، وفعلا اعتمد عليهم العباسيون فى تدبير كثير من أمور دولتهم ، ولم يكن الحال كذلك فى العهد الأموى ، إذا اعتمد الأمويون على العرب اعتمادا كليا فى تدبير ملكهم.

على كل حال ازداد نفوذ الفرس فى بغداد على نفوذ العرب فى بضع سنين من الحكم العباسى فى العصر الأول ، وليس فى كل سنى هذا الحكم ، ذلك أن الخلفاء العباسيين لا يمكنهم مجال من الأحوال أن يتجاهلو أصلهم العربى ، فهم عرب هاشميون يعتزون بعروبتهم ويفخرون بها ، وحتى الفترات التى طغى فيها نفوذ الفرس على نفوذ العرب فلاحظ أن الخلفاء الذين مكنهم الفرس من السلطة والسلطان هم أنفسهم الذين يقلبون عليهم ظهر المحن ، ويتخلصون منهم ، كما تخلص المنصور من أبى سلمة الخلال وأبى مسلم الخراسانى ، والمهدى من وزير يعقوب بن داود ، والرشيد من البرامكة ، والمأمون من الفضل بن سهل.

٥١

ويذكر الجاحظ أن دولة بنى العباس أعجمية خراسانية ، ويردد بعض المؤرخين أن العرب ذلوا وضعف شأنهم فى العصر العباسى الأول فالمسعودى (١) والسيوطى (٢) يرويان أن المنصور أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه ، وصرفهم فى مهماته وقدمهم على العرب ، فاتخذت ذلك الخلفاء من بعده من ولده سنه ، فسقطت وبادت العرب ، وزال بأسها ، وذهبت مراتبها. ولا يمكن قبول هذه الرواية لأن العباسيين اعتمدوا على بعض رجال من العرب فى إدارة أمور دولتهم ، ووقف بنو جلدتهم من العرب إلى جانبهم فى الشدائد ، فحينما ثار الراوندية الفرس على المنصور ، وكادوا أن يفتكوا به لم ينقذه إلا رجل من سادات العرب هو معن بن زائدة الشيبانى ، لذلك كافأه المنصور وأسند إليه ولاية اليمن (٣) ، وأسند العباسيون بعض مناصب الدولة الكبيرة لرجال من العرب حتى لم يخل عصر خليفة من خلفاء العصر العباسى الأول من عرب يتقلدون فى بغداد مناصب الوزارة والحجابة والكتابة والقضاء ، وفى أشد فترات ازدياد النفوذ الفارسى.

فحينما سيطر البرامكة على أمور الدولة فى عهد الرشيد كان الفضل بن الربيع ـ وهو عربى ـ يتقلد منصبا كبيرا ، ويستثيره الرشيد ، ويأنس به ، وولى الرشيد أبا يوسف منصب قاضى القضاة فى مملكته كلها ، وهو أول من شغل هذا المنصب فى الإسلام ، وكان له ابن يسمى يوسف ولى القضاء فى حياة أبيه (٤) وظل يشغله حتى سنة ١٩٢ ه‍. ومن أشهر رجالات الدولة العباسية المسيب بن زهير بن عمر أبو مسلم الضبى ، ولى شرطة بغداد أيام المنصور حتى عهد الرشيد فى سنة ١٧٥ ه‍ (٥).

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ٢٢٣.

(٢) تاريخ الخلفاء ص ١٠٥.

(٣) ابن طباطبا : الفخرى فى الأداب السلطانية ص ١٤٣.

(٤) ابن النديم : الفهرست ص ٢٨٦.

(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٣٤.

٥٢

لذلك نرى إنه لا صحة لما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن الخلفاء تجاهلوا العرب. واعتمدوا على الفرس اعتمادا كاملا ، بل كان الخلفاء العباسيون يحرصون على رفع منزلة العرب ، ويأنفون من إذلالهم ، فيروى الطبرى (١) أن المنصور رأى خادما له من أصل عربى سبى من اليمن ، وبيع إلى بعض بنى أمية ثم إلى المنصور فاعتقه المنصور وقال : لا يدخل قصرى عربى يخدم جرمى ، وأقدم على الهادى شهود على رجل أنه شتم قرشا ، فجلس الهادى مجلسا فيه فقهاء أهل زمانه ، ومن كان بالحضرة على بابه وأحضر الرجل ، وأحضر الشهود ، وأقروا بما سمعوا عن الرجل فقال الهادى : إنى سمعت أبى المهدى يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه على بن عبد الله بن عباس قال : من أهان قريشا أهانه الله.

وعاقبه الهادى أشد عقاب (٢). وحتى الخليفة المأمون الذى تأثر كثيرا بالفرس لما اعترضه رجل من العرب وقال له : يا أمير المؤمنين أنظر العرب كما نظرت لأهل خراسان قال المأمون : والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق فى بيت مالى درهم واحد (٣). وحتى الفرس على الرغم مما بلغوه من حظوة فى بعض فترات الحكم العباسى ظلوا يعتقدون أن العنصر العربى أفضل منهم.

بدليل أنهم احتاجوا فى كثير من الأحيان إلى الانتماء إلى العرب بالولاء حتى أصحاب المكانة الكبيرة منهم ، فأبو مسلم الخراسانى يزعم أنه من أصل عربى حتى يحظى بتقدير الناس وتأييدهم ، فادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس (٤) وحمزة بن ميمون ـ أحد المقربين إلى المهدى ـ يغضب ويعاتب الخليفة حينما قدمه إلى أحد جلسائه القرشيين على أنه مولى (٥). وإسحاق الموصلى ذهب إلى خازم بن خزيمة ـ وهو عربى ـ وطلب منه أن يكون مولى له ، فيقبل ذلك منه (٦)

ومهما يكن من أمر فقد ظهر فى بغداد منذ نشأتها عنصران رئيسيان من سكانها

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه‍.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٩.

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢١٨ ه‍.

(٤) المصدر السابق حوادث سنة ١٣٧ ه‍.

(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٤٢.

(٦) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٥٣

يتناقسان حول الأستئثار بالسلطة والنفوذ فى حاضرة الخلافة ، وكان لا بد للخلفاء من حفظ التوازن بين الفريقين حتى لا يطغى فريق على فريق. ونلاحظ فى دراستنا لهذا الموضوع أن الخلفاء استعانوا بالفرس كما أستعانوا بالعرب ، وحينما طغى نفوذ الفرس ، نكلوا بهم وأبعدوهم ، واستعانوا بالعرب ، ومكنوا لهم ، وأدى ذلك إلى الصراع مرير بين العنصرين استمر حتى خلافة المعتصم.

حرص الخليفة المنصور على عدم التمكين لأحد العنصرين ـ العرب والفرس ـ من ازدياد نفوذه على حساب العنصر الآخر ، فكان للخليفة قواد وولاة من العرب ، وقواد وولاة من الفرس ، وكون جيشه من مضر واليمن وربيعة والخراسانية (١) ، وكما استوزر المنصور أبا يعقوب الموريانى ـ وهو فارسى ـ فقد استوزر الربيع بن يونس ـ العربى الأصل ـ وكان جليلا منفذا للأمور فصيحا حازما ، أصطحب المنصور فى رحلته الأخيرة إلى مكة المكرمة وأوصاه المنصور قبل موته. وأخذ البيعة لخليفته المهدى ، ولعيسى بن موسى من بعده ، ولما فرغ من بيعة بنى هاشم ، دعا بالقواد فبايعوا ، وبلغ من حرص المنصور على حفظ التوازن بين عنصرى السكان فى بغداد أنه لما شرع فى تأسيس بغداد قسمها ـ كما قلنا ـ أربعة أرباض وعهد إلى أربع من كبار رجال دولته بالإشراف على عمارة هذه الإرباض فكما جعل ربضا يشرف على تأسيسه الربيع بن يونس ، عهد إلى أبى يعقوب الموريانى ـ وزيره الفارسى ـ بالإشراف على أحد الأرباض (٢).

سار المهدى على سياسة أبيه فى حفظ التوازن بين عنصرى السكان فى بغداد ، فأسند حجابته إلى الربيع بن يونس ، وأختص به كما كان مع أبيه (٣) ، وأستوزر أبا عبيد الله بن معوية بن يسار مولى الأشعريين وفوض إليه تدبير مملكته فعهد إليه بالإشراف على الدواوين ، وتنظيم أمر الخراج ، وصنف فى الخراج كتابا ذكر فيه أحكامه الشرعية ، ودقائقه وقواعده ، وحرص هذا الوزير العربى على إبعاد الفرس عن المهدى ، حتى يصفو الأمر للعرب ذون سواهم ، فلما رأى تقرب

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥١ ه‍.

(٢) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٦٠.

(٣) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٠٠.

٥٤

الفرس إلى الخليفة ، جمع أربعة رجال من قبائل عربية شتى من أهل العلم والأدب فضمهم إلى المهدى ، وصاروا من أصحابه المقربين ، وحالوا بينه وبين الجلوس إلى الفرس (١).

وكان المهدى يطمئن إلى العرب ويأنس بهم ، فحينما ذهب إلى الحج سنة ١٦٠ ه‍ أمر باختيار خمسمائة من الأنصار ، ونقلهم إلى بغداد ، ليكونوا حرسا له وأعوانا ، وأجرى عليهم أرزاقا سوى أعطياتهم وأقطعهم عند .. قدومهم معه إلى بغداد قطيعة عرفت بهم (٢). وكان الخليفة المهدى يجتمع بانتظام فى بغداد مع القرشيين للنظر فى حوائجهم (٣) وكان فى ذلك يسير على سياسة أبيه المنصور (٤) ، لكن المهدى عاد فأسند بعض المناصب الهامة إلى الفرس ، فعزل أبا عبيد الله بن معاوية عن الوزارة ، وأسندها إلى يعقوب بن داود ـ الفارس الأصل ـ ثم الفضل بن صالح (٥).

إزداد نفوذ الفرس فى عهد الخليفة الرشيد الذى أسند أمور دولته إلى البرامكة الفرس ، وأستبدوا بأمور الدولة دونه ، فالخلافة على الحقيقة كانت لهم ، وليس للرشيد منها شئ إلا أسمها وقد استاء العرب فى بغداد من ذلك وسعوابهم إلى الرشيد ومن أبرز من تصدى للبرامكة من العرب الفضل بن الربيع الذى ما زال يحرض الرشيد على التخلص منهم ، ويذكره باستبدادهم بالملك حتى أوغر صدره عليهم ، فأوقع بهم ، وكان لتأثير السيدة زبيدة ـ زوجة الرشيد ـ العربية الهاشمية ـ أثر واضح فيما حل بالبرامكة ، وفى تولية ابنها محمد العهد قبل المأمون ، كذلك حرض بنو هاشم فى بغداد الرشيد على أخذ البيعة لمحمد الأمين قبل أخية المأمون ، وفيه ما فيه من الأنقياد لهواه والتصرف مع طوبتبه ، والتبذير لما حوته يده ، ومشاركة النساء والآماء لرأية ، وقالوا : إن ملت إلى عبد الله المأمون ـ وأمه فارسية ـ أسخطت بنو هاشم (٦). وكان الأمين أصغر سنا من المأمون ، وأمه ـ كما قلنا ـ عربية. أما المأمون فأمه فارسية.

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥١ ه‍.

(٢) المصدر السابق حوادث ١٦٠ ه‍.

(٣) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ٤٥.

(٤) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه‍.

(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٥٦ ، ١٦٤.

(٦) المصدر السابق ص ٢٢٨.

٥٥

وجاءت نكبة البرامكة انتصارا للعرب على الفرس ، وازداد نفوذ العرب نتيجة لها. فاسندت الوزارة إلى الفضل بن الربيع بعد البرامكة ـ وكان حاجبا للمنصور والمهدى والهادى ـ وما زال الفضل وزيرا للرشيد حتى توفى (١) ـ أى الرشيد ـ كذلك أسند الرشيد قيادة الجيش وديوان الجند إلى الشحر الهذلى وعبد الله بن عبده الطائى (٢).

لما ولى الأمين الخلافة انتعش العرب فى بغداد ، وازداد نفوذهم بينما ضعف شأن الفرس ، وأسندت المناصب الكبيرة إلى العرب فقلد الأمين ، العباس بن الفضل بن الربيع حجابته ، والفضل بن الربيع الوزارة ، وبكر بن المعتمر ديوان الخاتم (٣).

رأى العرب فى بغداد ضرورة تأمين ما حصلوا عليه فى عهد الأمين من مكاسب وامتيازات ، فسعوا إلى تحريض الأمين على نقض بيعة أخيه المأمون بولاية العهد ، لأن المأمون تربى منذ نعومة أظفاره فى أحضان الفرس ، لذلك سعى العنصر العربى فى بغداد ـ وعلى رأسه الفضل بن الربيع ـ بالأمين لخلع المأمون ، ونقل ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى. والحقيقة أن ذلك لم يكن من رأى الأمين ولا من عزمه ، بل كان عزمه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط ، فلم يزل الفضل بالخليفة يصغر فى عينيه شأن المأمون ، ويزين له خلعه حتى قال له : ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك ، فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما ، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد (٤).

على كل حال أفلح العنصر العربى فى إقناع الأمين بخلع أخيه المأمون من ولاية العهد ، ومبايعة ابنه موسى ، وسماه الناطق بالحق ، وتسبب ذلك فى

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٧٩.

(٢) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٩٢.

(٣) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٨٩.

(٤) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٤ ه‍.

٥٦

حدوث صراع بين الأخوين الأمين والمأمون انتهى بقتل الأمين.

وجاء انتصار المأمون على الأمين انتصارا للفرس على العرب ، فاستعاد الفرس نفوذهم ، بينما ضعف أمر العرب.

على أن العرب فى بغداد لم يستسلموا لما حل بهم من هزيمة على أيدى المأمون ورفاقه الفرس ، فقد ساءهم وعلى رأسهم أمراء البيت العباسى ازدياد نفوذ الفرس ، ووقوع المأمون تحت تأثيرهم ، فلما سمع العباسيون فى بغداد ما فعل المأمون من نقل الخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى وتغيير لباس آبائه وأجداده من السواد إلى الخضره ، وأنكروا ذلك وخلعوا المأمون من الخلافة غضب من فعله ، وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدى وكان فاضلا شاعرا فصيحا أدبيا حاذقا وقد عبر أحد وجوه العرب عن موقف المأمون المناهض العرب ـ ويدعى نعيم بن خازم ـ بقوله للفضل بن سهل ـ وزير المأمون الفارسى ـ إنك إنما تريد أن تزيل الملك من بنى العباس إلى ولد على ، ثم تحتال عليهم ، فتصير الملك كسرويا. ثم أقبل هذا الرجل على المأمون وحذره من عاقبة فعله بأن قال له : لا يخدعنك عن دينك وملكك فإن أهل خراسان لا يجيبون إلى بيعة رجل تقطر سيوفهم من دمه (١).

ومهما يكن من أمر فقد خشى المأمون من ثورة أهل بغداد ، فتخلص من وزير الفضل بن سهل ، وقصد بغداد سنة ٢٠٠ ه‍ وكان العرب قد سيطروا عليها سيطرة كاملة فهرب عنها إبراهيم بن المهدى ، والفضل بن الربيع ، ودخل المأمون بغداد ، واسترد نفوذه عليها (٢). على أن الفرس ظلوا فى عهده يشغلون المناصب الكبيرة فى بغداد إلا أننا نلاحظ أن المأمون لم يغفل العرب نهائيا بل قرب إليه أحمد بن أبى دؤاد ، وكان ضليعا فى الفقه وعلم الكلام والمنطق ومن أبرز العلماء الذين ينعقد بهم مجالس المأمون العلمية ، وبتأثيره أمر المأمون بامتحان

__________________

(١) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٣٨٣.

(٢) ابن الأثير : الكامل فى التاريخ حوادث سنة ٢٠٠ ه‍.

٥٧

الناس فى خلق القرآن ، وبلغ من تقدير المأمون له أن أوصى المعتصم به بقوله : لا يفارقك الشركة فى المشورة فى كل أمرك فإنه موضع ذلك (١).

عول العرب على استرداد نفوذهم فى بغداد بعد وفاة المأمون وتولية المعتصم ، فالتفوا حول العباس بن المأمون معتزمين توليته الخلافة بدلا من المعتصم الذى يميل إلى الترك ، ولكن هذه المحاولة باءت الفشل ، وتولى المعتصم الخلافة (٢) ، وجرت على العرب نقمة المعتصم فى كراهيته ، وأهمل أمرهم ، واستعان بالترك فى أمور دولته ، ورفع شأنهم ، لكن العرب لم يرضخوا لما حل بهم من ضعف ووهن ، بل تآمروا على المعتصم ، وتزعم هذه الحركة العباس بن المأمون ، وحاول العرب تنفيذ هذه المؤامرة أثناء غزو الخليفة لعمورية ، وكان المعتصم قد أظهر انحيازا واضحا ضد العرب فحين وجه عجيف بن عنبسة إلى بلاد الروم ، لم يطلق يد هذا العربى فى النفقات كما أطلق يد الأفشين ، بل أستصفى المعتصم من شأن عجيف ، واستبان ذلك لعجيف ، فحرص العباس بن المأمون على التآمر ضد المعتصم ، والسعى بمساعدة العرب على التخلص من الخليفة وتولية العباسى ، وبينما المعتصم يتجه بجيشه إلى عموريه ، حاول العرب التنكيل ، بقادة الترك ، ولكن المؤامرة باءت بالفشل ، ونكل الخليفة بالمتآمرين ، ويقول المؤرخون إن ذلك أدى إلى إمعان المعتصم فى الاعتماد على الترك ، وأبعاد العرب ، وحذفهم من الديوان (٣) ، فضعفت فيهم الروح العسكرية.

إلا أننا نلاحظ أن هذا القول فيه بعض المبالغة ، إذ ظهرت شخصيات كبيرة فى عهده لعبت دورا كبيرا فى سياسة الدولة فأحمد بن أبى دؤاد ، ولاه المعتصم منصب قاضى القضاة فى الدولة ، وبلغ من تقدير المعتصم له أن قال : هذا والله الذى يتزين بمثله ، ويبتهج بقربة ، ويعتز به ألوف من جنسه ، ولما مرض نذر المعتصم إن شافاه الله من مرضه بأن يتصدق بعشرة آلاف دينار (٤). ولقد استغل

__________________

(١) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ٤ ص ١٤٢.

(٢) ابن الأثير : الكامل فى التاريخ حوادث سنة ٢١٨ ه‍.

(٣) Muir : The caliphate.p.٤٥.

(٤) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٣١.

٥٨

هذا الرجل نفوذه فى الرفع من شأن العرب وإبعاد الضرو الأذى عنهم فالأفشين ـ قائد جيش المعتصم ـ كان يكره العرب ويقول : إذا ظفرت بالعرب شدقت رءوس عظمائهم بالدبوس وظهرت نواياه الانتقامية ضد أبى دلف ـ أحد القواد العرب سيد قومه كريما شجاعا شاعرا (١) وهم الأفشين بقتله. فأسرع ابن أبى دؤاد إلى الأفشين ، وأنقذ الزعيم العربى (٢) وشجع هذا أهل العلم والأدب فالتفوا حوله وأغدق عليهم ، ووقف ببابه الشعراء مثل أبى تمام ، وقرب إليه الجاحظ.

ولم يستسلم العرب لميل العتصم إلى الترك فنسمع عن كثير من البارزين منهم يطلبون من المعتصم رعاية أصحاب الحاجات من العرب الهاشميين والأنصار (٣).

ومهما يكن من أمر فقد كانت الحياة الأجتماعية فى بغداد عربية فى روحها وساهم العرب بدور رئيسى فى توجيهها ، فسادت تقاليد العرب وعاداتهم وأساليب حياتهم على نمط المعيشة في بغداد ، فالدين الإسلامى الذى حمل لواءه العرب.

وبشروا به فى العراق ، كما بشروا به فى غير العراق ، كان من الطبيعى أن يحدد الأسس الأجتماعية لحياة الناس ، كما هو الحال فى المعاملات الشخصية والقضاء واتخاذ الجوارى والغلمان وبناء المساجد ، وغير ذلك من الحدود التى رسمها الشرع ، وظهر أثر الدين فى تعدد المذاهب الفقهية ، فقد شهدت بغداد أئمة المذاهب الرئيسية ، كما أن اللغة العربية ـ لغة القرآن ـ واللغة الرسمية للدولة ـ لها أثرها فى تأكيد مركز العرب ، ونبغ من العرب فى بغداد فى العصر العباسى الأول كثيرون فى علوم الدين واللغة. على كل حال ظل مركز العرب مرموقا فى بغداد بصفة عامة فى العصر العباسى الأول ، فمنهم الخليفة وأمراء البيت الحاكم وسائر بنى هاشم ، والعرب لهم مركزهم أمام العناصر الأخرى فهم الذين مصروا الأمصار ، ويذلوا أموالهم ودماءهم فى سبيل رفع رأية الإسلام.

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٧٢.

(٢) التنوخى : الفرج بعد الشدة ج ٢ ص ٦٨.

(٣) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٧٠.

٥٩

الفرس :

قلنا إن الفرس أزداد نفوذهم فى بغداد فى بضع سنى العصر العباسى الأول واستعان بهم العباسيون فى بداية حكمهم ، لأنهم أقاموا ملكهم على أكتافهم ، ويتضح لنا ذلك من قول المنصور لأهل خراسان : أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دعوتنا. كما أوصى ولى عهده بهم بقوله : وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك ، بذلوا أموالهم فى دولتك ودماءهم دونك ، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم أن تحسن إليهم ، وتتجاوز عن مسيئهم ، وتكافئهم على ما كان منهم (١). ولما أسس المنصور مدينة بغداد سمى باب خراسان ، باب الدولة لإقبال الدولة العباسية منه (٢).

على أن الأعتماد على الفرس والرفع من شأنهم فى العصر العباسى الأول أثار مشاكل عدة فى بغداد ، ذلك أن الفرس طموحون يعملون على إحياء مجدهم القديم ، ويميلون إلى إبراز نحلهم القديمة. ويناصرون الشيعة. لذلك تصدى لهم الخلفاء وسخطوا عليهم ، ولحق بهم من العباسيين الكثير من النكبات ، لأن اتجاهاتهم تهدد أمن الدوله وسلامتها وأستقرارها.

أسند العباسيون إلى الفرس فى بغداد مناصب كبيرة مثل الوزارة وقيادة الجيش. لكن كثيرا منهم لم ينج من بطش العباسيين للأسباب التى ذكرناها فالخليفة المنصور قتل وزيره أبا أيوب الموريانى ، وقتل أقاربه ، واستصفى أموالهم ، لأنه أساء استغلال نفوذه وثقة الخليفة فيه (٣).

واستوزر المهدى يعقوب بن داود ، وفوض إليه أمور دولته وسلم إليه الدواوين ، وقدمه على جميع الناس ، حتى قيل إن المشرق والمغرب بيد يعقوب.

ولما اتضح المهدى أن هذا الوزير يتعصب للعلويين ، وأسند إليهم بعض المناصب

__________________

(١) عصام الدين عبد الرءوف : تاريخ الإسلام فى العصر التركى ص ١٣.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ص ٢٢٧.

(٣) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٥٧.

٦٠